Arap Kültürünün Güncellenmesinde
في تحديث الثقافة العربية
Türler
لكن ماذا أنت صانع في الحالات التي لا تقبل التحليل إلى مفردات وأجزاء؟ كيف يمكن أن تصورها في لغة يستحيل عليها بحكم طبيعتها إلا أن تكون مجزأة؟ فافرض - مثلا - أنك في حالة «حب» وهي حالة تشبه الحالة التي يكون عليها الصوفي بالنسبة إلى الله سبحانه، بدليل أن الصوفي كثيرا ما يلجأ في التعبير عن حالته بشعر يتغزل فيه بمعشوقة بشرية، أقول: افرض أنك في حالة «حب» فكيف تضعه في مجموعة مجزأة من كلمات وحروف في حين أنها «حالة» تسري في كيانك سريانا لا تعرف أين أوله وأين آخره وأين أجزاؤه؟ ومن هنا كان محالا على من «يعاني» حالة كهذه أن يصورها لمن لا يعانيها، وصدق الشاعر العربي الذي قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وهنا يعجز اللسان وتعجز اللغة، وتكون للصمت بلاغته.
تلك - إذن - حالة عرفها الإنسان منذ نطق باللغة، أو منذ كتبها وأدرك قصورها في الحالتين نطقا وكتابة؛ فهي تصلح لمواقف معينة تكون التجزئة فيها أمرا مستطاعا، ولا تصلح لمواقف أخرى، هي الحالات الوجدانية على اختلافها، اللهم إلا على سبيل التقريب، وتضاف إلى الحالات الوجدانية حالات الإدراك المباشر بحاسة من الحواس، وإلا فهل تستطيع - مثلا - أن تصف للآخرين كيف طعم الخبز على لسانك؟ هل تستطيع أن تصف لهم كيف رائحة الوردة في أنفك؟ إنه لا بديل في وسعك، إلا أن تعطي لقمة خبز لمن تريد له أن يعرف طعم الخبز، وأن تعطيه وردة ليشمها، إذا أردت له أن يعرف شذاها، كما أنه لا بديل لمن أراد أن يعرف الحب إلا أن يحب.
لكن الجديد الذي أضافه عصرنا، إلى الحالات التي لا تجدي فيها اللغة، والتي يجب أن نركن فيها إلى الصمت وبلاغته؛ هو أمور تبدو وكأنها من قبيل الأشياء الداخلة في حدود ما تستطيعه اللغة، والتي ليست من قبيل الحب الصوفي، أو الحب البشري، أو حتى من قبيل طعم الخبز ورائحة الوردة، إنما هي أشياء من واقع الحياة العملية التي يتبادل فيها الناس كلمات اللغة مفردة ومركبة ليتم بينهم تفاهم عليها، وإذا هي في حقيقة أمرها مستعصية على اللغة وقدراتها وحدودها ، ومن هنا تجيء دعوة الدعاة في عصرنا إلى وجوب الصمت فيما لا تجدي فيه كلمات، فلا أظن أني بحاجة إلى أن أعيد إلى ذاكرتك تلك الموجة الأدبية التي شغل بها الناس منذ بضع سنوات، والتي أطلق عليها اسم أدب «العبث» حينا، واسم أدب «اللامعقول» حينا آخر، وقد كان الأساس الذي جاءت تلك الموجة لتعبر عنه؛ هو أن قنوات التفاهم بين الناس مسدودة، فالمتكلم يتكلم، ويرد عليه السامع، لكنك تحلل الموقف لترده إلى حقيقته، فإذا بك ترى متكلما في واد من الفكر والمعنى، وسامعا في واد آخر من الفكر والمعنى، إذن فلا المتكلم يخاطب أحدا، ولا السامع منصت إلى أحد، فأهل هذا العصر، في تبادلهم الأفكار بعض مع بعض، محمولة تلك الأفكار في بطون كلمات وجمل، لا يفهم أحد منهم عن أحد شيئا، وإن خيل إليهم غير ذلك، ولماذا؟ وهل هو أمر مقصور على عصرنا أو أنه جزء من طبائع الأمور؟ لست أدري، لكن الأمر في عصرنا أوضح من أن يغض عنه النظر، والنكبات التي تترتب عليه أفدح من أن يسكت عنها، وربما كانت علة ظهور هذه الظاهرة في عصرنا بأوضح مما ظهرت به في العصور السابقة، هي أنه بينما كانت قلة قليلة من الناس مسموعة الكلمة في العصور السابقة، فكانت تقول كلمتها، بأي معنى تريده لتلك الكلمة، وعلى سواد الناس بعد ذلك أن يطيعوا، ترانا في هذا العصر، وقد زعمنا لأنفسنا حق الحرية متساويا بين شعوب الدنيا وأفرادها، ولكن كلما جاء موقف للتطبيق؛ تلاعبنا بمعاني الألفاظ، كل يفسر الكلمة ذات الشأن في الموقف المعين بما يحقق له أغراضه، ومن هنا جاء انعدام التفاهم ظاهرة من ظواهر عصرنا، تضخمت حتى استحقت أن ينشأ لها لون خاص من ألوان الأدب، هو أدب العبث، أو أدب اللامعقول.
ولم يقتصر الأمر على لون خاص من الأدب ينشأ بسبب انعدام التفاهم بين الناس، بل ربما كانت هناك وقفات فكرية أخرى، مما نراه في عصرنا، ذات علاقة بالظاهرة نفسها؛ فهنالك كثيرون من القادرين على تعميق أفكارهم ، والوصول بها إلى درجة من الدقة لا يألفها جمهور القارئين، أرادوا أن يتعقبوا قدرة اللغة على التوصيل، ليحددوا أين يجوز الكلام وأين يجب الصمت، فتناولوا الموقف من أساس أساسه، وهو: ما حقيقة العلاقة بين اللغة من جهة والعالم من جهة أخرى؟ ولعلي أحسن التصوير، إذا زعمت بأن هؤلاء المفكرين، الذين طرحوا على أنفسهم سؤالهم عن العلاقة بين اللغة والعالم، قد عادوا إلى الناس بإجابات ثلاث، هي نفسها التي تتحدد بها الفواصل الحقيقية بين ثلاثة نماذج من تيارات الفكر، في عصرنا وفي غير عصرنا على حد سواء.
كانت الإجابة الأولى هي أن الإنسان في معظم حياته الفكرية أو العقائدية، قد يظن - مخطئا - أنه إنما يواجه عالم الأشياء ذاته مواجهة مباشرة، حين يفكر أو حين يعتقد، وحقيقة الأمر هي أنه لا يتعامل إلا مع كلمات اللغة التي يظن واهما أنه إنما بناها على «وقائع»، في حين أنه سجين تلك الكلمات منذ تعلم كيف ينطقها وكيف يكتبها ويقرؤها، فهو في حياته الفكرية ينقل لفظا من لفظ، ويخرج لفظا من لفظ، وهكذا يظل يدور في دوامة اللغة كلما فكر، ظانا أن تلك الألفاظ التي يدور في دوامتها، إنما هي «الأشياء» أو هي «الوقائع» التي بنى عليها أفكاره وعقائده، وإذا كنت أنا أعيش في برج مغلق قوامه ألفاظ وعبارات، وإذا كان جاري هو الآخر يعيش في برج مغلق من ألفاظ وعبارات، كل منا ينضح من وعائه ليقول أو يكتب، فأين نلتقي؟ إنه لا لقاء، ومن ثم كانت معارك الكلام التي لا تنتهي في الصحف وفي الكتب وفي الإذاعات، والواقع لا يتغير منه شيء، وأعني «الواقع» الذي تدور تلك المعارك الكلامية حوله، وذلك لأن الواقع إذا تغير منه شيء، فإنما يتغير بفأس تشق الأرض فتنزرع قمحا وقطنا، ويتغير بمنشار يقطع الخشب، ومسمار يدق لتوصل قطع الخشب فتصبح مقعدا للجلوس، ومن هنا كان هنالك فرق بعيد بين معرفة نظرية يراد بها أن تطبق على الأشياء بحيث يكون ذلك التطبيق هو معيار صدقها، ومعرفة نظرية تظل طوال عمرها معرفة نظرية، هي التي تقيس صدق نفسها بنفسها، وفي هذه الحالة يصدق قول القائلين بأن الأمر يتحول بأصحاب تلك المعرفة ليكون أبراجا مصمتة جدرانها من ألفاظ وجمل، ولكل برج ساكنه الذي يتوهم أن كلماته هي دنيا الناس ما دامت هي دنياه.
وكانت الإجابة الثانية عن السؤال: ما العلاقة بين اللغة والواقع؟ إجابة أكثر دقة؛ لأنها لم تقدم نفسها إلا بعد أن تحددت بدقة بالغة طبيعة «اللغة» من ناحية، وطبيعة «العالم» من ناحية أخرى، ولم يفتها في ذلك التحديد أن تكون على بينة من نفسها، بأنها إنما توجه اهتمامها إلى مجال «العلوم» دون أي مجال آخر من مجالات الحديث، وذلك لأن المعنى المراد من مفهوم كلمة «العالم» قد يختلف بين أن يكون اهتمامنا موجها نحو الفكر العلمي، وبين أن يكون اهتمامنا موجها نحو مجال آخر مما يصح الحديث عنه أو البحث فيه.
كان أصحاب هذه الإجابة الثانية على إلمام تام بعلوم الطبيعة وعلوم الرياضة؛ ولذلك جاءت كتاباتهم مركزة مكثفة تحللها رموز علمية كثيرة، ولذلك كله جاءت كتاباتهم عصية الفهم على غير الدارسين، وسأحاول هنا أن أقدم صورة مصغرة وواضحة بقدر المستطاع، لما قالوه في موضوع العلاقة بين اللغة والعالم، فأما «العالم» عندهم فهو مجموع ما هو كائن في الواقع؛ أي إنهم يحذفون منه - ما دمنا في مجال التفكير العلمي - كل المعاني والأفكار المجردة التي لا تخضع في مراجعتنا لصدقها، للخبرة التجريبية المشتركة بين الناس، ولما كان ما هو كائن في الواقع لا يكون إلا فردا مفردا، كهذا الرجل، وهذا النهر، وهذا القمر وتلك الشمس. أي إن أي فكرة لها تعميم في معناها، لا تعد من نوع الكائنات الفردة المفردة، بحكم كونها تصدق على أفراد كثيرة في وقت واحد، فإذا صادفتنا فكرة لها مثل ذلك التعميم، كقولنا «كتاب» أو «شاعر» أو «فضيلة» وأردنا البحث عن مدلولها في العالم الواقع؛ وجب علينا أولا أن نذكر فردا واحدا معينا من أفرادها، ليكون هذا الفرد هو الذي نبحث عنه في عالم الواقع؛ لأن هذا العالم - كما أسلفنا - ليس فيه إلا أفراد ومفردات، فإذا قيل لك إن أي كتاب إنما تطبع الكلمات عليه بالحبر، وأردت أنت أن تتثبت من صدق هذا الكلام، فلا سبيل إلا أن تتناول كتابا واحدا معينا ليكون موضعا للفحص، وإذا قيل لك إن الشاعر ينظم كلماته في وزن معين، ولا يجريها سائبة كما يفعل الناثر، فسبيلك إلى التحقق من هذا، هو أن تخرج من خزانة كتبك ديوانا لشاعر واحد معين، فتراجع كلماته كيف نظمت، وهكذا، فالتحقق من صدق المعنى العام المجرد محال إلا عن طريق أفراده، وإذا لم تجد فردا مما يندرج تحت ذلك المعنى العام وجب عليك تعليق الحكم بصدق ذلك المعنى أو بكذبه.
Bilinmeyen sayfa