مقدمة
رحلة صيف
تحولات
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
ثقافة التغيير
هيكل البناء
لمسة الواقع
صورة جديدة لأفكار قديمة
أفكار تحيا وأفكار تموت
خصوصية الثقافة ما مداها؟
غابت الفكرة عنا
إذا جهالهم سادوا
ناقد الفكر وناقد الأدب
لك الله يا علوم الإنسان!
الأفكار كالأشجار تنمو
اللغة ملتقى الثقافتين
الفكر العربي وتحديات العصر
حرية لم يعرفها الأقدمون
أنجعل التراث كنزا نحن حراسه؟!
هذه ثقافتنا من رجالها
الكتيبة الخرساء
فجوة بين واقع ومثال
هي جملة ينقصها الفعل
وفيك انطوى العالم الأكبر!
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
وصولا إلى حرية وعدالة
بلاغة الصمت
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
تخليص وتلخيص (1)
تخليص وتلخيص (2)
تخليص وتلخيص (3)
مقدمة
رحلة صيف
تحولات
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
ثقافة التغيير
هيكل البناء
لمسة الواقع
صورة جديدة لأفكار قديمة
أفكار تحيا وأفكار تموت
خصوصية الثقافة ما مداها؟
غابت الفكرة عنا
إذا جهالهم سادوا
ناقد الفكر وناقد الأدب
لك الله يا علوم الإنسان!
الأفكار كالأشجار تنمو
اللغة ملتقى الثقافتين
الفكر العربي وتحديات العصر
حرية لم يعرفها الأقدمون
أنجعل التراث كنزا نحن حراسه؟!
هذه ثقافتنا من رجالها
الكتيبة الخرساء
فجوة بين واقع ومثال
هي جملة ينقصها الفعل
وفيك انطوى العالم الأكبر!
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
وصولا إلى حرية وعدالة
بلاغة الصمت
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
تخليص وتلخيص (1)
تخليص وتلخيص (2)
تخليص وتلخيص (3)
في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
الحديث عن الحياة الثقافية لشعب من الشعوب، هو كالحديث عن قارة فسيحة الأرجاء. تنوعت فيها المشاهد وتباينت الأجواء، فهنا منطقة توعرت فيها الجبال، وهناك سهول انبسطت أرضها في استواء، وهذه منطقة كثر ماؤها واخضر زرعها، وتلك صحراء يباب لا ماء فيها ولا زرع ... فماذا عسى أن يكتب الرحالة عن تلك القارة إذا أراد أن ينقل عنها صورة أمينة، لا سيما إذا استهدف من تصويره ذاك، أن يهيئ عقول أهلها ليغيروا منها ما ينبغي أن يتغير، لكي يصبح التقدم الحضاري ممكنا؟ إنه مضطر إلى تنويع الوقفات وزوايا النظر، ما تنوعت أمامه أجزاء الأرض التي يهم بوصفها والتحدث عنها، ليكون لكل موضع وموقع حديثه المناسب، على أن يخرج قارئه آخر الأمر بصورة موحدة، لم يمزقها تنوع الوقفات والزوايا.
وهذا هو ما لجأ إليه مؤلف هذا الكتاب؛ فموضوع حديثه هو «الثقافة العربية» في حاضرها. وأين فيها ما لا بد له أن يتغير إذا أرادت الأمة العربية أن يكون لها نصيبها العادل في مشاركة هذا العصر فيما ينجزه وفيما يعانيه؟
إن عصرنا يتحدانا في كثير من قضاياه، فإما نحن مهيئون للتصدي لما يتحدانا به، وإما هلكنا تحت ضرباته، لأنه يضرب الضعفاء بقبضات من القنابل النووية التي لا تبقي ولا تذر؛ فأول ما نحصن أنفسنا به لنواجه عصرنا، هو أن تسري في عروقنا روح المحافظة على الهوية الوطنية القومية حتى لا تنجرف في تيار غريب يودي بها إلى الفناء، لكنها في الوقت نفسه روح أعدت نفسها لتتغير فيما يجوز لها أن تتغير به وهي صامدة، حتى تجد لنفسها موضعا في زمانها، ومن هنا تبرز لنا مشكلة عصية كثر فيها الكلام جادا ولاهيا، وأعني مشكلة المواءمة بين موروثنا الحضاري والثقافي من جهة، وما تقتضيه الحياة العصرية من تحولات من جهة أخرى؛ وفي هذا الكتاب محاولات للحل، أهمها أن نفرق بين إطار ثابت ومضمون متغير؛ فالإطار هو بمثابة المبدأ أو المبادئ الثابتة، التي منها يتكون جوهر الهوية الوطنية والهوية القومية، وأما المضمون المتغير فهو ظروف التطبيق التي تتشكل بأشكال العصور المتعاقبة، فليست صور الحياة العملية ثابتة على حالة واحدة برغم تغير الحضارات.
وبماذا تغير عصرنا عن سوالفه، إذا لم يكن قد تغير في رؤيته العلمية للكون؟ إنه لم يعد «العلم» علما على صورة ألفها الماضي من فجر تاريخه وإلى أمسه القريب: وأهم وجه للاختلاف هو دور «الأجهزة» في البحث العلمي من ناحية، وإنتاج الآلات بالكثرة الهائلة المتنوعة التي نراها. حتى لقد أصبحت أصابع العصر في آلاته وأجهزته جزءا لا يتجزأ من حياة كل فرد يعيش على الأرض. كائنا ما كان موقعه؟ إن عصرنا قد حاول وهو يحاول ما يزال أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة؛ فهل يجوز لإنسان يبتغي لنفسه مكانا ومكانة أن يقف خارج الصف، لا يمد يدا ولا يفتح عينا، في انتظار ما يتصدق عليه به الآخرون من «العلم» الجديد ونتائجه، ثم يتوقع في الوقت نفسه أن يكون له بين الناس وزن وقيمة؟ فالتحول من الأعصار في صفحات الكتب القديمة، أي الكون وظواهره، لنقرأها في مواجهة مباشرة، هو الخطوة التي لا بد منها، لنتحول - بالتالي - من جمود إلى حركة، من ركود إلى نهضة، من موت إلى حياة. وليست هذه دعوة إلى إحراق تراثنا أو إلقائه في اليم، كلا وألف مرة كلا؛ لكن ذلك التراث هو ماضينا، هو سلفنا، هو جزء من هويتنا، لكننا يجب أن نفرق فيه بين ما يدرس ويصان حفاظا على «التاريخ»، وبين ما يدرس ويصان لأنه لا يبلى بعوامل الزمن، كالأدب شعرا ونثرا، وكفقه الفقهاء وعلم علماء اللغة العربية، وغير ذلك مما تظل مشكلاته واردة مهما تغيرت عليه صور الحياة مع تغير العصور.
وإن مؤلف هذا الكتاب ليزعم بأن الأمة العربية قد غابت عنها مهمة هذا العصر، حين انصرفت باهتمامها عن المشاركة الإيجابية في حياة العلم المعاصر، مكتفية بما يأتيها منه نقلا عن علماء الغرب، وبهذا التقصير وضعت نفسها موضع الضعيف، الذي يتعرض لسيادة الغرب القوي عليه؛ ولقد تفرع عن هذا الموقف المتخاذل بالنسبة إلى المشاركة في دنيا العلم الجديد، نتيجة لا تقل عنه فداحة، وهي أن أفلت «الواقع» من أبصارنا، فقلما يدري دراية العارفين بما يدور حوله من أحداث ومغزاها. ولذلك فما أكثر ما جاءتنا الدواهي مباغتة وكأنها ولدت لساعتها. مع أنها محصلة تطورات طويلة الأمد، كانت تحدث ونحن غرقى في سباتنا وأحلامنا.
إنه إذا خرج القارئ من قراءة هذا الكتاب بشيء من التساؤل عما قد ورد فيه من مشكلات ومعالجتها، كان الكتاب قد حقق للمؤلف رجاءه فيه.
وما توفيقنا إلا بالله.
زكي نجيب محمود
يناير 1988م
رحلة صيف
أما الصيف فهو صيف هذا العام «1986م»، وأما الرحلة فهي تبدأ، وتسير وتنتهي، داخل الرأس، وصاحب الرأس جالس في غرفة الكتب بمنزله، الغرفة مغلقة الزجاج، وخزائن الكتب تدور مع الجدران، وقد أصبحت تبدو أمام صاحبها وكأنها ألسنة خرساء أصابها الخرس عندما حيل بين صاحبها وبينها، فالغرفة صامتة إلا من صوت المروحة الكهربائية في حفيفها الخافت، وكأن ذلك هو أول صيف يقضيه أخونا في القاهرة منذ فترة طويلة، فهو لعدة سنوات خلون - قد تبلغ العشرات - كان يقضي صيفه بعيدا، ويرجع قعوده هذا العام لأسباب بعضها عام وبعضها خاص، إلا أنه لم يشعر في ذلك بضيق، لأنه استبدل بحركة جسده من مكان إلى مكان سكونا هادئا وسكينة، كان في جلسته تلك طوال ساعات النهار، يبدو وكأنه جمد كما يتجمد الماء ثلجا في شتاء بارد، لكنه في دخيلة نفسه لم يكن بكل هذا الجمود البارد، إذ كانت تطوف به الحادثة العابرة، فتشد وراءها شريطا طويلا من صور الماضي. فلو أن صاحبنا أراد أن يفرغ على الورق شرائطه تلك ما كانت تحويه، لملأت له بغرائبها ونفائسها مجلدات، لقد كان أشبه شيء بالتلفاز، يضغط على مفتاح من مفاتيحه، فتنهمر أمامه حياة دافقة بأشخاصها وبأحداثها، فإذا أحس الملل، ضغط على مفتاح آخر لينفتح له عالم آخر، فكان في كل مرة كأنه ارتحل رحلة كتلك الرحلات التي كان يتحرك بها في أصياف أعوامه الماضية، وكثيرا جدا، ما كانت نقطة البدء في رحلاته تلك شيئا يتذكره عندما تقع عينه على ظهور الكتب المرصوصة في خزائنها، فالفكرة الفلانية تقفز إلى ذاكرته إذا ما رأى عنوان الكتاب الفلاني، وما إن تطوف الفكرة المعينة، حتى تتقاطر الذكريات، في تسلسل مرتب حينا، ومضطرب حينا. ولقد قص علي صاحبي إحدى رحلاته تلك، فرأيت في روايته ما ينفع الناس ... قال:
في جلستي تلك، الساكنة الهادئة، لمحت على ظهور الكتب ما ذكرني ب «النظام» (بالفتحة المشددة على النون، وكذلك على الظاء) ذلك المفكر الإسلامي السابق لعصره في فكره، ولقد كان معاصرا للجاحظ، وكان كلاهما عندئذ في البصرة، وقال عنه الجاحظ - والجاحظ هو من هو - قال عنه: «كان الأوائل يقولون، في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا، فهو النظام.» ... واستطرد صاحبي في روايته عن إحدى رحلاته الداخلية، فقال: لست أدري ما الذي أورد «النظام» إلى ذاكرتي، أما وقد ورد، فيا له من شريط طويل من أفكار يصاحبها انفعال حينا بعد حين، وذلك أني تخيلت أن ذلك «النظام» قد بعث ليحيا معنا حياتنا الفكرية اليوم، وأخذ يعرض أفكاره التي كان عرضها في حياته الأولى وهو في البصرة إبان القرن الثالث الهجري «التاسع الميلادي» فما وسعني عندما تخيلت ذلك، إلا أن أتخيل معه حربا علمية شعواء، ربما ذهبت معه إلى حد أن يرميه الغاضبون بالخروج على الدين كما يعرفونه، أو بما هو دون ذلك بقليل ... فقد أخذت أفكاره تتوارد إلى خاطري، وعند بعضها كنت أضرب كفا على كف، قائلا لنفسي: يا سبحان الله، فمثل هذا الذي قاله «النظام» قد يقوله اليوم قائل، فلا يقابل عند بعضهم إلا بالسخط وبالزراية، إذ يرونه أثرا من آثار «غزو ثقافي» غزانا به الغرب الملعون. والحق إنه لعجب من عجب يدعو إلى إعجاب ليس وراءه إعجاب، أن نرى عند ذلك المفكر الإسلامي القديم أفكارا هي من أهم الأفكار الأساسية التي تبنى عليها ثقافة الغرب في يومنا هذا، أو هي - على الأقل - إحدى وجهات النظر، ولعلك تعلم عني أن منها أفكارا قد جعلتها بين الركائز التي أقمت عليها وجهة النظر التي صنعتها أو اصطنعتها لنفسي، فما وجدت في كثير من الحالات إلا نفورا وتنفيرا.
نعم، يا صديقي، وسأروي لك شيئا مما توارد إلى ذهني، مما كان «النظام» العظيم قد أخذ به ودافع عنه، لترى معي كم هو قريب مما يأخذ به العبد الفقير لله، فلم يلق إلا إعراضا حتى من زملائه ذوي الاختصاص: ألم تسمعني أكرر مرارا، ولا أمل من التكرار، بأن معنى الكلام إنما يتحدد بالتطبيق، فإذا وجدنا عبارتين اختلفتا في اللفظ، ولكنهما اتحدتا في التطبيق، عددناهما مترادفتين، برغم اختلافهما في اللفظ، وكان مما يترتب على ذلك، أنه إذا كانت هناك عبارة لا نتصور لها تطبيقا، لا بالفعل ولا بالإمكان، حكمنا عليها بأنها كلام يخلو من المعنى؟ وإنك لتعلم كم من السخط الغاضب قد جرت به أقلام المعارضين، خوفا على كلام يعرفه هؤلاء المعارضون، بل هو رأسمالهم الفكري، أن يجري عليه مثل هذا الحكم، وفاتهم أن القول هنا مقصور على ما هو مندرج في دائرة العلم، وأن لغير العلم من أقوال أحكاما أخرى ... وبعد هذا فلتنظر معي - يا أخي - في أول فكرة عرضها «النظام» وكانت عن «الإرادة» من حيث هي صفة من صفات الله عز وجل، وصفة كذلك من صفات البشر، مع الفارق بأن تكون إرادة الله مطلقة وإرادة الإنسان في حريتها نسبية ومقيدة بظروفها، فقال «النظام» وهو في معرض الحديث عن الإرادة الإلهية إنه لا يجوز وصفها بأنها قادرة على فعل الشر، ولما كان هناك من ردوا على هذا بقولهم: بل هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله، فيجيب «النظام» على ذلك بما مؤداه: لا فرق في المعنى بين القولين، لأن المعول في دنيا الأشياء، فيتحول عندئذ إلى «فعل» وإن المعنى هو الفعل الذي ينتج، وما دام الشر في كلتا الحالتين لا يقع، كان القولان متساويين برغم ما قد يبدو على لفظهما من تناقض ... فتخيل معي يا صديقي، كم يكون الانقلاب في حياتنا الفكرية اليوم - على جميع مستوياتها - لو أنها دارت حول هذا المبدأ المنهجي، وهو أن كلامنا لا يكون ذا معنى إلا إذا أمكن وقوعه فيما يتضمن في طي كلماته «فعلا» يمكن أداؤه وإلا فهو كلام بغير معنى، وهو مبدأ قد جف المداد على سن قلمي من كثرة ما رددته، فكان يقال في رفضه إنه قول منقول عن أصحاب الحضارة المادية القائمة، وها أنا ذا أبتعثه اليوم حيا من فكر «النظام» العظيم.
ثم مضيت يا صديقي في سلسلة خواطري، فلم تشأ تلك الخواطر التي انسابت حرة، لم أقيدها بقيد من إرادتي، أقول إن تلك الخواطر الحرة لم تشأ أن تترك ذكرياتي عن «النظام» فانتقلت بي إلى فكرة أخرى عنده، كفيلة وحدها أن تجعله اليوم بيننا معاصرا في مقدمة المعاصرين، ودع عنك أن نضيفها إلى سابقتها التي أسلفناها ... وأما هذه الفكرة الثانية فتجعل «الحركة» - وليس السكون - أساسا لكل الوجود، ولكل موجود في ذلك الوجود، جسما كان أم كان عقلا أو إرادة، وانتبه أيها الصديق جيدا إلى معنى هذا القول، فقد كان السائد الشائع في كل حياة فكرية عرفها الإنسان قبل ذلك - اللهم إلا استثناءات أقل من القليلة - أن يكون «سكون» الأشياء فيما يرى رجال الفكر، هو الأساس، بمعنى أننا إذا وجدنا الأشياء في حركة، وجب علينا أن نبحث عن علة تلك الحركة. ولقد لبثت تلك الفكرة مستقرة في العقول، حتى أوائل القرن الماضي في أوروبا، حين طويت من تاريخ الفكر الإنساني صفحة، ونشرت صفحة أخرى، تقول: لا، بل الأصل في الكون وكائناته، أن يكون من جنس «الحياة» لا من جنس الجماد والموت، ومن هنا قيل إن الأصل في كل شيء هو أنه في حركة دائمة، فإذا رأيناه ساكنا، وجب أن نسأل، ما الذي أحدث فيه ذلك السكون، وهذا الانقلاب الفكري الذي جاء فاتحة لعصر جديد، تفصل بين ما هو «حديث» وما هو «معاصر» هو الذي كان «النظام» العظيم قد سبق إليه، لكننا نترك هذه المبادئ الأساسية من ميراثنا الفكري، لنشغل أنفسنا بما من شأنه أن يميت الحي، وأن يجمد المتحرك، والفرق بعيد يا صديقي بين الموقفين: موقف يعترض السكون، وموقف يعترض الحركة، لأن الحركة تغير، وانظر - مرة أخرى - إلى مدى الانقلاب الذي يحدث في حياتنا الفكرية الحاضرة، إذا نحن استبدلنا بمبدأ يدعونا إلى جمود الموت، مبدأ يحثنا على حركة الحياة! فبدل أن نجعل مثلنا الأعلى صورة الحياة عند الأسلاف وكأن الزمن لم يكن، وكأن كل شيء ينبغي له أن يسكن حيث كان، يصبح مثلنا الأعلى أن نجد كل شيء في حياتنا الحاضرة قد تغير عن الصورة التي كان عليها بالأمس القريب، ودع عنك صورة الأمس البعيد، وأرجوك - يا أخي - أن تلحظ جانبا هاما ، وهو ثبات «الإطار» وتغير «المحتوى» وذلك لأنك قد تسأل: إذا كان كل شيء يتغير في يومه عنه في أمسه، فما الذي يربط الأبناء بالآباء والأجداد؟ وهنا تجيء فكرة الإطار الثابت والمضمون المتغير، ولكي أقرب الفكرة إلى ذهنك، خذ أية صيغة رياضية مثل «5 + 2 = 7» فهذه صورة ثابتة، لماذا؟ لأنها صورة مفرغة لا تحتوي على شيء يملؤها وهي على استعداد لأن تتلقى أي امتلاء يناسبها، فقد يكون ذلك الامتلاء تفاحات، أو كتبا، أو أحجارا، أو عصافير، وهكذا تكون الحال فيما هو ثابت على العصور بين أجداد وأحفاد، فالأجداد يتركون لأحفادهم «مبادئ» للعيش، ملئوها هم بضرب من الحوادث ... وللأحفاد أن يملئوها بضرب آخر من الأحداث، لكن ليكن مفهوما أن تلك «المبادئ» لا يصدق عليها اسمها هذا، إلا إذا كانت بالغة التجريد، كالتجريد الذي نراه في الحقائق الرياضية.
ولقد ظننت يا صاحبي أن رحلة خواطري تلك قد بلغت نهايتها، لكنها لم تكن قد فرغت من ذكرياتي عن «النظام» العظيم، القديم المعاصر معا، فما لبثت في رحلتي تلك طويلا حتى وجدت قطاري قد انتقل بي في فكر «النظام» إلى فكرة أخرى، لو قلت عنها إنها من صميم المناخ الفكري في القرن العشرين، لما أخطأت، وهي فكرة خاصة بتعريف «الإنسان» فما هي حقيقة «الإنسان»؟ يجيب النظام بأنه ليس إنسانا ببدنه، بل هو إنسان بنفسه وبعقله وبسائر تلك الجوانب التي تجعله كائنا مفكرا مريدا، إلى هنا ولا جديد يميزه عن سابقيه، لكن الذي يميزه حقا، ويجعله معاصرا لنا حقا، هو الطريقة التي يفهم بها أسماء «النفس» و«العقل» و«الإرادة» وغيرها، والتي هي أسماء من هذا القبيل، فالاتجاه السائد قبله، وهو نفسه الاتجاه السائد دائما بين سواد الناس، هو أن كلمة «نفس» أو «عقل» أو ما إليها تشير إلى «كائن» معين في جوف الإنسان كما هي الحال في «الذراع» و«الأنف» و«القدم» ... إلخ، لكن حقيقة الأمر هي أن كل اسم من تلك الأسماء يشير إلى «وظيفة» يؤديها الإنسان بغير عضو معين، وحتى لو تحدد لها عضو أو مجموعة أعضاء ، فالإشارة إنما هي «للوظيفة» أشبه شيء بالقيثارة ونغماتها، وهذا ما يقوله «النظام» ... وإن هذا القول لهو فرع من رؤية فلسفية عامة، هي بين الرؤى الأساسية التي تميز عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وأرجوك يا أخي أن تتأمل هذا المعنى جيدا وعلى مهل، وألا تأخذه من سطحه متعجلا، فالرؤية العامة، وهي التي ذكرها «النظام» في وضوح صريح هي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» ولا شيء يكمن وراء تلك الظواهر، ومرة أخرى أرجوك يا صديقي أن تتدبر هذا القول على مهل، متذكرا أن قائله القديم هو مفكر عربي مسلم، في القرن الثالث الهجري وهو أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع ما «يظهر» لك منه، وهل يكون ذلك الظهور إلا لعين ترى، أو لأذن تسمع، أو لما شئت من حاسة تحس؟ وحتى لا يفوتك من الأمر جانب هام أذكرك بما أسلفته لك، من أن أي قول لا يكون له معنى إلا إذا كان مما يمكن أن يتحول إلى فعل، والقول الذي لا يتوافر فيه هذا الشرط، يكون قولا بغير معنى ... هذا ما أسلفته لك مما قاله «النظام» ومما يقوله فلاسفة العلم في عصرنا، وها أنا ذا أضيف إليه الإضافة الجديدة التي ذكرتها لتوي نقلا عن «النظام» وهي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» أعني ما تحسه منه حواسنا، إذن تكون النتيجة التي ننتهي إليها هي أن أي قول لا يكون له معناه، إلا إذا كان ذلك المعنى مجسدا في «ظواهر» تحسها الحواس ... وهو ما جف ريقي من تكراره مريدا به إلجام سيول الكلام التي تتدفق من الأفواه ومن الأقلام غير مشيرة إلى «ظواهر» فتصيح في وجهي صرخات غاضبة، تقول: بخ، بخ، يا أيها المارق!
ولم يشأ قطار ذكرياتي عن «النظام» العظيم، أن يقف بي هنا، بل أراد مني شيئا من الصبر مسافة أخرى يقف بعدها، لا لأن ثراء «النظام» يكون قد نفد، فهو غزير غزير، وكانت الفكرة الأخرى التي لم ترد تلك الرحلة أن تنتهي إلا بها ، هي أعجبها في سبق النظام للفكر «الحديث» وهذه المرة لا أقول «المعاصر»، أقول إن تلك الفكرة الأخرى هي قول «النظام» إننا لو حللنا «آدم» عليه السلام، لوجدنا فيه كل أفراد البشر الذين هم بنوه وبناته! وهو قول قاله بنصه بعد ذلك «ليبنتز» في القرن السابع عشر الميلادي، وربما أخذت هذا القول من ظاهر حروفه، يا صديقي، فسألتني: وماذا في هذا؟ وأي عجب في أن تتوارد الفكرة عند «النظام» و«ليبنتز» (وبينهما ثمانية قرون) بل أي عجب في أن تتوارد الفكرة عند ألف مفكر؟ أليس أفراد البشر هم نسل آدم عليه السلام؟ وأليس النسل مستمدا من الناسل؟ ... لكنك تدرك غزارة المعنى، حين تنتقل من الحديث عن آدم وبنيه، من حيث هم أبدان، إلى ما يوازي هذه الحقيقة في دنيا «الأفكار» وعندئذ تجدك أمام مذهب يدعو إلى التأمل، وهي نقلة انتقلها «ليبنتز» ولم ينتقلها «النظام» ولا ندري إن كانت في رأسه ولم يقلها، أم كانت غائبة عنه، وأعني بها أن تكون هنالك فكرة «أم» وأن تكون كل أفكار البشر بعد ذلك نسلا تولد عن تلك الفكرة الأم، فإذا ما انتقلنا من هذا التعميم إلى تخصيص، وأخذنا على سبيل المثال أية فكرة معينة نختارها، كأن نقول - مثلا - إن المثلث زواياه تساوي زاويتين قائمتين، وجدنا أن كل ما فعلناه هو أن حللنا الموضوع الذي نتحدث عنه وهو «المثلث»، وأن تعريفه يحتوي على هذه الحقيقة التي نذكرها عنه، وأننا لم نضف شيئا جديدا بعبارة أخرى، يكون الموضوع بمثابة «الأم» التي أنسلت ما قيل عنها، ولا جديد.
ولم يرد سيل خواطري في رحلتي تلك، أن يترك هذه النتيجة دون أن يستخرج مغزاها، ومغزاها هام جدا، وخطير جدا، بالنسبة إلى حياتنا نحن الفكرية اليوم، وهو مغزى لو أوضحناه نكون قد وضعنا أصابعنا على سر خفي من أسرار تخلفنا الفكري، وذلك أن العالم كله، عربا وغير عرب، كان على ظن بأن الفكر الصحيح لا يكون كذلك ... إلا إذا جاء «توليدا» لنتائج من أصولها، أي أنه كان محتوما على المفكر أن يصب فاعليته العقلية على فكرة سابقة وجاهزة ليستولدها نتائجها، وكان الله يحب المحسنين ... وهذا هو المقابل الفكري لقولنا إننا إذا حللنا آدم «عليه السلام» وجدنا فيه كل بنيه وبناته إلى يوم الدين، ومثل هذا الظن قد أدى بتاريخ الفكر البشري منذ بدايته المعروفة إلى أوائل عصرنا (فيما عدا استثناءات بطبيعة الحال) إلى أن يتخذ الفكر العلمي كله صورة الفكر الرياضي، بمعنى أن يضع المفكر بين يديه بادئ ذي بدء، مجموعة من حقائق مسلم بصوابها، ثم يأخذ بعد ذلك في «توليد» نتائجها من أجوافها وأصلابها.
وجاء عصرنا الراهن، والتفت لأول مرة إلى حقيقة صارخة، وهي أن الأفكار ليست كلها من طراز واحد، بل هي نوعان: نوع منها «يتولد» عن أفكار سابقة، ونوع آخر يستخلص من «الواقع» لا من أفكار أخرى، وعرف الغرب الجديد هذه الحقيقة، فلم يعودوا يخلطون بين النوعين، فحقائق يستخرجونها من أقوال السابقين، وحقائق أخرى يستخرجونها من تجارب يجرونها على كائنات الطبيعة نفسها، لكننا نحن، في مصر، أو في الوطن العربي، قد وقفنا عند الظن الأول، وهو أن كل الصيد في جوف الفرا، أي أن كل أفكار الإنسان، وإلى يوم القيامة، مستولدة من أفكار السابقين.
سألت صاحبي: أكانت تلك الوقفة هي نهاية رحلتك الفكرية يومئذ؟
فأجابني قائلا: كلا فقد استدار بي القطار في اتجاه آخر، لم يكن مقطوع الصلة بما كان سائرا فيه، فقد وجدتني أرتد بالذاكرة إلى وراء، متمنيا أن أصل في طريق حياتي إلى وراء الوراء، تمنيت أن أعرف ذلك الرضيع الذي كنته أول ما كنت: ماذا كان يرى وماذا كان يسمع؟ إنني الآن حصيلة ما قد كان ... فما هو ذلك الذي كان؟ لكنه مطلب فوق المستطاع وما لبثت أن وجدت سيل خواطري يتركز عند الفتى في سن الخامسة عشرة من عمره، قد بلغ من حياته الدينية حد التطرف، وأعني أنه مزج الحق بالخرافة لفترة من الزمن، إنه في تلك السن كان حريصا كل الحرص على أن يصلي المغرب والعشاء في المسجد ليحضر دروس شيخ وقور رزين كان اسمه «أبو قرين» (القاف مضمومة والراء مفتوحة) وكانت دروسه فيما بين المغرب والعشاء كان نحيل البدن، أسمر اللون، داكن السمرة مغضن، التجاعيد في وجهه، وكان أنيق الثياب نظيفها، وبالطبع لم أكن أفرق يومئذ فيما يقوله بين حق وخرافة: فكنت أصدقه في كل ما يقوله، لا فرق عندي في درجة الصدق بين ما يذكره عن الفروض والسنن والنوافل في الصلاة وبين ما يرويه على أنه حديث شريف يقول: «الباذنجان لما أكل له.» أي أنك إذا اتجهت إلى الله بدعاء وأنت تأكل الباذنجان استجاب الله لدعائك. لا لم أكن أفرق في درجة الصدق بين قول وقول، مما كان يرويه لنا الشيخ أبو قرين في دروسه، وكانت محصلة هذا كله عندي أن خرج ذلك الفتى ذو الأفق الضيق في فهمه لحقيقه دينه، ولست أنساه وهو في غمرة تلك الموجة، حين ناقش أحد أصدقائه في حدة بلغت حد التشنج بأنه لا يجوز لمسلم قراءة شيء آخر وكتاب الله موجود ... ومن عجب المصادفات حينئذ، أن ذهب يؤدي صلاة الجمعة في المسجد، فإذا بشيخ يقف عند باب المسجد بعد الصلاة يخطب بصوت قوي يهز الأسماع قائلا: هل أدلكم على كتاب تقرءونه فيغنيكم عن قراءة أي شيء ما عداه؟ ماذا تقرءون يا سادة حين تقرءون صحيفة أو مجلة أو كتابا؟ إنكم تقرءون عن التوافه الزوائل، فهل أدلكم على كتاب هو وحده «الكتاب» تقرءونه فلا تقرءون سواه؟ ... وقف الفتى يسمع ويتحرق شوقا ليسمع عن الشيخ ما يهتدي به إلى كتاب واحد يغنيه عن سائر الكتب والمجلات والصحف، وأعجب العجب أنه، وهو الفتى الذي كان منذ حين يعترك مع صديق له، بأنه لا يجوز لمسلم أن يقرأ شيئا وكتاب الله موجود، لم يدرك أن الشيخ الخطيب كان يستهدف تلك الغاية نفسها، ووقف الفتى يرتقب في شوق أن يسمع عن الشيخ ما يهديه وإذا الشيخ يفصح آخر الأمر عما يعنيه، ففرح الفتى فرحة غامرة إذ رأى أنه كان - إذن - على حق في نقاشه الحاد مع صديقه.
وشاء الله سبحانه وتعالى للفتى الطموح أن يجتاز بأمان تلك المنطقة من عمره، بما كانت تضطرب به من موج الانفعال الغشيم، لينتقل بعدها إلى مرحلة اشتدت فيه الدفعة نحو التحصيل العلمي والثقافي، يأتي به من كل اتجاه، فأخذت آفاق النظر تتسع أمامه وكان من أهم النتائج المباشرة لنظرته الجديدة، أن أشرقت عليه حقيقة بسيطة، ولكنها مع بساطتها كفيلة وحدها أن تنقل الإنسان من حال إلى حال، وتلك هي أن الشيء لا يعرف بذاته وهي قائمة وحدها مستقلة برأسها، وإنما يعرف بذاته وبغيره معا. إن المفتاح لا يعد مفتاحا إلا إذا فتح الباب المقفل، فإذا هو لم يفتحه لم يكن مفتاحا، وليست الذراع الشلاء ذراعا برغم احتفاظها بشكل الذراع ولا يعرف عنها عجزها إلا بعد الاحتكام إلى شيء سواها، ولا تنكشف لنا طبيعة الحجر، أصلب هو أم رخو، إلا إذا صادمنا بينه وبين جسم آخر، وهكذا قل في كل شيء ... وهكذا قل في جملة من اللغة يقولها قائل، فإذا هي لم تحدث تغيرا ما عند سامعها لم تكن شيئا مذكورا، حتى وإن كانت سليمة البناء أمام قواعد النحو، فقد خلقت اللغة لتكون أداة يتغير بها الناس وليغير هؤلاء الناس العالم الذي حولهم، وأما الجملة التي تقال أو تكتب ولا يتغير بها شيء، كأن يعرف بها الإنسان ما لم يكن يعرفه، ثم لا تكون المعرفة معرفة إلا إذا كانت أداة تغيير، أقول إنها إذا لم تفعل شيئا من ذلك تحول النطق بها إلى موجات هوائية لا تحمل شيئا ...
والقرآن الكريم كتاب الله لمن أسلم وآمن، أنزل للناس «ليغيروا» برسالته ما ينبغي أن يتغير من حياة الإنسان، وكيف يجيء ذلك التغيير إذا لم تكن العلاقة وثيقة بين آياته الكريمة من جهة، وعالم النفس وعالم الأشياء من جهة أخرى، ثم كيف تتم العلاقة بين الطرفين إذا لم أكن على بعض العلم بكل من الطرفين، فأفهم آيات الله ما وسعني الفهم، ثم أعرف الأشياء من حولي ما وسعتني المعرفة كذلك، فإذا تطابق الطرفان كان خيرا وإذا لم يتطابقا عدت إلى عالم الأشياء أغير فيه ما أغيره حتى يتم التطابق، يقول الله - عز من قائل:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ...
فما هي «كلمات ربي» التي إذا أردنا ذكرها كتابة، وكان البحر مدادا، وكان شجر الأرض أقلاما، لنفد هذا قبل أن نفرغ من تلك الكلمات ... إنها هي حقائق هذا الكون العظيم وكائناته، ولكي تعرف كم هي كلمات ربي في آياته الكونية، خذ أبسط كائن تقع عليه يداك، خذ ورقة واحدة من أوراق الشجر، وحاول أن تكتب وصفا دقيقا لكل ما فيها، لعروقها المخطوطة عليها، لعناصرها الداخلة في تكوينها، لطريقتها في الاغتذاء والارتواء والتنفس، إلى آخر ما هو متعلق بها من حياة وموت، وانظر كم تكتب لتستكمل ذلك كله عن ورقة واحدة من أوراق الشجر، فماذا أنت صانع بملايين الملايين من سائر الكائنات وملايين الملايين من السدم ومن النجوم ومن الكواكب؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنك لن تكون على فهم بآيات الكتاب الكريم، إلا بمقدار ما أنت على علم به من حقائق الأشياء، فكلما ازددت علما بخلق الله ازددت بالله إيمانا، إذن، فلم يكن الفتى المراهق على حق فيما جادل به صديقه، حين زعم له أن قراءة القرآن الكريم تغني عن كل قراءة أخرى، كلا ولا كان الشيخ الخطيب عند باب المسجد على حق، حين نادى في الناس بأن كتاب الله وحده يغني عن كل مكتوب آخر، فالعلم بحقائق الأشياء التي تحيط بنا؛ العلم بالحجر، والشجر، والماء، والهواء، والضوء، والكهرباء، وكل ما خطر لك وما لم يخطر، أقول إن العلم بهذا كله هو بدوره وسيلة علم أوفى بمعاني آيات الكتاب الكريم ...
وسألت صاحبي لما أخذته لحظة صمت: أكانت هذه نهاية رحلتك؟
فأجاب بقوله: لا ... إنها لم تكن، فلقد استطرد بي قطار الخواطر، لأتبين بعد ذلك لماذا حدث لي أن اخترت لنفسي تحليل الأفكار طريقا في منهج التفكير، فربما جاء ذلك حين أدركت في وضوح أن «الفلسفة» في حقيقة أمرها، إنما هي منهج لتحليل الأفكار بغية توضيحها، إنها لا تحتكر لنفسها موضوعا معينا خاصا بها كما يفعل كل علم من مجموعة العلوم، إذ هي بمثابة عدسة مكبرة توضح لك من الدقائق الخافية ما أردت له وضوحا، ولا شرط لها بعد ذلك أن يكون الموضوع الموضح منتميا إلى هذا الميدان أو ذاك، ولعلك قد رأيت طائفة من أدوات التحليل العقلي التي أنتهجها، وذلك حين عرضت عليك سلسلة الخواطر التي وردت إلى ذهني منبثقة من تذكري للمفكر العربي الإسلامي إبان القرن الثالث الهجري، وفي مدينة البصرة، وهو «النظام» العظيم ... تلك - يا صديقي - كانت رحلتي التي ارتحلتها في دخيلة نفسي، ذات يوم من أيام الصيف، وكانت رحلاتي في الأحيان الماضية حركة في أرجاء المكان، وأما رحلتي هذه فكانت جولة في آناء الزمان بينما كنت جالسا على مقعدي هذا، في غرفة أقفلت نوافذها وسادها سكون، إلا من حفيف مروحة كهربائية تساعدني على حر الصيف، وهي رحلة كما رأيت؛ بدأت بمراهق يؤمن إيمان السذج، وانتقلت إلى شاب عرف قدر العلم ومنهاجه، ثم انتهت بشيخ ينعم بشيء من علم يضيئه إيمان ...
تحولات
لو أني سئلت: ما الذي تراه أبرز صفة تميز اتجاه الفكر في عصرنا؟ لأجبت في غير تردد قائلا: إنها إحلال «التغير» محل «الثبات» في فهمنا للأشياء، فبعد أن كان الظن بالشيء المعين - كل شيء وأي شيء - هو أنه ذو حقيقة ثابتة، يجب البحث عنها إذا أردنا معرفته للانتفاع به في حياتنا، وأن تلك الحقيقة الثابتة تطرأ عليها تحولات عارضة، لكنها لا تغير من حقيقته شيئا، أصبح الرأي هو أن تلك التحولات هي هي نفسها حقيقة ذلك الشيء، إلا أن الإنسان يربطها من عنده برباط يوحدها في كيان واحد، وذلك لقيامها معا - على تعددها وتفرقها - بوظيفة واحدة. خذ مثلا لذلك مدينة القاهرة وسنعود إلى أمثلة أخرى كثيرة؛ فمدينة القاهرة كيان له تاريخ ويحرص الخيال البشري على أن يبقى لذلك الكيان حقيقته دون أن يأخذ في حسبانه أن ينقص سكان القاهرة أو يزيدون، أن تقام بها المشيدات الجديدة أو لا تقام، فقد كانت هي القاهرة منذ نشأت، وستظل هي القاهرة ما شاء لها الله أن تبقى، لكن اقترب بعينيك نحو هذا الكائن الواحد، وانظر كم هو في الحق كالبحر يموج بالناس وبالأحداث وبالأشياء وبالحركة الحية، فأينما وجهت البصر وجدت مفردات وأفرادا، يطرأ عليها التغيير كل يوم، بل كل ساعة، وما هو أدنى من الساعة! فليس هنالك إلا عناصر تقترب وتبتعد وتتلاقى وتفترق، ولولا خيال الإنسان الذي يمسك بتلك الكثرة في وحدة واحدة، لما كانت إلا سيرورة دائمة، وكان الفكر قديما ينزع إلى أن يجعل وراء تلك الكثرة المتحولة محورا ثابتا يكون هو المعنى الحقيقي «للقاهرة»، ويريد الفكر في اتجاهه الراهن، أن يرى الشيء على كثرته البادية وتحولاته يوما بعد يوم، على أن هذه التفرقة لا تعني أن الفكر في الحالة الأولى ينكر على التفصيلات وجودها، أو أن الفكر في الحالة الثانية ينكر الإطار الوظيفي الواحد الذي يضم تلك التفصيلات فيما يشبه الوحدة الواحدة.
ويقيني هو أن القارئ قد يأخذه الضيق عند هذه التفرقة هامسا لنفسه: وماذا يعود إلينا من أمثال هذه اللجاجة العقلية التي لا تغير من الأمر شيئا: فالقاهرة هي القاهرة في كلتا الحالتين على حد سواء؟ وردا على مثل ذلك الهامس لنفسه بقول كهذا، أقول: كلا فقد أخطأ معك الحساب يا سيدي، والفرق بين الحالتين واسع، وأثره في النتائج العملية بعيد عميق، ولكي أوضح ذلك أسوق لك مثلا آخر؛ طفلا يربيه أولو أمره على أساس التصور الأول، أو يربونه على أساس التصور الثاني، وفي وسعنا أن نوسع المجال في هذا المثل، ليشمل عملية التربية والتعليم كلها في بلد معين مثل مصر؛ إذ يتولى جيل الكبار جيل الصغار - من الطفولة إلى الشباب - بالتربية والتعليم، فماذا يكون الفرق بين تربيتهم وتعليمهم على التصور الأول، ثم على التصور الثاني؟ ولعلك تذكر ما قد أسلفناه من أن التصور الأول يجعل للطفل أو للناشئ أو الشاب «حقيقة» محددة ومعينة، على أساسها تكون التربية ويكون التعليم، وأما ما تتعرض له تلك الحقيقة الثابتة من تغيرات وتحولات، فأمر يجب أن يغض عنه النظر، في حين أن حقيقة الطفل أو الناشئ أو الشاب بناء على التصور الثاني؛ إنما هي تلك التغيرات والتحولات نفسها، فإذا نحن غضضنا عنها النظر فقد غضضنا النظر عن الإنسان الحي الذي بين أيدينا بكل ما فيه؛ وإذا تمت عملية التعليم على أساس التصور الأول، أخرجت إنسانا «مصنوعا» كما يخرط الخراطون قطع الحديد أو الخشب، وأما إذا تمت عملية التعليم على التصور الثاني، كان علينا أن نقابل تحولات الفطرة البشرية في كل فرد حي لتقابل كل حالة بما هي في حاجة إليه؛ نعم إن ملايين التلاميذ والطلاب ينخرطون في قوالب المخرطة، فيقتلون في أنفسهم ما يقتلونه من أجل المخرطة التعليمية ومقتضياتها، لولا أننا نشاهد آنا بعد آن، صاحب موهبة في اتجاه معين، تكون موهبته أقوى من مخرطة التعليم، فتشق عليها عصا الطاعة وتخرج إلى حيث تتنفس وتنمو وتزدهر.
أرأيت يا سيدي كم هو بعيد ذلك الفرق بين أن تنظر إلى الإنسان بمنظار الرؤية الأولى - رؤية الثبات - وأن تنظر إليه بمنظار الرؤية الثانية - رؤية التحول -؟ فليس الناشئ الذي يرسله أبوه إليك لتتولاه تربية وتعليما، قطعة من الخشب تقاس أبعادها بالمسطرة طولا وعرضا وارتفاعا؛ وإنما هو قطعة من حياة فوارة متغيرة متحولة، لا تسكن على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، إنه ينمو ويحس ويدرك ويعقل ويثور ويهدأ، وهو في هذه التحولات المتصلة لا يحيا حياته كلها على وتيرة واحدة. ولما كان يتعذر علينا أن نسايره في تحولاته تلك لحظة لحظة، اختصرنا على أنفسنا الطريق، فقسمنا حياته الدراسية ثلاث مراحل أساسية؛ مرحلة للتعليم الابتدائي، ومرحلة للتعليم الثانوي، ومرحلة للتعليم العالي في الجامعات والمعاهد وما إليها، فماذا نحن صانعون إزاء هذا التتابع؟ أيكون التعليم كله على نهج واحد، لا يختلف باختلاف مراحله، اللهم إلا في طول المادة المدروسة وقصرها، أو في غزارتها وضحالتها؟ أما أصحاب الرؤية الأولى فالجواب عندهم بالإيجاب حتى لو أنكروا ذلك، لأن أفعالهم القائمة تفضحهم، وإلا فما هو الفرق الأساسي بين طالب يدرس الجيولوجيا أو علم النبات أو الكيمياء أو التاريخ أو الجغرافيا في المدرسة الثانوية وبينه وهو طالب يدرس تلك المواد في الجامعة؟ أم نقول إنها هناك «دروس» وهنا «محاضرات»؟ أما أصحاب النظرة الثانية فهم يرون الطالب وقد تحول إنسانا آخر مرحلة بعد مرحلة، ولذلك فهم يرون أن يتبدل النهج في كل مرحلة بما يناسبها، فإذا كان الطفل في المرحلة الابتدائية يناسبه أن تقدم له المعلومات المختلفة بغير قوانينها، فالتلميذ في المدرسة الثانوية يكون مهيأ لأن يتلقى المادة العلمية مصوغة في قوانينها، أو مبادئها، أو أحكامها العامة، دون أن يطالب بشيء أكثر من ذلك، ثم يأتي طالب الجامعة إنسانا آخر ذا طبيعة أخرى، وهنا تجيء صورة ثالثة، لا هي مجرد عرض لطائفة من المعلومات، ولا هي مجرد ذكر لقوانين العلوم في ميادينها المختلفة بل هي أن يكون طالب الجامعة «باحثا» صغيرا يرشد إلى الطريق التي يضيف فيها إلى العلم شيئا جديدا. وربما دهش القارئ أن يراني بهذا الطموح كله لطالب الجامعة، لكن المدقق في تحولات الطبيعة البشرية يلحظ فيها هذا التتابع في المراحل، فانظر - مثلا - كيف يتدرج الإنسان في استخدامه للغة - بصورة طبيعية خالصة - ففي المرحلة الأولى يلتقط مجموعة من أجزاء لغوية يستخدمها مفردة ومركبة مع من يتبادل معهم الكلام والتعامل، ثم ينتقل بعد ذلك حين يدرس اللغة، إلى معرفة «قواعد» التركيب اللغوي، ويظل يعلو في تلك القواعد ما ارتفعت به درجات التعلم، وأما مرحلته الثالثة فهي أن «يبدع» مركبا لغويا معينا: شعرا إذا كان شاعرا، أو أدبا نثريا في أية صورة من صوره إذا كان موهوبا لها؛ وهكذا ترى مراحل التحول الأساسية: جمع للمعلومات بغير قواعدها وقوانينها، ثم إلمام بتلك القواعد أو القوانين، وأخيرا تجيء مرحلة المبدع المبتكر في الميدان نفسه الذي كان قد جمع عنه المعلومات أولا، وقواعدها وقوانينها ثانيا.
كل شيء في هذا الوجود - إنسانا وغير إنسان - وهو في حقيقته سيرورة متحولة أبدا من حال إلى حال، فما يكاد الكائن المعين يتخذ حالة ما، حتى يتغير متنقلا إلى حالة تليها، وهكذا تكون حقيقة الكائن في صيرورته للحاضر إلى جديد ينتقل إليه، إنها سيرورة وصيرورة في آن واحد، فهو سيرة متحركة، يصير بها إلى وضع جديد، انظر إلى شجرة في تاريخها، منذ تضع لها بذرتها في الأرض، تجدها تحولات مستمرة، إنها في يومها غيرها في أمسها، وسوف تكون في غدها غيرها في يومها، إنها تنمو دون أن تلحظ عيناك نموها يوما بعد يوم، إنها تسقط أوراقا وتضع أوراقا، إنها تتنفس الهواء شهيقا وزفيرا كما نفعل، وإن يكن زفيرنا نحن هو شهيقها، إن حياتها قصة طويلة عريضة، لا أعرف كم مجلدا يمتلئ بتفصيلاتها لو أننا رصدنا تغيراتها جميعا، بكل خلاياها وأليافها وأوراقها وأزهارها وثمارها، تعريا في الشتاء واكتساء في الربيع، تناميا في عهد القوة، ثم تفانيا في مرحلة الشيخوخة المؤدية بها إلى موت.
إن الذي يخدعنا بثبات الأشياء برغم تحولاتها المتدفقة عوامل كثيرة؛ منها بطء التحول بحيث لا تدركه عين إلا بعد أن يتراكم، ومنها اللغة التي اصطنعناها نحن أنفسنا لأنفسنا، لكننا سرعان ما تغيب عنا حقيقتها؛ فنحن نألف في التعبير باللغة عن الأشياء، أن نذكر اسما معينا يشير إلى شيء ما، كالاسم: «جمال» - مثلا - ثم نسند هذا الاسم إلى ما أردنا أن نسنده إليه، فنقول: إن في هذه الزهرة: «جمالا»، وفي شروق الشمس «جمالا»، وكذلك في غروبها، وفي البحر جمال، وفي الصحراء جمال، في الجبال جمال، وفي حقول الزرع جمال، وهكذا ثم ما هو إلا أن نتصور بأن «الجمال» يمكن أن يكون شيئا قائما بذاته، ثابتا في معناه حتى وإن طرأت عليه تغيرات مع تغير الأحداث، ومن هنا ينشأ في تصورنا جانبان: «الجمال» في ثبات طبيعته من ناحية، والتغيرات التي تطرأ مع تغير الأشياء المنسوبة إليه من ناحية أخرى. ولما كانت طبيعة اللغة تفرض علينا هذا الانقسام، وذلك لأن اللغة في ذاتها تقسم الموضوع الواحد الموحد أقساما بحكم انقسامها إلى كلمات، فالوردة الجميلة كائن موحد، لكن اللغة بحكم الضرورة تجعل للوردة كلمة، ولجمالها كلمة أخرى، فسرعان ما نظن نحن أن هنالك شيئين: وردة، وجمالا، وكما نقول عن شجرة إنها نامية، ونحسب أن الشجرة شيء وأن نموها شيء آخر.
الأمر في كل شيء شبيه بالأسرة وأفرادها على امتداد فترة معينة من الزمن؛ فنحن إذ نشير إلى أسرة بذاتها قد نتوهم أنه ما دام، «الاسم» واحدا، فلا بد أن يكون مسماه واحدا كذلك، لا تعدد فيه ولا تنوع، في حين أن ما نسميه «أسرة» هو مجموعة قد يبلغ أفرادها مئات فيهم كبار وصغار، وفيهم رجال ونساء وفيهم أجداد وآباء وأحفاد، وفيهم من سافر ومن فقد، وفيهم من مات ومن هو وليد رضيع، وهكذا، وما نقوله عن كلمة «أسرة» وما تشير إليه، ينبغي أن نقول مثله على كثير جدا من أسماء الأشياء وما تعنيه؛ إذ الرغبة في التبسيط وحدها هي التي تجعلنا نختصر الواقع المعقد بكثرة عناصره وتشابكها وتحولاتها، حتى لنظن أن ما هنالك في دنيا ذلك الواقع إنما هو وحدات من كائنات كل وحدة منها كيان موحد، قائم برأسه مستقل بذاته، حتى وإن ربطته الروابط بغيره من سائر الوحدات، فنقول هذه شجرة، وذلك نهر، وهنا سوق، وهناك مدرسة إلخ.
ولعلك تستطيع الآن أن تكون لنفسك فكرة تقريبية عما يتعرض له الإنسان المتعجل في أحكامه، حين يطلق حكما ما عن شيء يظنه «مفردا» و«ثابتا»، وإذا هو في حقيقته حشد مزدحم بأفراده وعناصره وأجزائه فما أيسر على ذلك المتعجل أن يحكم على «شعب» معين بأنه على خلق أو على غير خلق، على علم أو على غير علم، كأن ذلك «الشعب» فرد واحد من الناس، وليس عدة ملايين من أفراد، قد يكون فيهم من هو على خلق ومن هو على غير خلق، من هو على علم ومن هو على غير علم ... لا بل إن الحكم المنصف المتأني على الفرد الواحد ليس بالأمر اليسير، وهل يكون يسيرا أن تحكم على كاتب - مثلا - بأنه يجانب الحق في «كل» ما يكتبه، حين يكون ذلك الكاتب قد أخرج للناس خمسين كتابا؟ أليس من الجائز أن يكون قد جاوز الحق في إحدى فقرات صفحة من صفحات كتاب واحد، ولم يجاوزه في مئات الألوف من فقرات وردت في سائر الكتب؟ لكننا كثيرا ما نتعجل الأحكام، متأثرين بالوهم الذي يحول الكثرة في أذهاننا إلى واحد، ويحول الكائن المتغير في أذهاننا إلى كائن ثابت، ولسنا نريد - بالطبع - أن نقول إن كل من أراد أن يتحدث عن شيء في حياته اليومية الجارية، لا بد له من مثل هذه الوقفة التي تحلل الأشياء إلى عناصرها المتغيرة؛ لا فالحياة العملية الجارية لا يراد لها كل هذه الأناة وهذه الدقة، وإنما الذي نريده هو أن من يتصدى لفهم الوقائع فهما دقيقا، والحكم عليها حكما صحيحا، مطالب بمثل هذه الدقة والأناة.
وإن الأمر ليزداد صعوبة، حين ننتقل في أحاديثنا من موضوعات صغيرة محدودة في مكانها وزمانها، لنتناول موضوعات اتسعت آفاقها وتباعدت أطرافها وتطاولت أزمانها، كأن نتحدث عن «الحضارة» وعن «الثقافة» وعن «التراث» وعن «الفن» و«الأدب» و«العلم» وما هو من هذا القبيل الواسع. إنك قد تصادف من الناس من يجمع حضارة الغرب في هذا العصر في حكم واحد، كأن يصفها - مثلا - بأنها «حضارة مادية» وكأن الذي بين يديه قطعة صغيرة من ورق يقول عنها إنها معوجة الأطراف وملوثة ببقع من مداد، وكأن الذي بين يديه ليس «حضارة» شملت «عصرا» ففيها علوم، وفنون، ونظم، وألوف الألوف من ضروب النشاط في كل ميدان، ومن أبنائها من هو على طريق الخير ومن هو على طريق الشر، فيهم الأطباء الذين يخففون آلام المرضى وفيهم المعلمون، وفيهم من يعين العاجز والمحروم، ولكن منهم كذلك السفاحون، واللصوص، وقساة القلوب.
على أن الذي يعنيني هنا - في المقام الأول - ليس هو كثرة العناصر التي نخطئ فنجملها في حكم واحد سريع وكأنها عنصر واحد بسيط، بل الذي يعنيني هو صفة «التحول» من حيث هو جزء لا يتجزأ من طبائع الأشياء فليس في هذا الكون الفسيح شيء واحد يثبت على حالة واحدة ولو للحظة سريعة من لحظات الزمن، فكل شيء في تحول دائم لا يسكن ولا يجمد كل نجم من نجوم السماء كل شمس من شموسها، كل كوكب، كل ذرة صغيرة مما لا تدركه الجماهير، إنما هو يتحول أبدا، يتغير أبدا، فإذا قصرنا الحديث على أرضنا وعالمها، قلنا كذلك إنه ما من شيء، من الذرة إلى الجبل، من الخلية الأولية إلى الفرد من أفراد الإنسان إلا وهو أقرب إلى تيار دافق بموج التحول والتغير، لحظة سريعة في إثر لحظة سريعة فإذا سألنا: وما الذي يجعلنا - والحال هي كما وصفنا - نميز الأشياء والكائنات بعضها من بعض؟ فنقول هذا هو زيد، وذلك هو عمرو، وهنا ترى نهر النيل، وهناك ترى جبل المقطم، وتلك هي الشمس؛ وبعد غيابها مع الغروب يظهر القمر، فإذا لم يكن في شخص أو في شيء ثبات يقيمه على حالة الدوام النسبي فكيف يتاح لنا تمييز هذا من ذاك في عالم الكائنات؟ والجواب هو في الإطار الذي في حدوده تحدث التحولات، فخلية النحل واحدة بإطارها لا بأفراد النحل فيها، ومصر وطن واحد بإطارها التاريخي وليس بأفراد أبنائها، لأن هؤلاء الأبناء يموتون ويولدون، وتبقى مصر في إطار تاريخها وهكذا قل في كل شيء.
وأعجب ما في صفة «التحول»، التي هي صفة تحدد حقيقة العالم وما فيه، أن ذلك التحول لا يستند إلى متحول، وأنه يصعب على الخيال البشري أن يتصور تغيرا بلا متغير، وتحولا بلا متحول؛ لكن ذلك هو كذلك، وكثيرا ما يشبهون الأمر بالنهر وجريانه، إنها اللغة - أقولها مرة أخرى - هي التي توهمنا بأن تركيب الأشياء يماثل تركيبها، فإذا قلنا - مثلا - الماء يجري في نهر النيل حسبنا أن الماء الذي يجري شيء غير نهر النيل الذي فيه يجري ذلك الماء، لكن الواقع لا يعرف إلا ماء يجري، ولنا نحن أن نسميه بالنيل أو بأي اسم شئنا، وذلك الماء الجاري على أرض الواقع، والذي ليس في واقع الأمر سواه، إنما هو في معبر دروب، حتى ليستحيل على موضع واحد منه أن يبقى على ما هو عليه لحظتين متعاقبتين، فإذا وضعت يدك في النهر ، ثم سحبتها ، ثم وضعتها مرة أخرى، فأنت هذه المرة تضعها في ماء آخر غير الماء الذي وضعتها فيه أول مرة؛ ولعل أول من تنبه إلى هذه الحقيقة في طبائع الأشياء، هو الفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» - وكان هو الذي عبر عن هذه الحقيقة بعبارته التي اشتهرت من بعده، وهي قوله: إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين. لكن «هيرقليطس» حين لمعت في رأسه تلك الصورة، كانت كلمعة البرق التي تبرق بها سحابة غير ممطرة، سرعان ما تدفعها الريح فتنقشع، أما فكرة «التحول» حين يقولها قائلوها في عصرنا هذا، فإنما يقولونها تعبيرا عن رؤية كاملة شاملة للعصر كله بجميع ما فيه، فهي قراءة جديدة للكون وكائناته، نبعت من فكر جديد ومن علم جديد، وليس ذلك - بالطبع - لأن الكون وكائناته قد تغيرت حقيقته التي كان عليها، بل لأن الإنسان هو الذي تغيرت نظرته بما أصابه من تقدم في علومه، أقول: إنه ليصعب جدا على الخيال البشري أن يتصور كيف يكون تغيره بلا متغير، أو «تحول» بلا متحول؟ وإن كاتب هذه السطور ليكاشف القارئ، بأنه كان برغم علمه بهرقليطس وفكرته القديمة عن طبيعة «التغير» إلا أنه لم يكن قد تنبه أول الأمر إلى كل ما يترتب على تلك الفكرة من نتائج، ولذلك لم تكن قد نشأت له المشكلة التي تريدنا أن نتصور «تغيرا» دون أن نفترض وجود ما يتغير، حتى كان ذات يوم في أواسط الأربعينيات فوقع على كتاب عن «التغير» لمؤلفه «ولدون كار»، وكان أهم ما ألح عليه المؤلف في كتابه ذاك شرحه لفكرة التغير الذي لا يستتبع أن يكون هنالك شيء معين يطرأ عليه ذلك التغير، فالأمر هو أمر تغير مطلق، وذلك هو الكون وحقيقته؛ وكأن الذي أوقف كاتب هذه السطور، عندما فوجئ بتلك الإضافة الفكرية التي لا مفر منها إذا قبلنا العلم في صورته الجديدة، أقول: إن الذي أوقف كاتب هذه السطور عندئذ، هو أن يجد لنفسه مخرجا يصون للروح بقاءها، وثباتها، وخلودها، ولم يلبث أن وجد لنفسه ذلك المخرج، وهو أن كل ما يقال عن التحولات المتغيرة على النحو الذي قدمناه، إنما هو خاص بذلك الجانب من الوجود الذي يخضع للنظر العلمي ومناهجه، ولكن في الوجود ما ليس من هذا القبيل، وفي هذا الصدد تذكر الروح جوهرا قائما بذاته.
تحولات، تحولات، تحولات، هي كل ما ينتهي إليه تحليلنا، لما نعرفه من أشياء قريبة منا أو بعيدة عنا، وفي هذا الخضم العظيم المتلاطم بأمواج التعبير، تتميز الأشياء بثباتها الشكلي على أساس الأطر التي في حدودها تنشأ علاقات بين الأطراف، وكل لحظة في ذلك التيار الدافق إنما يميزها ويحددها موقعها في سلسلة المتتابعات ... ولكن بأي معنى نفهم معنى «التقدم» في بحر التحولات هذا، التقدم هو الانتقال من البساطة إلى التركيب، ومثل هذا الانتقال يكون في التركيب العضوي البيولوجي بالنسبة إلى عالم الحيوان ثم يضاف إليه التركيب الثقافي بالنسبة إلى الإنسان، فما هو أشد تركيبا في ثقافته أكثر تقدما مما هو أبسط.
والعجيبة التي تلفت النظر في هذا الصدد هي أن الإنسان إذا ما ترك نفسه على سجيتها وجد نفسه أكثر انجذابا إلى بساطة الماضي منه إلى تركيب الحاضر وتعقيده، كأنما الذي يعنيه ليس هو «التقدم» بل هو راحة البال، إلا إذا أخذته يقظة في عقله وضميره، وتذكر أنه «إنسان» وقد خلق إنسانا ليتحمل تبعة الإنسان كما أرادها له خالقه سبحانه وتعالى: وتبعة الإنسان ليست في أن يحيا حياة سائر الحيوان، بل هي أن «يعمر» الأرض وهو لا يعمرها إلا بما يخلص إليه من علم، يأتيه إذا ما تفكر في خلق السماوات والأرض كما أمر أن يفعل، إلا أنها سجية الإنسان أن يسترخي خالي البال إذا استطاع، وهنا ترى بساطة الماضي تشد إليها خياله شدا، بل إنه ليوهم نفسه أن تلك البساطة الأولى هي التي عرفت الفضيلة، والخير، والجمال، وكل شيء مما عساه يصنع من زمانه عصرا ذهبيا.
وفي هذا السياق، نذكر بين من نذكرهم من دعاة إلى العودة بالإنسان إلى العصر الذهبي الذي هو عصر البساطة والنقاء في خيالهم، أقول إني أذكر في هذا السياق نموذجا له مكانته العالية، هو الشاعر الروماني القديم «أولد» الذي خلدته قصيدته التي جعل عنوانها «تحولات»؛ بمعنى درجات الهبوط في تاريخ الإنسان من عصره الذهبي الأول، إلى العصر الفضي الذي تلاه، فإلى العصر النحاسي فعصر الحديد؛ وأخذ الشاعر يتخيل كيف هبطت حياة الإنسان مع هذا التدرج درجة درجة ... أحلام شاعر يحلم بالماضي.
ولكن ماذا أردت أن أقوله بهذا كله؟ أردت أن أقول إن الذين يحلمون بأن تعاد صور الماضي في حياة الإنسان الحاضر إنما هم يكلفون الأشياء ضد طبائعها، كمن يتطلب في الماء جذوة نار (كما قال الشاعر) لأن «التحول» هو طبيعة الأشياء وصميمها، على أن حياة الماضي - كأي شيء آخر - لم تمت ولن تموت، إلا أنها خيوط تدخل مع غيرها على كر الأعوام، في نسيج واحد، فلا الماضي يستطيع البقاء بذاته محصنا من التغير، ولا الحاضر يستطيع البقاء بذاته مديرا ظهره إلى الماضي، فهذه كلها صور يخلقها خيال الشاعر، ليشيد بجانب ويسخط على جانب. وأما واقع العلم والتاريخ، فهو أن حياتنا لن تبلغ نضجها في ظروف حاضرنا، إلا إذا جاءت حلقة في سلسلة التحولات، بحيث يكون قوامها نسجا تتداخل فيه خيوط ما مضى وخيوط ما حضر.
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
هذا حديث عن حياة الثقافة العربية في مرحلتها الراهنة، لكنه حديث سألجأ فيه إلى الطريقة التي نسمع عنها في الحروب، وأعني طريقة الالتفاف حول العدو لمحاصرته، حتى لا يبقى أمامه منفذ إلا التسليم. إني أرانا في حياتنا الثقافية نسير سير المتخبط في ظلام دامس، فرأسه يخبط في الجدار مرة، وقدمه تتعثر في قطع الأثاث مرة أخرى، وتكون الصدفة النادرة عندئذ، هي أن يجد نفسه أمام الباب المفتوح، فيعرف طريقه إلى النور. لكن هذا الرأي قد لا يقع من آخرين موقع الرضا، أو ربما اتفق معي بعض هؤلاء في مجمل الرأي، لكنهم يرفضون أن يكون طريق النجاة هو ما أراه، وربما كانت أفضل وسيلة للإقناع هي وسيلة الالتفاف الذي ينتهي إلى حصار يبرز عناصر المشكلة وحلها.
الأصل في الحياة الثقافية السوية، في شعب معين يعيش في عصر معين، هو أن تتعدد القنوات، وتتنوع، لكنها برغم تعددها وتنوعها «تتشابه» لكي تتلاقى آخر الأمور عند هدف واحد، يكون هو الهدف الذي تتجه إليه قلوب الناس، سواء استطاع بعضهم، أو لم يستطع بعضهم الآخر، أن يفصحوا عما أرادوه. والقنوات المتعددة المتنوعة التي أشرنا إليها، هي العلم، والفن، والأدب، وكل ما يمكن أن يكون هناك من وسائل التعبير، فبأي معنى نريد لتلك القنوات «المختلفة» أن تجيء «متشابهة» إذا أردنا أن نظفر بحياة ثقافية سوية ومعافاة؟ وهنا نبدأ بحركة الالتفاف الأولى، بالوقوف عند «التشابه» ومعناه.
ولو كان التشابه المقصود تشابها في الملامح الظاهرة، لما كان في الأمر إشكال، لكن الأمر في تشابه القنوات الثقافية ليس كذلك، وإلا فكيف تتشابه الملامح الظاهرة بين قانون في علم النبات - مثلا - وبين معزوفة موسيقية، أو لوحة تشكيلية، أو قصيدة من الشعر، أو رواية؟ لا بد - إذن - إذا كنا نزعم تشابها بين متنوعات كهذه، أن نبحث له عن معنى وراء الملامح الظاهرة، فماذا عساه أن يكون؟ ... تأمل هذه الظواهر الطبيعية الثلاث: حجر يسقط على الأرض، دوران الأرض حول الشمس، حركة المد والجزر في مياه البحر، إنها ظواهر - كما ترى - مختلفة أشد ما يكون الاختلاف، لو كان الأمر أمر ملامح تظهر للعين، لكنها مع ذلك متشابهة كلها فيما قد يخفى على العين، إذ هي تتشابه في كونها حركات تحدث بفعل جاذبية الأجسام بعضها لبعض؛ فالحجر يسقط بجذب الأرض، والأرض تدور حول الشمس بجذب الشمس، وماء البحر يتحرك مدا وجزرا بجذب القمر، فالحركة في الحالات الثلاث هي من نوع واحد، ومن ثم يكون ما بينها من تشابه.
ليس المعول في التشابه الخفي قائما على التماثل بين الملامح الظاهرة، بل هو قائم على التماثل في «الوظيفة» أو في «الأداء» أو في «الغاية» بين الشبيهين، ومن هنا تكون الوردة على شجرة الورد أقرب شبها بالبرتقالة على شجرة البرتقال، منها بوردة صنعت من ورق، لأنه بينما الوردة الحية والبرتقالة الحية كلتاهما تتغذى وترتوي وتنمو ، وبذلك تكونان معا في تيار الحياة، محققين للحياة غايتها، تقع وردة الورق في عالم آخر، هو عالم الجماد والموات، وإدراك التشابه الخفي قد يستعصي على غير ذوي البصائر لكنه هو التشابه الذي نراه في كائنات الكون جميعا، حين ندرك واحدية الكون برغم تعدد كائناته وتنوعها فيما يظهر للعين، ومن هنا قال من قال: دلني على من يدرك التشابه بين الأشياء، وأنا أتبعه تبعية التلميذ لرائده.
إن من هذه المسائل التي قد لا تخلو من صعوبة، حتى على القادرين من أهل العلم، ذلك التشابه الذي لا بد أن يكون قائما بين أية فكرة وتطبيقها، كيف يكون وكيف نفهمه؟ فافرض - مثلا - أن على ورقة أمامك رأيت العدد 4 مكتوبا، ثم رأيت إلى جانب الورقة أربعة أقلام، أو أربعة كتب، فأنت عندئذ تكون بين شبيهين، فالرقم 4 والكتب الأربعة بينهما ما بين فكرة وتطبيقها، ولا بد - كما قلنا - أن تكون هنالك موازاة بينهما بصورة ما، وإلا لما كانت إحداهما تجسيدا للأخرى، ومثل هذا التشابه هو الذي يربط «العلوم» من حيث هي مجموعات من القوانين، وبين دنيا الوقائع والأحداث. وألتقي بهذا في مسألة العلاقة بين «النظرية» و«التطبيق» لأنها تنطوي على صعاب ليس هذا مكانا لذكرها فضلا عن شرحها، وحسبنا بما ذكرناه أن نكون قد صورنا نوع التشابه الخفي بين الأشياء، لأنه هو النوع الذي نطالب بأن يكون قائما بين قنوات الحياة الثقافية، برغم تعددها وتنوعها، وذلك إذا أردنا لتلك الحياة الثقافية أن تكون سوية وسليمة، فنجد تشابها يصل إلى حد الهوية الواحدة، بين ما تقوله الموسيقى، والتصوير، والعمارة، والنحت، والشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة، ويضاف إلى ذلك أن نجد ذلك كله متجها مع روح العلم في عصره في اتجاه واحد.
تلك - إذن - كانت حركة الالتفاف الأولى حول موضوعنا، وأما الحركة الثانية فهي أن ننظر إلى «الشعب» الذي في حياته تنشأ الحياة الثقافية التي نحن الآن معنيون بعرضها وتحليلها، فنسأل: ماذا عساها أن تكون، تلك الروابط التي تربط كذا مليون من أفراد الناس في شعب واحد؟ وهو سؤال تختلف عنه الإجابات، فقد يقال إنه العرق المشترك، أو يقال إنه التاريخ المشترك، أو يقال إنه الأرض المشتركة، أو يقال إنها الثقافة المشتركة، وهكذا ... وبالطبع قد يكون المشترك بين أبناء الشعب الواحد، هو كل تلك العوامل، أو بعضها، وأن الروابط لتزداد غزارة كلما كثرت الأصول المشتركة بين أبناء الشعب الواحد، على أن هناك عوامل أخرى طارئة في حياة الشعب، من شأنها - إذا ما وقعت - أن تزيد من قوة تلك الروابط كحرب تنشب مع عدو فيتكاتف أبناء الشعب بدرجة أكبر مما يحدث في الحياة المعتادة، أو أن تحل بالبلد كارثة من كوارث الطبيعة، كالزلازل وثورات البراكين أو الأوبئة أو ما إلى ذلك، لأنه في أمثال تلك النكبات الجماعية، يغلب على الناس أن يشتركوا في «فعل» معين يتقاسمونه ويتعاونون على أدائه، وفي هذا ما يبث في الجماعة شعورا بالوحدة، وكأن الجماعة قد أصبحت فردا واحدا.
إن للحياة الثقافية معنى يجعلها صفة لا يوصف بها الفرد الواحد، بقدر ما توصف بها جماعة معينة من الناس، كالشعب الواحد، أو حتى كمجموعة شعوب متقاربة تتكون منها قومية واحدة. وذلك لأن الحياة الثقافية متعددة الفروع، وكأنها الفروع في جذع شجرة واحدة، وليس من الممكن لفرد واحد أن يجمع في شخصه كل تلك الفروع بدرجات متساوية أو متقاربة، بحيث يكون عالما، وفنانا، وأديبا، بما تشتمل عليه كل واحدة من تلك الصفات من فروع، وفروع الفروع. إذن، فالذي يحمل الحياة الثقافية المكتملة هو شعب بأسره أو مجموعة شعوب موحدة الاتجاه والمزاج، ولقد كان الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» من أصحاب هذا الرأي. وقد فصله تفصيلا في كتاب له عن الثقافة ومعناها.
إلا أن الشعب الواحد، كالشعب المصري مثلا، أو مجموعة الشعوب المتقاربة، كالأمة العربية بمختلف شعوبها، إذا ما قلنا عنها إنها موحدة الثقافة، فلسنا نعني بذلك أن جميع الأفراد متساوون في الأدوار التي يؤدونها في تلك الحياة، إذ إن منهم من تضطرب صدورهم بالمشاعر المعينة، أو بالاتجاهات المعينة، ولكنهم لا يملكون القدرة على الإفصاح عما شعروا به، أو عما رغبوا فيه، وهؤلاء يكونون - عادة - سواد الشعوب، وإلى جانب هؤلاء قلة تشعر الشعور نفسه، وترغب الرغبة نفسها، ثم هي فوق ذلك تملك مواهب التعبير بالنغمة، أو باللون، أو بالكلمة، أو بمنهج البحث العلمي الذي يستخرج حقائق الأمور، ومحصلة ما ينتجه هؤلاء هي الحصاد الثقافي العيني الذي يرجع إليه إذا ما أردنا الكشف عن شعب معين منعكس في ثقافته.
فنحن إذا ما أردنا في موضوع حديثنا هذا الذي بين أيدينا، أقول إننا إذا أردنا أن نحكم على حياتنا الثقافية الراهنة حكما منصفا، وجب علينا أمران: أولهما: هو أن نكون على علم كاف بما قد أنتجته تلك القلة المنتجة للحصاد الثقافي في الفترة التي نريد الحكم لها أو عليها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون لدينا تصور معقول لما كان ينبغي أن يحققه ذلك الحصاد ... لكي نقيس الأمر الواقع إلى المثال. ولكن من أين يأتينا ذلك المثال الذي نقيس عليه الأمر الواقع؟ أهو مرهون بنزوة الكاتب؟ إن السماء لا تمطر «مثالا» يلزمنا بكماله، ولكنه التاريخ، تاريخ الثقافات عندما تبلغ ذراها في عصور معينة، وبلوغها تلك الذرى هو في ذاته حكم ثقافي يستند صوابه إلى إجماع الرأي عبر العصور، أو ما يقرب من الإجماع، فمن الذي يجادل في رفعة الحياة الثقافية في أثينا «بركليز» أو في بغداد «المأمون» أو في باريس «لويس الرابع عشر»؟
وهذه - إذن - حركة الالتفاف الثانية حول موضوعنا، فكما أردنا بالحركة الأولى أن نلتمس رباط «التشابه» بالمعنى الوظيفي الذي حددناه، وأعني رباط التشابه بين قنوات الإنتاج الثقافي على تعددها وتنوعها، قد أردنا بالحركة الثانية أن نلتمس روابط الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، وهي وحدة تهتز بها أوتار القلوب جميعا، لكنها أوتار تهتز في صمت عند الكثرة الغالبة من جمهور الناس، ويكون لها صوت مسموع عند القلة المنتجة للحصاد الثقافي في ذلك الشعب، وننتقل الآن إلى الحركة الالتفافية الثالثة، حول موضوعنا ...
وقد نجعلها الأخيرة، لنتناول بعد ذلك حصادنا في إجمال يمكننا من الحكم ... وأما الحركة الثالثة التي أعنيها فهي أن أذكر للقارئ بعض الأمثلة لعصور ثقافية مضت، وربما استطعت أن أوضح له بالأمثلة، ما الذي يجب أن نتوقعه من حياة ثقافية سوية ناضجة وتستحق البقاء؟
أول ما يرد إلى خاطري هو الثقافة التي جاءت حضارة مصر القديمة تجسيدا لها ... وإنه لمن العسير أن نتحدث عن عدة آلاف من السنين، وكأننا نتحدث عن جيل واحد من الناس، أو جيلين، ولكن هكذا صنعت بنا دراسة التاريخ على مناهج الغرب الحديث، الذي أراد لنفسه أن يكون هو «التاريخ»، وأما ما عداه فهو بالنسبة إليه كالهوامش والملحقات بالنسبة إلى فنون الكتب، فترى مؤرخي الغرب الحديث، بناء على تلك الرؤية الظالمة، قد قسموا التاريخ إلى ثلاثة أقسام: قديم، ووسيط، وحديث ... ثم أوهمهم ذلك التقسيم أن الأقسام الثلاثة متعادلة في الوزن، فنسوا - وكدنا ننسى معهم - أنه بينما «الحديث» الذي هو موضع اهتمامهم، عمره أربعة قرون، فإن «القديم» يزيد عمره عن خمسين قرنا، ولم تكن تلك القرون الخمسون كالأرض اليابسة لا حياة فيها ولا ثقافة ولا حضارة، بل كانت عامرة بكل هذا، في غزارة وثراء يبعثان على دهشة وذهول. ويكفي أن قد كان فيها مصر الفراعنة! ... أقول: إنه على الرغم من هذا العمر الطويل لتلك الثقافة المصرية التي تجسدت في حضارة مصر القديمة، مما لا بد أن يكون قد جاء منقسما إلى مراحل طويلة لكل مرحلة منها خصائصها المميزة لها، فإننا بحكم الانطباع المبهم الذي تركته في أنفسنا دراسة التاريخ على رؤية الغرب الحديث، نتحدث عن ذلك التاريخ الطويل وكأنه جيل واحد من الزمن أو جيلان، وبناء على هذه النظرة الخاطفة؛ انظر إلى الآثار التي خلفتها حضارة أجدادنا، فلا يساورني شك في أن ما أراه إنما هو صورة لثقافة موحدة الهدف، وبين جوانبها المختلفة رباط «التشابه» الخفي الذي حدثتك عنه، وإذا قلنا إن مثل ذلك التشابه قائم بين التمثال المنحوت والمسلة والصورة على جدار المدفن، والمعبد وكل ما تقع عليه العين من أثر ... إذا قلنا ذلك، فقد قلنا بالتالي إن هنالك «روحا» مشتركة عاشها القوم في حياتهم، ومن تلك الروح الواحدة انبثقت حياة ثقافية بشتى جوانبها، فكن - أيها القارئ - على أية درجة شئت من الإلمام بالتاريخ المصري القديم ... فإنك على أي الحالات، إذا ما عرضت أمامك قطعة كبيرة أو صغيرة من الفن المصري القديم فلن تخطئ عيناك أنها كذلك، لأن روح ذلك العصر - على امتداده - روح واحدة تميز بها كل عمل أنتجه فنان.
وإنه ليبدو لي في وضوح، أن تلك الروح المشتركة الواحدة المسيطرة على شتى صنوف الإبداع إنما هي روح من أخذ حياته مأخذ الجد وروح من يشعر من عمق نفسه وقلبه وعقله بأنه ما دام قد خلقه الله إنسانا؛ فعلى عاتقه تقع مسئولية الحياة المنتجة المبدعة، فانظر - إن شئت - إلى أي تمثال نحته أزميل فنان مصري قديم، تجد الحجر ناطقا بالرزانة والرصانة وحكمة الحياة، إنك ترى عادة في كل تمثال، ابتسامة خفيفة على الشفتين، لا أقول إنها ابتسامة الساخر ممن ينشغل بدنيا الزوال عن عالم الخلد، بل أقول إنها ابتسامة إشفاق ممن لم يدرك لحياته واجباتها، وهي واجبات أوجبتها عقيدة دينية قبل أن توجبها إرادة حاكم ... قلب ناظريك فيما شئت أن ترى من آثار الثقافة المصرية القديمة مجسدة في آثارها تجد بساطة القوة، أو قوة البساطة، فلا زخارف أكثر مما يجب، ولا زوائد ولا ثرثرة أو ما يشبه الثرثرة، وإنما هو حجر مستقيم الخطوط واضحها: في الهرم، وفي المسلة، وفي عمد المعبد وجدرانه، وانظر إلى الرسوم فوق الجدران، ملونة أو غير ملونة تجد قوة الخط وبساطته، إنها قوة الواثق بنفسه وبساطة من لا يشعر في باطنه شعور النقص، فيغطيه بزخارف فارغة ... لقد أردت أن أقول إنها آثار تنطق بثقافة تشابهت فيها الأجزاء، واتحد فيها الهدف.
وننتقل من ثقافة مصرية أصيلة أنطقت الحجر بأزميلها، إلى ثقافة عربية أصيلة، أخرجت بالقلم عبقرية الكلمة، ولنأخذ مثلا لها تلك الذروة التي بلغتها في عصر المأمون وامتداد صداه في القرن الرابع الهجري متداخلا في القرن الخامس «العاشر الميلادي والحادي عشر»، وإذ نلقي بأبصارنا على ذلك الامتداد الزمني نبحث عن الهدف الواحد الكبير المتضمن في النتاج الثقافي إبان تلك الفترة، متسائلين في الوقت نفسه عما إذا كانت صنوف ذلك النتاج، على تعددها وتنوعها، تتغيا ذلك الهدف، وكأن بينها اتفاقا مضمرا على السير معا في موازاة بعضها مع بعض، تجاه الغاية المقصودة عن عمد أو غير عمد، وأحسب أن النظرة الفاحصة لن تجد عندئذ عسرا في رؤية تلك العلامات المميزة للثقافة عندما تكون سوية ومسددة الخطى.
وفي ظني، أن مفتاح تلك الفترة التي حددناها، هو أن الوجدان العربي قد اتسعت آفاقه ليشمل «الإنسان» على إطلاقه بغير تمييز في مكان أو زمان، فنحن نعلم كيف فتحت الأبواب والنوافذ على مصاريعها لتستقبل كل الثقافات الأخرى، من شرق ومن غرب، ثم سرعان ما نسجت الخيوط جميعا في رقعة واحدة غير عابئة من أين جاءت لحمتها أو جاءت سداها، والمهم هو أن يجيء النسج الجديد جديدا، مطبوعا بطابع عربي أصيل، على أن الباحث الفاحص في خصائص تلك النظرة الموسوعية الشاملة، التي استهدفت إنسانية الإنسان بغض النظر عن الفواصل التي قد تميز شعبا من شعب، كان محورها الداخلي هو احترام «العقل» والإيمان بقدراته ومداه، فإن شئت أن ترى هذه الخصائص العامة المجردة التي ذكرتها، لأميز بها عصر الازدهار في تاريخ الثقافة العربية، فانظر إلى طائفة من أمهات المبدعات العلمية والأدبية والفلسفية والثقافية بوجه عام، التي صدرت عن أصحابها إبان تلك الفترة، خذ الجاحظ من الثالث الهجري، والتوحيدي من الرابع الهجري، ممثلين للحركة الفكرية بصفة عامة: وخذ الفارابي وابن سينا ممثلين للفكر الفلسفي وخذ أبا الحسن الأشعري ممثلا للمتكلمين، وخذ المتنبي وأبا العلاء ممثلين للشعر، وخذ إخوان الصفا ممثلين لحركة التنوير بصفة عامة، وعبد القاهر الجرجاني ممثلا للنقد الأدبي ... وحاول أن تستخرج الجانب المشترك في هؤلاء جميعا، واسأل: هل لديهم هدف يشتركون فيه؟ وهل أضمر في أصلاب أعمالهم وجه للشبه بينهم؟ وأما أنا فالجواب عندي هو: نعم ... كانت ثقافة هادفة، وهدفها إنسانية الإنسان كائنا من كان، بغير تعصب ولا تمييز، وكان وجه الشبه الخفي الكامن في أعمالهم هو إكبار العقل البشري، بكل معنى تتضمنه هذه العبارة ... فإذا أخذت «العقل» بمعنى الاستدلال في عالم الفكر المجرد، وجدته عند الفلاسفة وأشباههم وإذا أخذته بمعنى مراعاة الدقة الهندسية في بناء الأثر الفني أو النقدي، وجدته عند كبار الشعراء والنقاد، وإذا أخذته بمعنى التسامح في العقيدة وعدم التعصب عند أصحاب العقائد الأخرى، وجدته عند إخوان الصفا ومن سار سيرتهم ... والخلاصة هي أنك واجد في ذلك العصر نموذجا رائعا للحياة الثقافية حين تتوافر فيها الشروط التي ذكرناها وهي أن تتشابه الأجزاء، وأن يتحد الهدف.
وإذا أردت مثلا ثالثا لعصر ثقافي متكامل، فانظر إلى فرنسا في القرن السابع عشر، وهو الذي يسمونه «عصر العقل» وقلب نظرك في كل ما يعن لك من أوجه الحياة، تجد أثر النظرة العقلية واضحا، فالفلسفة في ذروة العقلانية على يدي ديكارت، والفن هو طراز «الباروك» الذي تراعى فيه نسقية الإجراء، والأدب تقام بناءاته وكأنها بناءات هندسية، كما ترى في مسرحيات «راسين» و«كورني»، وكذلك يقال عن الموسيقى و«كاتب هذه السطور من العوام فيما يختص بالجانب النظري من الموسيقى.»
وقد يأتيني صوت محتج من هنا أو من هناك قائلا: إنك يا أخي قد وعدت في مستهل حديثك أن مدار حديثك هذا هو حياتنا الثقافية في الفترة الحاضرة، فما الذي يطوح بنا إلى بعيد فتضرب لنا الأمثلة من مصر الفرعونية ومن عرب القرن الرابع الهجري، ومن فرنسا القرن السابع عشر؟ ألا اقتربت من زماننا ليسهل التصور والفهم؟ واستجابة لهذه الرغبة أسوق مثلين من حياتنا الحديثة والمعاصرة: الأول هو موجة الثلث الأخير من القرن الماضي، وكان من أهم أعلامها: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وقد نذكر شبلي شميل، والثاني هو فترة ما بين الحربين العالميتين في هذا القرن العشرين، وكان من أهم أعلامها لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، فإذا أمعنت النظر في الموجة الأولى ألفيت الهدف واضحا، وهو مواكبة العصر وما يقتضيه من جهاز فكري واجتماعي: محمد عبده يدعو إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما نسبه إليها الأميون من خرافة، وشبلي شميل يقدم صورة متطرفة للفكر في الغرب، وما يستتبعه من تغيير في وجهة النظر، وقاسم أمين يدعو إلى تحرر المرأة من قيود فرضت عليها؛ فحدت من نشاطها، فهؤلاء الأعلام - كما نرى - قد اختلفوا مزاجا وميدانا لكنهم تشابهوا هدفا ومعدنا.
وأما موجة ما بين الحربين العالميتين، فالمعالم فيها أوضح لقرب عهدها، فهم بدورهم قد اختلفوا في كثير، إلا أنهم قد اتحدوا جميعا عند هدف واحد هو «التنوير» الذي يؤدي إلى تغيير وجهة النظر الراكدة، لتتجه نحو ما هو أقوى وأوسع وأكثر ملاءمة للعصر الذي نعيش فيه، ووجه الموازاة بينهم - مع اختلافهم في المادة والمنهج - واضحة، فكلهم ينطوي على قلق من أوضاع ثقافية واهية وداعية إلى القعود والخمول والتخلف، وكلهم يوجب لتلك الأوضاع أن تتغير.
وبعد أن فرغنا من حركات الالتفاف حول الموضوع، مستهدفين أن نضرب حوله حصارا من تعريفات نحدد بها ما نعنيه بالمفاهيم الرئيسية التي استخدمناها، وضاربين أمثلة كبرى وصغرى من تاريخ الثقافة قديما وحديثا، عندنا وعند غيرنا، أقول إننا بعد أن قدمنا هذا كله، ندعو إلى توجيه الأنظار إلى حياتنا الثقافية الراهنة، في مصر خاصة، وفي الوطن العربي عامة، لنرى من قرب مدى نصيبها من عوامل القوة أو الضعف، ومن أجل التحديد، نفترض أن المقصود بالمرحلة الراهنة هو الفترة التي امتدت من هزيمة 1967 حتى اليوم، وسيكون مفتاحنا في الحكم هو نفسه المفتاح الذي استخدمناه فيما أسلفناه؛ وأعني به أن نسأل سؤالين: أحدهما عن الهدف البعيد الواحد، أهو قائم أو أم هو غائب، والثاني هو عن مقدار التشابه الموجود بين الميادين المختلفة من علم إلى فن وأدب وما يتفرع عنها.
ونبدأ بالسؤال الأول: أنستهدف جميعا هدفا بعيدا واحدا؟ وإن كنا نفعل، فما هو ذلك الهدف المتبقي؟ إننا لا نحتاج إلى أكثر من لفتة قصيرة وسريعة، لنرى أننا - منذ الأساس - على تمزق بين رؤيتين؛ سلفية ومستقبلية، تمزقا لم نشهد له مثيلا منذ أول نهضتنا في أوائل القرن الماضي، فالمشهود اليوم هو أكثرية غالبة تدعو إلى ارتداد إلى السلف ، وأقلية باتت خافتة الصوت، تحاول أن تذكر الناس بأن الله سبحانه وتعالى حين خلق للإنسان عينيه في جبهته، أراد له أن يكون النظر متجها في الأساس إلى أمام، وأنه إذا ما اقتضت الحال أن يتلفت خلفه، فما ذلك إلا ليؤمن خطواته السائرة إلى الأمام، خشية أن تكون وراء ظهره أخطار تهدده وتفاجئه، وإمعانا في هذا التمزق الذي أصابنا من حيث وجهة السير، أراد أنصار السلفية ألا يجعلوها تفرقة زمنية بين ماض وحاضر، بل أضافوا إليها أبعادا أخرى، كأن جعلوا الاختلاف بين الفريقين اختلافا بين مؤمن وزنديق، لا لأنهم حقا يعتقدون في صدق هذه الدعوى، بل لأنهم يعلمون أن هذه هي اللغة التي تجد طريقها إلى إفهام الجمهور، ثم لم يكفهم ذلك، فأضافوا بعدا آخر فيه لمسة من السياسة، إذ جعلوا الفرق بين الجماعتين فرقا بين من يرفض الغزو الثقافي الذي يهدد هويتنا الوطنية والقومية بالدمار، وبين من يرحب بذلك الغزو كأنه يناصر الأعداء على قومه.
نعم، قد يقال - وهو قول حق - بأن الدعوة السلفية بكل ما أضيف إليها من أبعاد، إنما هي أشبه بالحرب الكلامية التي لا تؤثر في شيء من أسس الحياة العملية، فحتى أصحاب الدعوة أنفسهم يعيشون كما يعيش سائر الناس، من حيث الإفادة بكل ما أنتجه «الغزاة» من ثمار العلم في إقامة البيوت والجسور ورصف الطرق وأجهزة العلاج للمرضى. ووسائل النقل، وغيرها وغيرها، والعجيب في أمرهم هو أنك إذا واجهتهم بهذه البداءة الواضحة، أجابوا بأنه ليس هذه الجوانب الحضارية ما يريدون، وإنما هم يريدون جانب «الأفكار» كأن تلك الأفكار قد خلقت للزينة، ولم تخلق لتجد سبيلها إلى التجسيد فإذا بها إذا ما تجسدت، كانت هي آخر الأمر ما ينعمون به من نتاج حضاري يغمر حياتهم الشخصية من ألفها إلى يائها ... ولا علينا، فالمهم في موضوعنا، هو أننا اليوم لا نلتقي على هدف، وأن اختلافنا هذا يبدأ معنا من أساس الأساس فصاعدا، وهو اختلاف إلا يكن ذا أثر إيجابي في حياتنا العملية، فلا أقل من أنه ذو أثر سلبي مميت، وذلك حين يصيب شبابنا بضعف الهمة وخيبة الأمل.
وأما عن السؤال الثاني ... الذي نسأل به عن مدى الموازاة بين مختلف فروع الفاعلية الثقافية بين من ينتجون لنا ثقافة، فأغلب ظني أننا إذا ما دققنا النظر في ميادين الإنتاج الثقافي، فقد نجد قليلا من تلك الموازاة المنشودة، وأما الأكثر والأغلب فهو أن كل جنس من الأجناس الثقافية شاطح وحده في واد خاص به، يغلب أن يكون متأثرا تأثرا فرديا مع اختلاف الأفراد في مصادرهم الفكرية. ولكي أيسر عليك طريق النظر، أقترح عليك أن تنظر إلى البنيان الثقافي وكأنه عمارة ذات ثلاثة طوابق تعلو كلما ارتفعت درجة التجريد النظري في كل منها، فأول الطوابق وهو الطابق اللاصق بأرض الواقع هو طابق الأدب والفن، يتلوه طابق العلوم، ويتلو هذا طابق الفكر ذي الطابع الفلسفي من حيث تجريد الأفكار وتعميمها، ولكي أيسر عليك طريق النظر مرة أخرى، أقترح عليك أن تصور تلك الطوابق الثلاثة في ثلاثة أشخاص؛ هم مثلا؛ أديب معين يقرض الشعر أو يكتب الرواية، ثم ناقد معين يعرض بالنقد إنتاج ذلك الأديب، ثم رجل معين من رجال الفكر المائل نحو التجريد، يوضح أسس الفلسفة الجمالية التي تحدد المبادئ العامة لما يجوز أن يعد أدبا أو فنا، فإذا صورت لنفسك الموقف بهذه الصورة المجسدة بقي عليك أن تسأل هذا السؤال: هل هناك في مناخنا الثقافي العام، ما يجعلنا نتصور مقدما في أي اتجاه يبدع الأديب العربي؟ ثم في أي اتجاه يمارس الناقد الأدبي أو الفني عمله النقدي؟ ثم هل هناك في مناخنا الثقافي العام خطوط رئيسية انتزعناها من مقومات هويتنا التاريخية ترسم لنا الخطوط العامة للذوق الفني؟ إنك لن تجد إزاء هذه الأسئلة كلها، إلا اتجاهات فردية صرف، كل يتجه متأثرا بما قرأ، مما يؤيدنا في الزعم بأن حياتنا الثقافية الراهنة تفقد المقومين للحياة السوية في هذا الصدد، فلا هي تعرف لنفسها هدفا، ولا المشتغلون بها يتجاوبون بعضهم مع بعض في إطار مشترك، بحيث تختلف وسائط الإبداع صوتا ولونا وكلمة، ولكن تبقى بين أيديهم معان مشتركة يعرضونها، فإذا الشعب المتلقي قد أصبح ذا رؤية وطنية أو قومية موحدة، ومعلومة الملامح والقسمات.
ثقافة التغيير
كتبت ذات يوم مقالة جعلت عنواها، «ثقافة السكون وثقافة الحركة» بينت فيها بعض الفوارق الهامة والخطيرة بين ثقافة وثقافة، فهنالك ثقافة تحرك صاحبها إلى عمل، وأخرى تميل بصاحبها نحو ركود بليد، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر كما لو كانتا متشابهتين. وأذكر أني بدأت حديثي ذاك بمثل ضربته: رجلين تقابلا بعد أن فرقت بينهما الأيام، فقال أحدهما للآخر: الحمد لله أن رأيتك، ثم أردف قائلا: إن شيئا من الغبار قد علق على ثوبك عند الكتف. فهذان قولان: أما أولهما فلم يكن فيه ما يحرك سامعه إلى فعل يؤديه، حتى وإن كان قد أشاع في نفسه السرور، وأما القول الثاني فقد استجاب له سامعه استجابة سريعة، بأن أخذ ينفض عن ثوبه الغبار الذي قيل له إنه قد علق به، فلو أننا وسعنا نطاق المثل الأول لنجعله نموذجا لثقافة شاملة لجوانب الحياة كلها عند شعب معين في عصر معين، لوجدنا الحاصل بين أيدينا شعبا لا يجد في نفسه دافعا يحفزه إلى عمل يؤديه حتى وإن أحس في دخيلة نفسه بسعادة المطمئن القانع الراضي، وأما إذا وسعنا نطاق المثل الثاني ليشمل المناخ الثقافي كله عند شعب معين في عصر معين، رأينا صورة أخرى، هي صورة شعب يدأب كل فرد من أفراده على فعل ينجزه!
وأظنني قد زعمت في تلك المقالة أن الذي يسودنا نحن، في هذه المرحلة من حياتنا، هو ضرب من ثقافة السكون، إذ نرى كثرة غالبة من صناع الحياة الثقافية في شعبنا، قد اتجهوا - بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر - إلى عرض ما كان عند السلف، وشرحه، والتعليق عليه بالتمجيد، وبالحث على الاقتداء به، وها هنا تكمن مغالطة قد تفلت من رؤية القائل والسامع معا، فنحن إذا تركنا الأمر عند هذا الحد، فقد يسأل سائل متعجبا: وما العيب في ذلك؟ ما العيب في أن يعرض علينا العارضون ما قاله الأسلاف في مواقف حياتهم لعلنا نحن أن نهتدي به؟ ووجه المغالطة هنا، هو أن مواقف الحياة الجارية كما يحياها الناس بالفعل لا تتكرر، فكل موقف حياتي لفرد معين من الناس، أو مجموعة معينة منهم، هو فريد نوعه إذا نحن أخذناه بتفصيلاته كما وقع، إن التاريخ لا يعيد نفسه إذا ما كان المقصود به تفصيلات السلوك البشري في مواجهة الأحداث، وإنما هو يعيد نفسه لو كان المقصود هو «مبادئ» السلوك أو «قوانينه»، والفرق بعيد - بعد الثرى عن الثريا - بين أن نطالب الناس بمحاكاة أسلافهم في تفصيلات مواقفهم السلوكية، وبين أن نترك لهم حرية التغيير في تلك التفصيلات، ما دام «المبدأ» مصونا؛ فانظر - مثلا - إلى الفرق بين أن نطالب المرأة اليوم بأن يجيء ثوبها على غرار ما كان الثوب عند سالفتها، وبين أن نترك لها حرية التصرف شريطة أن تراعي «مبدأ» الاحتشام في ظروف الحياة الجديدة، أو انظر - وهذا مثل آخر - إلى الفرق بين أن تطالب الناس بأن يفهموا عن «الربا» ما كان يفهمه السلف، برغم التغير الشديد في تفصيلات الموقف الاقتصادي، فبعد أن كان الدائن والمدين شخصين يواجه أحدهما الآخر، ويعلم الدائن عجز المدين وشدة حاجته، أصبحنا أمام موقف جديد لا صلة فيه بين دائن ومدين، فالدائن شخص يضع ماله في مصرف، والمدين شخص مجهول يبني عمارة - مثلا - أو ينشئ مصنعا، فيقترض من المصرف ما يعينه على إتمام مشروعه، وواضح من ذلك أن العلاقة الشخصية قد غابت عن الموقف غيابا تاما، وهي علاقة لو كانت قائمة لوجب علينا أن نضيف إلى الموقف ما تقتضيه تلك العلاقة من تعاطف بين من يملك ومن لا يملك. وإذا شئت مثلا ثالثا فانظر إلى السفر الطويل وما كان يحدثه للمسافر من مشقة وعناء مما اقتضى أن يكون للمسافر أحكام خاصة في فروض العقيدة الدينية، وقارن ذلك بمسافر اليوم، وهو مطمئن في الطائرة على مقعد وثير، يقدم له طعامه وشرابه كما يشتهي ويرسل نفسه في نعاس، متكئ الرأس على وسادة لينة كما يريد، لكن هذا التغير البعيد في تفصيلات المواقف الحياتية، إذا جاز أن تتغير الأحكام فهو يظل مستوجبا أن تبقي «المبادئ» الأساسية ثابتة، ففي العلاقة بين الدائن والمدين، وهما في الموقف الجديد طرفان مجهولان، إلا أن «مبدأ» العدالة ضروري في تحديد نسبة الربح الذي يتقاضاه الدائن عن وديعته في المصرف، والربح الذي يتقاضاه المصرف من المدين، والذي يحدد حد العدالة هنا هو الموقف الاقتصادي العام، في كل فترة زمنية معينة، بحسب ما يراه خبراء ذلك الميدان، وفي حالة المسافر وما يجب عليه في أدائه لفروض دينه، يكون الاحتكام إلى مبدأ الراحة وجودا وعدما، فالاستمرارية التاريخية بين سلف وخلف في الأمة الواحدة، أو قل في أصحاب ثقافة معينة، أمر لا بد منه، وإلا لما جاز أن نصف الأمة الواحدة بالوحدانية، ما دامت هي في يومها، شيئا آخر غيرها في أمسها، إلا أن تلك الاستمرارية التاريخية لا تكون في تفصيلات المواقف، وإنما تكون في مبادئها.
ولعل مشكلة الثبات والتغير، في هذه الدنيا التي نعيش فيها، أن تكون بحاجة منا إلى مزيد من إيضاح؛ إنها في يومنا هذا، وبالنسبة إلينا نحن بصفة خاصة، تقع في صميم الصميم من مشكلاتنا الحيوية واليومية، فالسؤال مطروح علينا في كل لحظة من حياتنا، حتى ليسد علينا منافذ الهواء، وهو: هل نترسم خطى الأقدمين أو نجدد؟ هل نلتمس حلول مشكلاتنا فيما قال السلف وأثبتوه في دفاترهم التي جمعناها وأسميناها، «تراثا» أو نلتمس تلك الحلول في وقائع الحياة العملية، نستقرئها لتنطق لنا بالجواب الصحيح؟ فمثلا هناك الآن في حياتنا العملية نساء يعملن خارج بيوتهن جنبا إلى جنب مع الرجال، وقد تنشأ مشكلات خاصة بالعمل من جهة، وبشئون الأسرة الداخلية من جهة أخرى، فأين نبحث عن حلول تلك المشكلات؟ أنبحث عنها في الكتب؟ أم نبحث عنها في عناصرها الفعلية الواقعة أمام أبصارنا؟ فإذا نحن اخترنا البديل الأول حرصا منا على توثيق الروابط بيننا وبين أصولنا، جاءنا السؤال يصرخ في وجوهنا: كيف تغمضون أعينكم عما هو واقع وكأنه لم يقع؟ وإذا نحن اخترنا البديل الثاني، كان السؤال هذه المرة: وماذا يبقى من الهوية القومية إذا تفككت العرى بين اليوم وأمسه؟ ومعنى ذلك كله، هو أننا مطالبون بأمرين في وقت واحد: مطالبون بأن يكون في حياتنا حبل ثابت متصل، ومطالبون في الوقت نفسه بأن نعطي لجديد عصرنا حقه الكامل من الاهتمام حتى ولو كان ذلك على حساب العروة الرابطة بيننا وبين أسلافنا؛ فقد عاش هؤلاء الأسلاف حياتهم، ومن حقنا كذلك أن نعيش حياتنا.
فلا غرابة - إذن - أن تحتل مشكلة «الثبات» و«التغير» المكانة الأولى بين ما عرض لأئمة الفكر في العالم أجمع، وعلى امتداد العصور: فما الذي هو ثابت لا يتغير، بل ولا يجوز لأحد أن يغيره؟ وما الذي يتغير من أمور الدنيا - بل وينبغي له أن يتغير؟ وقد اتسع السؤال مع الفلاسفة - كعادتهم - ليعمموه على الكون بأسره، لكن تلك التوسعة تزيد الأمر وضوحا ولا تضيف غموضا إلى غموضه، وقد انقسم الرأي بينهم ثلاثة اتجاهات: فمنهم من رأى عنصر الثبات جوهرا يتعذر على العقل أن يتصور إمكان زواله، فلولا ذلك الثبات لما كنت أنت هو أنت ولا أنا هو أنا، ولا القاهرة هي القاهرة ولا الكون هو الكون، إلا أنهم ذهبوا بالفكرة إلى حدها الأقصى - أحيانا - حتى لقد أنكروا «التغير» باعتباره مناقضا للعقل، زاعمين أنه وهم تتوهمه الحواس في إدراكها للأشياء، ومنهم من ذهب إلى نقيض ذلك، بأن جعل التغيرات في أي كائن حقيقته التي لا حقيقة له سواها، فما الشيء من الأشياء إلا سلسلة طويلة من حالات يعقب بعضها بعضا، وأما أصحاب الرأي الثالث فربما كانوا أصحاب الجواب الصحيح - على الأقل بالنسبة لمشكلتنا الخاصة التي عرضناها، وأعني مشكلة الجمع في بنائنا الثقافي بين حاضر يحترم الواقع الذي بين يديه، ولكنه كذلك يتمسك بالماضي الذي هو ضمان لا بد منه إذا أردنا لهويتنا الذاتية ألا تنحل وتنهار - وذلك الرأي الثالث هو أن «الثبات» و«التغير» يسيران معا، فأما الثبات فهو من شأن «المبادئ» أو «الأطر»، وأما التغير فهو من شأن الحالات التفصيلية التي تندرج تحت تلك المبادئ ، أو التي تملأ تلك الأطر، وقد نجد في علوم الرياضة في صورتيها: «البحتة» و«التطبيقية» مثلا جيدا يوضح المعنى المقصود، خذ شكل «الدائرة» فإذا اتجهت ببصرك إلى دنيا الأشياء المتغيرة، وجدت الشكل الدائري متمثلا في كثير جدا مما تراه: فرغيف الخبز المستدير، وقطعة النقود المستديرة، ومنضدة مستديرة، وحديقة مستديرة، ودوائر مرسومة على الورق، وهكذا لكن تلك الأشكال الدائرية كلها ليست متساوية في دقة الدائرة، ويغلب أن يكون بعضها أدق دائرية من بعضها الآخر، وقد يعن لأحدنا أن يسأل نفسه إزاء هذا التغير في درجات الدقة، قائلا: إذا نحن رتبنا الأشياء ترتيبا تصاعديا بحسب دقتها، فأين نصل إلى ذروة الدقة التي ليس فوقها ما هو أدق منها؟ وعندئذ يجيء الجواب الصحيح، وهو أن تلك الذروة لا تتمثل قط في شيء بعينه، وإنما تتمثل في «التعريف» العقلي للدائرة، وعلى أساس ذلك التعريف يمكننا ترتيب الأشياء الدائرية بحسب تدرجها في الدقة صعودا أو هبوطا؛ ومثل ذلك المعيار العقلي، في حياة الناس العملية - هو ما أسميته فيما أسلفت ب «المبادئ» أو ب «الأطر»! فالمبدأ أو الإطار، تصور عقلي ذو ثبات، لكنه في الوقت نفسه حقيقة مفرغة من تفصيلات الحياة، ثم نأتي حياة الناس العملية بما يملأها من أحداث، فنقيسها - ارتفاعا أو انخفاضا - بذلك المعيار الرياضي المفرغ، وهو «المبادئ» أو «الأطر» أو «الأنماط».
والذي بيننا وبين أسلافنا، من حيث الحياة العملية، وأين يجب، وأين لا يجب، أن تكون أشكال سلوكنا متطابقة مع ما كان منها عند أسلافنا، هو شيء كهذا؛ فنستطيع القول بأن ثقافات الشعوب قد تميز بعضها من بعضها، بأن كلا منها قد رتب المبادئ بأولويات تختلف عما رتبها به سائر الثقافات، فحتى لو اتفق الناس جميعا على ما يصح أن يكون «مبدأ» أو «صورة» لحياة الإنسان فإن الشعوب بعد ذلك تعود فتختلف في ترتيب درجاتها، وللشعب المصري، أو قل للأمة العربية في مجموعها، صورة خاصة بها في ترتيب المبادئ، وبالتالي فإن لها موقفا ثقافيا متميزا، فالثابت بيننا وبين أسلافنا هو تلك المبادئ، والمتغير هو تفصيلات المواقف والأحداث التي تملأها. ومن هنا تنشأ نتيجة هامة جدا، أرجو من القارئ رجاء مخلصا ألا يدعها تفلت منه، وهي أنه ما دام المعيار الحياتي أو الثقافي مشتركا بيننا وبين أسلافنا، فالمفاضلة بيننا وبينهم ليست أمرا مقطوعا به مقدما؛ إذ من هو منا أكثر تحقيقا لتلك المبادئ الأولية يكون أفضل من الآخر، وقد نجد بعد المراجعة، أن أسلافنا كانوا أفضل منا في مواضع، وأننا اليوم أفضل منهم في مواضع، فمثلا ربما وجدنا الأسلاف أقدر منا على المبادرة والإبداع، ووجدنا أنفسنا أكثر شعورا بحقوق الفرد في التعلم، والعمل وحرية الاختيار.
على أنه لا جدوى من إحياء الحاضر لمبادئ السلف، إذا اقتصر الأمر - كما يحدث كثيرا في حياتنا الآن - على «تسميع» تلك المبادئ كتابة وخطابة وإذاعة، فلمن شاء أن يقدم إلى الناس ألف ألف قول مأثور من أقوال السالفين كل يوم، لكنه لن يغير بذلك شيئا من سلوك فرد واحد، لأن السلوك مجموعة عادات، ولا يتغير إلا أن تتكون عند الناس عادات جديدة لتحل محل عادات قديمة، وتغيير عادة لا يتم في لحظة، كما نضغط على مفتاح فتضاء مصابيح الكهرباء، وإنما هو بمثابة تربية جديدة، تقوم على سلوك تتجسد فيه تلك المبادئ المراد لها أن تكون موصولة بين الماضي والحاضر، ولا يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا زرعت تلك المبادئ على أرض الظروف الجديدة، وذلك هو ما يحتاج منا إلى تفكير هادئ يتدبر على مهل كيفية التنفيذ.
كان قد أنبأني صديق يكثر من زيارة اليابان بحكم عمله، بأن الياباني عرف كيف يعمل في المصنع نهارا وكأنه مواطن في أي بلد صناعي من بلدان الغرب، حتى إذا ما عاد إلى منزله مساء اغتسل وكأنه يزيح عن جسده حياة النهار المستعارة، وارتدى ثيابه اليابانية، ومارس حياته المنزلية ممارسة الياباني الأصيل، الذي لم يكن يعرف شيئا عن المصانع الحديثة وآلاتها، ولكنني دون أن أبدى معارضة أو تساؤلا عما سمعته من ذلك الصديق، حدثتني نفسي بأنه يبعد أن تكون صورة الحياة عند الياباني الجديد على هذا النحو، الذي يشطر الحياة شطرين. كأن أحدهما لا صلة له بالآخر، ولو كان الأمر كذلك لما أفلحت اليابان الجديدة بالدرجة التي أفلحت بها حتى لقد نافست أعتى شعوب الغرب علما وصناعة، ومحال أن يستقيم لها الأمر، ما لم تدمج الشطرين في وقفة موحدة. فحياة المنزل تمتد بروحها اليابانية إلى حياة المصنع وحياة المصنع تمتد بدقتها العلمية إلى حياة المنزل.
ثم ما لبث أن وجدت ما يؤيد فكرتي، وذلك أن أتيح لي فترة طويلة، الاطلاع على مجلة فصلية تصدر عن اليابان، وربما كان الذي يصدرها هناك هيئة رسمية، وهدف تلك المجلة هو أن تعرض موجزا لما ترى أنه أهم ما أنتجه الفكر الياباني خلال ثلاثة أشهر. كنت أتابع تلك المجلة واسمها مترجما إلى العربية هو «الصدى» وهي تنشر ما تنشره باللغة الإنجليزية، فكان من أنفع ما قرأته فيها تلك الموضوعات الخاصة بحياة الياباني الجديد، معروضة في صورة بحوث علمية إحصائية، ومن تلك الموضوعات عرفت بدقة بالغة، كيف انتقلت الروح الأسرية كما عرفتها التقاليد اليابانية العريقة، التي تدور حول مبدأ التعاون إلى أقصى مداه، وهو مدى تختفي فيه فردية الفرد ولا يبقى إلا الجماعة مأخوذة في رابطة واحدة، فنقلت هذه الروح إلى جماعة العاملين في المصنع، وأصبح العامل يحس شعور «الانتماء» إلى مصنعه، بكل القوة التي يحس بها شعور الانتماء إلى أسرته، فنجاح المصنع الذي يعمل به هو نجاح شخصي بالنسبة إليه، دون تكلف في ذلك أو نفاق أو كذب ... ولعل أغرب ما قرأته في تلك المجلة مما يتصل بهذا المجال ذلك البحث العلمي الذي أجراه من أجراه ليصل به إلى تصور محدد عن فكرة «الإبداع» عند الياباني، وإذا بالإبداع لا يكاد يكون له معنى عند الياباني إذا كان ذلك الإبداع منسوبا إلى فرد معين؛ فالإبداع الفردي أمر غير معروف هناك، لا بل إنه مستنكر من الناحية الأخلاقية عندهم. ولقد كان ذلك البحث مؤسسا على مجال العلم والصناعة ولا أدري ما قولهم عن الإبداع في الأدب والفن .
الخلاصة التي أردت عرضها هنا، هي أن مبادئ السلف لا تحيا في حياة الخلف، إلا إذا ملئ وعاؤها المجرد بمادة حياتية مأخوذة من صميم الواقع الجديد ومشكلاته، وخذ - مثلا - فكرة «العرض» (بكسر العين) في الأخلاقيات العربية ومنها مصر بطبيعة الحال، فنحن نعلم كم لتلك الفكرة في حياتنا من قوة لا تعبأ بالقوانين الوضعية إذا عارضتها، وما معنى «العرض» الذي له في حياتنا ما يشبه التقديس؟ قد يظن بعضنا أن المعنى مقصور على شرف المرأة، ولكن معناه الحقيقي التاريخي، هو مجموعة الأشياء التي يعد الفرد نفسه مسئولا عنها لأنها تقع في حماه، وربما كانت قطعة الأرض التي يملكها أو ربما كان الجار، أو ربما كانت الأسرة في مجموعها أو الوطن والمواطنون جميعا، أو بيوت الله، بين الأشياء التي تدخل في مجال «العرض» الذي يدافع عنه الإنسان بروحه إذا اقتضى الأمر. فافرض معي الآن أننا أردنا إحياء هذا المبدأ ليسترجع في حاضر حياتنا كل قوته التي كانت له في الماضي، فماذا نصنع إلا أن نعمل على تربية الأفراد تربية تدخل في نفس الفرد استعدادا للتضحية في سبيل ما قد نشأناه على أنه «عرضه» الذي يجب أن يصان؟! «الثقافة» بمعناها الذي يجعلها طابعا يميز شعبا من سائر الشعوب هي ضرب من ضروب «الأدوات» التي يستعين بها الصانع فيما يصنعه، فهل تقول عن فأس الفلاح - مثلا - إنه حلية يتزين بها الفلاح؟ هل تقول عن منشار النجار إنه أداة يتزين بها؟ وهكذا الأمر في «الأفكار» التي تستحق اسمها هذا، إنها أدوات عيش، أدوات عمل، وإن لم يكن ذلك الجانب واضحا فيها أمام العين. ولكي تفهم هذا، خذ فكرة علمية عن حياة النبات، أو عن كيمياء التفاعل بين عناصر الطبيعة، أو حتى كفكرة الجاذبية بين الأجسام والأجرام، وانظر في أي منها: ما الذي أكسبها أهميتها إلا أنها أداة نستخدمها في الزراعة، أو في الصناعة، أو في تشييد المباني؟ إن «الفكرة» - كل فكرة وأي فكرة - هي أشبه «بروشتة» الطبيب، تأخذها لا لتحفظها وتتغنى بألفاظها أو تضعها في إطار لتعلقها على جدران غرفتك، بل تأخذها لتصرفها دواء من الصيدلي ليكون ذلك الدواء وسيلة مرجوة للشفاء، وأما إذا زعم لك زاعم عن جملة معينة بأنها تحمل «فكرة» ثم لم تجد قط طريقة تتحول بها تلك الفكرة المزعومة إلى «عمل» فاعلم موقنا بأن الجملة المقدمة إليك كانت من قبيل اللغو الفارغ، وها أنا ذا أوسع لك في المجال فأقول - لا عن فكرة واحدة بعينها، بل عن مجموعة الأفكار التي تتكون منها ثقافة شعب - إنها في مجموعها إنما تقاس قيمتها بما تستطيع به أن تعيننا على السباحة في بحر الظروف المحيطة بنا بل وأن تعيننا على ما هو أكثر من ذلك، وهو أن نكون شركاء في صناعة ذلك البحر من ظروف الحياة الجديدة.
وإذا كان ذلك كذلك في حقيقة «الثقافة» التي يعيش في إطارها شعب، أعني إذا كان مقياس قبولها أو تعديلها حذفا وإضافة هو صلاحيتها لأن تجعل ذلك الشعب أقوى وأعلم وأغنى وأرهف شعورا، أقول إذا كان ذلك كذلك، كان الأمر نفسه منطبقا على ما نأخذه نقلا عن أسلافنا من «مبادئ» إذ يصبح واجبنا نحو أنفسنا هو أن نملأ الصور المجردة المفرغة لتلك المبادئ بمضمونات جديدة تصلح أن تكون في أيدينا أدوات عمل، وإنتاج وقدرة على مواجهة عصرنا وظروفه.
وليس التطور الثقافي في حياة الإنسان ترفا من الترف الذي يخضع لاختيار الناس، فإما قبلوه وإما رفضوه، بل هو قانون حتمي من قوانين الحياة، وذلك لمن أرادوا لأنفسهم حياة. لقد كان للمفكر الفرنسي «تيار دي شاردان» كل الفضل في أن سلط الأضواء الكاشفة الهادية على هذا الجانب من حقيقة التطور، فبعد أن كان الفكر العلمي في هذا الصدد، متجها نحو النظر إلى التطور على أنه مسألة بيولوجية توضح التسلسل في الكائنات الحية بادئة من الخلية الأولى فصاعدة إلى الإنسان، نشأ سؤال مضمر في عقول الباحثين هو: ثم ماذا؟ هل نتوقع من الحياة أن تخرج من الإنسان إنسانا أعلى يتميز ويتفوق على الإنسان كما هو الآن، فبين «دي شاردان» في تفصيل وعمق ، كيف أن التطور البيولوجي بالنسبة للإنسان قد وقف عند هذا الحد، إلا أنه شق لنفسه طريقا آخر، هو التطور الثقافي، فإذا كان الأمر على امتداد الدهر - فيما مضى - قد جعل الكائن الحي يتطور ليقابل ما استحدث له في بيئته من عوامل، فقد استبدل الإنسان بالتطور البيولوجي في تركيب الجسم، تطورا ثقافيا يقابل ما هو جديد في دنياه، فلا يعقل - بالطبع - أن يستجيب الإنسان وهو في عصر «الرعي» - للطبيعة من حوله - بمثل ما كان يستجيب به في عصر حياته الأولى في الغابات والأدغال والكهوف، كما لا يعقل أن يستخدم ردود الفعل ذاتها التي كان يستخدمها في حياة الرعاة، بعد أن تغير مسرح العمل وأصبح زراعة تقتضي الإقامة الثابتة على أرضه المزروعة، ثم لا يعقل بالدرجة نفسها أن يحافظ الإنسان على أنماط سلوكه التي نجح بها في عصر الزراعة ليجعلها مناط سلوكه في عصر الصناعة الذي هو عصرنا، فلكل مرحلة من تلك المراحل ثقافتها الصالحة لها. ولقد أسلفنا أن ثقافة الجماعة الإنسانية ليست لهوا يلهو بها أفرادها، بل هي في آخر مطافها «أداة» يعاش بها ليضمن الناس حياة فيها القوة والغنى والارتقاء. ولقد سبق لكاتب هذه السطور، أن كتب حين شاعت فينا الدعوة إلى «أخلاق القرية» ليلفت الأنظار إلى أن أخلاق القرية إن هي إلا الأخلاق التي أفرزتها حضارة الزراعة - على الوجه الذي كانت الزراعة تؤدى به، أما وقد دخلت الدنيا حضارة أخرى، هي حضارة الصناعة بالصورة التي باتت مألوفة لنا، فقد أصبح حتما على الإنسان أن يغير من قواعد سلوكه، بحيث يمكننا القول إن «المدينة» وأخلاقها لا بد لها اليوم أن تحل محل «القرية» وأخلاقها، وليس الفرق هنا بين «مدينة» و«قرية» فرقا في اتساع الرقعة وعدد السكان، بل الفرق هو في نمط الحياة من نواح كثيرة، فبعد أن كانت «المدينة» فيما مضى «قرية» كبيرة صار هدفنا اليوم هو أن نجعل من «القرية» مدينة صغيرة.
ولست أري أن التحولات في أخلاقيات السلوك تبعا للتحولات الحضارية، يتناقض مع رغبتنا في أن تجيء حياة الخلف على «مبادئ» السلف، لنضمن استمرارية التاريخ واستمرارية الهوية الوطنية أو القومية، لأن المبادئ الأولى التي تقام عليها الحياة أوسع شمولا وأكثر تجريدا من «القواعد» السلوكية المتغيرة بتغير الزمان والمكان؛ فمثلا كانت حياة القروي في عهد الزراعة اليدوية لا تتطلب دقة التوقيت بالدقيقة والثانية، وأما حياة المصانع في العصر الجديد فتتطلب ذلك، ولكن كلا الموقفين لا يمس مبادئ الأخلاق بالمعنى المعروف لهذه العبارة.
وواقع الأمر هو أن حياتنا تتغير بالفعل نحو ثقافة جديدة تتناسب مع مقتضيات عصرنا الجديد - عصر الصناعة التكنولوجية - فالقرية لم تعد هي القرية التي عرفتها أجيالنا الماضية، حتى لقد اقتربت من أن تصبح مدينة صغيرة، والمصانع الكبرى التي أنشئت هنا وهناك في أنحاء البلاد، تضم عشرات الألوف من العمال تحت سقف واحد، يتقاسمون فيما بينهم عملا واحدا يؤدي بهم إلى منتج واحد، فكان أن نشأت بهذه التجمعات الصناعية الجديدة، التي لم يكن للدنيا عهد بها في كل ما مضى من تاريخها علاقات بشرية جديدة غيرت من صورة الحياة الاجتماعية تغييرا لا تخطئه عين، وتغيرت كذلك في عصرنا وجوه كثيرة أخرى، فليس البناء التعليمي هو البناء التعليمي منذ قرن، وتغير نظام الحكم؛ فليست جمهورية اليوم كملكية الأمس. وتغيرت صور التعبير في مجالات الأدب والفن، فلا الشعر هو الشعر، ولا الرواية أو القصة أو المسرحية عرفتها عصورنا الأدبية فيما مضى، ولا الفن التشكيلي تصويرا ونحتا وعمارة هو نفسه الذي عهده أسلافنا ... لكن ذلك التغير كله لم يحقق لنا رؤية عصرية، لماذا؟ لأنه يجيء من حياتنا كما تجيء القشرة الخارجية التي لا تمس الكيان الداخلي إلا بقدر محدود، وأما الذي يتحكم في الكيان الداخلي بشكل ملحوظ فهي الدعوة إلى أن نصب حياتنا في قوالب القدماء، فوقعنا بهذا في ازدواجية رهيبة، لا نعرف حيالها أين الصواب وأين الخطأ، وقد كان الأمر ليختلف اختلافا شديدا، لو اتسقت الأصوات واتجهت كلها نحو هدف ثقافي واحد، يمس حياتنا الجديدة في الصميم.
إن للناقد الإنجليزي المعاصر «هربرت ريد» كتابا عنوانه «إلى الجحيم بالثقافة» والكتاب مجموعة مقالات في النقد، أولها وأطولها هي المقالة التي جعل عنوانها عنوانا للكتاب. وفي تلك المقالة يبين «ريد» وجوب أن تكون «الثقافة» في شعب معين، سارية في أصلاب الحياة الاجتماعية، وألا تستقل بذاتها وكأنها كيان قائم برأسه، لا شأن له بتيار الحياة، ولقد كان هذا الدمج التام بين الثقافة وحياة الناس - فيما يقول «ريد» - هو الشأن في كل عصور التاريخ الماضية، فلم يكن الفنان التشكيلي يرسم لوحاته، أو ينحت تماثيله ليرضي مزاجه الخاص، ثم ليبيع مبدعاته في الأسواق لمن يشتري، بل كان يصنع فنه ليخدم به معبدا أو غير المعبد من معالم الحياة العامة، وكذلك كان الشاعر والكاتب والعارف، وأما في عصرنا فقد انحرفت «الثقافة» عن مجراها التاريخي، حتى لنراها في حالات كثيرة تسير في طريق بينما يسير زخم الحياة في طريق آخر، وهذه الثقافة التي تسلخ نفسها عن التيار التاريخي، هي التي أشار إليها «هربرت ريد» في عنوانه: «إلى الجحيم بالثقافة».
وإني لأشعر آسفا، بأن هذه الصيحة الغاضبة من ذلك الناقد القدير، تكاد تفرض نفسها على قلمي، كلما نظرت إلى حياتنا الثقافية، فوجدتها مفرقة الأهداف وبأن هدفا من تلك الأهداف وربما كان أقواها وصولا إلى جمهور الناس، هو أن نلغي وجودنا الخاص، لننخرط في قوالب السلف وكأنه لا زمن ولا تغير في حياتنا مع ذلك الزمن ...
هيكل البناء
والبناء الذي نريد أن نتحدث عنه، هو البناء الثقافي من حياتنا، وحقا أن صورة الشيء - أي شيء - لا تكتمل في الأذهان، ولا يكون لها رسوخ، ولا يسهل على الذاكرة استعادتها، إلا إذا تصورنا هيكل بنيانها على أي الخطوط وأي الركائز يقام، تماما كما نتبين قوام الكائن الحي من هيكل عظامه: لقد كنت في أسفاري الكثيرة شديد الولع بمعرفة المدن التي أقيم فيها؛ فكان أول ما أبحث عنه في مدينة حللت بها، هو خريطتها؛ أنشرها أمامي لأمعن النظر إمعانا طويلا في شوارعها وميادينها كيف تتقاطع أو تتوازى؟ وأظل هكذا حتى ترتسم الصورة في مخيلتي؛ وبعد ذلك أقسم المدينة أقساما، لأخصص قسما لكل يوم من أيام إقامتي، لأتجول في أرجائه سيرا على الأقدام، ووقوفا بما يستحق الوقوف عنده من معالم المدينة، وبهذا كنت أغادرها وقد رسخت لها في ذاكرتي صورة هيهات لها أن تمحى.
وهذا الذي كنت أفعله في زيارة المدن، أو غير المدن مما يزار، أفعله هو نفسه - أو ما يماثله - إذا قرأت كتابا، أو مقالا، أو أردت الخروج بفكرة محددة عن كاتب معين في كل ما كتبه وقرأته له، وهو أن أبحث عن «الهيكل الفكري» الذي كساه الكاتب لحما بما ذكره من تفصيلات؛ فإذا لم أقع على هيكل يبين أصلاب الفكرة المعروضة وشرايينها، عرفت أنها «دردشة» دردش بها الكاتب ليزجي فراغا وليهيئ لقارئه فرصة لإزجاء فراغه، ولكن لا هو يملك فكرة يريد عرضها، ولا قارئه خارج منه بفكرة تبقى معه حينا يقصر أو يطول.
وفيما أنا بصدده من محاولات أمس بها حياتنا الثقافية الراهنة، طالبت نفسي بالبحث عن «هيكل» للبناء الثقافي كما أتمناه للوطن العربي بعامة ولمصر بخاصة كي يسهل علي الفهم وبالتالي يسهل الإفهام. ولم أكد أطالب نفسي بهذا حتى شاء لي الله رب العالمين، ولسبب لا أدريه ولا أتبينه، شاء لي أن يجري لساني بقول الله في كتابه الكريم: ... والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ...
فما أنا إلا أن نقرت ظهر المكتب بإصبعي، هامسا في فرحة الظافر: «هذا هو البناء الثقافي الكامل وهيكله» ثم انتقلت بعد ذلك إلى تحليل وتفصيل.
إنك إذا استعرضت الأنماط الثقافية التي عاشها الإنسان هنا وهنا وهناك، من أرجاء الأرض وفي مختلف الحضارات، رأيت طرفين يروح بينهما الإنسان في ثقافته ويجيء، وهما السماء بكل ما ترمز إليه، والأرض وما تتعلق به ويتعلق بها من ظواهر الكون. وأما السماء فترمز بها إلى الديانات بعقائدها وتشريعاتها وأخلاقياتها، وأما الأرض والكون كله معها فنرمز بها إلى ميادين العلم والعمل على اختلافها، وبين هذين القطبين يعيش الإنسان، فيه بدن من طينة الأرض وجنسها، وفيه روح هي بمثابة همزة وصل بينه وبين السماء وما تعنيه، وعلى أعمدة هذا الهيكل وقوائمه، رأينا ثلاث صور للإنسان في حياته الثقافية: كان خيرها صورة يتوازن فيها الإنسان بين طرفي السماء والأرض، فهو عابد لله وهو في مجال دينه، وهو أيضا عابد لله وهو في دنيا العلم والعمل فوق هذه الأرض، وأما الصورتان الأخريان، فهما ضربان من التطرف، فإما أن يستغرق الإنسان طاقة حياته متعلقا بالسماء وما ترمز إليه مهملا شئون الأرض بل مزدريا لها محقرا من شأنها، وإما أن يتعلق بالأرض التي هي دنياه علما وعملا، فإذا كان التطرف بالصورة الأولى وصفوا حياة الإنسان الثقافية في جملتها بأنها «روحانية» وإذا كان التطرف بالصورة الثانية وصفوا حياة الإنسان الثقافية عندئذ بأنها «مادية»، وإننا لنجد الصور الثلاث جميعا في كل نمط ثقافي عرفه الإنسان: فهناك من الناس من يتوازن بالجمع بين الطرفين وهناك منهم من يتطرف إلى أعلى، ومنهم من يتطرف إلى أسفل، إلا أن العصور التاريخية وكذلك الشعوب المختلفة قد يغلب على العصر المعين منها، أو الشعب المعين، صفة غالبة تميزه: اتزانا أو تطرفا هنا أو تطرفا هناك. ولو أننا وجهنا أنظارنا نحو ما هو كائن بين «السماء وما بناها» و«الأرض وما طحاها» من كائنات أخرى غير الإنسان، من نجوم وكواكب وذر ونبات وحيوان لما وجدنا فيها ذلك التذبذب بين هذا وذاك الذي نراه في الإنسان؛ لأن الخالق جل وعلا قد ألهم تلك الكائنات جميعا خطا واحدا تسير فيه، وكان الإنسان وحده دون سائر الكائنات هو الذي ألهمت نفسه اختيارا بين قدرتين فإما فجور إذا أراد، وإما التقوى إذا أراد، وعليه آخر الأمر يقع الحساب فيما يختار، ومن هنا رأيناه قد اضطرب بين تطرف واتزان.
ونحن إذ نستخدم صفتي «الاتزان» و«التطرف» بشقيه، لا نطلق الأسماء جزافا، فإذا تذكرنا في وعي وفهم، أن من بنى السماء هو من طحا الأرض، وهو الذي سوى النفس الإنسانية على نحو ما سواها، كان لنا كل الحق في أن نصف بالاتزان إنسانا عرف كيف يجمع في نفسه على التقوى سماء وأرضا في وقت واحد ، بمعنى أن يجمع في ثقافته دينا وعلما وعملا، بأقدار تجعل الأركان الثلاثة عمدا تحمل معا سقفا واحدا، وإذا كان اتزان النفس يكمل للإنسان بهذا الجمع المتعاون، نتج عن ذلك أن يكون الاكتفاء بجانب واحد دون الجانبين الآخرين، أو بجانبين دون الثالث، موقفا منقوص البناء معرضا للانهيار.
وفي هذا الإطار نستطيع الحكم على ثقافتنا وثقافات غيرنا، بما يتجه نحو الكمال منها وما يتجه نحو النقص والتشويه. ونظرة عجلى إلى شريط الحضارات وثقافاتها قد توضح لنا - على ضوء الهيكل الذي قدمناه - بأن الحضارة الفرعونية توازنت فيها الثقافة مع بعض الرجحان نحو السماء، فقد امتلأت أرضهم بالصناعة والفن والتشييد والحرب ونظام الحكم، إلا أن الدين كان هو دافع هذا النشاط كله، وكذلك توازنت الحضارة العربية في ثقافتها في عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي وامتداده إلى القرن الحادي عشر الميلادي، لأننا إذا أخذنا رسائل إخوان الصفا في موسوعيتها علامة على نزعة الحياة الثقافية عندئذ وجدنا اهتمام القوم قد انصب على كل فروع العلم على حد سواء، لا فرق في ذلك بين علوم طبيعية وعلوم دينية، لكن الحياة الثقافية في أوروبا إبان عصورها الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) قد تطرفت نحو السماء لدرجة ملحوظة، والحياة الثقافية في الدولتين العظميين في عصرنا هذا قد تطرفت نحو الأرض بدرجة ملحوظة كذلك.
تلك أمثلة مختارة بمقياس كبير، فإذا ضيقنا مقياس الرسم لننظر إلى مساحات محدودة في دنيانا نحن الثقافية وفي زماننا الحديث منه والمعاصر؛ قلنا إن عناصر حياتنا الثقافية قد توازنت خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الماضي وإلى نهاية النصف الأول من هذا القرن، ففي كل فرد من الأعلام الذين حملوا عبء الثقافة على عواتقهم تجد الجمع بين التأثر بموروثنا الثقافي والتأثر بتيارات الفكر في الغرب في توازن يلفت النظر، في حين أن الفترة الراهنة التي نجتازها وبصفة خاصة خلال السبعينيات والثمانينيات تشهد انحرافا واضحا نحو السماء في تكرارية وببغائية تكاد تخلو من لمعة الذكاء.
وهذه الفترة الأخيرة هي التي تهمنا بالدرجة الأولى ، لأنها هي الفترة التي نتنفس هواءها، وهي الفترة التي نعنيها حين نشكو من حالة التعليم والإعلام والثقافة، فإذا سألنا بل ولا بد لنا أن نسأل: ماذا نحن صانعون؟ كان الجواب - فيما أظن - واضحا في ضوء الهيكل البنائي الذي رسمناه، فالذي ينقصنا هو أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض معا، نظرتنا إلى العقيدة من جهة والجهاد في سبيلها من جهة أخرى، ويكون هذا الدمج بين الطرفين هو المضمون الإنساني الذي يتمثل في كل فرد من أبناء الشعب، شريطة أن يتسع بنا أفق النظر حين ننظر إلى الجهاد المطلوب بحيث يكون «العلم» بكل فروعه بحثا وتحصيلا وتطبيقا فريضة من العقيدة تتطلب الجهاد في سبيلها، وكذلك قل عن دنيا العمل بكل جوانبها من صناعة وزراعة ومهنة وحرفة، فهذه كلها فروض تفرضها العقيدة الموحى بها من السماء، وينبغي الجهاد في سبيلها. ويتوازى مع العقيدة والجهاد في سبيلها بالعلم وبالعمل نشاط إبداعي في عالم الفن والأدب ليحمل في طيه انعكاسات ما تموج به نفس المواطن العربي من هذا كله.
على أن الآيات الكريمة حين أشارت إلى النفس الإنسانية في ترددها بين السماء والأرض أشارت إلى ازدواجية تلك النفس بين فجور وتقوى؛ بمعنى أن في فطرتها ما يمكن أن يميل بها نحو هذا وما يمكن أن يميل بها نحو ذاك، وبهذا يقام المعيار الذي نميز به بين من حسنت تربيته وثقافته وتعليمه، وبين من ساءت فيه هذه الجوانب، إذ ماذا يصنع المربي فيمن يربيه، والمعلم فيمن يعلمه، وصانع الثقافة فيمن يتلقى صناعته، ماذا يصنع هؤلاء إذا لم تكن حصيلة صناعتهم إنسانا يقوى فيه الجانب المتجه به نحو التقوى بمقدار ما يضعف فيه الجانب المتجه به نحو الفجور؟ وربما كان هذا الموضع من حديثنا هو المناسبة الصالحة للفت الأنظار إلى حقيقة هامة شديدة الصلة بعصرنا، وهي أن «العلم» محايد حيادا تاما بالنسبة إلى التقوى والفجور، أي إلى ما فيه خير الإنسان وما فيه الشر للإنسان، وإنما يأتي الخير والشر نتيجة لحسن استخدام ذلك العلم أو لسوئه؛ فالعلم في ذاته قوة وعلى الإنسان أن يتزود منها ما استطاع أن يتزود، ثم تأتي التربية، وتأتي الثقافة لتزرعها في الأفئدة إحساسا بالحدود التي تقيد استخدامنا لقوة العلم التي اكتسبناها، فإذا كان العلم قد كشف السر عن ذلك المارد الجبار، الذي هو تلك الذرة الشيطانية التي صغرت حجما حتى لتدق فلا ترى بأعظم المجاهير، ولكنها انطوت على قوة تثير فينا الدهشة والذهول، فها هنا يكون على العلم أن يستخلص قوانين ذلك المارد الصغير الكبير، ثم يكون على التربية والثقافة من ناحية أخرى أن تبث القيم الإنسانية في صدور الناس ليتعلموا متى وإلى أي حد يجوز ذلك الاستخدام، ومتى وإلى أي حد لا يجوز ولقد نجح عصرنا في تحصيل العلم ونشره ولكنه فشل في زرع الضوابط القيمية في الصدور.
الانحراف الذي يميل بأصحابه إلى تطرف إما إلى أعلى وإما إلى أسفل مصدره دائما هو خطأ الظن بأن ثمة تنافرا بين السماء والأرض بحيث تجمعهما مصلحة واحدة، فإذا رجحت كفة السماء خفت حتما كفة الأرض، وإذا علا شأن الأرض وشواغلها انخفضت حتما شئون السماء، فلكم شهدنا في أمور الحياة الجارية كيف أن المتطرفين في الدين وكذلك من كان الاشتغال بالدين مورد أرزاقهم ومكانتهم بين الناس، كيف أن هؤلاء جميعا يغارون أشد الغيرة على الدين، من أي نجاح يصيبه المشتغلون بأمور هذه الدنيا علما وثروة وجاها، وغير ذلك مما لا يتصل بالحياة الدينية اتصالا مباشرا كأنما الطرفان في رأيهم نقيضان لا يجتمعان معا في نجاح واحد، فلقد سمع كاتب هذه السطور أستاذا جليلا وهو يتحدث إلى جماهير الناس مستخفا بالعلم ونتائجه استخفافا عجيبا، فلما كان حديثه دائرا حول أولئك الذين أتعبوا أنفسهم عبثا ليصعدوا إلى القمر أمسك بمنديل من الورق أخرجه من علبة أمامه ورفعه بيده ليقول، إن هذه الورقة أنفع من كل ما صنعوه في ذلك السبيل، وفات الشيخ الجليل عندئذ أنه وهو يعلن هذا الرأي العجيب ربما كان حديثه ذاك يذاع بواسطة قمر صناعي ليستمع إليه ثلث سكان الأرض في لحظة واحدة ، والأقمار الصناعية هي إحدى النتائج الفرعية التي تفرعت عن العمليات العلمية التي أدت بالإنسان إلى بلوغ القمر ليمشي على سطحه بقدميه لأول مرة منذ خلق الله تعالى الكون وما فيه، وكذلك سمع كاتب هذه السطور بأذنيه أستاذا جليلا يقول للناس في معرض حديثه عن عجز الإنسان وقصوره، وكان العلماء في بلد من بلاد الأرض قد أذاعوا في قومهم نذيرا بأن بركانا على أرضهم وشيك الانفجار، يقول للناس إن هؤلاء العلماء قد ضلوا سواء سبيلهم حين ظنوا بأنفسهم القدرة على التنبؤ بالغيب ... والأمثلة لا آخر لها، لما يقوله المتطرفون في الدين أو المشتغلون به إذا ما نجح العلم في كشوفه ومغامراته، وهم يقولون ما يقولونه غيرة على الدين من أن تحيط به شكوك؛ بسبب ما وفق إليه العلم من رفع للأستار عن بعض السر المكنون في جنبات هذا الكون العظيم، وعكس ذلك قائم عند بعض المشتغلين بالعلم، وذلك بالنسبة إلى موقفهم إزاء الدين، فلأنهم يرون اختلافا شديدا في منهج الإنسان بين الحالتين: حالة إيمانه الديني وحالة بحوثه العلمية، فبينما هو في الحالة الأولى يؤمن أولا بما يؤمن به ثم يبحث ويحلل ذلك الذي آمن به وذلك إذا كان من القادرين على البحث والتحليل والراغبين فيهما، أقول إنه بينما الإنسان في حالة إيمانه الديني يؤمن أولا ثم قد يحلل ويعلل ما قد آمن به، فإنه في حالة النظر العلمي يبدأ بالتحليل والتعليل لعله ينتهي آخر الأمر بما يؤمن أنه صواب، وحين يشعر بعض المشتغلين بالعلم بهذا الفارق المنهجي بين الحالتين تأخذهم خشية الخلط بينهما؛ إذ ربما كان الخسار في هذا الخلط واقعا على العلم وأصحابه.
والفريقان كلاهما: رجل الدين في غيرته على الدين من نجاح العلم، ورجل العلم في حرصه على أن يسلم البحث العلمي من سرعة التصديق في نتائج معينة قبل استيفاء البحث المدقق الغامض أقول: إن الفريقين كليهما خاطئ في ظنونه، لأن لكل منهما جانبا يدير حوله اهتمامه، لكن الجانبين معا يصنعان إنسانا واحدا ويصنعان كونا واحدا ويؤمنان بإله واحد ، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون ويتضح أمام العقل وضوحا ناصعا إذا نحن فرقنا - في كل ظاهرة مما نتناوله بالبحث والنظر - بين «الفعل» و«المفعول». وخذ مثلا يوضح لك ذلك؛ يصاب الإنسان بجرح فيشير عليه الطبيب بدواء؛ فيندمل الجرح، وهنا قد يقول رجل العلم (علم الطب في هذه الحالة) إنه العلم ونجاحه فيخاف رجل الدين أن يكون في ذلك القول انتقاص من قدرة الله فيحتج قائلا: بل هو الله سبحانه هو الشافي: وسر الخلاف بينهما هو أنهما لم يفرقا بين «الفعل» و«المفعول»؛ فالتئام الجرح مفعول أدى إليه الدواء، ولكن لماذا كان لذلك الدواء «فعله»؟ لماذا تتصرف أنسجة الجلد بمثل ما تتصرف به حين وضع عليها الدواء؟ قد يستسهل مجيب أن يجيب على ذلك بقوله إنها «طبائع الأشياء» لكن المؤمن بالله يفضل أن ينسب ذلك «الفعل» إلى فاعل هو الخالق جل وعلا الذي جعل للأشياء تلك الطبائع، إذن لا تناقض بين رجل العلم هنا ورجل الدين، فالأول عني ب «المفعول» أي بالظاهرة التي نتجت وأصبحت شيئا مرئيا للعين وأعني «الجرح» في هذه الحالة، ورجل الدين اتجه بنظره إلى «الفعل» وفاعله.
فالعلم في كل ميدان من ميادينه يدير بحثه حول «الظاهرة» المعينة التي هي موضع بحثه، ولا يفوتك هنا كلمة «ظاهرة» ومعناها، فالعلم مجاله ما يظهر من حقائق الأشياء.
وأما ما وراء الأسطح الظاهرة من قوى تؤدي إلى ظهورها، فليس ذلك من شأنه وهو في لحظة البحث العلمي، وانحصار العلم فيما «يظهر» أو في الذي يمكن استدلال وجوده من ذلك الظاهر، أمر لا يشين العلم ولا يعيبه ولا يؤخذ دليلا على عجزه، فعجزه أو قدرته إنما يكون داخل مجال اختصاصه وهو «الظواهر» وقوانين العلم جميعا، إن هي إلا صيغ دقيقة تصاغ برموز الرياضة أحيانا وبألفاظ من اللغة، وذلك بحسب مادة الموضوع صياغة يراد بها أن يتنبأ الإنسان في دقة ما عساه يحدث في عالم «الظواهر» إذا ما توفرت عوامل معينة، وواضح أن أية «ظاهرة» كالمطر، أو الزرع، أو الريح، أو المرض، أو ما شئت، إنما هي «مفعول» تدركه حواسنا لكنه نتج عن «فعل» خاف لا تدركه الأبصار فتؤمن به البصائر والقلوب.
وأستجمع ما قلته ليصبح واضحا أمام القارئ: فلقد حاولنا أن نفهم الحياة الثقافية أينما وقعت في ضوء «هيكل» نظن أن على أضلاعه وركائزه يقام لتلك الحياة الثقافية بناؤها، وكان الهيكل الذي قدمناه هو السماء في أعلى والأرض في أسفل والإنسان بينهما صاعدا هابطا بما وضعه فيه خالقه من إرادة حرة الاختيار بين طيب وخبيث، فالسماء هنا رمز للوقفة الدينية الإيمانية بكل ما يتفرع عنها من فروع، والأرض رمز لها والكون كله معها، وذلك هو ميدان العلم والعمل، ثم زعمنا أن الفرد من الأفراد أو الشعب من الشعوب أو العصر من العصور يأخذ طابعه الثقافي من إحدى وقفات ثلاث إزاء هذا البناء الهيكلي: وقفة تميل نحو السماء ولا تجعل للأرض قيمة إلا بالحد الأدنى، وأخرى تميل نحو هذه الحياة الأرضية وما يلتف بها ولا تفرغ لما هو غيب إلا بالحد الأدنى كذلك، ووقفة ثالثة تتوازن فيها الجوانب، وسبيل ذلك عندها هو ألا تفهم السماء والأرض أو قل الغيب والشهادة أو إن شئت فقل الآخرة، والأولى أقول إن الوقفة الثالثة لا تفهم أيا من هذه الثنائيات إلا على أن كل واحدة منها هي حقيقة ذات طرفين، ويستحيل على الإنسان أن يحيا أحد الطرفين إلا وهو موصول بالطرف الآخر فلا آخرة إلا وهي مسبوقة بالأولى، ولا ظواهر يضعها العلم موضوع بحث إلا ووراءها غيب شاء لها أن تظهر كما ظهرت ... وبهذا المقياس المكتمل الناضج المتمثل في الوقفة الثالثة يكون حكمنا على حياتنا الثقافية في هذه المرحلة من تاريخنا، وفي أية مرحلة سبقت خلال ذلك التاريخ.
لكننا ونحن بصدد الحكم على حياة ثقافية في إحدى مراحلها عند شعب معين، وأذكر أن موضوع حديثنا هذا منصب في المقام الأول على حياتنا نحن في مرحلتنا التاريخية هذه، أقول إننا إذا أردنا حكما كهذا وأردنا لهذا الحكم أن يكون منصفا ما استطعنا وجب علينا النظر في تفصيلات الجوانب المختلفة التي تتألف منها حياة الناس الثقافية، سواء أكانت نزاعة نحو السماء أم نحو الأرض أم نحو التوحيد بين الطرفين. ولكي تقدم صورة تبين تفصيلات حياتنا الثقافية الراهنة سعيا وراء حكم منصف لها أو عليها أراني مضطرا إلى الاستعانة بهيكل بنائي آخر داخل الهيكل الذي أسلفت الحديث عنه، وأما هذا الهيكل الفرعي الذي أحاول به أن أضم التفصيلات الكثيرة في رسم قليل الخطوط فهو أن أدعوك لنتصور سلما من ثلاث درجات وأقيمت على جانب السلم سنادة يستند إليها الصاعد أو الهابط.
وأولى هذه الدرجات من أسفل تمثل المتفرقات الأولية التي يعرف كل فرد قليلا أو كثيرا منها، فكل فرد يعرف شيئا عن السلع المعروضة في الأسواق وأسعارها، وشيئا عن الأحزاب السياسية القائمة وصحفها، وشيئا عن مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته، وشيئا عن القرية والفلاح والأرض الزراعية وما أصابها، وشيئا من الكرة ومبارياتها، وشيئا عن حياة المرأة ومشكلتها بين القرار في البيت أو الخروج إلى العمل وهكذا وهكذا؟ تلك المعارف المتفرقة عن هذا وهذا وذاك يكتب عنها ويذاع ويتحدث عنها الناس بعضهم مع بعض، ومن هنا كان لكل فرد من أبناء الشعب نصيب منها قل ذلك النصيب أو كثر.
تلك كانت أولى درجات السلم المعرفي من أسفل، فإذا كتب لك أن تكون من الصاعدين إلى الدرجة التي تعلوها وجدت هناك بدل المعلومات المتفرقة التي صادفتك في الدرجة الدنيا، علوما يحاول كل علم منها أن يضم أشتات المتفرقات في قوانين عامة تضمها، فللاقتصاد قوانينه العلمية، وللسياسة نظرياتها وللتعليم مناهجه، وللزراعة قواعدها العلمية وهكذا.
ثم تصعد في السلم إلى الدرجة الثالثة والعليا وهي في حقيقتها درجة تفعل في «علوم» الدرجة السابقة عليها ما كانت تلك الدرجة السابقة نفسها قد فعلته في متفرقات المعلومات التي شهدتها الدرجة الأولى من أسفل السلم، فكل درجة إنما تستخلص من سابقتها تصميمات توجزها وتكشفها، فقد رأينا كيف عملت «علوم» الدرجة الوسطى على تقنين المعارف المتفرقة التي حصلناها في الدرجة السفلى، وها نحن أولا، نقول القول نفسه عن الدرجة العليا بالنسبة إلى ما دونها؛ إذ هي تستخلص من قوانين العلوم ونظرياتها «وجهة نظر» عامة وشاملة، تبين حدود الرؤية التي في إطارها نريد للإنسان أن يرى حياته في كل فرع من فروعها، وهذه «الرؤية» العامة والشاملة هي من حياتنا بمثابة الدستور الذي تتفرع عنه القوانين، ولهذا ترى الصاعدين إلى الدرجة الثالثة من درجات السلم يشغلون أنفسهم بأفكار عامة، لا هي من صميم العلوم ولا هي من صنف المعلومات المتفرقة، هي أفكار بمثابة الخرائط التي تبين طرق السير أمام السائرين أو بمثابة المناظير التي تظهر للعين ما كان قد خفي عليها من حقائق الأشياء، وتلك الدرجة الثالثة من درجات السلم هي التي تجد عندها الفكر الفلسفي في معنى من معانيه أو قل تجد عندها «الحكمة» التي من شأنها أن تحكم خطوات الإنسان على الطريق.
إلا أن تلك الدرجات الثلاث بكل ما اختصت به كل منها، إن تكن قد لخصت لنا صورة لحياة المعرفة - في الفرد الواحد، وفي مجموعة الشعب - تلخيصا أوضح معالمها، إلا أنها قد تركتنا ومعنا سؤال جائز، وهو هذا: إذا كانت تلك هي صورة البناء المعرفي للإنسان، فبماذا - إذن - يختلف شعب عن شعب؟ والجواب هو أن ثمة سنادة أو قل بطانة تقوم عليها «هوية» الشعب الواحد، قوامها - عادة - مجموعة مختارة من المبادئ والقيم، وهي التي مثلناها بسنادة (درابزين) في جانب السلم بدرجاته الثلاث، يستند إليها الصاعد أو الهابط فمهما تكن الدرجة التي يقف عندها الفرد في حياته، فهو يستند إلى محصول من المبادئ والقيم تبين منها الواجب والجائز والممتنع والمصادر الأساسية التي يستمد منها تلك المجموعة من المبادئ والقيم هي الدين والأدب والفن والتقاليد والأعراف.
ولقد تولت مؤسسات في الدولة أو في المجتمع العام أمر العناية بكل درجة من الدرجات الثلاث ومعها السنادة التي يتكئ عليها الصاعدون - سواء كنا على وعي بهذا التقسيم أو على غير وعي - فأما درجة المتفرقات من المعلومات والمعارف فهي مهمة وزارة الإعلام بأجهزتها المختلفة، إذن يكون أساس الحكم على عملها نجاحا أو إخفاقا هو: كم يعرف متوسط الفرد من أبناء الشعب عن جوانب حياته؟ وأما الدرجة الوسطى وفيها «علوم» تقنن المعارف المتفرقة، فشأنها موكول إلى وزارتي التعليم العام والتعليم العالي، بما يتبعهما من مدارس ومعاهد وجامعات، ويكون أساس الحكم عليها نجاحا أو إخفاقا، كم من «العلم» حصل الطالب، وكيف جاء ذلك التحصيل؟ وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم وهي التي تتكون فيها للشعب وجهة نظره، ويضاف إليها جزء مما تؤديه السنادة التي هي متكأ السائرين، فأمر ذلك هو لوزارة الثقافة إذن يكون الحكم عليها بالنجاح أو بالفشل مؤسسا على ما أدته أو تؤديه في خلق «رؤية» قومية موحدة، في إطارها يعلم العالمون ويسلك السالكون.
وبعد الحكم على هذه الهيئات نجاحا وإخفاقا تضم معا في نسج واحد هو نسج الحياة الثقافية التي نعيش اليوم في ظلها ننظر إليها خلال البناء الهيكلي العام ذي الوقفات الثلاث بالنسبة للسماء والأرض والإنسان بينها؛ لنرى أي وقفة منها تسود حياتنا، فنكون بهذه الأحكام المؤسسة على منهج للنظر قد ألمحنا بالحقيقة كما هي واقعة؛ فإذا رأينا بها خللا أصلحناه.
فإذا سألتني: وما أحكامك في هذا كله؟ أوجزت لك الجواب كما يلي: وأبدأ بالهيكل الفرعي ذي الدرجات الثلاث وسنادتها، فأقول بأن الدرجة الأولى من أسفل التي قلت عنها أنها في رعاية وزارة الإعلام وهي الدرجة التي تعرض فيها على الناس معلومات متفرقة عن جوانب حياتنا؛ فظني هو أن حصيلة الفرد المتوسط منها منقوصة ومشوهة، وعلة النقص والتشويه فيها هي حرص المشرفين عليها أن يلتمسوا طريق السلامة والعافية فاجتنبوا كل ما عساه يسيء إلى هذا ويؤذي مشاعر ذاك، وأما الدرجة الوسطى وفيها «العلوم» النظامية بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها فهي تخرج لنا - بصفة عامة - شبابا كأنهم جسدوا بأشخاصهم «المذكرات» التي حفظوها، فلا اكتمال ولا ابتكار ولا مغامرة ولا نقد ولا طموح، وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم التي تقع في رعاية وزارة الثقافة والتي كنا نتوقع منها وحدة الرؤية ووحدة الهدف فلا أظن أننا في كل تاريخنا الماضي قد تمزقنا بين عدة رؤى وعدة أهداف كما تمزقنا اليوم. وإني لأشهد بأنه إذا كان في الهيكل جانب على شيء من السواء فهو في سنادة المبادئ والقيم (من الوجهة النظرية)، فهذه تجد نصيبا موفورا من التعبير عنها فيما يذاع وينشر من أدب وفن؛ فإذا نقلنا هذا كله مجتمعا إلى الهيكل البنائي العام وجدتنا أبعد ما يكون الناس عن الوقفة المتوازنة بين سماء وأرض بين دين ودنيا بين علم وعقيدة، وأقرب ما يكون الناس إلى تطرف أصم وأعمى.
لمسة الواقع
كان الوقت يوما من أيام الصيف، في سنة 1947، وكان المكان محطة فكتوريا بلندن، حيث كنت عند نقطة البدء من طريق عودتي إلى مصر، ولم تكن الطائرة يومئذ هي الوسيلة التي يلجأ إليها مسافر أول ما يلجأ، وإنما كان الطريق المعتاد لمن يسافر من لندن إلى القاهرة، هو أن يأخذ القطار إلى ميناء دوفر على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، ومن هناك يركب سفينة تعبر به بحر المانش (كما يسمى بالفرنسية) أو بالخليج الإنجليزي (كما يسمى بالإنجليزية) وكانت تلك السفينة تتجه إلى ميناء كاليه على الشاطئ الشمالي من فرنسا، ومن هناك يكون القطار - أو القطارات - إلى ميناء مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وأخيرا يركب المسافر إلى مصر سفينة تعبر به البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء الإسكندرية ... ففي ذلك اليوم حين كنت في محطة فكتوريا في ساعة مبكرة من الصباح، كانت تلك هي نقطة البدء من طريق السفر إلى أرض الوطن، وعندئذ جاءني يلهث موظف من مكتب البعثات المصرية. ومعه برقية وردت من مصر تقول: يطلب من فلان المرور بباريس في طريق عودته، لحضور المؤتمر الفلاني الذي تنظمه «اليونسكو». وفي مزيج من الدهشة والحيرة والفرحة، عاونني ذلك الموظف على إلغاء إجراءات سفري لأعود إلى مسكني في لندن، مستأذنا صاحبته في إقامتي يوما آخر، أعددت فيه نفسي إعدادا جديدا، لأرسل إحدى حقيبتي الاثنتين شحنا إلى القاهرة، ولأضع في الأخرى ما يلزمني من ثياب وغير ثياب في أيام إقامتي بباريس.
علمت عند أول وصولي إلى باريس أن الموضوع الأساسي في المؤتمر هو عن «الثقافة »: أهي ثقافة واحدة للإنسان أيا كان موطنه؟ أم هي ثقافات تتعدد بتعدد الشعوب والأوطان؟ والحق أن تلك كانت أول مرة أسمع فيها بمشكلة كهذه، وذلك أني كنت حتى ذلك اليوم، على يقين ثابت بأن الحضارة الأم هي في كل عصر حضارة واحدة، يفرزها من هو في ذروة السلطان الفكري بين الشعوب، ومن تلك الحضارة الأم في عصر معين، تنبثق أشعة تضيء أرجاء العالم بدرجات تتفاوت بتفاوت قدرات تلك الأرجاء، ومع الحضارة الأم تقوم ثقافتها، وأظن أن الفرق واضح بين المعنيين: فالحضارة هي المنشآت والنظم، وأما الثقافة التي تصاحب تلك الحضارة فهي الجانبان الفكري والوجداني اللذان يؤثران في تشكيل تلك المنشآت والنظم، ثم يعود فيتأثر بها، كانت الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة - من فكر ووجدان - التي تولدت عنها حضارة عربية إسلامية لها منشآتها ونظمها التي تحمل طابعها.
ثم عادت تلك النظم والمنشآت بدورها لتؤثر في ترسيخ الطابع المميز لتلك الثقافة وتعميقه، ومن ذلك المصدر العربي الإسلامي، انبثقت الأشعة في سائر الأرجاء، فلما مالت شمسها نحو غروب، كانت الظروف التاريخية في سبيلها إلى إقامة مصدر جديد، هكذا كان الرأي عندي يوم حضرت مؤتمر باريس سنة 1947، وهو أن المصدر الحضاري الثقافي واحد في كل عصر من عصور التاريخ، فثقافة واحدة تقترب منها أو تبتعد عنها سائر الثقافات، وكذلك حضارة واحدة للعصر الواحد، فلما وجدت السؤال مطروحا: أهي ثقافة واحدة للجميع، أم هي ثقافات تختلف باختلاف الشعوب؟ لم يكن لي بد من التفكير العميق في طبيعة هذه المشكلة لأرسم لنفسي طريق السير في مناقشات المؤتمر.
فما هو المقصود بواحدية الثقافة أو تعددها؟ إن اللغة - مثلا - هي في صميم البناء الثقافي، فهل يعقل أن تعني واحدية الثقافة واحدية اللغة التي يستخدمها العالم أجمع؟ وإذا كان الجواب بالنفي، تبع تعدد اللغات تعدد الآداب من شعر ونثر ... وعلى هذا الغرار يمكن السؤال عن واحدية الفن وواحدية العرف الاجتماعي والتقاليد وغير ذلك مما يكون مقومات ذلك الشيء الذي نسميه «الثقافة» عند شعب من الشعوب، إذن فالتعدد الثقافي بديهية تفرض نفسها، إلا أنك سرعان ما تلح عليك فكرة أخرى، لا تلغي ذلك التعدد الذي ذكرناه، بل تجاوره، وهي أن نوعا من الواحدية الصورية لا بد من قيامه بالنسبة للجميع في العصر الواحد، وذلك لأن العصر المعين - عادة - يدور حول محور رئيسي، كالدين أو الفن أو العلم، وذلك المحور الواحد البارز هو الذي يشع في شتى الجهات ليحدث في الناس أينما كانوا، نقطة التقاء مشتركة في الذوق العام، فإذا كان المحور الأساسي هو العلم التكنولوجي - مثلا - كما هي الحال في عصرنا، أخذ كل شعب على وجه الأرض من ذلك الاتجاه بنصيب. بل أخذ كل فرد رشيد من أفراد شعب بنصيب من إشعاعات ذلك المحور ونتائجه المادية والعقلية على حد سواء.
بهذه الخطوط العريضة حددت موقفي في مؤتمر باريس ... بالنسبة إلى السؤال المطروح: فكان الجواب المبدئي عندي على ذلك السؤال هو: إنها ثقافات تتعدد شكلا وروحا، لكنها كذلك تتحد في جذر من جذورها، وهو ذلك الذي يعكس روح العصر ممثلا في حضارته الأم، وما يسبقها ويلحقها من ثقافة تلائمها، وتلك الحضارة الأم في عصرنا هي حضارة الغرب، ومحورها الرئيسي هو العلم وما يتصل به من منهج النظر، وبهذه الثنائية المعيارية تحدثت وضربت الأمثلة، فإذا أردنا الحكم على الثقافة الهندوكية في عصرنا - مثلا - قبلنا جوانبها الأصيلة في الموسيقى والتصوير والنحت، ورفضنا تقديس البقر، وإذا أردنا الحكم على الثقافة العربية في صورتها الراهنة، قبلنا فنونها وأدبها وتصورها الديني، ورفضنا تواكلها ورفضها للروح العلمية في منهاج النظر. وهكذا تحدثت في ذلك المؤتمر على نحو شد انتباه الحاضرين.
ولقد حدث لي - بمحض المصادفة - أن جلست مع عضو بريطاني من أعضاء المؤتمر، وأخذنا نتحدث حديثا حرا، قد يمس شئون المؤتمر من قريب أو بعيد، وقد لا يكون ذا صلة بالمؤتمر وشئونه، وفي غضون هذا الحديث، قال محدثي إنه قد استخلص من كلامي وطريقة سلوكي، أنني رجل يصب اهتمامه على «الأفكار» ولا يوجه اهتمامه إلى «الأشخاص» وصمت قليلا، ثم قال: إنك تحيا داخل رأسك في فكر أكثر جدا مما تعيش مع سائر الناس في واقع، فكانت تلك اللمحة التصويرية عن شخصيتي، جديدة علي كل الجدة، إذ لم أكن قد فكرت قبل ذلك قط في عناصر شخصيتي، ولو كنت قد فعلت فربما لم أكن لأقع على هذه الصورة. على أني منذ تلك اللحظة شغلت بالأمر، رغبة أكيدة مني في معرفة نفسي على حقيقتها، وكان من أهم ما عرض لي أثناء انشغالي بذلك التحليل، هو أني ذات لحظة سألت نفسي قائلا: إذا صدق محدثي ذاك في تصويره لشخصي، أفتكون الصورة مقصورة علي وحدي؟ أم هي - يا ترى - صورة تمثل، بوجه عام، شخصية العربي و«المصري بالتالي» أينما رأيته؟ ومنذ تلك اللحظة تحولت القضية عندي إلى مشكلة، تعترضني كلما فكرت في تحليل الوقفة العربية، وأحسبني قد انتهيت آخر الأمر، إلى أن «العربي» يحيا في رأسه أكثر جدا مما يحيا في الواقع الذي يحيط به، وحتى لا يدهش القارئ لحكم كهذا، أسرع فأنتبه بأن «الكلام» بضاعة تتعلق بالرأس، قبل أن تكون موصولة بواقع، فربما دارت الألسنة في الأحلاق بسيل وراء سيل من الكلام دون أن تكون في ذلك الكلام قوة تقلقل حجرا واحدا من موضعه على أرض الواقع، وبعد هذا التوضيح، أعود فأقول إنني خلال تفكيري فيما قاله عني ذلك المتحدث؛ وسعت السؤال لأسأل: ألا تكون هذه سمة من سمات الشخصية العربية؟ إنها إذا كانت نكون قد وضعنا أصابعنا على مفتاح لما ينبغي أن نؤديه في سبيل تغيير الثقافة العربية وتحديثها.
لكن لا بد من التفرقة بين حالتين لابتعاد الإنسان عن تفصيلات الواقع، إحداهما مشروعة وضرورية لأي تفكير علمي مهما كان ميدانه، والأخرى مرفوضة لأنها أقرب إلى الهذيان. فأما الحالة الأولى المشروعة والضرورية، فهي تلك التي يستخلص فيها الإنسان أحكاما عامة من التفصيلات الجزئية التي تجري بها الحياة اليومية على أرض الواقع، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إن من فعل ذلك قد ابتعد عن وقائع الحياة، لكنه لم ينفصل عنها، فافرض - مثلا - أننا قلنا عن الإنسان العربي إنه ذو أنفة وكبرياء ، شديد الميل إلى إكرام الضيف ونجدة الملهوف، فهذا قول فيه تعميم لما يجري في حياة الناس، والناس أفراد: إبراهيم وعمر وزيد وخالد، والتعميم لا يذكر أحدا بذاته من هؤلاء، كلا ولا يذكر موقفا بذاته مما قد مورست فيه صفات الشمم والكبرياء وإكرام الضيف، بل إن أي تعميم لا بد أن يعلو على تلك الأفراد والمفردات، ليصوغ في عبارته العامة ما هو مشترك بينها، لكنه برغم ابتعاده عن جزئيات الواقع، فإنه يستطيع أن ينزل إليها ليذكرها إذا ما طلب منه أن يبين الشواهد على صدقه، وأحسب أنني فيما أكتبه من أفكار مجردة، إنما أتحرك في تعميمات من هذا القبيل، وهو أمر لا مناص منه في أي تفكير ينزع منزع العلم، وأحسب كذلك أن ذلك العضو البريطاني في مؤتمر باريس الذي لاحظ على شخصي بأنه موجه الانتباه إلى «الأفكار» التي في رأسه، وليس إلى «الأشخاص» من حوله، كان يقصد فيما يقصد إليه ذلك الضرب العلمي من الارتفاع عن تفصيلات الواقع، الذي يظل في الوقت نفسه على صلة ضمنية بذلك الواقع، يعود إليه إذا ما اضطر إلى العودة إليه للمراجعة أو لذكر الشواهد على صدق ما يذهب إليه.
وأما الحالة الثانية من الابتعاد عن الواقع، وهي الحالة التي زعمت بأنها قد أصبحت خاصة من خصائص الثقافة العربية في تاريخها الحديث والمعاصر، فهي حالة فيها «انفصال» عن وقائع الحياة الجارية، فسيل الكلمات الذي يتدفق من الأفواه، أو تجري به الأقلام، كثيرا جدا ما يجيء مبتور الصلة بحقائق الدنيا كما هي حادثة وواقعة؛ ولذلك فكثيرا ما تباغتنا الأحداث الجسام دون أن نكون منها على قليل أو كثير من تدبر وتوقع وحساب. والعجب أنك إذا وجهت أنظارهم إلى ما يسود شعوب الغرب وحكوماته من تدبير وتخطيط وتحديد للأهداف ورسم للوسائل، أجابوك في استعلاء بأن ذلك لأن تلك الشعوب مادية تنشغل بالدنيا وأمورها ولا يعمر قلوبهم إيمان كالإيمان الذي يعمر قلوبنا. فإذا كنت قد أسلفت القول بأن مثل هذه الغيبوبة العقلية تضع أصابعنا على موضع أساسي من مواضع القصور والضعف، مما ينبغي الإشارة إليه لمعالجته وتعديله ابتغاء تطوير الثقافة العربية وتحديثها، فإنما قصدت بذلك تلك الحالة الثانية التي «تنفصل» عن أمور الواقع، وليس الحالة الأولى التي «ترتفع» عن الواقع بتجريده وتعميمه، دون أن تنفصل عنه.
إننا إذ نريد للثقافة العربية أن تسودها لفتة إلى دنيا الواقع، تنزلها من السطح في عالم الوهم واللغو، بالكلمات، فإنما نريد لها ما تمليه الفطرة السلمية على كل كائن حي، إنسانا وغير إنسان، فليس توثيق الصلة بوقائع الأرض، هو الذي يحتاج إلى عزيمة الإرادة، بل إنه الانفصال عن مجرى الواقع المحيط بنا، هو الذي يحدث بعزيمة من صاحبه، يلجم بها نفسه كما نلجم الجواد لتجمد حركته، وفي هذه المناسبة أذكر مثلا ساقه مفكر في العصور الوسطى من التاريخ الأوروبي هو «بوريدان» في سياق حديثه عن إرادة الكائن الحي وكيف تختار بين البدائل المعروضة، وكان المثل الذي ضربه، حمارا جائعا علقت أمامه حزمتان من الدريس، إحداهما إلى يمينه والأخرى إلى يساره، وروعي أن تكون المسافة بين كل من الحزمتين وبين الحمار متساوية تماما، كما روعي كذلك في الحزمتين أن يتساويا حجما ليكون السؤال بعد ذلك هو: هل يستطيع الحمار أن يتحرك نحو إحدى الحزمتين ليأكل؟ وإذا استطاع ذلك فكيف استطاعه؟ وما الذي يدفعه إلى الحركة إلى حزمة اليمين دون حزمة اليسار أو إلى حزمة اليسار دون حزمة اليمين؟ إنه إذا كان الاختيار دائما مؤسسا على مبررات، فليس عند الحمار مبرر يسوغ له الحركة إلى إحدى الجهتين دون الأخرى، مما نتوقع له أن يصيب الحمار جمود عن الحركة فالموت جوعا، ويعرف هذا المثل في الكتب باسم «حمار بوريدان» ... لكن إن كان ذلك هو نوع التفكير الذي يلغو به إنسان في عصر من عصور ضعفه، فالحمار على الطبيعة أعقل من ذلك، لأن فطرته وحدها كفيلة له أن يتحرك بلا تردد نحو إحدى الحزمتين ليأكل مهما يكن من أمر التساوي في المسافة والحجم والشكل، فهذه لجاجات إنسان جفت الحياة في شرايينه، ولم يبق له إلا أن يهذي بكلام فارغ، ينفصل به عن حرارة الحياة الصاحية الواعية.
إن دنيا الواقع بكائناتها الحية وأشيائها الجامدة، متحركة أو ثابتة، هي حقائق لها طبائعها وخصائصها، وهي في الوقت نفسه دنيانا التي نعيش فيها، ومحتوم علينا، ونحن نتعامل مع تلك الحقائق أن نأخذ في اعتبارنا أنها موجودة، ومعها تلك الطبائع والخصائص، ولن يزول وجودها لمجرد أننا قد غضضنا عنها أبصارنا وازدريناها، فلا بد من التعامل معها وبها، تعاملا يلائمنا لننتفع بها بل ولنغير منها ما نريد تغييره استنادا إلى علمنا بما نتميز به من طبائع وخصائص، إن الذي يجيد سياسة الجياد هو الذي يعرف طبع الجياد، لكن ثقافتنا الأصيلة تحتوي على ترفع عن «الواقع» كأنما معايشة بواطن نفوسنا تكفي وحدها لاجتلاب القوة والمعرفة وكرامة الإنسان. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نقارن الكلمة العربية «واقع» التي نشير بها إلى ما هو كائن في محيط الأشياء من حولنا، أن نقارنها بنظيرتها في لغات الغرب، وهي «ريالتي» (ومعناها الحرفي «الأشياء») لنرى أن في الاسم العربي ما يشير إلى الوقوع من أعلى إلى أسفل، أو الأغلب، وليست من ذوات الروح، في حين أن الاسم غير العربي يشير إشارة محايدة، فلا صعود ولا هبوط بل هي «أشياء» وكفى، نتعامل معها وبها على النحو الذي تمليه علينا ضروراتها.
واكتساب الناس قدرة الحس «بالواقع» ليس هنة هينة، بل هو أمر يحتاج إلى تربية للنشء منذ الصغر على لفتة خاصة لما حولهم، وحتى في بلاد الغرب المتقدمة، قد يشطح التفكير المجرد ببعضهم إلى اتخاذ موقف نظري يتغاضى عن الواقع، لكن قوة الرأي العام الثقافي سرعان ما ترده. وتحضرني الآن حادثة طريفة في تاريخ الفكر الإنجليزي ... وقد ذاع أمرها لشدة طرافتها وبساطتها مع قوتها إلى حد أنها كثيرا ما ترد في أكثر المؤلفات الفلسفية وقارا، وهي حادثة وقعت بين الدكتور جونسون الذي لا نبالغ إذا قلنا عنه إنه كان في دنيا الثقافة والأدب في بلاده، إبان القرن الثامن عشر، وبين مرافقه «بوزويل» الذي سايره مسايرة الظل لصاحبه ، وكانت الجلسة اليومية لجونسون في مقهى بلندن ومعه «بوزويل» ومن جاء من المريدين، وفي عهدهم ذاك، كان على رأس الفكر الفلسفي في إنجلترا الفيلسوف «باركلي» الذي جاءت فلسفته على شيء كثير من الشذوذ بالنسبة للمعروف المألوف عن مسار الفكر الإنجليزي، فبينما المسار العام هو أن تستند أية فكرة، مهما كان موضوعها، على رصيد حسي من كائنات الواقع، جاء «باركلي» ليبني فلسفته على أن ذلك الواقع نفسه لا سبيل إلى بلوغه أذهاننا إلا أن يتحول من واقعيته المادة ليكون «فكرة»، إذن، فليس لدى الإنسان من دنياه إلا «أفكار» في رأسه، فدار النقاش ذات يوم بين «جونسون» و«بوزويل» إذ هما جالسان في المقهى المذكور مع سائر الرفاق، حول ذلك، الذي كان يكتبه «باركلي» عن إنكار الواقع المادي، تحويلا له إلى أفكار في رءوسنا، فلم يكن من جونسون إلا الرفض، فسأله «بوزويل» قائلا: ولكن ما وسيلتك إلى دحض حجته؟ وكان هناك حجر ضخم على الأرض أمامهم؛ فرفس جونسون الحجر بقدمه، قائلا: «هذه هي وسيلتي لدحض حجته.» أي إن وجود الواقع المادي في شتى كائناته لا يحتاج إثباته إلى حجة نظرية، لأنه يصدم أجسادنا بصلابة وجوده.
والذي يلفت النظر بالنسبة إلى مناخنا الثقافي العام، مصريا كان بصفة خاصة، أم كان عربيا بصفة عامة، هو أنه لا اتساق بين مواقفنا العينية في مجرى حياتنا اليومية، وبين موقفنا من حيث «الرؤية» العامة لما يجب أن يكون عليه الإنسان في وجوده الدنيوي؛ فبينما نحن في المواقف الحياتية الجزئية على صلة وثيقة بالأشياء وطبائعها، ترانا في تصورنا للمثل الأعلى نحث أنفسنا على الترفع عن تلك الأشياء وكأنها دنس ونجاسة! فالمصري «مزارع» متمرس يعرف أسرار أرضه وأسرار زرعه، لا معرفة مضببة بالغموض، بل هي معرفة بالحقائق الواقعية في تفصيلات تفصيلاتها، ولم تكن تلك حالته في قرن واحد من الزمان أو قرنين، بل هي حالته خلال دهر يقاس بعشرات القرون، فكيف يعقل وحالته هي هذه في ملامسة الأرض ومعايشتها؛ يمسي معها ويصبح معها، ومع ذلك إذا فرغ من عمله ، وخلا إلى نفسه تعلق بمجردات، لا هي من نبات هذه الدنيا، ولا هي بقادرة على رصف الطريق في هذه الحياة أمام السالكين؟ فإذا توجهنا بالنظر إلى «العربي» - مصريا وغير مصري - غلبت علينا الصحراء وبداوتها، وهنا أيضا يأخذنا العجب من تناقض نراه بين مواقفنا العينية في حياتنا اليومية الجارية، وبين الإطار النظري الذي نقيم فيه تصوراتنا عن المثل الأعلى، فالبدوي قد اضطرته حياة البداوة أن يكون مرهف الحواس لتفصيلات العالم المحيط به، إنه يجيد مراقبة النجوم، لأنها هي مصابيحه وهو مسافر عبر الفلاة، ويجيد النظر إلى تفصيلات الطريق، بحقائق نجاده ووهاده، وهو يعلم أين يتجه لينتجع بإبله وغنمه، إلى حيث الماء والعشب، إنه يعرف جيدا متى تهب الريح ومن أين، سواء أكانت حارة تتقى أم باردة ترتقب، وأعجب من هذا أن من أميز ما يميز الشعر العربي، تلك اللقطات الحسية الدقيقة، مما عسى أن تراه العين أو تسمعه الأذن، وكل هذه شواهد على أن العربي البدوي ليس بغافل عن دقائق ما حوله، لكنه إذا خلا إلى نفسه في ساعات تأملاته، تعلق خياله بمجردات يتنصل بها من رجس هذه الدنيا في واقع كائناتها وأشيائها.
وليست المؤاخذة هنا منصبة على أن العربي، مدفوعا بثقافته الأصيلة، يلوذ بصورة مجردة تمثل له الحياة كما كان ينبغي لها أن تكون، كلا، لأن ذلك من علامات الصحة لا من علامات المرض، إذ لا مجال لشك عند عاقل، بأن الحياة المكبلة بقيود الواقع كما يقع، لا بد أن يصيبها نقص كثير أو قليل، لما يعلق بها من عناء الطريق ومن غبار العواصف، فمن الخير أن يلوذ المتعب بواحة يستريح إليها، تتحقق فيها صورة الحياة في كمالها، حتى ولو كانت تلك الصورة من محض الخيال، لكن موضع المؤاخذة في البناء الثقافي في حياة العربي هو ميله إلى التعامل مع الواقع بأطراف أصابعه، محاولا أن يتنصل من العيش فيه، كما يتنصل الإنسان من وزر اقترفه وأسف على اقترافه، ومفاخرته بأنه إنما يحيا للروح ومعانيها ومراميها وخلودها، لا لهذه الدنيا بمائها وهوائها ونارها وترابها، والوقفة الصحيحة هي أن نسد الفجوة بين الطرفين، فليست الأرض وما عليها من صنع الشياطين بل هي مخلوقة لله سبحانه وتعالى، لا تختلف في ذلك عن السماء ومصابيحها. ولو أننا ترفعنا عن الأرض وما تحمله فوق ظهرها أو في أحشاء بطنها، لما بقيت أمامنا سبيل لنكون مستخلفين فيها بأمر من الله جل وعلا، بالعمل وبالتعمير وبمعرفة الله عن طريق معرفتنا لما خلق، أرضا كان هذا الخلق أو سماء أو ما بين أرض وسماء.
إننا لو حللنا وقفة العربي إزاء عالم الأشياء والأحداث الواقعة في محيطه، وجدنا لنا وقفة من يخرج من رأسه تصورا يختاره من مخزون تصوراته، ليلقي به على تلك الأشياء أو الأحداث، ثم يحاول بعد ذلك أن يقيم تصرفاته على هذا الأساس، فإما انصاعت له دنيا الواقع بالمصادفة، وإما تأبت عليه وعاندت. وقد كان الأصوب والأسلم والأدنى إلى النجاح، أن يبدأ بدراسة ما يقع حوله دراسة تفصيلية ثم يبني على تلك الدراسة خطة العمل، إلا أن مثل هذا المنهج في رسم خطة السير، يحتاج إلى تدريب منذ النشأة الأولى، لأنها هي نفسها الخطة التي تمليها النظرة العلمية المستندة إلى حقائق الواقع، فللتفكير طريقان، لكل طريق منهما مجاله الذي يصلح له، طريق يبدأ سير التفكير فيه من داخل الإنسان فخروجا إلى الأشياء، وطريق ثان يبدأ فيه السير من الخارج حيث الأشياء قائمة كما هي قائمة، فدخولا إلى الداخل، ويكون الطريق الأول أصلح للسير، عندما يكون الرأس قد ثبت فيه بالفعل أفكار ومعتقدات من حيث يدري صاحبه ومن حيث لا يدري، وكثيرا جدا ما يجيء الزلل من أن المخزون الفكري قد بث في الإنسان أيام أن كان أصغر سنا وأقل قدرة على تحليل ما يتلقاه من الآخرين ونقده، ولذلك كان من الطبيعي في البلاد ذات التاريخ الطويل الذي حمل إليها على أمواجه عبر الزمن ثقافة قديمة، دون أن تتعرض لنهضات فكرية تحدث فيها بعثا فكريا جديدا، أن تجد «المثقف» فيها هو من «حفظ» في ذاكرته مجموعة ضخمة من مأثورات أسلافه، وبهذا «المحفوظ» تراه يدخل في عالم الأشياء والأحداث، دخول من جاءنا ومعه الأحكام مسبقة وجاهزة يفصل بها بين المقبول والمرفوض، ويقيس بها الصواب والخطأ، ويرسم على أساسها خطة سيره وهو في سبيله إلى مواجهة الحياة ومشكلاتها، وذلك كله قبل أن يتناول تفصيلات الموقف المحيط به ليعلم منها ماذا يصلح لها وماذا لا يصلح.
ولا كذلك شعب حديث التكوين، أو شعب قديم في التاريخ لكنه نهض واستيقظ فوعى حقائق الدنيا في طورها الجديد، ففي كل من هاتين الحالتين، ينعكس طريق السير، فبدل أن يبدأ الإنسان من داخل نفسه، حيث المحفوظ من المأثور على أسلافه، مما بدأ في حفظه منذ طفولته، أقول إن الإنسان الناهض الواعي لما هو جديد، بدل أن يبدأ طريقه الفكري من محفوظاته، يجعل نقطة البدء على أرض الواقع ذاته، ولا أحسبني مسرفا في القول إذا زعمت أن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى اللاعلمية في نظرة الناس إلى حياتهم ومشكلاتها، وإلى ظواهر الكون وفهمها وتقنينها، كان في مثل هذه النقلة الفكرية التي أشرت إليها وأعني أن يبدأ طريق التفكير من دراسة الوقائع هناك على ظهر الأرض، المرئي بالعين المسموع بالأذن، فدخولا بحصيلة الدراسة إلى داخل الإنسان، حيث الإرادة في اختيارها الحر، وفي عزيمتها الماضية، فتقرر ماذا هي صانعة بذلك الواقع الخارجي المدروس: أنتركه على حالته إذا كان نافعا؟ أم نغيره أو نمحوه محوا إذا كان مرفوضا؟ أقول إن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجتها من عصورها الوسطى، هو أن الفكر في الغرب أخذ يبدأ طريقه من دراسة الواقع، بعد أن كان في مثل الحالة التي يحياها الفكر العربي حتى اليوم، وهي أن تبدأ رحلته من مأثورات مما قاله السلف، محفوظة ومحفورة في الذاكرة بمسمار، فخروجا بذلك المأثور الموروث المحفوظ إلى عالم الأشياء ليطرح عليها ظله، حاسبا بذلك أن الظل سيقوى وحده على زحزحة الجبال! ... قال السامع: اضرب لي مثلا لهذه الصورة التي زعمتها عن الفكر العربي في يومنا هذا. فأجبته قائلا: ترى هل تكفيك - يا ترى - المشكلة العربية التي أنساها قيام إسرائيل: كيف عالجتها الأمة العربية؟ فلقد مضت أربعون عاما، ولك أن تنظر ماذا صنع كل من الجانبين: الجانب المقتحم المعتدي، والجانب المعتدى عليه، علما بأن إسرائيل هي «الغرب» في صورة مصغرة، ووراءها يؤيدها الغرب الكبير في أمريكا وأوروبا؛ فنحن في هذا أمام موقف فيه اعتداء من ناحية، ومقاومة للعدوان من ناحية أخرى، وهمنا الآن هو أن ننظر إلى ناحيتنا لنرى ماذا صنعنا في أربعين عاما من المقاومة؟ لقد انتهينا إلى وطن عربي تمزقت أجزاؤه كما لم تتمزق في أي وقت مضى من تاريخها. فهل كان يمكن لهذا التجزؤ أن يحدث لو أن الغرب يحبون ثقافة تدرس خارج جلدها، لتكون على استعداد من داخلها على مقابلة الضربة بضربتين؟ ولقد شاء الله سبحانه أن يبلونا لنتبين حقيقتنا أمام الأزمات، فأنعم على الأمة العربية وهي في قلب محنتها بسلاح سائل كان يستطيع أن يحدث غصة في حلوق الأعداء يشرقون بها حتى يطلبوا منا النجدة، فكان في أيدينا ساعتها أن نبيع ونشتري حتى تزول عنا الغمة، لكننا لم نصدر في أفعالنا عن دراسة موضوعية للواقع، واتجهنا بأبصارنا نحو أجوافنا نخرج منها مكنونها؛ فبدأت حرب كلمات حتى اختنقنا نحن بكلماتنا وتمزقنا في ساحة الحرب الكلامية هذه شيعا وأحزابا، في حين أخذ المعتدي ينظر إلى حقائق ذلك الواقع الأليم ويدرسها ويقيم على الدراسة الواقعية أسبابا للقوة فوق أسباب.
قال السامع: وماذا تريدنا أن نصنع؟
قلت: أريد أن نعكس اتجاه السير، فنبدأ طريقنا بلمسة الواقع.
صورة جديدة لأفكار قديمة
هن أفكار ثلاث كانت للإنسان - ولم تزل - هي كبرى قضاياه، فتذهب به الأيام وتجيء. وهو عندها، يغزلها خيوطا وينسجها ثيابا، فإذا تبدلت عصوره واحدا بعد واحد، تبدل معها، فبعد أن كان في عصر مضى يغزل خيوطه من هذه قبل تلك تراه، وقد جاءه عصر جديد، يغزلها من تلك قبل هذه، فالأفكار الثلاث جميعا هي محاوره التي يدور حولها، لا غناء له عنها مجتمعة وفرادى، وذلك لأنه لا يصطنعها اصطناعا، ولا يتكلفها أو يدعيها لأنها صادرة له عن فطرته، ولا حيلة له في فطرة صنعت له ولم يصنعها لنفسه، وأما تلك الأفكار الثلاث، التي تلازمه ما نبض له قلب وتنفست رئتان، فهي فكرته عن إله خلقه وسواه، وفكرته عن كون يعيش فيه، وفكرته عن نفسه. وحول هذه الأقطاب الثلاثة تدور به الرحى: دينا وعلما وأدبا وفنا. ومما يقوله ويؤمن به عن تلك الميادين الثلاثة. في عصر معين من عصور تاريخه، ينسج له نسيج، هو الذي يقول عنه في ذلك العصر المعين إنه «ثقافته».
لكن الإنسان في دورانه حول تلك الأقطاب الثلاثة، تتغير وجهة نظره في ترتيبها، فمن أيها يبدأ؟ وإلى أيها ينتهي؟
على أن مدار الحكم هنا لا يكون الأولوية «في القيمة». وإنما تكون الأولوية لمنطق السير في تتابع خطواته، وتشبيه ذلك أن تكون ذاهبا من منزلك إلى المسجد، فتختار هذا الطريق مرة لأنه أقصر ويناسب وقتك الضيق، ثم تختار ذلك الطريق مرة ثانية لأنه أهدأ، وقد تختار طريقا ثالثا في مرة ثالثة، لتمر في طريق عودتك على صديق مريض تعوده، ومن هذا القبيل ما يحدث حين تأخذ الإنسان حيرة، في هذا العصر أو ذاك بأي الأفكار الثلاث يبدأ وبأيها ينتهي؟ أيبدأ من فكرته عن خالقه وخالق الكون معا، بمعنى أن يوجه اهتمامه الأول والأكبر إلى ما قد ورد في كتاب عقيدته الدينية، ليكون ذلك هو مصدر الضياء الذي على هداه يفهم الكون ويفهم نفسه؟ أم يأخذ ذلك الكتاب - في أول الأمر - من ناحية التدين والتعبد، مرجئا ناحية المعرفة والفهم حتى يدرس نفسه ويدرس الكون معا، وعندئذ فقط يكون أقدر ما يكون معرفة وفهما لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعا؟ والحق أن ثمة فرقا بعيدا بين الحالتين: حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه، وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ؛ على ضوء ما تدرسه دراسة متعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معا؟ ولعلك قد لاحظت في هذا الذي بسطناه، أننا قد أدرنا الحديث وكأنه ليس هناك إلا طرفان: الله (سبحانه وتعالى) ثم الكون والإنسان مجتمعين معا في طرف آخر. لكن حيرة الترتيب تعود هي نفسها بين هذين العنصرين: الكون والإنسان، فيكون السؤال في هذه الحالة هو: أندرس الإنسان مرورا بدراسة الكون؟ أم ندرس الكون مرورا بدراسة الإنسان؟
والإجابة عن هذه الأسئلة، في أي عصر من العصور هي التي - فيما يظن كاتب هذه السطور - تحدد العصب الأساسي فيما يطلق عليه بعد ذلك اسم ثقافة ذلك العصر. وغني عن البيان، أن أمثال هذه الأسئلة لا يلقيها الناس بعضهم على بعض مقدما، لكي يبدءوا خطوات السير في طريق حياتهم العملية، بعد أن تتقرر الإجابة بأغلبية الأصوات إنما هي - أعني الإجابة - وأسئلتها تكون مضمرة في طبيعة الحياة التي أصبح الناس يعيشونها بحكم ظروف قامت ولم يعد في الأمر خيار للناس أحبوا تلك الظروف الطارئة أم كرهوها، تاركين مهمة التحليلات النظرية للموقف الجديد، لمن كان لهم مزاج وقدرة تميل بهم نحو أن ينتبذوا من صخب الحياة العملية ركنا هادئا، يراجعون فيه ما هو كائن على أرض الواقع، ليردوه إلى أصوله ومنابعه؟ فإذا ما عرضوا على الناس نتائج تحليلاتهم تلك وجدوا أنفسهم أوضح فهما لحياتهم، فإن رأوها تستوجب التعديل والإصلاح بدلوها وأصلحوها.
إننا في هذه المرحلة الحاضرة من حياتنا، نكثر الحديث المشوب بالقلق عن ثقافتنا وإلى أي وجهة نريد لها أن تتجه؟ وحتى أصحاب النظرة العجلى، يستطيعون أن يروا ثلاث وجهات للنظر متفاوتة القوة متفاوتة الذيوع، فوجهة منها، وهي الأوسع انتشارا بين الناس، وإن لم تكن بالضرورة أقواها حجة وأنضجها فكرا، لا تتردد في دعوة الناس إلى أن يحيوا في حاضرهم ثقافة هي نفسها الثقافة التي استظل بظلها أسلافهم في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد، فإذا أحاطتهم حياتهم القائمة بمشكلة كانوا على يقين من أنفسهم، بأنهم واجدون الحل الأفعل، بين ما خلفه لنا أولئك الأسلاف، فهناك سوف نجد السؤال وجوابه، على نحو ما يفعل التلميذ الصغير وهو يراجع دروسه استعدادا للامتحان، فإذا لم يكن السؤال ذاته موجودا في مخلفات السلف ، بحثنا عن سؤال يشبهه لنقيس الشبيه إلى شبيهه، ووجهة نظر ثانية، هي أقل الوجهات الثلاث قبولا وانتشارا بين الناس كما أنها في الوقت نفسه في - رأي هذا الكاتب - أضعفها حجة وأبعدها عن الصواب وهي وجهة نظر يميل أصحابها إلى أخذ ثقافتنا الآن بضاعة جاهزة من منتجات الغرب الحديث والمعاصر، تماما كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات، وكأننا أمة خرجت صباح اليوم لأول مرة من العدم. وأما وجهة النظر الثالثة فتقع وسطا بين الطرفين؛ بمعنى أنها تريد لنا حياة ثقافية تظل معها السحنة العربية بعامة - والمصرية بخاصة - سليمة من الأذى، على أن نلتمس لتلك الثقافة بعض غذائها من الغرب، وذلك فيما يمس نبض الحياة المعاصرة. ولا أظن أن ذلك طلب منا للمحال؛ لأنه أمر وقع في حياتنا بالفعل، في بعض جوانب حياتنا، وعند نفر من أعلامنا، ولم يبق إلا أن نعمق ليشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعا في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها.
وأغلب ظني هو أننا إذا ما أمعنا النظر في هذا الاختلاف بين وجهات النظر الثلاث، وجدنا أنها في أساسها أنما تختلف على أولويات الترتيب بين المحاور الثلاثة التي قدمناها، فأصحاب وجهة النظر الأولى يرون أن نبدأ بمعرفة الدين في مصادره وأصوله لكي نفهم الكون والإنسان على أساسه، وأصحاب وجهة النظر الثانية، جريا على نموذج الثقافة الغربية القائمة، يرون أن العلم بالكون والإنسان يهيئ لنا النضج الفكري والروحي معا، الذي يعيننا بعد ذلك على أن نكون أقدر على فهم ديننا فهما لا يتصادم مع أسس الحياة، كما تفرضها ظروف عصرنا. وأما أصحاب وجهة النظر الثالثة، وهي التي تلتمس لنفسها طريقا وسطا يجمع الطرفين ولا يرفضهما، فالظن عند أصحابها - أو هكذا يرى كاتب هذه السطور - أن الأولوية إنما تكون للإنسان؛ نربيه على أسس تستثمر فطرته كما هي واقعة، وكما خلقها خالقها ومصورها وباريها؟ على نحو ما يرعى الزارع طبيعة النبات الذي يتعهده، فالأولويات لا يقررها هو للنبات، بل النبات هو الذي يمليها عليه. وكذلك يكون الإنسان في نشأته ونموه؛ له في كل مرحلة من مراحل عمره حاجات تتطلب الإشباع فيتولاها ولي أمره بما هي في حاجة إليه دينا كان، أو علما أو بحثا عن نفقة نفسه، حتى إذا ما اكتمل له النمو الناضج، عرف كيف يكون عالما مع الدين أو كيف يكون متدينا مع علم بحسب ما تقتضيه وقفته من دنياه.
وقبل أن أضع بين يدي القارئ مقارنة بين دنيانا اليوم وما نستوجبه، وبين دنيا أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي (وأتعمد أن أضع هذا التحفظ لأن لكل بلد من الوطن العربي أسلافا آخرين يؤخذون أيضا في الاعتبار عند تكويننا لوجهة نظر معينة) أفضل أن أسوق مثلا مأخوذا من غيرنا، لنرى كيف يحدث الانتقال الثقافي عند الشعوب، استجابة لتغير ظروف الحياة، فكيف تحولت أوروبا من ثقافة عصورها الوسطى إلى ثقافة عصورها الحديثة، فالمعاصرة؟ فلقد تم لها ذلك التحول خلال ما يقرب من قرنين، هما الخامس عشر والسادس عشر، فما الذي كان قبل ذلك وما الذي أصبح بعده؟ ونعود إلى الأفكار الثلاث الكبرى التي ذكرناها: الله والكون والإنسان، فنرى أن ما قد حدث هو - أساسا - تغير في ترتيب تلك الأفكار في بناء الحياة الثقافية، فقد كان الترتيب خلال العصور الوسطى كلها (امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) يعطي الأولوية المطلقة للدين ورجاله، حتى لقد كانت الأكثرية الغالبة من العلماء، من رجال الدين؟ كما كانت الأكثرية الغالبة من موضوعات البحث مما يتصل بالفكر الديني من قريب، بل وكانت الأكثرية الغالبة من مراكز البحث العلمي في الأديرة، وترتب على هذا المناخ العام أن تنحصر شئون الدنيا - من ناحية البحث العلمي - في أقل حيز ممكن؛ إذ لماذا يعنى الباحثون العلماء بدنيا الناس هذه، إذا كانت هذه الدنيا بكل ما فيها شيئا مزهودا فيه، لا يزيد على أن يكون معبرا ليس منه بد كل أمره هو أن يوصل الإنسان إلى لقاء ربه؟ ولا عجب ألا يجد المنقب لآثار العصور الوسطى في ربوع أوروبا، إلا عمارة الكنائس والأديرة وإلا فنونا من تصوير ونحت يتصل كلها - أو معظمها - بموضوعات دينية مأخوذة من الكتاب المقدس، وهكذا قل في شتى جوانب الحياة الثقافية من رجال أعلام ومؤلفات وتيارات لفكر الفلسفي وغيرها، وأظن أن ذاكرتنا نحن في الشرق الإسلامي، تحفظ جيدا معاناة أمتنا وبلادنا - في تلك العصور الوسطى - من الحروب الصليبية التي شنها علينا ملوك أوروبا بدفعة من الروح الدينية الضيقة الأفق إبان تلك الفترة من تاريخ أوروبا.
لكن القلق أخذ يسري في نفوس الناس وأخذت الرغبة في الانطلاق تشتد بهم شيئا فشيئا حتى رأينا الإنسان الأوروبي عندئذ يغامر هنا وهنا وهناك وطلبا لمعرفة هذا العالم الذي إنما خلق ليعيش فيه، فغامر في المحيطات المجهولة عندئذ ليكشف عما وراءها ويكفي أن نذكر من تلك الرحلات رحلة كرستوفر كولومبس، التي انتهت إلى كشف القارة الأمريكية، وكلنا يعلم كم نتج عن ظهور تلك القارة - أو القارتين - من أثر في تغيير وجه الحضارة الإنسانية كلها بعد ذلك، ولست أنسى تلك المحاضرة العلمية التي سمعتها في شبابي حين قال المحاضر في سياق حديثه: إن نتائج رحلة كولومبس عبر المحيط الأطلنطي لم تظهر كلها بعد، قاصدا بذلك إلى أنه ما دامت حضارة الولايات المتحدة الأمريكية هي نتيجة ذلك الكشف الجغرافي ثم ما دامت هذه الحضارة العلمية الجديدة لم تستكمل شوطها بعد إذن تكون رحلة كولومبس ما زالت منطوية على مجهولات فيما قد ينتج عنها.
ولم تكن انطلاقة الإنسان الأوروبي من سجن الحياة في عصوره الوسطى مقصورة على مغامرات المغامرين في البحار حول الكرة الأرضية شرقا وغربا بل جاوزت ذلك لتكون انطلاقة شاملة لم تترك مغلقا خارج الإنسان وداخله إلا حاولت كشف الستار عن أسراره ما وسعها ذلك، فانطلق الفلكيون نحو السماء يرصدونها، وانطلق المفكرون نحو جوف الإنسان لعلهم يرفعون عنه خبيئة الغطاء الذي يخفيه؟ ولو تتبعت مؤلفات الفلاسفة الأوروبيين خلال قرنين في ذلك الزمان، لوجدت بينها عددا ملحوظا خصصه أصحابه للبحث المفصل في حقيقة العقل الإنساني؛ كيف يدرك ما يدركه، وإلى أي مدى يستطيع أن يدرك، وما هي جوانب القصور في إدراكه . وأظنها مجموعة من المؤلفات الكاشفة عن حقيقة الإنسان من داخل، ستبقى لها مكانتها العليا في كل ما أنتجه الإنسان بعد ذلك في هذا الصدد، ولا أقول «قبل ذلك»؛ لأن غاية الباحثين قبل ذلك فيما يختص بحقيقة الحياة الإنسانية من الداخل لم تجاوز الأوليات الأولى التي تنقصها الدقة كما ينقصها الشمول.
هكذا كان الإنسان حبيس فكره الديني قبل نهضته، وهكذا انطلق في كل اتجاه ليخرج من جدران محبسه ثم أخذ يبني بعد ذلك خلال القرون الأربعة التي باءت بعد نهضته حتى يومنا هذا، أخذ يبني هذا البناء الحضاري العلمي الشاهق الذي نراه اليوم فتغير ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى في هذه الانتقالة الحضارية الثقافية بل إنها انتقالة حدثت نتيجة للتغير الذي طرأ في نفوس الناس عن ذلك الترتيب. والذي أريد له أن يكون واضحا في أذهاننا كل الوضوح، هو أن المسألة لم تكن إهمالا للدين، بل هي ترتيب جديد للطريق الفكري وخطواته بحيث يضمن للإنسان أن يكون على معرفة بالدين أدق وأوضح، وعلى معرفة بنفسه وقدراتها، وعلى معرفة عالية بالكون وما فيه. فالسؤال الكامن هنا هو هذا: أيكون الدين طريقنا إلى العلم بأنفسنا وبالكون وكائناته، أم يكون هذا العلم طريقنا إلى إيمان ديني أكثر استنارة وأشد حيوية وأوسع أفقا؟!
تلك هي صورة موجزة لما أحدثته انطلاقة الإنسان الأوروبي في نهضته مما أدى إلى انتقاله من مركب ثقافي كان يعيشه في عصوره الوسطى إلى مركب ثقافي آخر هو الذي يعيشه بصفة أساسية حتى اليوم، وكان جوهر الحركة الانتقالية، كما أسلفنا، تغييرا في ترتيب المحاور الثلاثة الأساسية في البناء الثقافي، والحق أني أحس في نفسي أني أكتب هذه الكلمات بشيء من القلق خشية أن يتعجل قارئها فيسيء فهمها، فلعل الفكرة ما زالت في حاجة إلى مزيد من الشرح؛ حتى لا يتسرب إلى ذهن قارئ ظن بأن أولوية فكرة على أخرى بين الأفكار الكبرى الثلاث؛ معناها أولوية في القيمة الذاتية وليس الأمر كذلك، على الأقل بالنسبة لهذا السياق الذي نتحدث فيه. افرض، مثلا ، أنك تدرس شجرة الإنسان ووشائج القربى لأسرة ما، فعندئذ الجد والجدة هما اللذان منهما بدأ التسلسل؟ وإن هذا التسلسل ليتدرج معك أبناء فأحفادا، فأبناء أحفاد ثم أحفاد هؤلاء الأحفاد، وهكذا تتوالى درجات التسلسل إلى أن تبلغ الغاية التي يكفيك الوقوف عندها؟ فماذا أنت قائل لمن يسألك: أيهما أجدى في دراسة شجرة الأنساب هذه، أن نبدأ من الجدود إلى أحفاد الأحفاد؟ أم نبدأ من هؤلاء الأحفاد صعودا إلى الجدود؟ فبماذا تجيب، ألا يكون جوابك هو أن أمر الأولوية هنا متوقف على ما يهدف إليه الباحث: أيهدف إلى رد الفروع إلى جذورها؟ أم يهدف إلى تعقب الجذور إلى فروعها؟ فأولوية البدء لا تعني شيئا بالنسبة إلى الأهمية والقيمة الذاتية؟ وكذلك الحال في الأولوية بين المحاور الثلاثة التي قلنا إنها تشكل الإطار الذي يقام عليه البناء الثقافي لجماعة معينة في عصر معين، فمن المألوف عند من أراد رسم صورة تبين العلاقات الرابطة بين مختلف المكونات العقلية التي منها تتألف المعرفة أن يرسم تلك الصورة على شكل هرم قاعدته عريضة ثم تتسلسل الدرجات صعودا مع ضيق في الاتساع، حتى يبلغ الذروة في نقطة صغيرة المساحة عظيمة القيمة، وذلك لأن هذه الذروة هي بمثابة المبدأ الأعلى الذي تتوالد منه سائر أفكار الإنسان درجة بعد درجة حتى تصل آخر الأمر إلى التفصيلات الجزئية على أرض الواقع المحسوس، فلو سئلنا هنا أيضا، كما سئلنا في شجرة الأنساب لأسرة ما، لو سئلنا هنا: أتكون الأولوية في تحصيل المعرفة للمبدأ العام الذي ينسل سائر الأفكار بكل درجاتها؟ أم تكون تلك الأولوية في التحصيل للأفكار التفصيلية ليصعد منها الدارس درجة بعد درجة حتى يصل إلى المبدأ العام المجرد الذي يضمها جميعا؟ وأحسب أن الجواب هنا هو كالجواب في المثل السابق وهو أن الأولوية تتوقف على نوع الدارس وهدفه، دون أن يكون لتلك الأولوية أي أثر على أهمية الموضوع وقيمته الذاتية.
وبعد هذا التوضيح فلنتجه بأبصارنا نحو حياتنا الثقافية، لنرى كيف يقوم بناؤها في إطار الأفكار الثلاثة الكبرى ثم كيف نريد له أن يكون؟ وأحسب أن الأمر في ذلك أوضح من أن يثير الجدل؟ فإذا كانت الدعوة إلى ثقافة سلفية هي الغالبة، كانت أولوية الترتيب بالتالي، هي أن الفكرة الدينية يجب أن تأتي أولا وعلى هديها تكون صورة العلم وصورة الإنسان؟ وما دام ذلك هو كذلك، كان بناؤها الثقافي - كما هو قائم بالفعل - على مبعدة بعيدة عن الصورة التي اقتضاها روح هذا العصر ممن هم بناة حضارته إذ إن هؤلاء البناة - كما أسلفنا - قد كانوا على ترتيب يشبه ما هو قائم عندنا اليوم ثم أبدلوا به ترتيبا آخر يبدأ هنا من الكون ودراسته وحينا آخر بالإنسان ودراسة مقوماته لينتهي السير في كلتا الحالتين إلى رؤية دينية تبنى على نور المعرفة. وإنه لسؤال ألقاه في أوروبا العصور الوسطى، أيام كانت في مخاض التحول إلى عصرها الحديث وهو: هل يعرف الإنسان ليؤمن، أو هو يؤمن ليعرف؟ وهكذا - في اختصار شديد - يكون الفرق بين من يريد تحديثا لحياتنا الثقافية الراهنة وبين من يريد بها سلفية. فالأول هو بمثابة من يقول: لا بد لي أن أعرف ليجيء إيماني على أساس بصير، وأما الثاني فهو بمثابة من يقول: بل لا بد لي من إيمان أولا؛ لكي تجيء المعرفة بعد ذلك في حدود ذلك الإيمان.
فإذا أردت أن تتخذ لنفسك موقفا تطمئن إليه من هذين الموقفين قارن بين رجلين وهما يتلوان قول الله سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. فأما أول الرجلين فقد قرأ الآية وحفظها ثم خرج بما حفظه إلى الكون الفسيح تأمل ظواهره. وأما الرجل الثاني فقد أتيح له أن يدرس دراسة علمية دقيقة لبعض تلك الظواهر كظاهرة الضوء أو الكهرباء أو المغناطيسية أو الجاذبية أو أتيح له أن يدرس مثل تلك الدراسة العلمية لظاهرة من ظواهر الحياة في النبات أو في الحيوان أو في الإنسان نفسه، فمثل هذا الرجل الدارس من سيرى في كل نقطة من نقاط هذا الكون اللامتناهي كلمة من كلمات ربه تملؤه بالتعظيم والإجلال والخضوع لخالق هذه المعجزات. إن عالم النبات مثلا لو تقصى جزئيات نبتة واحدة صغيرة كيف تتغذى وكيف ترتوي وكيف تنمو وكيف تدفع عن نفسها الأخطار التي قد تهدد وجودها، لوجد ذلك العالم في تلك النبتة الصغيرة من كلمات ربه ما يحتاج مجلدا ضخما يشرح شيئا من تفصيلاته، فانظر إلى الفرق بين الرجلين: الرجل الأول الذي حفظ الآية الكريمة وخرج بها إلى الكون؛ فلا يكون في وسعه إلا أن يعلم بأن الله سبحانه وتعالى خالق قادر عليم دون أن نعلم تفصيلة واحدة فوق ذلك الموقف المبهم المجرد؟ وأما الرجل الثاني بعد أن يزود نفسه بتفصيلات ظاهرة كونية واحدة وما فيها من أعاجيب تثير الدهشة والذهول، فإنه إذا ما عاد إلى الآية الكريمة، أحس أعماقها، فحقا إنه لو كان وراء البحر سبعة أبحر كلها مداد لنفد المداد قبل أن ينفد الحديث عن كلمات ربي.
وقد يقوم في ذهن قارئ هذه السطور سؤال يسأل به: أينتظر المؤمن حتى يتزود بالعلم ثم يبدأ في الإلمام بدينه أصولا وفروعا؛ وجوابنا عن سؤال كهذا هو أن نؤكد وجوب التفرقة بين أمرين: أولهما أن يتلقى المتدين عقيدته إيمانا منذ طفولته الواعية وأن يتعلم طرق العبادة ويمارسها، كل جانب منها في موعده المناسب، وأما الأمر الثاني فهو استخلاص حياة ثقافية من ذلك الدين، بالإضافة إلى ما نستخلصه من مصادر أخرى، ونحن في هذا الحديث، إنما نتناول الدين - والمصادر الأخرى - من حيث هو مقوم من مقومات البناء الثقافي.
كان أسلافنا الأولون في التاريخ العربي الإسلامي يجعلون اهتمامهم الأول في نشاطهم الفكري لموضوعات تفرعت لهم عن العقيدة الدينية ذاتها، ولم يكن لهم من ذلك بد لأنهم وجدوا أنفسهم أمام دين جديد آمنوا به، وحسبنا أن نستعرض مدارس الفكر ماذا كانت، وفي أي الموضوعات كسبوا فاعليتهم العقلية، ولنا في هذا الصدد أن نأخذ بما ذكره الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» عن تلك المدارس إذ قال إنها أربع: الفلاسفة والمتكلمون والباطنية (ويسميهم التعليميين) والمتصوفة، فأما الفلاسفة فكلنا يعلم أن طريقهم في التفكير هو أن يوازنوا بين ما ورد في فلسفة اليونان الأقدمين، وبين ما جاء به الإسلام في مبادئه وعقائده، ليروا إن كان ما بينهما اتفاقا أو اختلافا، وذلك ليخلصوا لأنفسهم برؤية فلسفية عربية إسلامية، فإذا كان هذا هكذا، فلماذا لا يصنع فلاسفتنا اليوم صنيع أسلافهم لكنهم في هذه الحالة لا بد أن يضيفوا إلى فلسفة اليونان القدماء، ما استحدث بعدهم من فلسفات في الغرب الحديث والمعاصر، ومعنى ذلك قصور الدعوة السلفية عن إشباع الحاجة عندنا نحن العرب في يوم الناس هذا، وأما عن جماعة المتكلمين فقد كان هدفهم هو أن يقيموا الأدلة العقلية على موضوعات وردت في العقيدة الإسلامية مثل وجود الله ووحدانية الله، والصفات الإلهية وعلاقتها بالذات كالعلم والإرادة والعدل وغيرها والقضاء والقدر، وهكذا. فتلك الموضوعات وما يشبهها كانت هي الشغل الشاغل لجماعة المتكلمين، ونحن اليوم نسأل السؤال الذي ذكرناه فيما قدمناه وأجبنا عنه، نسأل أيهما أوصل بالمؤمن إلى الصورة الواضحة: أن نبحث في يومنا هذا تلك الموضوعات ذاتها التي أشبعها القدماء بحثا أم نجعل طريقنا إلى فهمها معرفة علمية دقيقة وواسعة بما في هذا الكون العظيم من كائنات، وعندئذ تتسع آفاقنا بمقدار ما درسنا لنفهم عن علم الله سبحانه وقدرته ووحدانيته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى فهما أدق وأعمق. وما قلناه عن جماعة الفلاسفة وجماعة المتكلمين في أقسام الغزالي الأربعة، نقول ما يشبهه عن «التعليميين» «جماعة الباطنية» من المتصوفة، فكل تلك الجماعات في الحياة الفكرية عند أسلافنا بحثت عن المعرفة في الموضوعات الدينية بادئة بها ومنتهية بها، فهل نجيء نحن في عصرنا لنكرر الشيء نفسه أو أن الطريق الأمثل بالنسبة لعصرنا أن نصل إلى الهدف ذاته عن طريق آخر؟
إن أولئك الذين يتمنون لنا أن تجيء حياتنا الثقافية اليوم صورة كربونية من حياة أسلافنا يفوتهم أن هؤلاء الأسلاف أنفسهم لم يكونوا على رأي واحد، بل اعتركوا بعضهم مع بعض فتكونت منهم فرق (جمع فرقة) على نحو ما نتشعب نحن اليوم تيارات ومدارس، فاقرأ - مثلا - كتاب ابن رشد «مناهج الأدلة في عقائد الملة» لترى صورة حية عن مجادلاتهم بعضهم مع بعض، فكما يدلك عنوان كتابه نرى ابن رشد يستعرض مناهج التفكير عند جماعات المتكلمين من معتزلة وأشعرية وغيرهما، كما يتناول كذلك مناهج المتصوفة ليبين في جلاء ناصع كيف أن أولئك وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل منهجيا حينما تناولوا عقائد المسلمين بالبحث والتدليل، وكان من طريف ما ذكره ابن رشد في هذا الكتاب - وكان ذلك قرب نهاية الكتاب - أن تلك الجماعات كلها قد انحرفت عن ظاهر النص القرآني الكريم قليلا أو كثيرا؛ وقال ما معناه: إن الموقف يشبه أن يكون طبيبا ماهرا قد ركب دواء يصلح لشفاء علة يمرض بها كثيرون؛ فيجيء مريض معين ليجد أن الدواء العظيم لم يلائم حالته الخاصة؛ فيدخل تعديلا في تركيب الدواء بحذف بعض عناصره التي ظن أنها هي التي باعدت بينه وبين الشفاء، فلا يلبث أن تلتف حوله جماعة تأخذ عنه هذا التعديل إلى أن تسوق الأيام مريضا آخر من هذه الجماعة الجديدة، لا يجد ملاءمة بين مرضه الخاص وبين الدواء المعدل فيلجأ بدوره إلى تعديل التعديل ويخرج إلى الناس بوصفة جديدة وتبعه فيها من يتبعه وهكذا دواليك. وذلك بعينه هو ما قد حدث - هكذا يقول ابن رشد ما معناه - للجماعات الفكرية، ثم يقول في آخر عبارته تلك ما نصه: وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية، ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد (الغزالي) فطم الوادي على القرى، واستطرد ابن رشد في حديثه عن الغزالي ليبين كيف أخطأ السبيل وكلنا نعرف شيئا عن تلك المواجهة الفكرية بين الرجلين حتى لتعد نموذجا فريدا لليقظة العلمية الثقافية، كيف يكون الأخذ والرد بين رءوس الأمة القوية، وذلك برغم أن الرجلين الإمام أبو حامد الغزالي والفيلسوف ابن رشد كان بينهما في الزمن بضع عشرات من السنين، فقد ألف الغزالي كتابه المشهور تهافت الفلاسفة ليبين فيه كيف أن فلسفة اليونان متمثلة في أرسطو وانعكست عند العرب في ابن سينا إنما هي كالبناء المتداعي لما تشتمل عليه من متناقضات وتمضي بضع عشرات من السنين بعد موت الغزالي في المشرق الإسلامي ليظهر ابن رشد في المغرب الإسلامي - في الأندلس - فيخرج بدوره كتابه «تهافت التهافت» قاصدا أن يبين أن المتناقض المتداعي بناؤه هو أبو حامد الغزالي في مؤلفه، وليس هو أرسطو اليوناني كما انعكست صورته في كتب ابن سينا.
فمن من هؤلاء المتعاركين في ساحة الفكر بين أسلافنا، هو من يريد أصحاب الدعوة إلى ثقافة سلفية أن يعودوا إليه أو أن يعيدوه حيا إليهم؟ كلا إنه عصر جديد لنا لا بد أن نعيشه قولا وتعديلا؟ ولكن ذلك يقتضي بحكم الضرورة أن تكون لنا في ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى صورة جديدة.
أفكار تحيا وأفكار تموت
كائنات كسائر الكائنات، تحيا وتموت: منها ما يولد ميتا، ومنها ما تمتد به الحياة حينا، ومنها ما كتب له الخلود، إنها كسائر الأحياء، تريد لنفسها الأجواء، الصالحة لبقائها، فبعض الأحياء يسبح في الماء، وبعضها يزحف على يابس الأرض أو يمشي على أرجل، وبعضها الآخر مجنح يطير في جو السماء؛ وإنها لكالجياد في مضمار السباق، فجياد تسقط في بعض الطريق، وجياد حرة كريمة تصمد إلى آخر الشوط؛ والعجب هو من إنسان لا يطيب له العيش إلا مع أفكار أصابها الإعياء في بعض الطريق فماتت، فتعفنت، أو حنطت لتبقى هياكلها هامدة في توابيتها على سبيل الذكرى.
وأما الأفكار التي هي كالطير الذي يضرب الهواء بأجنحته القوية، مخترقا طريقه فوق رءوس الزمن، محتفظا في يومه بقوته التي كانت له في أمسه، قريبه وبعيده، والتي سوف تكون له في غده، وما بعد الغد، وربما إلى آخر الدهر، فهي الأفكار التي ألقت عن ظهورها أثقال اللحظة العابرة، ولم يبق من الفكرة القوية إلا إطارها؛ وبذلك تخففت من أحمال الحجر والحصى، ليبقى الجوهر الثابت؛ ومن ثم استطاعت أن تطير عبر الزمان بهياكل تأخذ من كل عصر لحمه ودمه فتكتسي بما يلائم ذلك العصر؛ حتى إذا ما أدبرت أيامه عادت الفكرة القوية فخلعت عن هيكلها ذلك الحشو المؤقت لتنتقل إلى عصر جديد فيمتلئ إطارها بمضمون جديد، وهكذا دواليك عصرا بعد عصر على طول الزمن.
الأفكار القوية بحياة متجددة، هي كالغرف في فندق ممتاز، يشغلها الزائرون زائرا بعد زائر؛ فيراها كل زائر وكأنها جديدة بنت يومها، بنيت الآن من أجله هو، وذلك لأنها تنقي جدرانها وأثاثها من ضرورات الأمس، لتستقبل يوما جديدا له ضروراته الجديدة؛ وإذا لم يعجبك تشبيه الأفكار الشريفة بغرف الفنادق تخلو وتمتلئ، ثم تمتلئ لتخلو، محتفظة لنفسها بشروط الدوام؛ فانتقل معي إلى ميادين العلم؛ تجد ما شئت من أمثلة، فيها ما قد رأيناه في غرف الفنادق التي يتوالى عليها النزلاء، من صفات تجعلها صالحة في يومها بما صلحت به في أمسها، وما سوف تصلح به في غدها؛ وابدأ فخذ المثل من أية حقيقة في أي علم من علوم الرياضة؛ ولنجعل مثلنا الذي نختاره بسيطا ليكون واضحا، فخذ هذه المعادلة العددية: 3 + 4 = 7؛ فهي - كما تعلم - حقيقة لا يغير من صدقها طول الزمن، كلا ولا يغير من صدقها تغير المكان؛ فما الذي أكسبها هذه الحصانة؟ الذي أكسبها تلك الحصانة التي ضمنت لها البقاء، أنها لم تثقل هيكلها بمضمون معين، قد يوجد اليوم ولا يوجد غدا؛ فالأمر فيها يشبه الملابس الجاهزة، يلبسها من جاءت على قده؛ فهي لم تشترط مادة معينة يكون منها الثلاثة ويكون منها الأربعة أيضا، حتى يمكن أن يكون حاصل جمعها سبعة؛ إذ هي تصلح على أفراد الناس، وعلى الأنهار، وعلى حبات البرتقال، وعلى أي نوع شئت من أنواع الكائنات؛ وهي في كل حالة من حالات استعمالها، تفرغ نفسها من كل ما قد ملأها قبل ذلك، لتضع نفسها بين يديك؛ هيكلا خالصا بإطاره، لتملأه أنت بما عندك من أشياء وغير أشياء.
وهذا الذي قلناه عن الصياغات الرياضية بشتى أنواعها، نقول ما يقرب منه، عن أي قانون علمي في أي ميدان من ميادين البحث في ظواهر الطبيعة: فقوانين العلوم الطبيعية هي الأخرى صور مفرغة من مضموناتها العينية، لكي يملأها كل بمضمونات مما يقع له في بيئته ؛ فإذا قلنا مثلا إنه مع ارتفاع الأرض تقل درجة الحرارة، فنحن قد تركنا تفصيلات المكان؛ أين؟ وما نوع الارتفاع؟ فقد يكون ارتفاعا على قمة جبل في كينيا، وقد يكون ارتفاعا في عمارة شاهقة في القاهرة، وقد يكون ارتفاعا في طائرة فوق الصحراء؛ وإذا قلنا إن العصا المغموسة في الماء تبدو للعين مكسورة، فقد تركنا كل تفصيلات الموقف مكانا وزمانا وعصيا وأعينا؛ وإذا قلنا إن السلعة إذا زاد المعروض منها في السوق على طلب الناس، مال سعرها نحو الانخفاض؛ فقد أسقطنا من الحساب ذكر تفصيلات الحدوث: أي سلعة؟ وأي ناس؟ وهكذا قل في كل فكرة علمية.
بل إن ذلك القول نفسه يصدق على أي حكم عام - حتى ولو لم يكن مأخوذا من دنيا العلوم، وكان تكثيفا لخبرة بشرية في شيء مما يتصل بحياة الإنسان؛ وهو ما نسميه «بالحكمة» فإذا قال المتنبي: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنن أن الليث يبتسم» قاصدا بذلك أن يقول إن المظاهر كثيرا ما تخدع الناس عن الحقائق التي تكمن وراءها، فهو إنما يقدم بذلك فكرة تدوم ما دامت حياة، لأنها استخرجت من تفصيلات الواقع العيني ما يشبه أن يكون إطارا مفرغا، ليملأه كل إنسان بمادة من الحياة التي حوله.
هذا ما قصدت إليه حين قلت إن الأفكار الخالدة التي تحيا مع الناس على امتداد الزمن؛ هي «صور» أو «أطر» مفرغة من مادتها، وتفريغها هذا يتدرج مع درجات قابليتها للبقاء؛ فأكثرها تجريدا وتفريغا أكثرها بقاء وأوسعها شمولا؛ وكلما زادت فيها مقادير الحشو المادي الذي يربطها بمكان معين أو بزمان معين، كانت أسرع إلى الزوال سرعة تتناسب مع حشوها؛ فإذا قلت - مثلا: «الناس يرتدون الثياب.» فقد قلت حقيقة إنسانية على كثير جدا من التجريد، ولذلك فهو قول يكاد يصدق على كل مجموعات البشر أينما كانوا وأنى كانوا؛ لأنك تركت فكرة ارتداء الثياب مطلقة من القيد الذي يحدد صورتها؛ ولكن زد هذه الصورة بما يقيدها، كأن تقول عن الناس إنهم يلبسون ثيابا من صوف الغنم، فعندئذ ترى أن دائرة الصدق التطبيقي قد ضاقت؛ وبالتالي فلم يعد للفكرة كل ما كان لها من الدوام والشمول؛ وعلى الأساس نفسه، إذا قلت بأن النساء يراعين الحشمة في ثيابهن، كانت الصورة أقدر على البقاء، مما لو قلت إن النساء يراعين في الثوب أن يكون على طول معين وسعة معينة، لأن هذا التقييد في الوصف يضيع على الفكرة بعض صلاحيتها للدوام، وهكذا.
على أن الفكرة التي يتوافر لها قدر كاف من «الصورية» فيكون لها - بالتالي - قدرة على الصمود عبر الزمن، تتطلب شرطا آخر كي تتم لها هذه القدرة على البقاء، وذلك أنها يجب أن تقع على تربة اجتماعية تمكنها من الوجود ومن النماء؛ ولنأخذ مثلا فكرة «الحرية» فبادئ ذي بدء لا بد من ملاحظة أن فكرة «الحرية» إنما هي فكرة إطارية - أو صورية - إلى حد كبير، وهي ذات مضمون معين إلى حد صغير؛ فمهما بحثت عن تعريف يبين حقيقة «الحرية» فأنت مضطر آخر الأمر إلى الوقوف عند درجة معينة من التجريد؛ فقد تقول - مثلا - إن الحرية هي فك القيود، فيبقى السؤال: أي قيود؟ وهنا ترى كيف أن الأمر قد ترك لكل موقف وظروفه، ولكل عصر وقيوده؛ فقد يقف الأمر عند حد تفك فيه الرقاب، بمعنى ألا يكون بين الناس رق، بحيث لا يملك إنسان إنسانا آخر ملكيته للماشية والأثاث؛ لكن إلغاء الرق لا يتضمن بالضرورة إلغاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي - الذي يقسم الناس طبقات - ثم يستتبع ذلك أن يكون إنسان في حاجة ماسة إلى إنسان آخر يمده بأسباب العمل والعيش، حتى لو أدى ذلك بالأعلى أن يستغل الأدنى وأن يستذله؛ وهكذا تبقى «الحرية» فكرة مرهونة بظروف تطبيقها، يملؤها كل عصر - وكل مجتمع - بما عنده من تفصيلات الثقافة العامة التي يعيشها؛ ومن هنا رأينا شعوبا كثيرة ترفع لواء الحرية في حياتها، ثم تنظر فإذا أنت أمام أنماط من الحياة ملئت بالقيود أشكالا وألوانا، وهكذا الحال في فكرة الديمقراطية وما إليها من أفكار إطارية تتنوع فيها أنماط الحشو الفعلي الذي يملأ ما بين جدرانها من فراغ ؛ لكن هذا التنوع الشديد في مضمونات الفكرة، لا يحجب الرؤية أمام البصائر القادرة؛ لأنه ما دام هنالك «تعريف» نموذجي للفكرة - كفكرة «الحرية» - وهو أن تفك عن الإنسان قيوده، فيصبح في حدود الإمكان النظري أن نرتب التنويعات الكثيرة في أشكال التطبيق، ترتيبا يبين أي الشعوب اقتربت بحريتها من التعريف، وأيها ابتعد، وذلك بالطبع بعد أن نحلل «القيود» وأنواعها، إذ قد يكون القيد غلا من حديد في الأيدي والأقدام، وقد يكون فقرا شديدا بجماعة من الناس، يدفعهم إلى الحاجة، ومن ثم يدفعهم إلى الخضوع، وقد يكون جهلا بما للإنسان من حقوق، وقد يكون مجموعة من التقاليد الحديدية التي تكتم الأنفاس، وهكذا.
خذ فكرة «الديمقراطية» في معظم أقطار «العالم الثالث»؛ فالديمقراطية - كالحرية - فكرة إطارية يختلف فيها الحشو المضموني، من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى آخر، والذي أمدها بالدوام هو صوريتها هذه؛ إذ يكفي لتعريفها أن يقال إن الأمر يكون شورى بين الناس، أو بعبارة أخرى تشيع اليوم، أن يكون صنع القرار متروكا للشعب، ما دام القرار ماسا بجانب من جوانب الحياة المشتركة بين الناس؛ لكن هذه الصورة العامة المجردة، إذا لم تجد تربة اجتماعية تخلو من التقاليد التي قد تحول دون أن تكون تلك الشورى على وجهها الصحيح ممكنة الحدوث، وفي هذه الحالة يظل الناس يقولون عن حياتهم إنها تجري تحت مظلة «الديمقراطية» بغض النظر عن تلك الحوائل التي تجعل لزيد من الناس رأيا أرجح من رأي عمرو، لأنه أغنى، أو لأنه أقوى أسرة، أو أعلى منصبا، أو غير ذلك؛ ولقد بلغ بنا خلط فكري كهذا إلى حد أن نصيح بالديمقراطية ثم نقول في الوقت نفسه إننا نأخذ بتقليد يجعل الأمة «أسرة» ويجعل رئيس الدولة أبا لتلك الأسرة؛ وبهذا الخلط ضاعت من أبصارنا الحدود الفاصلة بين طبيعة الحياة الاجتماعية «داخل» الأسرة، وطبيعة تلك الحياة «خارج» الأسرة؛ فداخل البناء الأسري لا ديمقراطية في صنع القرار، وذلك بحكم طبيعة التركيب الأسري؛ ففي الأسرة والدان وأبناء كبار وصغار، ولا ضير في أن يؤخذ رأي الأعضاء جميعا إزاء مشروع معين، حتى إذا ما جاءت لحظة «القرار» كان الأمر لواحد فقط، هو رب الأسرة كما اعتاد الناس أن يصفوا الوالد؛ تلك هي طبائع الأمور؛ وإنك لتجد هذه الصورة نفسها في الجيش وهو في ميدان القتال، أو في السفينة وهي في عرض البحار؛ كل هذه الحالات لا ديمقراطية فيها بحكم طبيعة تكوينها، وإن تكن مما يلجأ صاحب الأمر فيها إلى «الشورى» فكما قد يلجأ الوالد في الأسرة إلى استطلاع آراء زوجته وأبنائه، كذلك قد يلجأ قائد الجيش في ميدان القتال إلى استطلاع ضباطه وجنوده، أو قد يلجأ ربان السفينة إلى استطلاع آراء معاونيه؛ أما «القرار» في هذه الحالات كلها، فمتروك لمسئول واحد؛ ومعنى هذا أن هذه كلها ضروب من النظم لا ديمقراطية فيها عند صنع القرار.
وأما «خارج» الأسرة، عندما يكون الأمر أمر مواطنين ووطن، فلا بد من ديمقراطية القرار؛ في كل هيئة تتولى شأنا من الشئون العامة، فحتى لو فرضنا أن والدا وولده اجتمعا معا عضوين في مجلس الشعب، أو في مجلس إدارة إحدى المؤسسات، أو فيما يشبه ذلك، فعندئذ لا تكون للوالد أبوة في الرأي على ابنه، لأنهما قد أصبحا «خارج» الأسرة، وإزاء موضوع وطني عام؛ وقد نذكر ونحن في هذا السياق من الحديث، أن القرآن الكريم، في تحديده للعلاقة بين الولد ووالده، قد بين هذا الفرق بين أن يكون حيال مسألة أسرية، وعندئذ تصبح طاعة الولد لولده واجبة، وأن يكون الموقف متعلقا بالدين وعقائده وفروضه، فها هنا ترتفع الطاعة عن الولد، وإن بقي عليه واجب الرعاية والعطف؛ فما بالك - إذن - أن يحدث خلط في حياتنا السياسية، يؤدي بنا إلى الجمع - عن غير وعي - بين أن يكون رئيس الدولة منتخبا من الشعب (وانتخابه هذا نوع من «القرار») وأن يكون هذا الرئيس نفسه، وفي الوقت نفسه، على علاقة مع الشعب توازي علاقة رب الأسرة مع سائر أعضائها؟ لست أشك هنا في حسن النوايا، ولكنني أشك في وضوح المعنى عندما نستخدم كلمة «ديمقراطية» وكلمة «أسرة» على النحو الذي يخلط بينهما في صورة أخذ القرار.
وإنما أردت بهذا الاستطراد أن أوضح أمرين: أولهما أن أفكارا «كالحرية» و«الديمقراطية» هي من الأفكار المزودة بما يعين على دوام قيامها مثلا عليا في حياة الناس، لأنها - كما قلت - أقرب إلى «الإطار» منها إلى تعيين المضمون؟ وأما الأمر الثاني، فهو أن تلك الأفكار وأشباهها، لا تحيا وفق نموذجها الأسمى إلا في مجتمعات خلت من قيود أخرى قد تعرقل تساميها.
وأريد أن أتوسع مع القارئ في الفكرة التي طرحتها عن الأفكار الإطارية، التي حاولت أن أوضح بها الصفة التي يجب أن تتصف بها الأفكار التي تصمد على الزمن؛ أقول إني أريد الآن أن أتوسع قليلا مع القارئ لعلنا نزداد إيضاحا ووضوحا؛ إذ قد تكون الإضافة، التي سأضيفها، ذات نفع كبير في إلقاء ضوء على مشكلة تراثنا وضرورة إحيائه، ليكون جزءا لا يتجزأ من حياتنا الثقافية اليوم؛ وأما تلك الإضافة التي أردتها، فهي أن «إطارية» الفكرة التي يراد لها أن تدوم، إنما هي صفة تمتد حتى تشمل «الأسماء» التي يطلقها الإنسان على مجموعات الأشياء المتشابهة، كاسم «نبات» الذي يطلق على أسرة ضخمة من الكائنات، التي وإن اختلف بعضها عن بعض، إلا أنها جميعا ترتبط بمثل ما يرتبط به أفراد الأسرة الواحدة؛ واسم «حيوان» واسم «منزل» واسم «نهر» و«مدينة» و«نجم» و«إنسان» وسائر «الأسماء» التي تشتمل عليها لغة من اللغات؛ بل إن كل لفظ من ألفاظ اللغة قد يعد «اسما» بمعنى من معاني هذه الكلمة؛ إذ ما يقول عنه علم النحو إنه «فعل» أو إنه «حرف» فهو إنما يسمى شيئا ما، ففعل «يمشي» مثلا، يشير إلى حركة معينة نعرفها، ونعرف أنها هي التي يشار إليها بذلك اللفظ؛ والحرف «في» وإن يكن حرفا في علم النحو، إلا أنه أيضا اسم نشير به إلى «علاقة» معينة تربط شيئين، كأن أقول إن القلم «في» جيبي، وإذا كان هكذا، جاز لنا أن نقول إن كل لفظة من ألفاظ اللغة، هي - فوق صفتها الخصوصية - اسم نسمي به شيئا، أو حركة، أو علاقة.
والآن فلننظر كيف تتم لأبناء اللغة الواحدة عملية التسمية هذه. هنالك إجابات كثيرة عن هذا السؤال، يكفينا منها الآن، بالنسبة لما نحن بصدد الحديث فيه، أن نقول: إن كل اسم في اللغة إنما هو تلخيص لحياة طويلة مارس فيها أبناء اللغة خبرات كثيرة في تعاملهم مع المحيط الذي يعيشون فيه. وهم إذ يمارسون حياتهم العملية، إنما يمارسونها مع أشياء مفردة، أو مواقف مفردة؛ فكل ما هو موجود في دنيا الواقع مفردات، لكنه يتعذر، بل يستحيل استحالة تامة، على أي إنسان أن يحتفظ في ذاكرته بمفردات الحياة العملية التي عاشها مفردا؛ فكم من مفردات النبات، وكم من مفردات الطير والحيوان، وكم من مفردات الجماد، وكم من أفراد الإنسان! فماذا هو صانع - إذن - إزاء هذا الخضم الذي لا ينتهي عند حد؟ إنه بقدرة عقلية في فطرته، يجمع بفاعلية ذهنية معينة، المفردات المتشابهة، ويكون منها بخياله أسرة واحدة، يطلق عليها اسما واحدا، فيتعارف الناس على هذا الاسم ليستخدموه؛ إلا أنهم حين يلخصون نوعا بأسرة من الكائنات في اسم واحد، يضطرون إلى تجاهل الخصائص الكثيرة التي يختلف فيها أفراد النوع الواحد من الكائنات، فلكل شجرة خصائصها دون سائر الشجر، ولكل نهر، ولكل جبل، ولكل مدينة، فما الذي يبقى من الخصائص، لنضمه معا بخيالنا في صورة واحدة، ونطلق عليه اسما واحدا نتعارف عليه؟ إن الذي يبقى هو أقرب إلى «إطار» أجوف، أضلاعه تنم عن الخصائص الجوهرية الهامة، وأما الحشو المضموني الذي يملأ ذلك الإطار، والذي لا يكون الكائن كائنا بدونه، فيسقط من الحساب؛ ومعنى هذا كله أن أسماء اللغة الواحدة (وكل مفردات اللغة هي بوجه من الوجوه أسماء) إنما تستطيع البقاء على مر القرون، تنتقل خلالها من جيل إلى جيل، بفضل كونها إطارية البناء.
وتترتب على هذا التحليل نتيجة بالغة الأهمية والخطورة، فيما يختص بموقف أي إنسان من التراث الثقافي الذي ورثه عن أسلافه، وتلك النتيجة هي أننا اليوم، وإن كنا نتكلم اللغة العربية التي تكلمها أسلافنا، ونستطيع قراءة ما كتبوه وخلفوه لنا ميراثا من فكر وأدب وغيرهما مما تحمله الصفحات المكتوبة؛ إلا أنه من المرجح جدا أن تكون الدلالات اللفظية قد تغيرت مع تغير العصور، فكلمة «منزل» - مثلا - أو كلمة «مدينة»، أو أي كلمة أخرى من ذوات الدلالة الحضارية، لا بد أن تكون قد تغيرت في معناها الحقيقي الذي ترمز إليه، لماذا؟ لأن أبناء كل عصر، يفهمون الاسم المعين، على أساس مفرداته العينية الموجودة في الواقع الخارجي، فالقاهري يفهم كلمة «منزل» على صورة تختلف عما يتصوره منها ساكن الريف، ودع عنك ما كان يتصوره منها عربي عاش منذ عشرة قرون؟ ولهذا وجب علينا - ونحن نقرأ لأسلافنا ما خلفوه لنا - أن نقف وقفات طويلة، خصوصا إذا كنا إزاء فكرة لها صداها في حياتنا العملية، لنتبين ما الذي كانت تعنيه لفظة معينة عند أبناء فترة زمنية معينة؛ إذ المشترك بيننا وبينهم هو صورة «الاسم» وأما «المسمى» بهذا الاسم فيتعرض لاختلافات هينة حينا، شديدة حينا. وإننا لنلاحظ أن مخرجي الروايات في المسرح أو السينما، يعنون بهذا الجانب الاجتماعي المتغير، حين يعدون ثياب الممثلين، أو يعدون قطع الأثاث؛ فلا خلاف بيننا وبين السلف في أي عصر من التاريخ العربي، على الاسم «كرسي» أو «منضدة» أو «جلباب»، ولكن يبدأ الخلاف والاختلاف بين أبناء العصور، حين ننتقل من الأسماء إلى مسمياتها.
إن معاني الاسم الواحد في اللغة الواحدة، إذا كانت تبدو وكأنها مشتركة بين أبناء تلك اللغة على تعاقب عصورهم، إلا أن الأشكال التي تتجسد فيها تلك المعاني تختلف اختلافات بعيدة بين عصر وعصر في كثير جدا من الأحيان؛ لقد شاء لي الحظ الحسن ذات صيف أن أشهد وأن أسمع على شاشة التلفزيون في إنجلترا، فنان النحت العظيم هنري مور، وكان ذلك في مناسبة عيد ميلاده الثمانين (سنة 1978م) والذين يعرفون الطريقة التي يقيم بها «مور» منحوتاته؛ يعلمون كم هي تختلف عن فن النحت كما كان معروفا من قبل؛ فلقد كان المألوف أن ينحت الفنان صورة إنسان، أو فارس على جواده والحربة في يده، وما شاكل ذلك؛ فجاء هنري مور ليقدم كومة من «كراكيب» حجرية، مستند بعضها إلى بعض بصورة ما في عمل نحتي معين، فهذه كرة ضخمة من حجر، يستند إليها حجر ضخم أسطواني الشكل، وأسفلها قرص من الحجر به ثقب كبير، وهكذا؛ فسأله المذيع: بم تفسر الاختلاف البعيد في منحوتاتك عن فن النحت كما عرفه فنانو عصر النهضة الأوروبية؟ فجاء الجواب مثيرا للعجب، أذهل المذيع، وأذهلني، كما لا بد أن يكون قد أذهل سائر من يشهدون ويسمعون، إذ أجاب الرجل قائلا: إنه لا اختلاف بيني وبين رجال النهضة؟ ولكن كيف ذلك وعين الرائي ترى بينكما بعدا بعيدا؟ قال: إن المعول عليه في الفن هو «الشكل التكويني» (أي «الفورم») وأنا أراعي «الفورم» بنفس الدقة التي راعى بها رجال النهضة «الفورم» في منحوتاتهم؛ إذن فالمسألة هي «اسم» لغوي ومعناه في عصرين مختلفين، فلا اختلاف بينهما على الاسم «فورم» ولكن الاختلاف هو فيما يشير إليه بهذا الاسم.
ولعل هذه أن تكون هي اللحظة المناسبة التي ننتقل عندها بالحديث إلى الشعر العربي في بعض صوره الجديدة؛ إننا إذا كنا ندير كلامنا حول «تحديث الثقافة العربية» فلا شك في أن أولى الموضوعات باهتمامنا، يجب أن يكون «الأدب»؛ والشعر هو من الأدب بمثابة الزهرة من الشجرة. ولماذا الأدب؟ لأن جوهر النسيج الثقافي في كل زمان وفي كل مكان ليس هو «المعلومات» المعينة التي يعرفها أفراد الأمة المعينة، وإنما جوهر الثقافة هو ما بث في حياة الناس من قيم تضبط لهم الفوارق بين الحسن المقبول والقبيح المرفوض؛ ومصادر تلك القيم كثيرة، ولكن الأدب عموما والشعر خصوصا هو من أهم تلك المصادر؟ وذلك لأن الموضوع الأساسي للأدب شعرا ونثرا، هو «الإنسان» فحتى إذا تحدث الأديب عن شيء يبدو وكأنه يتحدث عن الطبيعة، إلا أن الجوهر الكامن لا بد أن يكون في نهاية الأمر علاقة الإنسان بما هو موضوع للحديث؟ إنه إذا كان «العلم» يطبعن الإنسان (أعني يجعله كأي ظاهرة أخرى من ظواهر الطبيعة) فإن الأدب، والشعر منه بصفة خاصة، يؤنس الطبيعة ؛ أعني أنه يبث فيها من حياته حياة، وكأن ما فيها هم مخلوقات بشرية يتبادل معهم الشاعر اللفتات والومضات والمشاعر.
والشاعر العربي المعاصر يشارك جدوده الشعراء كنيتهم، فهو «شاعر عربي» وهم «شعراء عرب». وبديهي - إذن - أن يكون في هذا النسب الثقافي بينه وبينهم رابطة تشبه التي بين فرد من أسرة معينة مع بقية أفرادها؟ ولتختلف فردية كل فرد بطابعها المميز عن بقية الأفراد في الأسرة الواحدة، إلا أن ذلك لا ينفي أن تظل الرابطة التي تربطهم جميعا في أسرة واحدة، قائمة، وإلا انفرطت حبات العقد ولم تعد عقدا! فماذا عساها أن تكون تلك الرابطة؟ إننا لو عثرنا عليها كنا بمثابة من عثر - في الوقت نفسه - على معيار نقدي فاصل بين من يجوز له الدخول في زمرة الشعراء العرب ومن لا يجوز له ذلك؟ وقد يسارع قارئ فيقول: لماذا لا تكون تلك الرابطة التي تبحث عنها هي «اللغة العربية» ولا شيء إلا هذا، بحيث يكون لأبناء كل عصر في التاريخ العربي، أن يقول الشعر على أي نحو أراد، وحسبه أن تكون اللغة العربية هي وسيلة الأداء. ونحن نصحح هذا السائل، فنقول أولا: إن هناك بيننا من يقول شعره في عامية مصرية، زاعما أن هذه عنده هي «اللغة العربية» إذن تكون عبارة «اللغة العربية» - كما استخدمها صاحب السؤال - بحاجة إلى تحديد. وثانيا: إذا كان استخدام «اللغة العربية» وحده هو الفيصل، فلماذا لا يدعي المتكلم باللغة العربية أي ضرب من ضروب الكلام أنه شاعر؟ فإذا احتج علينا صاحب السؤال بقوله: كلا، بل نحن نتحدث عن الشعر، وللشعر شروطه في طريقة الكلام، أجبناه بأنه ما دام قد أدخل نفسه في «شروط» ينبغي لها أن تتحقق ليكون الكلام شعرا، فقد عرض نفسه لسؤال أهم، وهو: وماذا تكون تلك الشروط، التي تحت مظلتها يقف الشاعر العربي المعاصر مع سائر الشعراء العرب في مختلف العصور؟
أما أنا فالجواب عندي، عن سؤال يسأل عن الرابطة التي تربط أسرة الشعراء العرب حديثهم مع قديمهم، برغم اختلافات العصور، واختلافات الشعراء الأفراد في كل عصر واحد، أقول: إن جوابي عن هذا السؤال، جواب يثير الذعر في الكثرة الغالبة من المعاصرين ومن الشعراء بين هؤلاء المعاصرين بصفة خاصة؟ وذلك لأن الجواب عندي هو أن يلتزم الشاعر العربي، كائنا ما كان عصره، وكائنة ما كانت مميزاته الفردية، أن يلتزم «عمود الشعر» ... ألم أقل لك أنه جواب يثير الذعر، لكن ذلك الذعر يزول معظمه إذا تمهلنا بضع دقائق لنعرف ما هو «عمود الشعر» الذي دار حوله لغط كثير حتى بين القدماء أنفسهم: فلسوء حظنا نحن قراء الشعر ومتذوقيه، أن يساء فهم هذه العبارة إساءة أساءت إلى الشعر العربي لا سيما في عصرنا هذا؟ إذ يسبق ظن خاطئ إلى كثيرين بأن المقصود بعبارة «عمود الشعر» هو التزام الوزن والقافية. ولما كان شعراؤنا الجدد لا يميل بعضهم إلى هذا الالتزام، فهو يرفضه، «ليبرطع» بالألفاظ وسطورها كما شاء له هواه ثم يقول للناس هاكم شعرا «عربيا»!
لكن عمود الشعر هو أساس مركب من سبع صفات، ذكرها وشرحها «المرزوقي» في مقدمته التي قدم بها شرحه ل «ديوان الحماسة» الذي هو مجموعة المختارات التي اختارها أبو تمام مما عده أجود الشعر؟ وسأنقل عبارة «المرزوقي» بنصها، لأختم بها حديثي، تاركا للقارئ خصوصا إذا كان شاعرا، أو ناقدا للشعر، أن يتدبرها جيدا، وإنني لعلى يقين بأنه واجد في هذه الصفات السبع مأخوذة معا، أفضل إطار ممكن، يستطيع كل فرد أن يتميز فيه بفرديته، لكنه إطار يضمن لفكرة «عمود الشعر» أن تدوم على امتداد الزمن، رباطا أوثق رباط بين الأفراد في أسرة الشعر العربي، وهذه هي عبارة «المرزوقي» في تحديد الصفات السبع: «إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، ثم المقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم وتخير الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة.»
لكم تمنيت أن يتسع المكان لأصب على هذه العبارة المعيارية المكثفة تحليلا شارحا، كان من شأنه أن يطرد الفزع عن نفوس الشعراء، ففي هذا المعيار ما يضمن للشاعر العربي الجديد، أن يكون «شاعرا عربيا» وأن يكون «جديدا».
خصوصية الثقافة ما مداها؟
تعالوا نبدأ حديثنا من الصفر، لعلنا نستطيع السير معا، خطوة بعد خطوة، حتى ننتهي إلى نتيجة نلتقي عندها، وعندئذ يمكن النظر في القضية المعروضة على نحو عملي مفيد، والقضية هي - كما ترى - عن تحديث الثقافة العربية وكيف يكون؟
فهنالك شيء اسمه «ثقافة عربية» كان قائما، ولم يزل قائما، وسيظل أبد الدهر قائما! على أن هذا الاسم المطلق العام، إنما هو اسم يشير إلى مجموعة من ثقافات إقليمية، تشترك كلها في جوهر مشترك، ثم تعود فيتميز بعضها عن بعض بخصائص فارقة، فهناك ثقافة مصرية «أو قل وادي النيل» وثقافة تعم الهلال الخصيب، وثالثة تضم بلاد الخليج، ورابعة تشترك فيها بلاد المغرب العربي، وهكذا على سبيل التعميم والتقريب، لا على سبيل الحصر والتفصيل، فهذه كلها «تنويعات» في نغمة الثقافة العربية، كما تتعدد التنويعات على اللحن الواحد، فمثلا: هنالك شعر عربي حديث، إلا أن هذه العبارة إنما تغير إلى مجموعات من شعر شعراء ينتمون إلى أقطار مختلفة من الوطن العربي الواحد، ومحال ألا يجد الباحث المدقق، فروقا تميز الشاعر في العراق من الشاعر في مصر، أو في لبنان، أو غيرهما من أجزاء الوطن العربي، وتستطيع أن تعمم هذا المثل حتى تصل إلى نسيج ثقافي كامل في كل قطر عربي، مجموعها هو ما نسميه بالثقافة العربية في يومنا هذا.
وإنني لأزعم أمرين: أولهما أن النسيج الثقافي في بلد ما، أو عند فرد معين، إنما هو «الأداة» التي بها يعيش الإنسان كيفما يعيش، فإذا رأيت صورة الحياة العملية قد اختلفت بين شعبين، أو بين فردين، فاعلم يقينا أن ذلك الاختلاف مرده إلى اختلاف فيما نطلق عليه اسم «الثقافة»، أيا ما كانت العناصر التي تتألف منها «الثقافة»، ذلك هو أحد الأمرين، وأما الأمر الثاني فهو زعمي بأن الثقافة العربية كما هي قائمة اليوم، بينها وبين عصرها تنافر، كما يكون التنافر بين قفل ومفتاح ليس مفتاحه ، فالقفل قفل والمفتاح مفتاح، لكن هذا المفتاح لا يصلح لذلك القفل، ولا ينفعنا في شيء - والحالة هذه - أن نقول عن مفتاحنا إنه من ذهب، أو مما هو أنفس من الذهب، اللهم إلا إذا أردنا لذلك المفتاح أن يوضع في متحف من متاحف الجواهر الكريمة والمعادن النفيسة، وما قد صنع منها مما يعد في دنيا الفن والصناعة روائع من الروائع، وكذلك لا ينفعنا شيئا أن نقول عن القفل أنه قطعة من الحديد الخسيس الصدئ، لأن الأمر ليس هو أمر مقارنات ومنافسات بين نفيس وخسيس في سوق المعادن، بل الأمر هو أمر باب للحياة مغلق دوننا ونريد أن ينفتح لنا لنستطيع الدخول، فقيمة المفتاح الذي في أيدينا - وهذا هو الموقف وطبيعته - هي أن يكون قادرا على فتح القفل الذي أغلق باب «العصر» في وجوهنا، ولو كنا في غنى عما وراء الباب، لقلنا نعم ونعام عين، فمفتاحنا الذهبي في أيدينا، ستبقى له نفاسة معدنه ما بقيت على الأرض حياة وأحياء، لكننا لسنا في غنى عما وراء الباب، وإلا لما مددنا أيدينا إلى أصحاب الدار راجين أن يفتحوا بابهم المغلق ولو بمقدار ما نشتري من منتجاتهم - ومن علومهم، ومن أفكارهم ونظمهم - ما يتصدقون علينا به في أسواق البيع والشراء.
بهذه الصورة تتضح عناصر المشكلة الحقيقية التي نواجهها في حياتنا الثقافية العربية كما هي قائمة؛ فموضع الإحراج والحيرة هو: أنبقي على مفتاحنا الذهبي النفيس وإلى الجحيم بالعصر وأبوابه الموصدة؟ أم نخزن هذا المفتاح في ذاكرة التاريخ، ونلتمس لأنفسنا مفتاحا يفتح لنا أبواب هذا العصر، حتى ولو كان مفتاحا من أخس الحديد؟ فإذا كانت الأولى أبقينا على حياتنا الثقافية كما هي في قصورها، وإذا كانت الثانية، أخذنا من ثقافة العصر ما نطعم به ثقافتنا لنجري في شرايينها دماء الحياة. إنه إذا لم يكن أمامنا إلا هذان البديلان، كان الموقف عصيا على من أراد اختيار بديل منهما دون الآخر، فمن ذا الذي يريد أن يتشبث بمفتاح لا يفتح له بابا مغلقا، لمجرد كونه مفتاحا من ذهب؟ ومن ذا الذي يريد أن تنفتح له الأبواب بلا شرط ولا قيد، حتى لو انفتحت تلك الأبواب على حياة تلغي وجوده ليصبح عدما من العدم؟ لقد صور القدماء مثل هذا الموقف المربك بثور هائج جاء مهاجما بقرنيه الفاتكين، فماذا يصنع من هو في خطر هذين القرنين، إذا كان رجلا قويا، إلا أن يمسك ذلك الثور الغاضب من قرنيه، يمسكهما بقبضة يديه في ثبات، حتى يجد لنفسه منفذا بين القرنين فينجو. ولقد أطلق القدماء على قرني الثور في مثل هذه الحالة، اسم «قرني الإحراج»، وهو تصوير لموقف من وجد أمامه بديلين وكلاهما مر، وطريق النجاة عندئذ إنما يتحقق بالمرور الماهر بين القرنين.
فهل من طريق أمامنا للنجاة من خطر البديلين اللذين ذكرناهما، فيما يتصل بحياتنا الثقافية، وهما: إما ثقافتنا التقليدية وحدها، برغم كونها لا تقوى على مواجهة العصر وقضاياه، وإما ثقافة الغرب العاهر وحدها برغم كونها تضيع علينا خصائصنا وتاريخنا وكل ما يحقق لنا هوية وطنية وقومية متميزة؟ أقول: هل من طريق أمامنا للنجاة من هذا الإحراج؟ الجواب هو بالإيجاب؛ إذ كل ما نريده ليسعفنا بالخلاص من الحرج والحيرة، هو أن نقف بالجانب التاريخي المعروف، الذي منه تتكون الخصوصية الثقافية المميزة لنا، أن نقف بذلك الجانب عند الحد الضروري، لا نزيد عليه، لنفسح بقية المجال للجانب الآخر المستعار من حياة جديدة نشأت ونشأت معها حضارة جديدة تسرى في أصلابها روح ثقافية جديدة، وأن هذا الجمع بين الجانبين في ساحة واحدة، ليحمل معه بعض الضرر إذا كان جمعا يكتفى فيه بمجرد التجاور المكاني، فهذا إلى جوار ذاك، دون أن يندمجا معا في نسيج واحد، وإنه كذلك ليكون جمعا فيه البعث والنهوض، إذا عرفنا كيف نضفر الخيطين في حبل واحد، والذي حدث في حياتنا بالفعل، هو أن جاورنا بين المصدرين، ولم نستطع مزجهما معا في حياة طبيعية واحدة، ومن هنا كان الضعف والمرض - بل والموت أحيانا - ومن هنا أيضا يتبين لنا طريق التحديث الثقافي؛ أين يكون وكيف يكون؟
إنك أينما وجهت النظر في جوانب حياتنا، عملية ونظرية، رأيت هذا التجاور بين أصيل ووافد دخيل، فأما هذا الدخيل الوافد للمنفعة العملية، وأما ذلك الأصيل فللحياة الوجدانية ذات العمق العميق في القلوب. وابدأ بمعاهد العلم والتعليم كالجامعات، فهناك مادة علمية في شتى ميادين التخصص، تؤخذ من أحدث مصادرها في الغرب المعاصر، هناك الأجهزة المتطورة في معامل الكليات العلمية، وهنالك المراجع التي تمثل آخر ما وصل إليه الباحثون في الغرب، لكن هذا كله لا يزيد عند الدارس - كما هو لا يزيد عند الأستاذ - على قشرة تكسو سطح الذاكرة، لتكون جاهزة للاستعمال إذا ما خرج ذلك الدارس إلى دنيا العمل، فالطبيب في طبه، والمهندس في ميادينه، والحقوقي في مواضعه من المحاكم وغيرها من مجالات القضاء، وهكذا إلى آخر التخصصات العلمية، لكن حك جلود هؤلاء جميعا، لا أقول إلى عمق عميق، بل يكفيك أن تجاوز قشرة رقيقة على سطح الجلد، لتجد سذاجة التصديق لأي شيء مما ينتقض العلم ويتناقض مع أحكام العقل، وهناك تحت ذلك السطح الرقيق، تذوب الفوارق حقا بين الطبقات والأفراد، ويكاد الجميع أن يتلاقوا معا على حالة من سلبية القبول لما يعرض عليهم، ما دام العارض رجلا مؤهلا في حفظ ما هو مخزون في صحف الأولين.
واترك معاهد العلم والتعليم إلى ميادين الإعلام والثقافة، فعندئذ ترى تجاوزا آخر من صنف فريد، فالمذيع على استعداد نفسي بأن يلعن حضارة الغرب وثقافته ألف لعنة، ويعوذ بالله منهما كما يعوذ بالله من شيطان رجيم، ومع ذلك فهو يفعل ذلك كله في مذياع أو في تلفاز صنعهما له ذلك الغرب الملعون، والطبيب والمريض كلاهما على استعداد نفسي أن يستنزلا غضب السماء على حضارة الغرب وثقافته، ومع ذلك فكلاهما يستسلم راضيا، ولكنه غير شاكر، للأجهزة الطبية التي صنعها الغرب، وللعلم الطبي الذي أبدعه الغرب. وانتقل إلى «المبدعين» في دنيا الأدب والفن؛ تجد ما هو أدهى وأمر، فالمبدع في أدب الرواية - مثلا - على أتم استعداد نفسي بأن يملأ وعاءه الروائي بالتمرد على حضارة الغرب وثقافته، وينسى أن أدب الرواية في ذاته - بالمعنى الخاص الجديد «للرواية» - مأخوذ من ثقافة الغرب، فأدبنا العربي قد عرف «الحكايات» لكنه لم يعرف أدب الرواية بالمعنى الذي يكون فيه تصوير النماذج البشرية تصويرا تحليليا مستفيضا، يكشف عن حقيقة الإنسان في سر سره المخبوء. والأمر واضح في الأدب المسرحي، فإنه لمما يثير العجب، أن نبذل جهدنا لنثبت أن في تراثنا الشعبي مسرحا، وبذلك فلا نكون مدينين للغرب بشيء في هذا الصدد، وفي هذا الوقت نفسه ترانا لا نقيم مسرحا له قيمة في عالم الأدب والفن، إلا إذا أجريناه على سنن الفن المسرحي كما عرفه الغرب، وكما نقلناه عنه.
وندير البصر إلى حياة الجمهور في شتى درجاته، فنرى ذلك التجاور بين الحياتين ظاهرا في وضوح: فالريفي في قريته، قد أدخل في بيته كثيرا من أجهزة الحضارة العلمية الجديدة، لكنه مع ذلك لا يزال هو الريفي في رؤيته وفي أحكامه، لم يختلف عن أبيه وجده، بل ربما ساء سبيلا، لأنه فقد البساطة البريئة، ولم يعوضها بمزيد من معرفة وعلم، وإننا لنبلغ ذروة الملهاة في تجاوز المصدرين، إذا ما جلسنا أمام مذياع أو تلفاز، لنستمع إلى أحد ممن اختاروا الحياة في صحف التراث موردا للعيش، فهناك حقا ترى الزاوية قد انفرجت حتى بلغت مائة وثمانين درجة، بين حياة فعلية يعيشها الرجل في بيت حديث العمارة، وطب حديث، ونظم حديثة في التعليم، وفي الحكم، ووسائل نشر حديثة في الصحافة وغيرها مما تنشره مطابع حديثة جاوزت بما تصنعه شطحات الأحلام، إلى آخر الأعاجيب التي أنتجتها حضارة العلم الجديد، ومع ذلك كله، فالرجل على استعداد نفسي كامل، بأن يفتح نيران مدافعه على ذلك الغرب الخبيث الشيطاني الملعون.
وإنا لنلحظ مثل هذه الازدواجية الثقافية المريضة في معظم بلدان العالم الثالث التي تحررت من مستعمريها حديثا، فقد دفعها الغيظ المكتوم إلى التمسك بكثير من ملامح حياته الوطنية، إذا ما كان المجال مجال لقاءات على المستوى الدولي، كاجتماعات هيئة الأمم المتحدة، حيث ترى الممثلين لتلك البلدان وقد ارتدوا ثيابهم الوطنية، وقدموا وجبات من طعامهم الوطني في حفلات العشاء التي يقيمونها، وهكذا، وكل ذلك شيء محبب إلى النفس ولا عيب فيه، لكن الأمر إذا ما جاوز تلك الظواهر، ليمس نبض الحياة الحقيقي، كأن يخلص المواطنون لوطنهم بالأفعال لا بالأقوال، فيخلصون في العمل والإنتاج، ويخلصون في التفكير والتعبير، وجدت لديهم شيئا آخر. ولست عالما من علماء الاقتصاد لأعرف لماذا يظل هذا العالم الثالث في حالة دائمة من الفقر والعوز، فإذا قيل إنه الغرب الشيطاني مرة أخرى، هو الذي يبتز مواردنا الطبيعية بأبخس الأثمان، ليبيعها لنا مصنوعة بأغلى الأسعار، كان جوابي هنا: إن شيطنة الأبالسة لا تنال إلا غير المؤمنين؛ فلو آمنا حقا بواجبنا نحو أوطاننا وأقوامنا، لاختلفت معنا سبل العمل وطرائق التفكير.
لقد قدمت ما قدمته مجازفا، لأنني على أيقن يقين بأن القارئ المتعجل - وقارئنا يغلب عليه أن يتعجل القراءة - سيقفز بأطراف البصر بين ملامح السطور، ليصرخ آخر الأمر بأن هذا كاتب متعصب للغرب في صمم وعمى، فمثل هذا القارئ المتعجل لا يريد أن ينصف في أحكامه، وإلا فلا تعصب هنا ولا ما يشبه التعصب، وإنما الذي بين أيدينا تحليل وتصوير: كيف تخلفنا عن ركب الحياة ولماذا؟ فإذا كان أمر ذلك مرهونا دائما بالنسيج الثقافي الذي يكسو حياة الناس في عصر معين، جاء سؤالنا الرئيسي: وما سبيلنا إلى تحديث حياتنا الثقافية تلافيا للنقص وعلاجا للمرض، شريطة ألا يجيء شيء من ذلك ليشوه ملامح كياننا أو ليمحوها، بل لنلتمس الموضع الصحيح الذي نكتفي عنده بمقوماتنا التاريخية، لنكمل البناء بإضافات تدخلنا في العصر الجديد، لا بشراء أجهزته وآلاته، وترديد أفكاره العلمية ترديد الببغاء، فنفكر بآذاننا وليس بعقولنا، بل بالإيمان الحضاري الثقافي الذي لا يكذب ولا ينافق، والذي يحقن ثقافة قومه التقليدية بما تزداد به قوة وفاعلية وإبداعا، فإذا كنت متعصبا لشيء، فلمثل هذا الخلق الثقافي الجديد، الذي يقام على أسس الهوية القومية، ثم يضيف إليها غذاء عصر لا يشبه ما قد سبقه من عصور.
ولكن كيف تتم لنا هذه التغذية التي تخرج من ثقافتنا خلقا جديدا، مع محافظته على جوهره؟ إن جواب هذا السؤال يقدم نفسه بما يصنعه علماء الزراعة وهم ينتجون نوعا جديدا من ثمرة معروفة، فهم ينتجون برتقالا من طراز جديد، ولكنه برتقال، وينتجون قطنا أو قمحا أو ما شئت، من نوع جديد ولكنه قطن أو قمح أو ما شئت، وهكذا قل في كثير جدا من أنواع الأحياء وكيف يخرج منها علماؤها طرزا جديدة، أقوى وأغنى بصفاتها مما كانت عليه أسلافها، دون أن يفقد النوع جوهره، فلا يصبح الجواد الكريم قردا ممسوخا، كلا ولا يتحول القرد ليصبح جوادا كريما.
ولا علينا مما يحدث في عالم النبات وعالم الحيوان، ولنعد بحديثنا إلى الإنسان وثقافته، ونسأل مرة أخرى: كيف تتحول ثقافة معينة إلى صورة أقدر وأقوى وأهدى سبيلا، دون أن يمسخ ملمح من جوهرها الأصيل؟ وأبدأ بأن أطمئن القارئ بأن هذا الذي تسعى إلى خلقه، قد تحقق بالفعل في كثيرين من أعلامنا، بحيث نجد الواحد منهم عربيا ومسايرا لعصره من عمق أعماقه، وكل الذي بقي علينا أن نحققه، هو أن يتسع بنا مجال التطبيق، حتى يصبح هذا النموذج الثقافي متمثلا في عامة الجمهور، بدل أن يظل مقصورا على أفراد.
ثم أنتقل بعد هذا التنبيه، لأبين كيف يتم التحول المطلوب على نطاق أوسع ليشمل الجمهور في طريقة تفكيره وفي أسلوب عمله، فأقول: إنها «المعرفة» ثم مزيد من المعرفة، فهي الوسيلة التي لا تسبقها وسيلة أخرى، ليتحقق لأفراد الشعب اكتساب الشخصية الجديدة التي تصمد فيها خصائص الهوية المصرية، العربية، ويضاف إليها بالدمج العضوي، خصائص تقتضيها الحياة الحديثة في عصر العلم ... معرفة ماذا؟ معرفة الإنسان العادي لدقائق الأشياء التي حوله مما يقع في مجال عمله، ومعرفة «الآخرين» ممن يواطنونه، ومن هم خارج حدود الوطن؛ فالعالم تستمد صلاته بالوسائط المستحدثة حتى ليستحيل على إنسان أن ينعزل حتى إذا أراد. وأخيرا معرفة الفرد لنفسه على نحو موضوعي ولو إلى حد محدود. وإذا أردت أن تتبين كم هي قليلة ومهوشة وخاطئة، تلك الحصيلة المعرفية التي يحصلها متوسط الفرد في شعبنا، فاستمع إلى الكثرة الغالبة منهم ، كيف يتحدث المتحدث منهم عن أي موضوع يطلب إليه التحدث فيه، فعندئذ تسمع لعثمة ولجلجلة وكلمات متقطعة، لينتهي الحديث آخر الأمر بمضمون ضحل قلما ينفع أحدا أو يشفع لأحد. وقارن هذا الفقر الشديد في محصول المعرفة عند الفرد العادي - بل ومن هو فوق العادي - قارنه بما تسمعه في إذاعات أجنبية حين يدور حوار بين مذيع وشخص آخر - قد يكون عابر سبيل - لترى كيف ينطق الكلام، وكيف تغزر المعاني التي يحملها هذا الكلام، ويتم كل ذلك بغير لألأة أو لجلجة أو لعثمة إلا قليلا، لماذا؟ لماذا نعلل الفرق بين متحدث هنا ومتحدث هناك، سواء أكان موضوع الحديث متصلا بتخصص المتحدث، أم كان حديثا عابرا في موضوع عام؟ علة هذا الفرق الشاسع الذي لا يدرك مداه إلا من تعمد أن يقارن فتدق ملاحظته، أقول إن علة ذلك الفرق هو أننا هنا لا نعرف، وأنهم هناك يعرفون؛ يعرفون «الأشياء» ويعرفون «الآخرين» ويعرفون «أنفسهم» ومصدر تلك المعرفة عندهم، ملاحظة واعية لما حولهم من جهة، وقراءة لا تنقطع من جهة أخرى. وإذا قلنا «قراءة» فقد قلنا اكتسابا لمشاهدات القادرين على المشاهدة والتحليل والاستدلال، ليضاف ذلك إلى ما قد حصله الفرد من واقع حياته تحصيلا مباشرا.
وربما كان القسم الثالث من أقسام «المعرفة» التي ذكرناها، وأعني معرفة الإنسان لنفسه معرفة موضوعية، لا يكتفي صاحبها بمجرد استبطان ذاته؛ ليرى ماذا يحدث فيها من أفكار ومشاعر ودفعات الغرائز، أقول: ربما كانت معرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو الموضوعي، هي المجال الذي تنبت فيه ما أسميناه «بالخصوصية الثقافية» فلكل إنسان - كائنا ما كان موطنه، وكائنا ما كان عصره الذي يعيش فيه - تركيبة من معرفة ومن عقيدة، يتجاوب بها مع مكانه وزمانه ومع من يتعامل معهم من سائر الناس، وتلك التركيبة الخاصة هي التي تحمل خصوصية موقفه، وهي التي تحدد «رؤيته» إلى العالم الخارجي، في ماضيه وفي حاضره وفيما يرجى لمستقبله، فللمصري هذه التركيبة الخاصة به، يضاف إليها جانب يجعلها تركيبة أوسع نطاقا تسلك المصري مع مواطنيه في الوطن العربي الكبير، ثم قد تتسع التركيبة لتشمل ما هو أوسع وهكذا. أريد أن أقول إن الخصوصية الثقافية لشعب ما ليست شيئا جامدا يتساوى فيه يومه مع أمسه وغده، بل هي كيان تتسع فيه الدوائر ما اتسعت آفاق الحياة.
والسؤال الهام في هذا الصدد هو: أصحيح أن الخصوصية الثقافية لشعب معين، قد تتعرض لخطر الانهيار إذا هي انفتحت أبوابها لتنفذ منها عوامل خارجية آتية من ثقافات أخرى؟ يبدو أن مثل هذا الظن هو السائد في مصر وسائر أقطار الأمة العربية اليوم، ولذلك يكثر القول الدال على فزع، عما يسمونه «غزوا» ثقافيا يهدد خصوصية الثقافة العربية، إنه لو صدق هذا الظن لما عرفت الدنيا شيئا اسمه «لقاء الثقافات» وماذا يكون هذا اللقاء بين الثقافات إن لم يكن تأثيرا وتأثرا، يحدث بها التبادل بين تلك الثقافات أخذا وعطاء، وانظر إلى شتى أنواع الفن في عصرنا هذا، لترى كم أخذ الفن في الغرب من شعوب إفريقيا: في التصوير، وفي النحت، وفي الموسيقى والغناء، وانظر إلى أرجاء العالم كله، لترى كيف أن فن العمارة في صورته الحديثة يكتسح المدن والقرى، والأمثلة على ما قد شهده التاريخ من لقاءات بين ثقافات مختلفة، لا تكاد تعد أو تحصى دون أن تمحى بذلك خصوصيات الشعوب، مما يدل على أن تلك الخصوصية يكفي لصمودها أن يصمد فيها خصائص جوهرية قليلة، لا تتسع لتشمل كل أطراف الحياة.
لقد تعاقبت في تاريخ علم الفلك نظرتان - أو نظريتان - عن الأرض وعلاقتها بسائر أجزاء الكون بصفة عامة ومن بقية أجزاء المجموعة الشمسية بصفة خاصة، وكانت النظرة الأولى لبطليموس، وهو من علماء الإسكندرية في عهدها القديم، يقول فيها: إن الأرض ثابتة، وهي في مركز الكون، حولها تدور كل نجومه وكواكبه، وأما الثانية فكانت لكوبرنيق، وهو من علماء الفلك في عصر النهضة الأوروبية، وقد عكس بها الصورة التي تصورها بطليموس، ولا تزال نظرة كوبرنيق هي المأخوذ بها إلى اليوم وخلاصتها؛ أن ليست الأرض إلا كوكبا كسائر الكواكب في المجموعة الشمسية، وكلها على حد سواء يدور حول الشمس. وإنني لأذكر هاتين النظرتين، لا من حيث هما حقيقتان عن الأرض في تاريخ علم الفلك، بل لأنهما تدلان في الوقت نفسه على نموذجين من التفكير البشري، فهنالك أقوام تأخذهم العزة بالأنانية وحب النفس؛ فلا يتصورون أنفسهم إلا كالقطب تدور حوله الرحى، فإن كان في الدنيا أقوام سواهم، فلا بد أن يكونوا دونهم خلقا ومجدا وإنسانية، ولكن هنالك كذلك أقوام ينظرون إلى أنفسهم - لا على نظرة بطليموس، بل على نظرة كوبرنيق - فيرون أنهم مع غيرهم من البشر سواء، ولا يكون فرق بين شعبين إلا بالقدرة وبالعلم اللذين يجعلان من شعب يتحلى بهما معا بين خصائص أوفر مالا، وأشد قوة وسلطانا. وواضح بين هاتين الوقفتين أن أصحاب النظرة الأولى - التي تنطوي على ذاتها، وتنكفئ على ثقافتها الخاصة وتاريخها الخاص - هم الذين يخشون على خصوصيتهم الثقافية أن تأتي إليها عوامل خارجية، فتثقب جدرانها، وتطير مع الهباء هباء. إنها أوهام الضعف والمرض، وتظاهر بالثقة بالنفس، يخفي وراءه شعورا بالعجز والخواء.
ومعرفة الإنسان لنفسه معرفة «موضوعية»، تبين له أين مواضع القوة وأين مواضع القصور، هي التي تخرجه من أوهامه عن حقيقة ذاته، وقد تكون هذه فرصة مناسبة ألاحظ عندها أن المتعقب لما ينشر من نتاج ثقافي - شعرا ونثرا - في أرجاء الوطن العربي اليوم يرى في وضوح، كيف وإلى أي حد بعيد، نخدع أنفسنا عن أنفسنا، حتى لتجيء أفكارنا وأشعارنا أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى الرؤية إلى واقع الأمر من خارجه لكي نراه على حقيقته: علما وجهلا، قوة وضعفا، ويكفيك في ذلك أن تقرأ الشطر الأكبر من شعر شعرائنا المعاصرين لتعلم كم فيه من نظرة تتجه إلى باطن، وكم يتجه إلى خارج بحجة أن الشعر تعبير عن «ذات» الشاعر، وهو قول إن يكن صحيحا في بعض الشعر الجيد إلا أنه لا يصدق على أجود ما أنتجه الإنسان من شعر، فعمالقة الشعر - والأدب كله - هم أولئك الذين عرفوا كيف تنصلوا من ذوات نفوسهم، ليوجهوا بصائرهم نحو حقيقة «الإنسان».
تلك - إذن - هي معرفة الإنسان لحقيقة نفسه ، وهي إحدى معرفات ثلاث ذكرناها فيما أسلفناه، لنقول إن تحديث الثقافة العربية مرهون بتحصيلها، وأما الضربان الآخران، فأحدهما هو معرفة الإنسان - ما وسعت قدرته - لحقائق الأشياء من حوله، خصوصا في المجال الذي تقع فيه حياة الفرد في عمله، وأما الضرب الآخر فهو معرفة الجمهور لما يجري في حياة الآخرين إننا في كل ذلك نجهل أكثر من كثير، ونعلم أقل من قليل وهو نقص مرده إلى التربية الأولى، وإلى التربية الثانية، وإلى التربية الثالثة، ففي الأولى؛ لا يجد الطفل في سنيه الأولى أسرة ترهف حواسه لترى ولتسمع، فمن ذا الذي يعرف أن عين الطفل يجب أن تدرب على رؤية التفصيلات في كل شيء مما حوله، وأن أذنه يجب أن ترهف لتسمع تفصيلات الصوت المسموع؟ وأما التربية الثانية في المدارس فهي أضل سبيلا، لأن القائمين عليها لا يعرفون لأنفسهم مهمة يؤدونها إلا أن يحفظ تلاميذهم مجموعة من ملخصات مبتورة، وكان الله يحب المحسنين، وتركت تربية العين وتربية الأذن وغيرهما من حواس الإدراك، لعبث المصادفات! وأما التربية الثالثة وهي التي مصدرها أجهزة الإعلام، فأصحابها مشغولون عن تربية الأفراد في هذا الاتجاه، بمقطعات من المشاهد والمعلومات، لا يذهب نفعها في حياة الناس إلى أبعد من حركة الظل يظهر خافتا ثم لا يلبث أن يزول.
لقد أتيح لي ذات يوم بعيد، أن أقرأ الكلمات التي ألقاها أعضاء مؤتمر ثقافي دولي، ضم بين أعضائه هؤلاء، نفرا من أعلام الفكر في عدد كبير من أقطار الدنيا وفيهم بعض أعلام العرب، فكان أشد ما استوقف نظري عند المقارنة، أن علماء الغرب وأدباءهم، أقاموا نتائجهم على «تفصيلات» مدروسة، وأما نظراؤهم العرب فكانت كلماتهم أميل إلى التعميمات المجردة الباهتة. وأذكر أني همست لنفسي يومئذ قائلا: إن أولئك «يعلمون» وهؤلاء «لا يعلمون».
إن أوعية رءوسنا هي كالخاوية من معرفة التفصيلات، وذلك بالنسبة إلى المجالات الثلاثة التي ذكرناها، فمتوسط الفرد منا لا يعرف إلا النذر اليسير عن الأشياء التي في محيطه، وعن حقيقة الحياة عند الآخرين، وعن أنفسنا، ولذلك ترى كاتبا يكتب ولا يقول شيئا ، ومتحدثا يتحدث ولا يترك عند سامعه أثرا، فلو عملت قنوات التعليم والإعلام على تعبئة الأوعية الخاوية بما عساه أن يتبلور في «وجهة نظر» تعم أفراد الشعب برغم تفاوت درجاتهم بعد ذلك، فربما ارتفعنا ثقافة، وازدادت خصوصيتنا الثقافية - في الوقت نفسه - حرارة وعمقا.
غابت الفكرة عنا
الواحد من عصور التاريخ هو - في أغلب الحالات - فكرة كبرى واحدة، تكون من الحياة الثقافية الطويلة العريضة العميقة لذلك العصر، ما يكون القطب من الرحى، فقد تطير الأفكار بأصحابها هنا وهنا وهناك، تتعدد موضوعات ويتعدد الرأي وقد تتنوع مبدعات الأدب شعرا ورواية ومسرحية ومقالة، كما تتنوع مبدعات الفن أنغاما في الموسيقى وألوانا في التصوير، وقد تتكاثر الاتجاهات متقاطعة أو متوازية، في ميادين التعليم والسياسة والاقتصاد والحكم، نعم، قد يحدث هذا الثراء كله في العصر الواحد، حتى ليتعذر على العين أن ترى كيف يمكن أن تنعقد ألوف الآلاف بين الخيوط في عقدة واحدة؟ وأما المتعقب الصابر لتلك الخيوط، فهو لا بد منته بها إلى مصدر واحد، هو «الفكرة» الكبرى والواحدة، التي هي من هذه الأشتات الثقافية كلها كبرج المنارة يرسل الأشعة في كل اتجاه، وأبناء العصر - بعدئذ - يتفاوتون درجات في مدى استجابتهم لتلك «الفكرة» المحورية الوضاءة؛ منهم من ينشغلون بأمرها، حتى ليمسون معها ثم يصبحون، ومنهم من يعاودون النظر إليها لحظة ثم يجعلونها وراء ظهورهم، ومنهم من يحيون ويموتون وهم لا يعلمون عنها شيئا، كأنها لم تكن هناك، ويترتب على هذا التفاوت بين أبناء العصر الواحد، تفاوتهم كذلك في غزارة الانتماء إلى عصرهم، وبهذا المقياس أنظر إلى الأمة العربية في عصر الناس هذا، فأراها وكأنما هي فيما يشبه الغيبوبة عن «الفكرة» التي نسج العصر من خيوط ضيائها.
وقبل أن أحدثك حديثا مفصلا عما أراه «فكرة» محورية كبرى لثقافة عصرنا ليتبين من ذلك موضع القصور في حياتنا نحن، منسوبة إلى شواغل عصرها، يحسن أن أضع بين يديك في إيجاز صورة لعلها أن تكون مألوفة عند الكثرة الغالبة من قرائنا، وأعني صورة الحياة الثقافية في «العصر» الإسلامي العربي إبان قرونه الأولى التي هي فترة الإبداع والقوة، وسوف ترى من تلك الصورة، ما كنت أعنيه، حين قلت إن للعصر الواحد «فكرة» كبرى واحدة تكون لعصرها ما يكون القطب من الرحى؛ إذ هي تشع نورها في كل اتجاه، وفي كل اتجاه يتلقاها الأيقاظ من أبناء العصر (لأن النيام في سباتهم العميق لا يشعرون) يتلقاها الأيقاظ، لا ليتساووا أمامها أو يتشابهوا، كلا فبحكم الاختلافات الفارقة بين أفراد الناس، يتحتم أن يختلفوا كذلك في قدراتهم وفي وجهات أنظارهم عندما يتلقون ما يتلقونه.
وكانت رسالة الإسلام نفسها - بالطبع - هي «الفكرة» الكبرى، التي تستطيع أن تقول - في غير إسراف ولا مجاوزة لحدود الحقيقة - إنها (أي تلك الفكرة الكبرى) قد لبثت طوال القرون منذ صدورها، هي الموضوع المحوري الذي دارت حوله العقول كلها، والقلوب كلها، فما من علم واحد، أو فرع من علم، إلا وهو متصل من قريب أو من بعيد بما نزلت به رسالة الإسلام، فدوائر بحث أقيمت لدراسة اللغة العربية من شتى أوجهها وذلك بغية مزيد من الفهم الصحيح للقرآن الكريم، ومدارس أقيمت للفقه الإسلامي اختلفت مناهجها واتجاهاتها من إقليم إلى إقليم، وذلك في محاولات مخلصة لاستخراج الأحكام الصحيحة من آيات الكتاب الكريم، وجماعات متفرقة هي جماعات «المتكلمين» (أي الباحثين في كلام الله) كان شغلها الشاغل دراسة المفاهيم الإسلامية الهامة كالعلاقة بين الذات الإلهية وصفاتها، وكفكرة التوحيد والقضاء والقدر، وإرادة الإنسان من حيث هي مخيرة أو مسيرة مجبرة، وغير ذلك من أمهات المسائل في العقيدة الإسلامية، ثم هناك مجموعة الأفراد الأفذاذ الذين هم «فلاسفة» المسلمين الذين اختلفوا بما اختلفت شخصياتهم الفردية لكنهم اتفقوا جميعا على المهمة التي يؤدونها، وهي أن ينظروا في «الحكمة» وما جاءت به نقلا عن القدماء (والمقصود بها الفلسفة اليونانية) أو الشريعة الإسلامية من جهة أخرى ليروا أين يتلاقى الجانبان وأين يفترقان، ونضيف إلى تلك المدارس والجماعات كلها صنوفا أخرى من الفروع التي تندرج تحت هذا الاسم الواسع الفضفاض وأعني اسم «الثقافة» كالمؤلفات والدواوين التي خلفها لنا «المتصوفة» وكذلك كتابات منوعة كثيرة مما يأتي تحت عنوان «الأدب» وغير ذلك، كله موصول بالفكرة الكبرى التي هي محور العصر وثقافته بجميع أطرافها.
ولو أنك استعرضت الصورة بلمحة تجمع لك عدة قرون في إطار واحد، لكان الذي تراه من ضروب الاختلاف في الرأي أكثر مما تراه في الصورة من ضروب الاتفاق، فالتيارات المذهبية متصارعة في كل ميدان، والاختلافات الفردية بين العلماء ورجال الفكر أكبر من أن تخطئها عين الرائي، ومع ذلك فهم جميعا أبناء «عصر» واحد، لأنهم يفكرون ويشعرون ويكتبون في ضوء فكرة كبرى واحدة هي رسالة الإسلام.
وقبل أن أنتقل بالقارئ بعد الصورة الموجزة التي قدمناها للعصر الإسلامي العربي في مرحلته الأولى مرحلة الإبداع والقوة، والتي امتد بها الزمن نحو تسعة قرون، أقول: قبل أن أنتقل بالقارئ من تلك الصورة إلى صورة عصرنا نحن، أريد أن أوضح فكرة عظيمة الأهمية في هذا السياق من الحديث، توضيحا يجنبنا الوقوع في الخلط والخطأ، وهذه الفكرة هي أنه حين يتحرك تيار الزمن بالناس من عصر إلى عصر يليه، وإلى العصور التالية بعده وحين يتبدل بهذا الانتقال محور التفكير والإبداع ليصبح محورا آخر، فلا يكون معنى ذلك أن العصر الذي انقضى زمنه وانقضى معه المحور الذي كانت تدور حوله حركة العقل والشعور، قد تبخر من الوجود وانطوى في هوة العدم، بل يكون معناه هو أن حصيلته الثقافية بقضها وقضيضها قد تحولت إلى عادات رسخت جذورها في حياة الناس العملية والنظرية معا، وما جاءت به العصور التالية من قضايا جديدة إنما أتى ليضاف إلى مقومات الإنسان، ولو لم تكن هذه هي حقيقة الأمر في العصور المتوالية لكان الإنسان في كل عصر جديد يبدأ من الصفر، ولم تكن الحياة البشرية لتنمو قيد شعرة حتى ولو دامت ملايين السنين، وربما كانت الصورة المصغرة التي توضح هذا الذي قدمناه، هي صورة الحياة في الفرد الإنساني الواحد؛ إذ ينتقل به العمر في مدارجه! فما قد عرفه وشعر به الطفل إبان طفولته يظل معه ليضيف إليه ثم ليكون هذا وذاك معا عدته في حياته، عملية كانت أم نظرية. ولقد أشار «ألفرد نورث هوايتهد» إلى هذه الفكرة في كتابه «مغامرات أفكار» لكنه أشار إليها في صورة أخشى أن يضل بها القارئ في الموضوع الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وذلك أن «هوايتهد» يقول إن الحصيلة الثقافية لعصر ما، تنتقل عند الإنسان في عصوره التالية من الشعور إلى اللاشعور، يريد بذلك أن يقول إن الفكرة المعينة التي تتكون في بؤرة التفكير الواعي من حياة الناس وهم يحيون خلال عصر معين، لا تنعدم فيما يلي بعد ذلك من عصور، بل هي إلى الأبد قائمة هناك في صلب الكيان البشري، ومن ثم يتقدم الإنسان ويرتقي عبر حضاراته وثقافاته المتتابعة، لكن هذا القول من «هوايتهد» - برغم صدقه - إلا أن صدقه منقوص بمعنى أنه يصلح لحالات من ماضي الإنسان ولا يصلح لحالات أخرى. ولقد كان المثل الذي ضربناه للقارئ فيما أسلفناه، هو صورة الحركة الثقافية في العصر الأول من تاريخ العرب المسلمين، ولسنا نريد بذلك أن نقول ولا هو صحيح إذا قلناه بأن حصيلة ذلك العصر الأول قد انتقلت في كياننا من منطقة «الوعي» إلى منطقة «اللاوعي» حتى ولو كان ذلك اللاوعي موجها لحياتنا ومؤثرا فيها، بل الذي نريد أن نقوله والذي هو صحيح وواقع، هو أن ما قد كان محورا للنشاط الفكري في ذلك العصر الأول فيه من القضايا ما يمكن طرحه اليوم، كما أن فيه من القضايا ما أشبعه الباحثون بحثا ولم يعد فيه زيادة لمستزيد، والنوعان من القضايا ضروريان لنا اليوم في حياتنا الواعية، إلا أنه قد جاءت الحياة الجديدة في العصر الجديد بمحور آخر، ولم يعد موضوع تلك القضايا - على ضرورتها - هو المحور الذي يجب أن نعطيه من عنايتنا بقدر ما نريد أن نحيا في زماننا، وإذا أصررنا على ألا نفعل كان الخسار علينا، وكان الكسب للأعداء؛ فأولئك الذين ما ينفكون ينسبون مواضع التقصير في حياتنا من جهل وفقر وضعف إلى الاستعمار، كان ينبغي بأن يطالبوا بأنفسهم، بالرجوع خطوة أخرى في عملية التعليل ليسألوا أنفسهم هذا السؤال: ولماذا استطاع المستعمرون أن يحققوا غاياتهم بمثل تلك السهولة التي حققوها بها حتى أصبحنا جميعا على ما نحن فيه؟ ولو أنهم سألوا أنفسهم هذا السؤال لوجدوا الجواب بارزا يكاد يفقأ العين، وهو أننا أدخلنا أنفسنا في سبات حضاري ثقافي عميق، حتى غابت عنا فكرة العصر، فغاب عنا الوعي بالحياة وحقائقها.
فما هي فكرة عصرنا الكبرى التي ترشد السالكين وكأنها في سماء عصرنا هي النجم القطبي يهتدي به المسافرون في مجاهل البيد أو في ظلمات المحيط؟ إنها فكرة الطامحين إلى استعانتهم بالعلم على تسخير الكون، ليزداد الإنسان الحر حرية تضاف إلى حريته، فالإنسان القوي موجود دائما، حتى في العصر الحجري كان هناك الإنسان القوي بالقياس إلى سواه، لكنه على مر الدهور دهرا وراء دهر من قرون هذا الزمان استبدل في ممارسته لقوته مجالا بمجال. وينفعنا في سياق حديثنا هذا أن نحصر انتباهنا في جانب واحد هو جانب التسلط والسيطرة، وفي هذا المجال كانت الصورة الأولى لتسلط الأقوياء هي أن يتحكم القوي في رقاب الضعفاء من قومه، ولبثت تلك الصورة على بشاعتها حتى أراد الله لمن أراد لهم أن ينعموا بالحرية، ألا يصبوا سلطانهم على ذويهم لينعم أفراد الشعب جميعا بقدر من الحرية، وأن ينصرف صاحب القوة بتسلطه نحو الشعوب الأخرى إذا وجد فيها ما يلزمه ضعفه بأن يخضع لمن هو أقوى، ثم دارت الأعوام بالناس حتى جاء عصرنا القريب، الذي لم يزد طوله على نصف قرن مضى بالنسبة إلى الموضوع الذي نتكلم الآن فيه، وهو موضوع حرية الشعوب قويها وضعيفها على السواء، فاتجه القوي بقوته ليسيطر بها ليس على قومه هو كما كانت الحال في المرحلة الأولى، وليس على غير قومه من ضعاف الشعوب كما كانت الحال في المرحلة الثانية بل على ظواهر الكون من حوله، وإن في هذا الميدان الفسيح لمتسعا للجميع.
وبالطبع لم تكن هذه أول مرة في تاريخ الإنسان، يستثمر فيها هذا الإنسان معرفته لطبائع الأشياء في تسخيرها لمنافعه، بل إنه استطاع ذلك منذ شهدته الدنيا إنسانا، فقد استخدم منذ أقدم عصوره تربة الأرض وحرارة الشمس وقوة الريح وغير ذلك في شئون حياته العملية، لكن التاريخ لم يشهد في أي عصر من عصوره ما يمكن أن يقارن بجزء من ألف ألف جزء من قدرة الإنسان في عصرنا القائم على تسخير القوى الكامنة في كائنات هذا الكون، فالأمر في هذه القدرة يتناسب طردا مع اتساع علم الإنسان بطبائع تلك الكائنات، وأن علمه بهذا في يومنا هذا لهو السمة الأولى بين السمات التي تميز عصرنا من كل ما سبقه من عصور، وتلك حقيقة لم تعد في حاجة إلى أن تذكر، لكننا نشير إليها هذه الإشارة السريعة، لنذكر النتيجة الهامة التي تترتب عليها بالنسبة للإنسان وهي نتيجة قلما ينتبه إليها بالقوة الكافية، ألا وهي أن كل مثقال ذرة في زيادة السيطرة على ظواهر الطبيعة زيادة مؤسسة على زيادة علمه تقابلها حتما زيادة في حرية الإنسان، فالحرية بمعناها الصحيح إنما هي قدرة الإنسان على التصرف في المجال الذي هو حر فيه. وإننا لنخلط خلطا خطيرا بين «التحرر» من القيود والحرية في العمل، نخلط بين هاتين الحالتين حتى لنظن أنهما اسمان على مسمى واحد، مع وضوح الفرق بين الحالتين، فإذا حطمت الأغلال عمن هو مقيد بها، تحرر ذلك المقيد من قيده لكننا لا نعلم عنه شيئا بعد: أيكون «حرا» في حياته العملية أم لا يكون؟ إذ الأمر هنا مرهون بأن يمارس عملا يحسنه لعلمه بدقائقه فيكون بذلك ذا حرية تتناسب قدرا مع مقدار مرانه ومهارته. كان العبد في أيام الرق يطلق سراحه بإذن من مالكه فيتحرر من عبوديته، وأما أنه يصبح بعد ذلك حرا أو لا يصبح، فذلك متروك لظروفه فيما يستطيع فعله أو لا يستطيع، فمن الجائز - مثلا - أن تحول بعض التقاليد دون أن يؤدي العمل الذي يريد أن يؤديه لمهارته في أدائه، وفي هذه الحالة يكون مفقود «الحرية» مع أنه قد «تحرر» من عبوديته؟
ولهذه التفرقة أهميتها البالغة بالنسبة لنا ولأمثالنا ممن «تحرروا» من المستعمر الأجنبي، ومع هذا التحرر يلبث مفقود الحرية في علاقاته مع ذلك المستعمر نفسه أو من يماثله، وذلك لأننا لا نكسب «العلم» الذي يمكننا من تسخير الظواهر الكونية كما يملكها هؤلاء، فنظل في حاجة إليهم على نحو ما يعتمد الطفل العاجز على ولي أمره، فهؤلاء السادة بعلمهم وسلطانهم على عالم الأشياء، صنعوا وسائل الانتقال السريع، وصنعوا أسلحة القتال وصنعوا أجهزة الطب والجراحة وصنعوا وصنعوا، وكان ذلك كله على أساس من «علم» بالعالم وما فيه من سر مكنون، وبقينا نحن وأمثالنا متحررين ولكن بغير «علم»، وبالتالي فنحن لا نشارك في شيء من ذلك الذي صنعه هؤلاء، ولو كنا في غنى عنه لاكتفينا وحمدنا الله على التحرر من ربقة المستعمرين، لكننا في حاجة إلى كثير مما صنعوه بعلومهم ومهاراتهم ولا سبيل أمامنا - إذن - إلا أن نشتري منهم ما يسمحون لنا بشرائه من تلك الأجهزة التي لم تعد الحياة ممكنة إلا بها، ومعنى ذلك في عبارة بسيطة وصحيحة أنهم هم وحدهم الأحرار وأننا ما زلنا في قبضات أيديهم، تحررنا أو لم نتحرر على حد سواء.
فالعلم الذي يمكن الإنسان من تسخير الطبيعة لصالحه ليس ترفا يتظاهر به صاحبه أمام الناس، وإنما هو آخر الأمر كفيل بحرية الإنسان إزاء الطبيعة وظواهرها وكائناتها. لو ترك الإنسان محكوما كسائر الأشياء بقانون الجاذبية لظل مسمرا على سطح الأرض، اللهم إلا أن يقفز مرتفعا مترا أو ما يقرب من المتر، فقوة جذب الأرض لجسده قيد يغله، وأما من استطاع بعلمه أن يطير عن سطح الأرض آلاف الكيلومترات؛ فهو حر بمقدار ما طار، وهكذا قل في كل الحوائل التي تحد من قدرة الإنسان ثم يكسب الإنسان علما فيزيلها، هل كان ليستطيع أن ينفذ ببصره وراء الحجب ليرى قلب المريض بقلبه، أو أمعاء العليل بأمعائه، لكنه اليوم قد «علم» فاستطاع وأصبح حرا في هذا المجال بمقدار ما استطاع، وقل هذا في ألوف الحالات التي كان الإنسان حيالها قبل علمه عاجزا، ثم علم فاستطاع، وعكس ذلك صحيح كذلك؛ وهو أن من لا يعلم لا يستطيع ، فيفقد من الحرية بمقدار ما عجز.
ومع ذلك فأمانة القول تقتضينا أن نقول عن أولئك الذين علموا فصنعوا؛ فأصبحوا أمام قيود الطبيعة أحرارا بمقدار ما علموا وما صنعوا عادوا فوجدوا حياتهم قد جاءتها القيود من أبواب خلفية لم تكن ظاهرة لهم أول الأمر، وذلك أن حياة العاملين في هذا المجال أو ذلك من مجالات العمل في الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة عصرنا إنما هي حياة تنتج ما تنتجه من أجهزة وآلات ومركبات وروافع وجرارات إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لم يعد لها آخر، لكنها في الوقت نفسه تدمر نفسية صانعها، لماذا؟ لأن الإنسان خلق بفطرته يريد أن يعرف طريقه من أين؟ وإلى أين؟ وإلا بات كمفقود الذاكرة الذي يسير كما تسير السحابة في سمائها وهي لا تعلم في أي اتجاه تسير ولماذا. فصانع هذه الحضارة العلمية الصناعية مكتوب عليه أن يؤدي عملا معينا هو في حقيقته تفصيلة صغيرة من تفصيلات مشروع كبير، وهو إذ ينجز تلك القضية الصغيرة لا يعرف عنها الوظيفة التي يراد لها أن تؤديها في ذلك المشروع الكبير، وأخذت هذه المواقف المبتورة تتراكم في أنفس العاملين حتى أصبحت حياتهم اليومية جحيما، لأنهم باتوا آلات من الآلات، بل وإن العلم بقفزاته الجريئة كل يوم دائب على أن يصنع الأجهزة التي تؤدي ما كان يؤديه العاملون من البشر، جهازا بعد جهاز، ومن ثم نشأت لهم علل وأمراض تستعصي أحيانا على العلاج: كالقلق والاغتراب واليأس والضجر، فكثرت الأمراض النفسية كثرة لم يسبقها مثيل فيما مضى.
فهل ترك أبناء الحضارة العلمية الصناعية مشكلتهم الإنسانية تلك بغير حل؟ كلا بل عالجوها علاجا «ثقافيا» وهو أن يتجه الإبداع في الفنون والآداب اتجاها آخر غير الذي كان، وبكل اختصار نقول عن هذا الاتجاه الجديد: إنه قد ترك للفنان أو الأديب حرية أن يبني نتاجه من محض إبداعه، بغير شرط يشترط عليه أن تكون هناك صلة ظاهرة بينه وبين الواقع الخارجي، فلئن كان «العلم» قد وثق الروابط بينه وبين الطبيعة الخارجية متجاهلا «نفسية » الوسيط البشري الذي يعمل في ميدان الصناعة، وهو في الحقيقة، الميدان الذي يتلاقى فيه العلم بنتائجه، فها هي تي صور الفن والأدب وسائر صور الإبداع البشري قد انطلقت في طريق يعوض على الإنسان ما فقده؛ إذ أصبح في دنيا الإبداع يبني لنفسه عالما خاصا به، متحديا ذلك العالم الخارجي الذي لا حيلة له فيه، والذي هو المجال الذي جعلت فيه السيادة للعلم والتصنيع.
ونعود بعد هذه الرحلة الطويلة إلى حياتنا نحن الثقافية، لنرى أين موقعها من ذلك كله، فأول ما يلفت أنظارنا فيها هو هذه الحقيقة الصارخة، وهي أنها ما زالت كما كانت ثقافات العصور السابقة جميعا، ثقافة لا تنتهي بأصحابها إلى معرفة بدنيا «الأشياء» وإنما تكتفي من أصحابها هؤلاء بأن يقفوا عند «الكلمة» منطوقة مسموعة حينا مكتوبة مقروءة حينا آخر، فهي ثقافة تبدأ بالحروف وتسير طريقها في عالم الحروف لتنتهي آخر الأمر مع الحروف، ويستطيع المثقف بهذه الثقافة أن يقضي عمره كله سابحا في كلمات يقولها وكلمات يسمعها، وكلمات يكتبها وكلمات يقرؤها وكان الله يحب المحسنين، وقد تقول هنا: لكننا يا أخي نزرع الأرض وننجر الخشب ونبني البيوت وننقش النحاس ونلوي الحديد ... نعم، إننا نفعل كل ذلك، نفعله بمهارات كسبناها على مر الزمن، كالمهارات التي كسبها النحل في خلاياه، وكل الفرق بين الحالتين هو أن النحل يصنع ما يصنعه مدفوعا بغرائزه، وماذا تكون الغريزة إلا عملا أتقنه نوع من الأحياء وتوارثه على امتداد ألوف الألوف من السنين، وأما زارع الأرض والنجار والبناء والحداد في مجتمع لم يتسلل إليه شيء من مبدعات العلم الحديث، فهم يتناقلون «عادات» لا غرائز، ومهارات ولدا عن والد، وصبيا عن «معلم» كانت أدوات الزراعة - مثلا - كالمحراث والشادوف، وغيرهما التي يستخدمها الزارع المصري إلى وقت قريب جدا هي نفسها الأدوات المرسومة على جدران المعابد في آثار الفراعنة، والذي تغير منها - وقد تغير شيء كثير - هو كله آلات استوردناها من صانعيها هناك، عند أصحاب الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة العصر. وإنه لشيء محمود أن نطور حياتنا بما صنعه سوانا ما دمنا بعد عاجزين عن صناعته إبداعا منا لكننا في الوقت نفسه نتجاهل الحق؛ إذا لم نتذكر أن الذي اشتريناه من صناعة الآخرين هو نتيجة لزمت عن «ثقافة» معينة سادت حياتهم ولا ينتسب إلى «ثقافتنا» نحن بسبب من الأسباب؛ إذن فنحن لا نخطئ إذا زعمنا بأنه برغم الأجهزة والآلات والصناعات التي - بحمد الله - أخذت تملأ حياتنا، فإن ثقافتنا ما زالت - كما كانت - في مجملها كلاما في كلام، لا يؤدي بنا إلا إلى مزيد من كلام، والكلام في ذاته لا عيب فيه، لكن العبرة هي فيما يحمل سامعه أو قارئه على فعله، فإن هو حمل المتلقي على اكتساب لموقف من يعلم ليغير وجه الأرض بعلمه، فذلك خير، وأما الكلام الذي يتلقاه المتلقي قاعدا فيظل على قعوده لم يزد على حالته السابقة إلا أن تأوه بآهات الإعجاب لما سمع؛ فذلك هو ما تفعله بنا التركيبة الثقافية التي نعيشها؛ ويظل وجه الأرض بعد الذي سمعناه أو قرأناه كما كان وجه الأرض قبل ذلك.
ومرة أخرى قد تقول شيئا كالذي قلته على حياتنا العملية من زراعة وصناعة وغيرهما إذ تقول: لكننا يا أخي ننشط بفن جديد، وبأدب جديد، وليس أمرنا كله «كلاما» من الصنف الذي تعنيه. ومرة أخرى كذلك أجيب بأن ذلك كله خير والحمد لله، فلأن نحتذي حذو أصحاب الحضارة الجديدة في فنونهم وفي آدابهم خير من أن نغلق نوافذنا ونتربع على أرض بيوتنا لا نشهد النور، إلا أنك في هذه الحالة تتجاهل حقيقة ضخمة ضخامة الجبل، وهي أن الفن والأدب في صورهما الجديدة، إنما جاءا هناك رد فعل يعالجان به ما قد نتج عن حياة الإنسان في حياة العلم والصناعة من آثار ضاغطة على فطرته، ولقد نقلنا نحن من تلك الحياة العلمية الصناعية سطحها الظاهر، قلدناه تقليدا، ولم تعتمل به نفوسنا من الداخل؛ ومن هنا فلم نمرض بأمراضها من ناحية؛ ولا نحن من ناحية أخرى نعمنا بالحرية الحقيقية التي لا تكون إلا بحياة تلجم ظواهر الطبيعة إلجاما، لتحركها كيف شاءت، فإذا جاء الفنان التشكيلي عندنا مثلا ليسير على نهج مدارس الفن الحديث، جاء فنه بالتالي مبتور الصلة الحيوية بطريقة حياتنا وتفكيرنا، وكذلك إذا جاء الشاعر الجديد عندنا، ليتحول بالشعر إلى ما يشبه أحلام اليقظة عند يائس أو محروم، كان شعره أيضا مبتور الصلة الحيوية بطريقتنا وموقفنا من مسالك العيش.
ولست أخلو من العجب كلما قرأت لأديب من أدبائنا شكواه من أمراض العصر، كالقلق والاغتراب والتمزق؛ لأنني على يقين من أننا لم نمارس حياة العلم والصناعة بعد، على نحو ما يمارسها أهل الغرب؛ لأنهم هم الذين تعتمل نفوسهم بالولادة والإبداع، وأما نحن فنأخذ الناتج استعارة أو شراء، فنعيش ذلك العلم وتلك الصناعة من السطح، لا من الجذور التي تمس الأفئدة فتهزها من الأعماق.
نعم، إن لكل عصر واحد، فكرته الكبرى الواحدة، وفكرة هذا العصر مدارها علم، فتسخير للطبيعة بذلك العلم، فشعور بالحرية التي يشعر بها من تصادفه العقبات فيقهرها ليمضي في طريقه، وتلك الفكرة الكبرى هي محور النسيج الثقافي في العصر القائم، ولا ندخل نحن عصرنا هذا، إلا بمقدار ما نطعم حياتنا الثقافية بما يضيف إلى خصائصها الجوهرية، جوانب أخرى. تعمل على أن تؤدي تلك الحياة الثقافية بأصحابها إلى «فعل» فيكون مقياس المعنى دائما ما يحدث في حياة الإنسان العملية من شيء يصنع ويعاش معه وبه؛ أما إذا جمدنا على الوضع الثقافي الراهن - الذي جوهره كلام ينتهي بالقاعد إلى أن يظل على قعوده أو ينام - فستبقى ثقافتنا - كما هي الآن - كلاما في كلام.
إذا جهالهم سادوا
بيت من الشعر حفظته، لا أدري منذ كم من عشرات السنين، ولعل الذي أبقاه في الذاكرة هذا الزمن الطويل، هو أني كثيرا ما كنت أردده، إنني حتى اليوم لا أعرف من هو قائله،
1
ربما كان أبا العلاء، لأنه معطر بعطره، إلا أن القول الجميل لا يعتمد في بقائه على بقاء اسم قائله، بل هو يستقل بذاته كائنا له حق الحياة، ومن هنا جاءت قوة الفن بشتى صوره؛ فالأثر الفني الخالد أقوى من صاحبه الذي أبدعه، وفيم العجب؟ إن الفنان إنسان يمرض ويموت، وأما فنه فإذا كانت له مقومات الفن الرفيع؛ كانت له بالتالي مقومات الدوام، مهما كان العصر وأهله؛ إذ الفن الرفيع فيه ما يرتفع به عن حدود المكان وحدود الزمان، لماذا؟ لأن ما يشتمل عليه مكان معين أو زمان معين هو جزئيات وتفصيلات مما لا يلبث أن يحيا حتى يموت، ولا يكاد يوجد حتى يفنى؛ فليست أحداث اليوم هي أحداث الأمس، كلا، ولن تكون هي أحداث الغد؛ فهذان حبيبان قد أذواهما الحب، وذلكما عدوان قد أحرقتهما الكراهية، وثالث هناك شغله المال وكسبه وجمعه، ورابع كاد يهلكه الجهد في سبيل الصعود إلى مقاعد الحكم، وغير أولئك وهؤلاء، فأين كانوا بالأمس؟ وأين يكونون غدا؟ لكن إذا ما وقعت موهبة عبقرية في فن من الفنون؛ في التصوير، أو في الشعر، أو في أدب المسرح والرواية، إذا ما وقعت موهبة عبقرية في ضرب من هذه الضروب من دنيا الفن والأدب، على ذينك العاشقين، أو العدوين، أو ما وقعت عليه من أفراد الناس وهم في المعترك، وأثبتت تلك الواقعة المفردة في قصيدة من الشعر، أو في لوحة من لوحات الفن التشكيلي، أو غير ذلك من فنون، بقي المنتج الفني أو الأدبي، ما بقي على وجه الأرض إنسان؛ وذلك لأن الفنان أو الأديب، من شأنه أن يقع على الجوهر الباقي من الواقعة الفردية الزائلة، فلئن كانت الواقعة الواحدة في كيانها الفردي شيئا يزول، فقد يكون منطويا في ثناياها «معنى» يخلد ما خلدت البشرية، لأنه في هذه الحالة، يكون «معنى» إنسانيا مطلقا وعاما، لا تتوقف صحة وجوده على وجود الأفراد الذين يجسدونه في مسالكهم الفردية؟ ومن هنا نفهم شيئا من المعنى الذي أراده أرسطو، حين قال عن «الشعر» (ولعله يقصد كل ضروب الفن والأدب): أصدق من «التاريخ». فبينما التاريخ يحكي عما حدث ذات يوم ما، نرى الشعر يثبت عن حقيقة الإنسان ما هو باق مع الإنسان في كل يوم.
وهذا بيت من الشعر، حفظته منذ لا أدري كم من السنين ؟ كنت أردده لنفسي آنا بعد آن، حتى رسخ في الذاكرة، لكنني لست الآن على يقين من دقة إدراكي لأبعاد مغزاه، وتلك هي خاصة أخرى من خصائص الشعر، فهو ليس صياغة تشبه ما يصوغه رجال العلم من رموز عددية أحيانا، ومن حروف الأبجدية أحيانا أخرى، قاصدين بذلك ألا يحمل كل رمز إلا معنى واحدا، يتساوى في إدراكه كل رجال العلم في عالم اليوم والأمس والغد. لا، ليس ذلك هو ما يصنعه شاعر بالألفاظ حين يصوغها؛ إذ تستطيع القول بأن عظمة الشعر يتفاوت قدرها بين مختلف الشعراء، بتفاوت هؤلاء الشعراء في قدرتهم على اختيار اللفظ والصياغة، بحيث يمكن لكل قارئ أن يخرج لنفسه بمضمون، ليس هو بالضرورة المضمون الذي يخرج به قارئ آخر، لأنه إذا كان رجل العلم يتناول موضوعه من ناحية «الكم» فالشاعر يتناول موضوعه من جانب «الكيف». العلم يدرس الطبيعة، حتى لو كان ما يدرسه هو «الإنسان» إذ هو في هذه الحالة ينظر إلى الإنسان من حيث هو جزء كسائر أجزاء الطبيعة، وأما الشعر فموضوعه «الإنسان حتى إذا تناول أي جزء من أجزاء الطبيعة، فهو يتناوله وكأنما هو مثله «إنسان». العلم «يطبعن» الإنسان والشعر «يؤنسن» الطبيعة، فالهدفان مختلفان أشد اختلاف، والوسيلتان أشد اختلافا.
وإنما أردت أن أقول إن هذا البيت من الشعر، الذي حفظته وكثر ما رددته، لست الآن على يقين من أن إدراكي لكل جوانب معناه كان هو هو الإدراك في مراحل حياتي جميعا، فماذا أرى من معناه اليوم؟ إنني أرجح أن يكون هذا البيت في محفوظات الكثرة الغالبة من القراء؛ ما ييسر المشاركة في الحديث، فهو بيت الشعر الذي يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ولنبدأ معا بشيء من تحليل اللفظ في ظاهره، قبل أن نتعرض لما قد ينطوي عليه ذلك اللفظ من أبعاد، فاللفظة المحورية هنا هي «سراة» (بفتح السين) وسراة أي شيء «أعلاه»، فذروة الجبل سراته، وظهر الجواد سراته، وهكذا.
على أن القاموس الوسيط يضيف إلى ذلك، أن سراة الشيء قد يراد بها «وسطه» وقد يراد بها أيضا «معظمه»، وبناء على ذلك، فإذا قلت: «سراة الشعب المصري»، كنت تشير إلى متوسط أفراده، أو إلى معظم أفراده، وهما معنيان - كما ترى - قريبان أحدهما من الآخر، إلا أن سياق البيت الذي نعرضه الآن للتحليل يقضي بأن المعنى المقصود من كلمة «سراة» هنا هو الجانب «الأعلى» من الشيء الذي يكون موضوعا لحديثنا، فإذا قال الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم»؛ فأول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن الشاعر قد قصد بذلك أن يقول إنه لا بد للناس من قيادة، أو ريادة، أو زعامة، أو صفوة، تهديهم سواء السبيل، وإلا ضربت «الفوضى» في حياة الناس بخلطها وخليطها وتخليطها، حتى لتنمحي الحدود الفواصل بين الأشياء والأفكار؛ فلا يدري أحد أيها يكون أيها!
إذن فاللفظة الثانية التي تستحق من تحليلنا وقفة، لأهميتها في البيت الذي نعرضه؛ هي كلمة «فوضى»، وإني لأعلم أنها كلمة كثيرة الدوران على ألسنة الناس، لكن ذلك وحده لا يضمن لنا أن يكون معناها واضحا، حتى لأولئك الذين يكثرون استخدامها في أحاديثهم الجارية، فمتى يكون الأمر «فوضى»؟ أظن أن معنى الفوضى يتضح بضوء يلقى عليه من ضده، وضده هو «النظام»، ومرة أخرى نعيد السؤال: ومتى يكون في موقف ما «نظام»؟ أيسر إجابة، وأوضحها، وأدقها، هي أن «النظام» في موقف ما، أو بين مجموعة مفردات، هو قدرتنا على وصفه بكلمة واحدة، أو بعبارة واحدة قليلة الكلمات، في حين أنه لو دبت الفوضى في ذلك الموقف نفسه، أو في مجموعة المفردات ذاتها، لأخذت أجزاؤها مواضع، بحيث يتعذر، أو يستحيل وصفها وصفا صحيحا ودقيقا، اللهم إلا إذا كلفنا ذلك كتابة مجلد ضخم أو ربما عدة مجلدات. ونسوق إليك أمثلة موضحة: خذ حفنة من الحصى، وانثرها على الأرض كما اتفق، ثم حاول أن تصف أوضاع الحصوات بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر، فانظر كم يقتضيك الأمر من قياس للمسافات التي بين الحصاة والحصاة، وقياس الزوايا التي تنحرف بها كل حصاة عن كل حصاة أخرى في المجموعة، لكن اجمع تلك الحصوات مرة أخرى، ثم رصها على الأرض على هيئة «مربع» فعندئذ تكون هذه الكلمة الواحدة، أعني كلمة «مربع» قادرة على وصف مجموعة الحصوات في أوضاعها، فهذه الحالة الثانية، هي حالة «نظام» بينما كانت الحالة الأولى حالة «فوضى».
خذ مثالا ثانيا؛ مجموعة ضخمة من كتب وأوراق، في مكتبة خاصة أو عامة، ما الفرق بينها وهي في «نظام» وبينها وهي «فوضى»؟ الفرق هو أنها في الحالة الأولى قد رتبت وفق قاعدة معينة، كأن توضع كتب الأدب في مكان، وكتب العلوم في مكان، وكتب التاريخ في مكان ثالث، وهلم جرا، ثم يزداد النظام نظاما إذا وضعت قاعدة فرعية لكل مجموعة فرعية، ففي كتب الأدب نفرق بين شعر ونثر، وفي كتب الشعر نفرق بين قديم وحديث، وبين عربي وغير عربي، وهكذا في سائر المجموعات، وأما إذا غاب النظام وقامت الفوضى، فتكوم الكتب كما اتفق، فيتعذر على صاحب المكتبة نفسه أن يخرج لنفسه كتابا بعينه؛ لأنه يكاد لا يعرف لأي كتاب مكانا إلا عن طريق المصادفات، وانظر إلى هاتين الحالتين، باحثا عن الفرق الأساسي بين ما هو «نظام» وما هو «فوضى» تجده - كما أسلفت لك - كامنا في سهولة الوصف بكلمات قليلة، إن لم يكن بكلمة واحدة في حالة النظام، وبصعوبته في حالة الفوضى؛ لأنك مضطر في هذه الحالة أن يجيء وصفك لها، مجموعة قوائم تفصيلية بأسماء الكتب ومواضعها، وحتى هذا يتعذر فعله إذا كانت المكتبة مكومة أكواما على الأرض، وليست مرصوصة في خزائن أو فوق رفوف.
وخذ مثلا ثالثا وأخيرا، نظام الكون، فكائنات هذا الكون العظيم، رغم لا نهائية عددها؛ قد صيغت في «نظام» بعضها مع بعض، حتى ليذكر المفكرون هذا النظام برهانا بين البراهين على وجود الخالق سبحانه وتعالى، كلما أرادوا على ذلك الوجود برهانا عقليا يؤيدون به صلابة الإيمان، فماذا نعني ب «النظام» في هذه الحالة؟ إننا نعني الشيء نفسه الذي عنيناه في المثالين السابقين، وهو إمكان الوصف بكلمات قليلة، في حين أننا لو افترضنا غياب النظام عن الكون فاختلط حابله بنابله؛ لاستحال استحالة قاطعة أن يوصف، حتى لو خصصت للوصف ملايين المجلدات لرصد أجزائه وجزئياته، أقول: ماذا نعني بالنظام عندما نصف به الكون؟ وأجيب: إن الذي نعنيه هو أن لكل أسرة من الظواهر «قانونا» يستطيع البحث العلمي استخلاصه، وإن هو لم يستطع إلى اليوم، فهو - من الناحية النظرية - مستطيع يوما ما، في مستقبله القريب أو البعيد. وقانون الظاهرة المعينة، كالضوء، أو الكهرباء، إنما هو عبارة قصيرة، لكنها تصدق على ما لا نهاية له من حالات الوجود الفعلي لتلك الظاهرة، وحتى لو كانت للظاهرة الواحدة عدة قوانين، فمن الممكن دائما أن تنسق تلك المجموعة تنسيقا يجمعها تحت «مبدأ» علمي واحد. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فنحن إذ نرى بين أيدينا علوما كثيرة: الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم النبات والحيوان والإنسان، وحين نرى كذلك أن كل علم من تلك العلوم يقام على عدة قوانين لا قانون واحد؛ فإننا نشعر بالقلق العقلي، ونأخذ في محاولات تحليلية، طويلة وعريضة، وعميقة، نستهدف بها البحث عن حقيقة واحدة، تلتقي فيها تلك الأشتات جميعا، وتكون تلك الحقيقة الواحدة - إذا وقعنا عليها - بمنزلة الأم التي أنسلت تلك الفروع جميعا، أو بمنزلة الينبوع الواحد، الذي تتدفق منه المياه كلها، قبل أن تعود فتتفرع فيما بينها فروعا، وفروعا للفروع، فإذا ما تحقق للباحث هدفه هذا، سميت تلك الحقيقة الواحدة الأولية - عادة - باسم «المبدأ الأول»، وسمي العمل الفكري الذي اضطلع به الباحث «فيلسوفا» وسمي البحث نفسه في هذه الحالة باسم «فلسفة»، وتلك هي المهمة الأولى والهامة والمميزة للفلسفة في أي عصر من عصور تاريخها، أعني محاولة جمع ما يبدو أشتاتا من ظواهر تحت مبدأ واحد، يوحده ويفسره في آن معا. وبعبارة أخرى متصلة بما نحن بصدد الحديث عنه وهو «النظام» ومعناه، لكي تتضح لنا بالتالي طبيعة «الفوضى» ومعناها، نقول إن نظام الكون، الذي هو من الأدلة على وجود الله سبحانه؛ إن هو إلا أن وضعت أجزاء الكون وجزئياته، على سنن معلومة من قوانين، وهذه القوانين إن تعددت؛ فهنالك المبدأ الواحد الذي يوحدها جميعا، وهو مبدأ إذا عبرنا عنه بكلمات؛ كانت العبارة قصيرة قليلة الكلمات.
وبعد هذا الذي بسطناه، فلنقرأ بيت الشعر الذي ندير حوله الحديث بقول الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جهالهم سادوا.» فأول بادرة عند القارئ - فيما أظن - هي أن يقرأ هذا البيت من منظور سياسي؛ فيكون المعنى هو أن حياة الناس لا تصلح إلا إذا أمسك لهم زمامها حاكم مطلق السلطان، يكون في جماعة الناس ما يكون الرأس من البدن؛ لأنه إذا ترك الأمر للجماهير وحدها، بحيث لا يكون فوقهم من هو أعلى؛ كان محتوما أن تتنافر المصالح بتنافر الأفراد. وقد يقرأ البيت من منظور اجتماعي، تكون فكرة الطبقات الاجتماعية ووجوب تفاوتها قدرا هي الفكرة الغالبة، فيكون المعنى هو أن حياة الطبقات الدنيا من المجتمع لا يصلح حالها إلا إذا تركت السيادة «للعلية» (بكسر العين وسكون اللام) الصفوة أو الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانت أرستقراطية ثراء ومولد أم كانت أرستقراطية علم ومعرفة، لكن مثل هذه الطبقة تختفي في مجتمع تطفو فيه جماهير الشعب على السطح؛ إذ الأرجح في تلك الجماهير أن تسودها جهالة بحقائق الأشياء، وبالتالي فهي أقرب إلى أن تضل سواء السبيل.
لكنني أتحدث هنا عن الحياة «الثقافية» وطرائق تحديثها؛ فلا المنظور السياسي بشاغلي، ولا المنظور الاجتماعي من وجهة نظر سياسية، وإنما هو المنظور الثقافي الذي قرأت منه هذا البيت من الشعر، فكان المعنى هو أنه لو تركت جماعة المثقفين غير مهتدية بمبدأ ضمني يكمن في نتاجهم؛ لجاءت التركيبة الثقافية في جملتها أقرب إلى كومة من الخيوط، لم تنسج على نول لتكون قماشة متصلة تصلح أن يقد منها ثوب يرتديه من يرتديه؛ فالمبدأ الضمني هنا هو بمنزلة «السراة» أو القمة التي يتجه إليها الصاعدون، وفكرة «المبدأ» في هذه الحالة، تترادف مع فكرة «الهدف»، فالشرط بأن يكمن في نفوس الذين ينتجون ثقافة «مبدأ» واحد، رغم تعدد المجالات التي منها تتكون حياة ثقافية كاملة؛ هو نفسه الشرط بأن يكون أمامنا «الهدف»، نعمل على تحقيقه، أو بعبارة أخرى، أن نلتزم في سيرنا «خطة» ولو على سبيل التقريب، لا تضيق الخناق على أصحاب المواهب، وإذا لم يكن مبدأ، أو هدف، أو خطة، فماذا يبقى إلا أن تتقاطع الخطوط، وتختلط السبل، ويصبح أمرنا «فوضى» لا نستطيع معها أن نصف حياتنا الثقافية بصفة تبين اتجاهها، فمثل هذا الوصف لا يتحقق لشيء - أي شيء - إلا إذا كان على شيء من «النظام» بالمعنى الذي أسلفنا شرحه لهذه الكلمة، فمع «النظام» يسهل التقنين، ويسهل الوصف في كلمات قلائل محددة المعنى واضحة الدلالة.
وإنني لأبعد رجل عن أن يجعل في الحياة الثقافية سلطة تملي، وجمهورا يتلقى ما يملى عليه، فليس الذي يدور بخاطري، هو أن تجيء الخطة الثقافية هابطة علينا من وزارة الثقافة أو غيرها من أنظمة الحكم؛ فما هذه الهيئات الحاكمة إلا وسائل لتيسير السبل أمام المواهب المبدعة، ولكن الذي أعنيه هو أن الحياة إذا استقامت سوية لأبنائها، وجدت هؤلاء الأبناء وقد تحركت ضمائرهم متجهة نحو أمل معين تتمناه لشعبها، ولولا هذه الحاسة الفطرية؛ لما وجدنا الشعوب تتميز فعلا بأنماط معينة من الذوق والرؤية ورسم الأهداف، ومن هنا جاءت صور التعبير بشتى أدوات الثقافة: الأنغام، والألوان، والكلمات، وغيرها من وسائل متميزة بطابع خاص في كل جماعة من الناس، فيكون لها موسيقاها وأغانيها، وتصويرها، وشعرها، وأدبها، وهكذا. على أن تلك الخصوصية الثقافية للشعوب، وإن حافظت على جوهرها الأصيل، فهي لا تتنافى مع التأثر بما يحيط بها من ثقافات الشعوب الأخرى، والتأثير فيها.
والآن فلنضيق مجال القول، وبدل أن نتحدث عن «الحياة الثقافية» وعن «الشعوب» بمعان مطلقة، نحصر انتباهنا في مجال واحد يعد مجالا من مجالات الإبداع الثقافي. ولأبدأ بالفكر الفلسفي في الوطن العربي المعاصر، كيف يجيء؟ وكيف يكون إذا قسم لنا أن يكون لنا شيء من فكر خاص يحمل هذا الطابع الفلسفي في منهجه وفي هدفه؟ فهذا الضرب من الفكر إن هو - بكل اختصار - إلا تعقب المفاهيم ذات الأهمية الخاصة في حياة الناس في عصر معين، وبالطبع تختلف هذه المفاهيم المحورية من عصر إلى عصر، فليس ما يسود عصرا قريب عهد بدين جديد آمنوا به، هو نفسه ما يسود عصرا آخر قريب عهد بعلم جديد تفتحت به قرائح العلماء، وذلك التباين بين العصور لا يتنافى مع أن تكون هنالك معان كبرى شغلت الإنسان منذ كان إنسانا، وستظل تشغله ما بقي إنسانا، كفكرة الخلق، وفكرة المصير بعد الموت، فماذا يصنع صاحب فكر يميل بطبعه نحو نهج التفكير الفلسفي، سوى أن يلتقط ما يلفت نظره من المفاهيم الشائعة بين جمهور الناس، فيحللها ويؤصلها، وإنه وهو في طريقه نحو التحليل والتأصيل؛ ليصب الضوء شيئا فشيئا على ما تعنيه الفكرة التي يتناولها بالتشريح. ولا بد لنا من القول هنا، بأن الجمهور وحده إذ يتداول فيما بين أفراده مفهوما من تلك المفاهيم المحورية في عصره، مستحيل على قدراته العامة أن تدرك المعنى الواضح لذلك المفهوم. على أن مثل هذا التشريح للمعاني بغية توضيحها لا يجيء مع كبار الفلاسفة مجزأ، وإنما هو يستهدف آخر الأمر إقامة بناء فكري كامل وشامل، يصور جسم الحياة كما هي قائمة، ويبين في الوقت نفسه ماذا على الناس أن يصنعوه بتلك الحياة لتكمل بعد نقص.
ومن هو على طريق التفكير الفلسفي - بهذا المعنى الذي قدمناه - من أبناء الوطن العربي، تضطره المفاهيم التي تلح عليه بأن يلتزم بتشريحها وتوضيحها، فهي في حياتنا العربية كثيرة جدا، خطيرة جدا، شديدة الغموض في أذهان الناس، ومع ذلك الغموض تراهم يتقاتلون من أجلها في حرارة وكأنهم حقا يعلمون على أي شيء هم يتقاتلون! وفي الصدارة يأتي مفهوم «العروبة» والصعوبة الشديدة في رسم الخط الواضح بين «العروبة» و«الإسلامية»؛ إذ هو من الغموض بحيث تجد من لا يستسيغ منك أن تقول أمامه إننا ننتمي إلى «عروبة»؛ فيعترضك بقوله إنما الانتماء يكون للأمة الإسلامية في طولها وعرضها. ولو أن الخلط بين هذين المفهومين مقتصر على الجانب النظري والجدلي فقط، لهان علينا الأمر، وقلنا إنها شقشقة لسان لا تغني عن الحق شيئا، ولكنه خلط يضرب في صميم حياتنا السياسية والعملية ، حتى لقد جاز لبلدان «عربية» أن تحارب في صفوف بلدان «إسلامية وغير عربية» بلدانا عربية أخرى، وليس شأني هنا هو السياسة، فلست من رجالها، ولكن شأني هو وضوح المفاهيم المحورية في حياتنا أو غموضها.
وهنا ألقي بسؤال على القارئ، وسوف يرى أن الإجابة ستكون في أيدينا مفتاحا لمشكلة من أعقد مشكلاتنا الثقافية المعاصرة، وذلك السؤال هو: إذا حدث أن ظهر بيننا صاحب منهج فلسفي في تحليل المعاني، وأن ذلك الرجل قد حلا له أن يصب منهجه ذاك على مفهومي «العروبة» و«الإسلامية» فهل يحسن به أو يقبح به أن يستعين بما قد يكون بعض فلاسفة العرب قالوه في طرائق تحليل الأفكار؟ إذا جاء جوابك بأن ذلك الأخذ الثقافي بين الشعوب هو أمر لا ضير فيه، بل إنه لخير كل الخير، يضيف إلى إحدى الثقافات، دون أن يمس جوهرها الأصيل، أقول: إذا جاء جوابك على هذا النحو؛ إذن فكأنك أشرت علينا بوجوب الأخذ والعطاء بين مختلف الثقافات، وتكون قد ألقيت درسا على قوم يرفعون علينا عصيهم إرهابا؛ حتى ننكمش في حدود جدراننا، لا نفتح فيها نافذة ولا بابا.
وكنت أود أن أسوق بعد مثل الفكر الفلسفي، مثلا ثانيا من الفن، وثالثا من الأدب؛ لأوضح كيف أن بعض عناصر «المبدأ» الضمني، الذي نريد له أن يكون ماثلا أمام صناع الثقافة في أمتنا، يجب أن يكون ضرورة الأخذ والعطاء بين الثقافات، غربيها وشرقيها على السواء، دون أن نخشى في سبيل ذلك طغيانا على هويتنا الوطنية والقومية معا.
وأما أهم عنصر مما نريد له أن يكون «المبدأ» الهادي في إبداعنا الثقافي، على اختلاف مبادئه؛ فهو أن نتصور بوضوح ناصع، مقومات المواطن الذي نسعى إلى بنائه بمبدعاتنا، ماذا عساها أن تكون؟ إن الوالد الذي يتولى ولده بتربية منسقة تنتهي به إلى غاية منشودة، إنما يؤدي ما يؤديه، والصورة المثلى قائمة نصب عينيه، وإلا لما عرف ماذا يكون صوابا وماذا يكون خطا في تنشئته لولده، وكذلك الحال بالنسبة إلى بناة الصرح الثقافي في بلادنا؛ فلن تتيسر لهم هداية السير على جادة الطريق، إلا إذا تمثل في وجدانهم صورة لما يريدون تحقيقه بما يبدعونه قطرة قطرة، معزوفة معزوفة، قصيدة قصيدة، رواية رواية، مقالة مقالة.
ولست أرى صورة نهتدي بها في إنتاجنا الثقافي خيرا من مواطن فيه كل مقوماته الوطنية والقومية الأساسية، بحيث يكون مصريا لا شائبة في مصريته، عربيا لا ريبة في عروبته، ثم إنسانا يعيش مع سائر الناس في أرجاء الدنيا، يحمل معهم هموم العصر للمشاركة في حلها، كما يحمل معهم عبء التقدم، بمشاركة فعالة تحس بها الدنيا؛ ليصيح زهوا بملء فيه: ها أنا ذا، وهكذا كان أبي.
ناقد الفكر وناقد الأدب
الأدب شأنه معروف في حياتنا الثقافية، حتى إن اختلفنا في تصور ما هو متوقع منه أن يؤديه، وأما ناقد الفكر فلا أظن أن أمره معلوم لأحد، وهو إن كان معلوما لقلة من المثقفين؛ فأرجح أن يكون ذلك العلم عند من يعلمونه مشوبا بضباب الغموض، إلى حد يكاد يجعله علما كالجهل، لا ينفع أحدا، وهنا قد يعجب قارئ لهذه التفرقة بين فكر وأدب، ولا سيما ونحن لا ندخل «العلوم» فيما نسميه «فكرا»، كما يعجب لهذا الذي نزعمه عن غياب ناقد الفكر من حياتنا، أو هو موقف يشبه الغياب، فكيف يستقيم هذا الظن والأقلام كما نراها تصطرع محمومة في كل مناسبة تسمح لحرب الكلمات بين رجلين؟! أمور في حاجة إلى توضيح.
فأما عن التفرقة بين ما هو «فكر» وما هو «أدب»؛ فأساسها أن الأدب لا يعد أدبا إلا إذا أقامه مبدعه على «شكل» مقنن؛ فحتى لو كان ذلك الأدب منطويا على فكرة؛ فهي فكرة - في هذه الحالة - مقدمة إلى متلقيها بطريق غير مباشر؛ فالفرق واضح بين مقال يبين فيه صاحبه انخفاض مستوى المعيشة في بلد فقير ورواية يقدمها أديب كل ما فيها أشخاص يتفاعلون بعضهم مع بعض في حياة مشتركة، وقد لا ترد فيها كلمة «فقر» مرة واحدة، لكن الصورة التي يتلقاها القارئ تصرخ بالفقر، وكذلك الفرق واضح بين مقالة تحليلية تبين ملامح «الغيرة» ومسرحية تقدم لنا تلك الغيرة مجسدة في سلوك يتفاعل به السالكون، وقد يسأل سائل: وماذا أنت قائل في شعر «الحكمة»؟ أليست الحكمة أدخل في باب «الفكرة»؟ بلى، ولكن الذي جعل شعر الحكمة شعرا هو أولا: أنها تجيء منضوحة من خبرة الشاعر في حياته، وإذن فهو يقدم إلينا قطعة من نفسه، وثانيا: هي تجيء إلى قارئها محكومة بضوابط الوزن الشعري، وهو فرق كالفرق بين المشي والرقص؛ فليس مجرد المشي فنا، ولكن الرقص فن، مع أن الأمر في الحالتين متشابه، وهو أنه سير بالرجلين؛ فالفرق هو بين سير مطلق من القيد وسير مقيد بإيقاع، وهكذا تكون الحال بين حكمة تقدم منثورة، لا يخضع التركيب اللغوي فيها إلا لقواعد النحو، وحكمة تقدم شعرا فتخضع لقيد مقنن، هو الوزن.
ذلك هو الأدب، فماذا عما نسميه «فكرا» ولا نضع فيه العلوم بمختلف أقسامها؟ إن التحديد القاطع هنا أصعب منه في حالة الأدب وفي حالة العلم، وكأني «بالفكر» وسط يقع بين ذينك الطرفين، فإذا كان الفارق الأساسي بين «العلم» من جهة و«الأدب» من جهة أخرى؛ هو أن العلم يعمم القول فيما يبحث فيه، وأما الأدب فهو يبرز «التفرد» الذي ينفرد به الشخص أو الموقف، الذي يكتب عنه الأديب أدبا؛ فرجل العلم قد يضع في مخابيره المعملية قطعة معينة من الفحم، لا ليقف عندها هي من أجل ذاتها، بل ليصل من خلالها إلى حكم علم على كل الفحم الذي هو من قبيل القطعة المبحوثة، وأما قيس وهو يتحدث عن ليلى؛ فإنما يتحدث عن ليلى وحدها، لا تشاركها امرأة أخرى فيما يحكيه عنها، وقد تسأل هنا قائلا: ولكن أليس الشخص الذي يرسمه الأديب هو في الوقت نفسه نموذج بشري عام؟ انظر - مثلا - إلى «هاملت» ألا تراه صورة نموذجية للمثقف في حيرته؟ بلى، إلا أن من معجزات الفن الرفيع؛ أنه وإن يكن يوغل في فردية الفرد الذي يصوره فهو في الوقت نفسه يقيم نموذجا ما، يشمل نوعا من الناس، لكن هؤلاء إنما يقتربون قليلا أو يقتربون كثيرا من النموذج، دون أن يظهر للنموذج نفسه توأم يطابقه في كل تفصيلة من تفصيلات وجوده، فصوت أم كلثوم يقلده كثيرون - اقترابا أو ابتعادا - لكنه من غير المحتمل أن يتكرر بذاته في شخص آخر.
قلنا إن العلم يعمم أحكامه، من جهة، والأدب يخصص صوره في أفراد لا تتكرر، من جهة أخرى، ثم قلنا إن «الفكر» يشبه أن يكون وسطا بين هذين الطرفين؛ ففيه تعميم قريب من تعميم الحقيقة العلمية، وفيه صلات تربطه بالذات الإنسانية في تفردها، وخذ فكرة «الحرية» - مثلا - إنها ليست من حقائق العلم؛ فلا هي فيزياء ولا هي كيمياء، ولا هي مما يندرج مصطلحا في أي علم من العلوم، وليست هي في الوقت نفسه قطعة من أدب؛ لأنك إذا تحدثت عن «الحرية» وجدت حديثك مختلفا عن شعر الشاعر ورواية الروائي، لكنها رغم ذلك كله، موصولة بما هو عام، وبما هو خاص في آن واحد، فقل عنها: «الحرية حق لكل إنسان.» تجد في قولك هذا تعميما يقترب من أحكام العلم، ثم تجد فيه، في الوقت نفسه، وترا منغوما يهز القلوب، ومجموعة المعاني التي نطلق عليها اسم «فكر» هي من هذا القبيل: ديمقراطية، إخاء، مساواة، عدل، رحمة، تعاون، ذوق، جمال، فضيلة، حق، ... إلخ.
فتستطيع أن ترى في كل معنى من هذه المعاني وأمثالها؛ ما يكون لنا مما نسميه «فكرا» أو المجال الخاص من مجالات القول، الذي لا هو علم صريح ولا هو أدب صريح. أقول إنك تستطيع أن ترى في كل فرد من أفراد هذه الأسرة؛ خاصة مشتركة بينها جميعا، وهي أن المعنى الواحد منها أوسع جدا من أن تكون له الحدود الفاصلة التي تحدده، وقد يبدو للرائي، للوهلة الأولى، أنه محدد ومفهوم، لكنه كلما اقترب منه وجده أشد روغانا من الزئبق، ولا عجب أن تجد للحرية ألف صورة وصورة، وللديمقراطية ألف شكل وشكل، وهكذا قل في سائر أفراد هذه الأسرة العجيبة، وذلك لأن كل معنى منها واسع عميق في مضمونه، سعة المحيط وعمقه، فخذ منه ما تشاء، ويتعذر أن يقوم واحد من المختلفين حجة على أحد؛ فهذا حر وذلك حر، مع أن صورة الحياة مختلفة بينهما، وذلك شعب ديمقراطي وذلك شعب ديمقراطي، وصورة التركيب في كل منهما بعيدة عن صورة التركيب في الآخر. وأعجب العجب أن هذه المجموعة من المعاني، التي هي مجال «المفكر»؛ هي التي في سبيلها تشن الحروب بين الشعوب لاختلاف هذه الشعوب حول الزاوية التي يرى منها شعب ما معنى من تلك المعاني، كالحرية أو الديمقراطية أو المساواة، عن الزاوية التي نظر منها شعب آخر؛ فلم يعرف التاريخ حربا شنت بسبب اختلاف على حقيقة علمية، ولا حربا شنت بسبب اختلاف على طريقة نظم شعر أو بناء الرواية، ولكنه عرف حروبا لا حصر لعددها، بسبب اختلاف على «فكرة» من تلك الأسرة الكريمة؛ أسرة الأفكار.
ذلك إذن هو عالم «الفكر» وموقعه بين عالمي «العلم» و«الأدب»؛ فهو أغمض الثلاثة جميعا، لكنه هو أخطرها في تكوين وجهات النظر، التي منها يتألف بعض الملامح في هويات الأمم والشعوب، ولكل من هذه الأطراف الثلاثة - العلم والأدب والفكر - مبدعوه، ثم متلقوه، ثم ناقدوه. ومبدعو العلم هم العلماء في مجالات العلم المختلفة: الرياضة، والطبيعة، والعلوم الإنسانية أو الاجتماعية، ومبدعو الأدب هم الشعراء والروائيون والمسرحيون وكتاب المقالة الأدبية والرسائل ... إلخ (ولم أذكر «الفن» لأن ما يقال عن الأدب في هذا السياق يصدق على الفن كذلك). وأما مبدعو «الأفكار»؛ فهم جماعة «المفكرين»، وذروتهم هم الفلاسفة، وأساس التفرقة هنا بين «ذروة» وسفح؛ هو درجة التعميم والتجريد في البناء الفكري المعروض، وكذلك لكل طرف من هذه الأطراف الثلاثة نقاده. على أن ما يلفت النظر هنا هو أنه بينما لا ينقد الناتج العلمي إلا عالم؛ فإن الذي ينقد الناتج الأدبي، أو الناتج الفكري، لا يشترط فيه بالضرورة أن يكون هو نفسه أديبا أو مفكرا، ولذلك أمكن أن يختص بالنقد في هذين المجالين «نقاد»، ولا يكونون شيئا آخر إلا أنهم «نقاد»، وعند هذه الملاحظة نرتد بالقارئ إلى ما بدأنا به هذا الحديث، وهو أن حياتنا - نحن - الثقافية قد عرفت نقاد الأدب، ولكنها تكاد لا تعرف شيئا عن نقد الفكر، ما هو؟ وكيف يكون؟ ومن ثم كثرت بيننا في هذا المجال التخاريف، والفهلوات، وكل صنوف الادعاء والجهالة والضحالة، والثرثرة الفارغة دون أن يتنبه عليها أحد، أو ينبه عليها أحد. ولماذا نعجب - إذن - وتلك حالنا في هذا الجانب من حياتنا الثقافية، أن يظفر بجوائز الدولة، وبمقاعد الرئاسة، وبأضواء الشهرة؛ من لم يكن ليجد سبيلا إلى أعين الناس وآذانهم - ودع عنك عقولهم وقلوبهم - لو كان في حياتنا نقاد فكر، كما كان فيها نقاد أدب وفن.
وبين هذين الضربين من النقد أوجه اختلاف، لا تجعل بينهما من العلاقة إلا ما يكون بين أبناء العم في الأسرة الواحدة، ولم أقل ما بين الإخوة الأشقاء؛ لأن نقد الأدب ونقد الفكر فرعان لا يولدان من والد واحد، ولكنهما يلتقيان عند الجد القريب، وأحيانا عند الجد البعيد؛ إذ ليس الهدف فيهما واحدا، كلا، ولا خطوات السير فيهما متطابقة، فماذا يريد ناقد الأدب؟ وكيف يحقق ما أراده؟ وماذا يريد ناقد الفكر؟ وما أدواته ووسائله في تحقيق غايته؟
لن أطيل الوقوف عند ناقد الأدب؛ لأن المادة المنشورة والمقروءة حول هذا الموضوع قد شاعت وذاعت حتى بلغت معظم الآذان في من يهمهم الأدب ونقده، وحسبي أن أقول إن السؤال الذي يطرحه ناقد الأدب على نفسه - سرا أو علانية - هو شيء شبيه جدا بسؤال يطرحه صائغ الذهب أو الأحجار الكريمة، كلما أراد أن يعرف كم من الذهب في قطعة زعم لها أنها من ذهب، أو إلى أي مقدار يكون هذا اللؤلؤ حرا، أو هذا الماس ماسا، والزمرد زمردا، إنها لتعد بعشرات الألوف؛ تلك التركيبات اللفظية التي تنشر في الناس ويقال عنها إنها شعر، أو إنها رواية، أو ما شئت من صنوف الأدب. ومهمة الناقد الأولى هنا هي كمهمة المصرفي الذي يسأل عن «النقود»: أصحيحة هي أم زائفة؟ وكالمصرفي، لا بد لناقد الأدب أن يتصور قاعدة أو قواعد، يستخدمها في تمييز الأدب الحر من الأدب «التقليد»، وأن تلك القواعد عند الناقد المتمرس لتنغرس في كيانه حتى تكاد تتحول لتكون جزءا من فطرته، أو كأنها قد أصبحت حاسة أخرى تضاف إلى حواسه، لكن شيئا من إمعان النظر يظهرها ويبينها حتى نراها «قواعد» كما كانت في مرحلتها الأولى من حياة الناقد. ولست أنسى جلسة في لجنة رسمية كانت تناقش مستقبل الحياة الأدبية عندنا، فورد ذكر النقد الأدبي بطبيعة الحال، وما كدت أنطق بكلمة «قاعدة» يرتكز عليها حكم الناقد، حتى صاح عضو كانت له مكانته، قائلا: لا، لا قواعد! هذا تقييد للمواهب! الموهبة لا تعرف «القواعد»! يا سبحان الله! كيف - إذن - يكون أي حكم في الدنيا على أي شيء يراد الحكم له أو عليه إلا أن تكون هناك «قاعدة» صريحة أو مضمرة؟!
ونقاد الأدب - على وجه الإجمال - صنفان: صنف منهما يقف عند النص الأدبي ذاته لا يجاوزه، يشبعه تحليلا من كل وجوهه؛ ليعرف كيف ركبت الكلمات فكانت ما كانت من فروع الأدب، وإلى هذا الصنف ينتمي معظم نقاد الأدب في تراثنا العربي.
وأما الصنف الثاني فالناقد فيه «يخترق» النص الأدبي ليرى ما وراءه، وأحيانا يكون هذا الذي وراءه «نفس» المبدع الذي أنتج الأثر المنقود، وأحيانا أخرى يكون «الحياة الاجتماعية» التي أحاطت بذلك المبدع وقت إبداعه، وأحيانا ثالثة يكون ذلك الماوراء المنشود هو احتمال أن يكون الأثر المنقود نافعا للناس، وواضح أن وقوف الناقد عند النص، هو أصعب الوسائل النقدية، وأحوجها إلى دراسة علمية؛ لأن البحث عما «وراء» النص مجال فسيح للتخمين الذي قد يضل، دون أن تجد البرهان الحاسم الذي تقيمه على ضلاله، ولذلك كان مثل هذا الشطح في عملية النقد الأدبي مغريا لكل ذي جهالة يريد أن يكون ناقدا!
على أنه سواء أكان الناقد ممن يأخذون أنفسهم بالوقوف عند النص الذي بين يديه أم ممن يجاوزون النص بحثا عما وراءه؛ فلا بد في كلتا الحالتين أن ينفذ إلى الفكرة الخبيئة في الأثر المنقود. والفرق بين الجماعتين في هذا هو أن جماعة النص تستخرج الفكرة الخبيئة من النص نفسه، وأما جماعة «الماوراء» فكثيرا ما تلجأ إلى حدس البديهة. ولسنا بهذا نقول إن مهمة المبدع هي أن يعرض فكرا كلا، لأنه لو فعل ذلك صراحة، سقط إنتاجه من حساب الأدب بمقدار ما فعل، وإنما الفكرة المبثوثة في النص الأدبي يستخلصها الناقد استخلاصا من صورة الحالة الإنسانية المعينة التي صاغها المبدع في أثره الأدبي، وإذا لم يجد الناقد أن فكرة كامنة في الحالة المعروضة؛ كان من حقه أن يتهم القطعة المنقودة بالسطحية والتفاهة، وأمثالها لا يكتب لها دوام.
على أن نقاد الأدب لا يتحركون جميعا في فلك واحد، بل هي أفلاك ثلاثة متدرجة في الصعود، أدناها أن يكون مدار الناقد عملا أدبيا معينا، ديوانا من الشعر أو رواية، أو مسرحية معينة، أو ما شئت مما تخطه الأقلام وتخرجه المطابع. وحتى هذا الفلك الأدنى، فيه فرق شاسع بين ناقد وناقد، فهنالك من لا يزيد جهده على مراجعة الكتاب الذي يقدمه، مراجعة تجيء أقرب إلى إعلان مفصل عن ذلك الكتاب بتعريف القراء عن مضمون مادته مع شيء من التقويم إيجابا أو سلبا، ولكن هناك أيضا من يعلو في تناوله للكتاب الذي ينقده، حتى لكأنه يعرض نظرية نقدية بأسرها مجسدة في تعليق واحد على كتاب واحد. وأما الفلك الذي يتلو ذلك صعودا، فهو الذي لا تجيء معه الأعمال الأدبية المفردة إلا أمثلة يوضح بها فكرة يعرضها، وها هنا يكون محور البحث عند الناقد نوعا أدبيا في جملته: أدب الرواية، أو الشعر، أو المسرح أو غير ذلك؛ لأن لكل مرحلة زمنية ظروفها التي كثيرا ما تنعكس على كل فرع من تلك الفروع، فتوجهها في طريق مختلف عما كانت تسير فيه خلال مرحلة زمنية سابقة، فقد يجعل الناقد حديثه عن «الشعر» المعاصر أو «الرواية خلال السبعينيات» أو ما هو شبيه بذلك، والأغلب في هذه الحالة أن يحتاج الأمر إلى دراسة قد تبلغ أن تكون أكاديمية المستوى، وأن يضطلع بها أساتذة الأدب في الجامعات، أو طلاب الدراسات العليا فيها.
ويبقى الفلك الثالث الذي هو أعلاها، وهنا لا العمل الأدبي الواحد هو مدار الحديث، ولا النوع بأسره من أنواع الأدب، بل يكون المدار هو البحث عن «مبدأ» واحد، تنبثق منه شتى القواعد في مختلف وسائل الإبداع؛ إذ هو مبدأ يراد به أن يبرز الجوهر الذي به يكون الإبداع إبداعا، كائنا ما كان الميدان الذي تحقق فيه هذا الإبداع، وعند هذه المرحلة نكون قد دخلنا فلسفة النقد، أو فلسفة الجمال الفني، وهو فرع من فروع الدراسة الفلسفية.
ذلك كله عن ناقد الأدب، مما قد يعرف القراء المهتمون بالأدب ونقده كثيرا منه؛ لأنه قد صادف أقلاما كثيرة عنيت بعرضه، حتى في الصفحات الأدبية من الصحف اليومية، فماذا عن نقد الفكر؟
أول ما نذكره عن ناقد الفكر، ما يميزه من ناقد الأدب أن هذا الثاني مقيد بميدانه، وميدانه هو «الأدب» وأما الأول فيحمل في يده عدته النقدية ليعملها في أي فكرة يريد نقدها، كائنا ما كان الميدان الذي تنتمي إليه، فقد يقرأ لناقد أدبي كلاما عن «التجديد» في الشعر، فيقف هنا متسائلا: ماذا يراد بكلمة «التجديد»؟ أو قد يقرأ لكاتب سياسي كلاما عن «العدالة الاجتماعية» فيقف متسائلا: ماذا تعني «بالعدالة» أولا؟ ثم ماذا تعني تلك العدالة وهي موصوفة بصفة تقيد مجالها؟! وأعني صفة كونها «اجتماعية»، وهكذا يتخطى ناقد الفكر حدود التقسيم الموضوعي، الذي يجعل لكل موضوع واحد مجالا واحدا. ويقيم على ذلك الميدان علماء متخصصون في موضوعه، إلا أن الباحث المتخصص في موضوع معين لا مفر له من أن يقبل طائفة من المعاني قبول التسليم؛ لكي يجعل من تلك «المسلمات» سقالات يعتمد عليها في إقامة بنائه. والغرض في تلك الأفكار أو المعاني، المقبولة من الباحث قبول التسليم؛ ألا تكون مؤدية به إلى تناقض في آخر المطاف فينهار بناؤه من أساسه. وهنا تجيء الحاسة اللاقطة عند ناقد الفكر، فيتناول ما يتناوله بالتشريح، لعله يلقي الضوء على مكونات فكرة معينة، حتى إذا ما وجدت متسقا بعضها مع بعض قبلت، أو وجدت حاملة في جوفها لعناصر ينقض بعضها بعضا فترفض، وعندئذ يجب أن يعاد التفكير في البناء الذي كان مقاما على أساسها.
ومن أهم الأدوات التحليلية التي يستخدمها ناقد الفكر أداة يبحث بها عما إذا كانت الفكرة المعينة تحمل في جوفها ما يشير إلى «معنى» أو لا تحمل، وإذا كان لها معنى فما هو؟ وذلك لأن هنالك في اللغة التي هي في حقيقة أمرها «فكر» صاحبها متكلما أو كاتبا، أقول إن هناك في اللغة كلمات بغير معنى بعضها يبلغ من الخطورة أن يعيش الناس في عالم من الوهم، ينسجونه بأنفسهم ليصبحوا هم أول ضحاياه، فمن عاش في الوهم عن غير وعي منه بأن ثمة فجوة بين ظنونه من جهة، وبين حقائق الواقع من جهة أخرى، كان فريسة هينة لمن شاء أن يأكل، وأنت إذا بحثت لفكرة معينة عن «معناها» فلا بد أن تتجه ببحثك هذا نحو شيء خارج تلك الفكرة ذاتها؛ لأن معناها هو ذلك الشيء الذي تشير إليه.
ومثل ذلك البحث هو من أهم ما يفعله ناقد الفكرة، إنه يسأل نفسه: ماذا تعني؟ أي إلى أي شيء تشير؟ لكنه قبل أن يهم بالبحث عن ذلك الشيء المشار إليه خارج الفكرة يجب عليه أولا أن يحللها إلى عناصرها، كما يحلل الكيماوي مادة ليرى من أي العناصر تكون، والأرجح جدا أن تكون الفكرة المعروضة للبحث مركبة من عدة عناصر ونحن لا ندري، ونستخدمها في أحاديثنا وكأننا نتحدث عن كائن محدد معلوم، حتى إذا ما اطمأن ناقد الفكرة إلى مكوناتها، بدأ توجيه بصره نحو ما «تعنيه» تلك العناصر، أي نحو ما تشير إليه، وهنا قد ينتهي به الأمر إلى واحدة من حالات أربع: الأولى أن يجد ما يشار إليه بالفكرة: شيئا، أو صورة من صور السلوك، أو أي مشار إليه من أي نوع آخر، وعندئذ تكون الفكرة ذات معنى وأنها فكرة صحيحة بوجود معناها ذاك في دنيا الحقائق، والحالة الثانية، هي أن يتأكد ناقد الفكرة من طبيعة ما تشير إليه، لكنه ينظر إلى ما هو واقع بالفعل فيجده على غير تلك الصورة، وعندئذ تكون الفكرة ذات معنى، إلا أنها خاطئة في تصويرها للواقع : كأن تقول - مثلا - إن عدد الجامعات المصرية أربعون جامعة؛ فهذه فكرة لها معنى، ولكنه يخطئ بالنسبة إلى حقيقة الواقع، وكلتا هاتين الحالتين نراهما في حياة الناس الفكرية حتى وهي حياة سوية؛ لأن الأولى منهما مقبولة منطقا وواقعا معا، والثانية منهما مقبولة منطقا ومرفوضة واقعا، وعندئذ يسهل تصحيح الخطأ بمراجعة ما هو واقع.
أما الحالة الثالثة من تلك الحالات الأربع؛ فهي أن يجد ناقد الفكرة أنها تنطوي على تناقض، لأن العناصر الكامنة فيها يعارض بعضها بعضا، وعندئذ لا ندري أي عنصر من تلك العناصر نريد. مثال ذلك حين قلنا إن رئيس الجمهورية هو في الوقت نفسه في موقع الوالد من الأسرة المصرية، فهذه الصورة تحمل عنصرين متناقضين: أن يكون الرئيس قابلا للعزل ممن انتخبوه إذا هو لم يحقق لهم ما انتخب من أجله، أو أنه غير قابل للعزل شأنه شأن أي والد من أسرته، أو حين قلنا إن الصحافة سلطة رابعة؛ لأنها إذا كانت رابعة كانت الإشارة إلى السلطات الثلاث المعروفة وهي التشريعية والقضائية والتنفيذية، لكن هذه الثلاث تشترك كلها في أن لها سلطة؛ أي قوة تطبق بها ما تريد تطبيقه؛ فواحدة تشرع، وثانية تقضي بناء على تشريعها، وثالثها تنفذ ما قضى به القضاء، فأين تقع الصحافة في هذا المسلسل؟ هنا يقال إن المسلسل الذي تقع فيه هو عناصر الهيئة التشريعية، لكن تلك العناصر بوصفها ناقدة حددناها بخمسة، وإذن تكون الصحافة سلطة سادسة وليست رابعة. ومصدر الخطأ كله هو الجملة الشهيرة التي قالها كارلايل في منتصف القرن الماضي عن الصحافة الإنجليزية بأنها هيئة رابعة (ترجمت الكلمة التي استخدمها في هذا السياق خطا حين ترجمت بكلمة سلطة) وكانت صفة كونها «رابعة» منسوبة إلى العناصر الثلاثة المكونة للبرلمان الإنجليزي: اللوردات، ورجال الكنيسة، وعامة الشعب. وهكذا استخدامنا فكرة فيها لبس لا يمكننا من معرفة الشيء الذي نعنيه. وأما الحالة الرابعة والأخيرة؛ فهي أن يحلل الناقد فكرة، فيجدها بحكم تكوينها اللفظي نفسه لا تحمل معنى على الإطلاق؛ أي أنه يجد استحالة منطقية في أن تشير إلى أي موجود بين الموجودات العقلية، أو بين الموجودات التي يمكن أن يتحقق لها وجود، كأن نقول مثلا إنك وجدت دائرة مربعة، وربما اعترضت على هذا المثل قائلا: وهل يعقل أن يقول قائل قولا كهذا؟ فأجيبك بأن أولئك الذين يتحدثون عن تحضير الأرواح وعن الأشباح يرونها بين القبور أو حيثما يرونها، أو ما يشبه ذلك من ضروب الكلام. إذا أنت حللت ما يقولونه؛ وجدته يضع أضدادا محال عليها أن تتلاقى بحكم تعريفها ذاته، وظني هو أن في حياتنا أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فهذا الصنف من المركبات اللفظية التي تتنافر أجزاؤها، يمكن إدراجه فرعا من فروع الحالة الثالثة التي أسلفناها.
ناقد الأدب يبث في نقده تقويمه الخاص للأثر الأدبي المنقود، وأما ناقد الفكر فلا يزيد عمله النقدي على أن يكون عدسة مكبرة، تكشف دخائل الفكرة وعناصرها، على نحو ما ينظر العالم بمجهره إلى ماء يظن فيه النقاء، وإذا هو يكشف عن حشد من الجراثيم لا ينكشف للعين المجردة، فإذا ما تبينت عناصر «الفكرة» الموضوعة تحت الفحص لناقد الفكر؛ عرف من أي نوع من الأنواع الأربعة هي، أهي من حوامل المعنى وصادقة على عالم الواقع أم هي من حوامل المعنى لكنه مخطئ بالنسبة إلى عالم الواقع أم هي تحمل في جوفها عناصر متناقضة فلا ندري كيف السبيل إلى فهمها حتى تكون ذات نفع لنا؟ أم هي من ذلك الصنف السرطاني الخبيث الذي تساق فيه تركيبات لفظية تشبه حوامل الأفكار ولكنها في حقيقتها خلو من أي معنى فتحدث في الناس أوهاما بأنهم «يعرفون» وهم لم يعرفوا شيئا؟
وناقد الأدب وناقد الفكر كلاهما من أقوى عوامل التحديث في ثقافتنا العربية إذا هما تعقبا نواتج الأدب والفكر بالنقد الموضوعي النزيه والمهتدي بعلم صحيح، ولقد شاء لنا الله أن يكون بيننا نقاد للأدب، مهما يكن بهم من قصور؛ فمنهم جاء بعض الضوء، فاستنارت الحركة الأدبية ولو إلى حد محدود، ولكنه لم يشأ أن يظهر فينا حدا أدنى من نقاد الفكر، فغرقنا في ضباب الغموض يحيط بنا من كل جانب فتدور على ألسنتنا وأقلامنا أسماء التيارات والمذاهب والمعاني، لكننا قلما نعرف لاسم من تلك الأسماء الضخمة حدوده وقيوده وأعماقه ومراميه.
لك الله يا علوم الإنسان!
الكرة الحيرى بين أقدام اللاعبين لم تعد تعرف لنفسها والدا تنتمي إليه؛ فكل يريدها لنفسه، وكأنها قطعة الحلوى تنازعتها جماعة من الصغار اللاعبين، مع أن المسكينة تحمل معها شهادة ميلادها، تبين لمن أراد بيانا، من هي، وإلى أي أسرة تنتمي، فاسمها «علوم»، وهي تنتمي إلى أسرة «العلم». وإنما أعني تلك المجموعة من الدراسات العلمية التي يطلق عليها اسم «العلوم الإنسانية».
لقد حكم عليها بالتشرد فلا تعرف لها نسبا؛ فهي في الجامعات تخصص لها كلية أو كليات، ينعتونها آنا بأنها «آداب» كما هي الحال في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وآنا آخر بأنها «فنون حرة» كما هي الحال في كثير من بلدان الغرب، وهكذا، حتى جاءتنا أيامنا هذه بأعجب نعت من نعوتها، وذلك حين تحركت في حياة الأمة العربية موجة تحرص على الخصوصية المتميزة للمسلم العربي، فقال أصحابها عن مجموعة العلوم التي موضوعها «الإنسان»: إننا نريدها علوما إسلامية، قوامها مادة إسلامية، ومنهج البحث فيها هو منهج السلف من المسلمين.
مسكينة هذه المجموعة البائسة من أسرة «العلم»! فحتى رجال الاختصاص في تقسيم العلوم وتبويبها، كثيرا جدا ما أخذتهم الحيرة: أيجعلونها علوما قائمة وحدها ليكون لها منهج خاص في بحثها أم يضعونها حيث ينبغي لها أن توضع مع سائر العلوم الطبيعية ليكون بحثها قائما على المنهج ذاته الذي ينتهجه الباحثون في بقية العلوم الطبيعية التي من شأنها أن تبحث في «الظواهر» أي فيما «يظهر» من الأشياء إذ لا فرق بين ظاهر يظهر لنا من نبات أو ضوء أو هواء وظاهر آخر يظهر لنا في سلوك الإنسان فردا كان أو مجتمعا مع إنسان آخر؟ ولا غرابة أن ترى المسئولين عن العلم وعن الثقافة في مصر، حين أقاموا مجلسا أعلى للآداب والفنون، اختاروا أن توضع العلوم الاجتماعية معهما، فذلك عندهم أصوب من أن توضع تلك العلوم مع بنات عمها - إن لم تكن شقيقاتها - العلوم الطبيعية والرياضية في «أكاديمية العلوم»، بل إن الحيرة إزاء تلك المجموعة البائسة من العلوم لتمتد بنا إلى التردد بين أن نطلق عليها اسم «العلوم الاجتماعية» وأن نطلق عليها اسم «العلوم الإنسانية»؛ فمرة نقول عنها هذه الصفة، ومرة نقول عنها تلك، وكأن الصفتين مترادفتان، وما هما بمترادفتين؛ لأنها وهي «إنسانية» قد تبحث في تركيبة «الفرد» الإنساني الواحد وهو غير مجتمع بغيره، وأذكر أن العلماء الذين عنوا بتقسيم العلوم، يفرقون بين الاسمين، فإذا قيل «علوم إنسانية» (وهم في هذه الحالة يكتفون بكلمة «إنسانيات» دون كلمة «علوم») أدرجوا مع ما يدرجونه تحت هذا الاسم: الدين والفن، وأما إذا قيل «علوم اجتماعية» فالأغلب ألا يضيفوهما.
ولعلك قد صادفت في حياتك الدراسية، حينا بعد حين، أسئلة تثار حول هذه العلوم «اجتماعية» كانت في حسابهم أو «إنسانية»، تسأل عن «التاريخ» - مثلا - أهو علم أم فن أم هو علم وفن معا؟ وعن الجغرافيا: أهي أقرب إلى العلوم أم إلى الآداب؟ وعن الدراسة الأدبية - كالنقد الأدبي - أهو عملية تستند إلى علم أم إلى ذوق؟ وعن «المنطق» ماذا فيه من علم؟ وماذا فيه من فن عملي؟ وعن علم النفس أهو فرع من فروع الفلسفة أم هو فرع من فروع العلم؟ وأما عن دراسة «الفلسفة» فحدث ولا تتحرج في حديثك، عن التخبط في نسبتها التي تحدد انتماءها، حتى لقد انتهى الأمر في ذلك برجل من أئمة الفكر الفلسفي في عصرنا، هو برتراند رسل، أن يقول عنها إنها أرض محايدة بغير مالك.
هكذا انبهمت المعالم، وغمضت الرؤية، حتى كثرت الألسنة، وتعددت الآراء، وأصبح الأمر في فوضى التفاهم، أقرب إلى المحنة التي أصابت أهل بابل، حين تعذر بينهم التفاهم لتعدد اللغات، وعلى ذلك فلم يكن شذوذا يلفت النظر، أن تنهض من علمائنا جماعة تزداد اتساعا وقوة يوما بعد يوم، تدعو إلى أن تكون لنا صورة إسلامية خاصة، من العلوم الإنسانية، ولم لا؟ - هكذا أتصورهم يسألون - أليس موضوع البحث في تلك العلوم هو «الإنسان»؟ وأليس للإنسان تميزه الشخصي الذي يمايز بينه وبين الإنسان الآخر إذا ما جاء كل منهما منتميا إلى ثقافة غير الثقافة التي ينتمي إليها الآخر، وإلى عقائد دينية ومعتقدات اجتماعية غير العقيدة والمعتقدات التي ينتسب إليها الآخر؟ ودع عنك ما يختلف به الإنسان عن الصخر والحديد والماء، والهواء والنبات والحيوان: فإذا كان هذا هكذا في ما يخص الشخصية الإنسانية المتفردة بخصائصها دون من عداها وما عداها؛ فلماذا لا تكون لحياته في خصوصيتها وتفردها علوم إنسانية تختلف عن علوم إنسانية تبحث في حياة أخرى لها بدورها خصائصها ومميزاتها؟
وهذا ظاهره حق، طالما بقيت الفكرة عن العلوم الإنسانية، أو الاجتماعية، على غموضها الذي هي عليه عند الكثرة الغالبة من الناس، وحتى المسئولين منهم، لكن لماذا نترك تلك الفكرة على غموضها؟ أهو قدر محتوم على تلك البائسة المسكينة دون أخواتها أو بنات عمها من سائر «العلوم»؟ وإن تلك الفكرة لتسطع بضوء الوضوح لو أننا بدأناها بالخطوة الأولى الصحيحة، وهي أن العلوم الإنسانية «علوم» تخضع لما يخضع كل قول آخر أراد له صاحبه أن يندرج في زمرة العلم؛ فما علينا إلا أن نحدد - ما وسعنا التحديد - أهم الخصائص وأبرز الملامح التي تجعل العلم علما متميزا عن غيره من ضروب القول الأخرى، فإذا ما فرغنا من ذلك التحديد، سهل علينا بعد ذلك أن نضع العلوم الإنسانية في موضعها الصحيح ما دامت - بحكم اسمها - علوما من العلوم.
إن من أهم ما يميز الفكرة العلمية كائنا ما كان موضوعها، أن تتجرد من الميل والهوى، فحتى صاحبها الذي كشف عنها الغطاء وأعلنها في الناس لا بد له أن ينفصل عنها؛ فلا صلة بينها وبين ذاته الشخصية، ولا علاقة لكرامته ومكانته بصواب فكرته تلك أو خطئها؛ لأنها منذ لحظة إعلانها تصبح بين أيدي المختصين من علماء ميدانها، يفحصونها، ويمحصونها، ويقبلونها أو يعدلونها أو يرفضونها؛ إذ هي ملك عام، ولم تعد مقتصرة على صاحبها، وهذه الجوانب كلها في الفكرة العلمية - وأكرر قولي: كائنا ما كان موضوعها - هي التي نقصد إليها حين نشترط على أي فكرة علمية أن تكون «موضوعية»؛ لأنها «وضعت» بين أيدي المختصين، ولأنها متصلة «بموضوع» خارج حدود الذات بميولها ومشاعرها ورضاها وسخطها، وحبها وكراهيتها.
ومن هنا لم يعد يجوز لها أن تتجنس بجنسية من كشف عنها وأذاعها. نعم، لصاحبها أن يفخر بها ويفاخر، ولأمته أن تزهو بابنها، وأن تجعله جزءا من تاريخها، لكن ذلك الفخر والمفاخرة، والزهو والمباهاة، بالنسبة إلى صاحب الفكرة في حياته، وإلى وطنه وأمته في حياته وبعد مماته، لا يتعارض مع كون تلك الفكرة العلمية قد أصبحت ملكية إنسانية عامة، لا تنتمي إلى وطن خاص، ويدخلها تاريخ العلم أينما كتب في صفحاته ذاكرا مكان ظهورها أو غير ذاكر؛ لأنها قد باتت ملكا للجميع.
وموضوعية الفكرة العلمية واستقلالها بوجود خاص بها منفصل عن وجود صاحبها؛ توجب عليها أن تكون مصوغة في دقة بالغة، حتى تتجنب أي لبس أو غموض؛ لأنها لا تدري من من العلماء سيتناولها بالفحص والتمحيص ومن من الناس بعد ذلك سيتناولها بالتطبيق؛ إذن لا بد أن تجيء من دقة الصياغة ما يضمن لها أن تفهم حتى لو عرضت على من عرضت عليه بعد عدة آلاف من السنين، وما يضمن لها كذلك أن تجد سبيلها إلى التطبيق في حياة الناس العملية، وهل يمكن للإنسان أن ينفذ صيغة مكتوبة ولا يفهم ماذا تعني؟ وهذه الخصائص التي تنقل الفكرة العلمية من الخصوصية الذاتية والإقليمية إلى العمومية الموضوعية والدائمة؛ هي نفسها الخصائص التي تحتم على الفكرة العلمية أن تخلو خلوا تاما مما عسى أن يكون إدراكه مقصورا على صاحبها دون عامة الناس؛ فقد يكون صاحبها ذاك ممن رفعت عنه الحجب وكشفت له الحقائق، على نحو تميز به دون غيره، ثم عبر عما رآه بتلك المواهب النادرة، فعندئذ قد تكون لكتابته قيمة رفيعة باعتبارها شعرا أو ما يدور في فلك الشعر، لكنها بتلك القيمة الذاتية كلها لا تحمل «تأشيرة الدخول» التي تسمح لها بالانضمام إلى دنيا العلوم؛ إذ أقل ما يقال عنها في هذه الحالة أنها بحكم خصوصيتها تلك لا تستسلم لجماعة العلماء إذا ما أرادوا اختبارها بمخابير العلم.
ومن شأن الفكرة العلمية - وأكرر مرة ثالثة قولي: أيا كان موضوعها - ألا تذكر ما تذكره لحلاوة في اللفظ يسر مسامع قرائها، أو أن تجعل غايتها التسرية عن هموم قارئها، بما تورده من نكات وقفشات خفيفة الظل محببة إلى النفوس، لا، بل غايتها دائما هي أن تعطي الناس صيغة تعين على حل مشكلة، أو نوع بأسره من المشكلات، في زراعة، أو صناعة، أو نقل، أو سياسة، أو ما شئت من جوانب الحياة العملية ونظمها.
ولهذا كان من أهم خصائصها القدرة على أن يستعين بها من شاء على التنبؤ بالحدث قبل وقوعه وعلى التصرف في ذلك الحدث حين يقع؛ لأنها ما دامت قد وصفت بأنها «علمية» فإن ذلك يتضمن الاعتراف بصدقها اعترافا أيدته المراجعات والاختبارات، وعلى أساس ذلك الصدق فيها يعول عليها الإنسان في تسيير حياته وهو مطمئن. وهنا لا بد من شرح سريع لنقطة أرجح لها أن تنشأ عند القارئ، وهي أن الحقيقة العلمية سرعان ما يظهر بطلانها، فيذهب زمانها وتحل محلها فكرة أخرى، وهذا صحيح، ولكن في حدود يجب أن يكون القارئ على علم بها، وهي أن ما يبطل فكرة علمية ليس هو أنها قد خلت من صحتها، بل هو أنها تصح على مجال معين؛ فلما أن تبين للعلماء فيما بعد أن مجال التطبيق أوسع مما كان يظن أول الأمر، حاولوا أن يجدوا فكرة علمية أخرى تصح في المجال الأوسع، مع بقاء الفكرة القديمة - إذا أردنا لها البقاء - شريطة ألا ننسى أنها مقيدة بمجالها المحدود.
تلك هي بعض الملامح البارزة في طبيعة الفكرة العلمية - أيا كان موضوعها وهو قول أكرره الآن للمرة الرابعة - فما سر إلحاحي على هذه التوسعة في فهم الفكرة العلمية وطبيعتها؟ سر ذلك ليس سرا، وإنما هو علني مذاع، معلوم لمن يهمه أن يعلم، وذلك أن تعريف «العلم» مؤسس على منهجه، وليس على نوع الموضوع المطروح للبحث؛ فلا فرق بين أن يكون موضوع البحث العلمي سرعة الضوء وقوانين انعكاس أشعته أو انكسارها، وبين أن يكون موضوع البحث هو تذكر الإنسان لما يتذكره ونسيان ما ينساه، فلماذا يتذكر وكيف وإلى أي مدى، ولماذا ينسى، وكيف، وبعد كم من الزمن، أو أن يكون موضوع البحث هو الفوارق الطبقية في المجتمع، كيف نشأت ولماذا نشأت، وهل يمكن لها أن تزول أو أنها قد تزول صورة من صورها لتعاود الظهور في صورة أخرى، أو أن يكون موضوع البحث هو التضخم المالي وارتفاع الأسعار. ولقد قصدت بهذه الأمثلة الثلاثة الأخيرة أن يكون أولها من مجال علم النفس وثانيها من مجال علم الاجتماع، وثالثها من مجال علم الاقتصاد، وهي العلوم الثلاثة التي تكون أهم ما في «العلوم الإنسانية»، لأقول: إنه لا فرق بين البحث الطبيعي في ظاهرة الضوء والبحث الإنساني في المشكلات التي ذكرتها من العلوم الإنسانية الثلاثة، اللهم إلا درجة الدقة في النتائج، وأما «المنهج» العلمي في أخص خصائصه؛ فهو محقق فيها جميعا، وإلا لما استحق أن يكون «علما» ذلك الذي لا يحقق شروط المنهج العلمي، الذي لا وطن له؛ فهو ليس منهجا خاصا بالغرب دون الشرق، ولا بالشرق دون الغرب، ولا تنفرد به أمة دون سائر الأمم؛ فهو هناك لمن يأخذه ابتغاء أن يكون مشاركا في موكب العلم.
وعند هذا المنعطف من حديثنا، نبدأ في النظر الفاحص الهادئ الموضوعي إلى ما قد ارتفعت به الأصوات في أرجاء الوطن العربي منذ قريب، ثم أخذت تلك الأصوات تتزايد ارتفاعا، وتزداد مع ارتفاعها حرارة وحماسة، وهو أن يكون للعربي المسلم علومه الإنسانية الخاصة به لتحمل في طياتها خصائص الثقافة العربية الإسلامية وخصوصيتها، وأصحاب هذه الدعوة يعلنون صراحة أننا ونحن نأخذ عن الغرب تلك العلوم الإنسانية؛ فإنما نكون قد عرضنا أنفسنا لغزو ثقافي من ذلك الغرب، وسرعان ما تنمحي قسماتنا وملامحنا وننجرف بقوة ذلك التيار العنيد حتى نسقط في هوة العدم، وماذا يريدنا هؤلاء السادة أن نفعل لكي تكون لنا علوم إنسانية خاصة بنا، عربية إسلامية، إنهم يريدون شيئين - فيما يبدو - أولهما ألا تكون مراجعنا في البحث العلمي هي ما كتبه في موضوعات العلوم الإنسانية علماء الغرب، وأن تكون مراجعنا هي مراجعنا نحن؛ فنرجع إلى ما كتبه أعلامنا: الإمام الغزالي، والفقيهان ابن تيمية وابن القيم، والفيلسوف والفقيه الإسلامي ابن حزم، وفيلسوف العلوم الاجتماعية ابن خلدون. هذه قائمة من الأسماء التي رأيتها منشورة في الصحف نقلا عن توصيات الملتقى الفكري الإسلامي، الذي انعقد في الجزائر خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 1986م. والأغلب أن تكون تلك القائمة قد أرادت بتلك الأسماء ضرب المثل لمن يمكن الرجوع إليهم في العلوم الإنسانية عندما تكون تلك العلوم عربية إسلامية، وأما الشيء الثاني الذي يدعو إليه السادة أصحاب هذه الدعوة فهو - بالبداهة - أن تنصب أبحاثنا العلمية في مجال العلوم الإنسانية على واقع حياتنا نحن؛ حتى لا تؤخذ علومنا من واقع الحياة عند آخرين، على أن السادة أصحاب الدعوة يضيفون الشريعة الإسلامية وفقهها فيما يسمى بالعلوم الإنسانية، أو هكذا قرأت في بيان الندوة المذكورة.
ولنا على هذا كله وقفة شارحة وناقدة، وجل من لا يخطئ ولا يسهو، وأبدأ - أولا - بحذف الجوانب التي يذكرها أصحاب الدعوة إلى علوم إنسانية في ثوب عربي إسلامي، ولم يكن هنالك ما يوجب أن يضيفوها إلى مطالبهم وأهدافهم؛ لأنها جوانب مفروضة، ولا ينازع في وجوبها أحد، فهم يضيفون إلى العلوم الإنسانية دراسة الشريعة الإسلامية؛ فهل يمكن للشريعة الإسلامية إلا أن تكون إسلامية الموضوع وإسلامية المراجع؟! فحتى لو كان الدارس لها مستشرقا لا هو عربي ولا هو مسلم؛ فإنه لا يجد سبيلا أمامه إلا أن تجيء دراسته آخر الأمر إسلامية الموضوع وإسلامية المصادر.
وقد تسألني قائلا: وما العيب في أن تضاف دراسة الشريعة الإسلامية في سياق دعوة الدعاة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية؟ وأجيب بأن ذكرها يوهم القارئ بمزيد من قوة الدعوة ومزيد من ضعف خصومها، دون أن يكون هنالك من حجة حقيقية على تلك القوة، أو على هذا الضعف؛ ما قد يصرف العقل العادي عن رؤية صحيحة لطبيعة الحوار.
تلك واحدة، ومسألة أخرى نريد حذفها من قائمة ما يطالب به أصحاب الدعوة، وهو وجوب أن تبنى الأبحاث العلمية في العلوم الإنسانية على واقع الحياة في الأمة العربية الإسلامية؛ فذلك أمر مفروض مقدما، وليس له بديل آخر نخشاه، فهل يمكن لباحث عربي، يريد البحث في مشكلات «المراهقة» - مثلا - (في ميدان علم النفس) فلا يجعل الأفراد الذين يدير حولهم بحثه أفرادا من هذا المجتمع؟ هل يمكن أن يسافر إلى النرويج أو إلى اليابان ليجري بحثه هناك على مراهقين ومراهقات من هذا الشعب أو ذاك ثم يعود إلينا قائلا: هاكم بحثا عن سن المراهقة في بلادنا؟ وأقسام علم النفس في جامعاتنا لا تنفك باحثة عن طريق الدارسين دراسات عليا في جوانب من ميدانها العلمي، معتمدة في جميع الحالات على «عينات» مأخوذة من مجتمعنا؛ لأنه لا بديل لهذا الطريق. ومرة أخرى نقول، إن إضافة هذه البدهية العلمية قد تضيف في وهم القارئ قوة للدعوة وضعفا لخصومها دون أن تقام هذه الأحكام على مبرر مقبول.
وبعد هذا الحذف، نتجه بأبصارنا نحو لب المشكلة المعروضة للنظر، وأعني الدعوة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية التي هي أساسا علوم ثلاثة قد تنبثق منها فروع، والعلوم الثلاثة موضع النظر هي: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد. وعلينا أن نلحظ أنها - منطقيا - يجب أن ننظر إليها وهي على هذا الترتيب التنازلي؛ لأن النتائج العلمية التي يصل إليها علم النفس هي المسلمات الأولية التي يقيم عليها علم الاجتماع بناءه، إذ هو يبني تصوراته على حقائق في طبيعة الإنسان، أمده بها علم النفس، ثم يأتي بعد علم الاجتماع علم الاقتصاد؛ لأنه إذا كان الأول يعنى بالتفاعل بين الناس في حياة مشتركة فإن علم الاقتصاد يركز على ضرب واحد من ضروب ذلك التفاعل، وهو الضرب الخاص بالإنتاج في شتى ميادينه وبتوزيع ذلك الإنتاج.
وأول ما ألحظه في دعوة «الأسلمة» لهذه العلوم، هو أن السادة الدعاة - فيما يبدو - ينظرون إلى تلك العلوم الإنسانية من زاوية «التلميذ» الذي يدرس مادة من تلك المواد؛ فيكون السؤال الرئيسي عنده وعند القائمين على تعليمه هو: أي الكتب يقرأ؟ وعندئذ يجيء جواب السادة الدعاة قائلا: اقرأ ما كتبه الأعلام من أسلافنا العرب المسلمين، بدل أن تستنفد قواك في قراءة علماء الغرب فيصيبك بهذا الانحراف غزو عقلي ونفسي، يوهمك بأن علم الغرب هو كل شيء، أما نحن فلا شيء، لكن انظر إلى الموقف من ناحية «الباحث العلمي» لا من ناحية «التلميذ» الدارس لما قد تم إنتاجه من نتاج العلوم، انظر من ناحية ذلك الباحث الذي يريد أن يضيف إلى العلم جديدا، ويجد لمشكلات الحياة داخل مجالات تلك العلوم حلولا لم يسبقه إليها أحد، أفنقول لمثل هذا الباحث - في علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد: اقرأ الإمام الغزالي، وابن تيمية، وابن القيم وابن خلدون؟ نعم، إنه لا بد أن يقرأ عند هؤلاء ما له صلة بموضوع بحثه؛ ليبدأ من حيث انتهوا، إذ هو يحيل الأمر إلى عبث، إذا هو بدأ من حيث بدءوا، فلم يفعل بذلك سوى أن يجعل نفسه وكأنه نسخة بشرية من مؤلفات هؤلاء العلماء، ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أن البحث العلمي الأصيل في العلوم الإنسانية أو غير الإنسانية مما له علاقة بكائنات الدنيا؛ يجب أن ينصب مباشرة على تلك الكائنات، وإلا لما جاءت بجديد، فهل نقول للباحث العلمي الذي يريد أن يعرف الأسس النفسية التي يقام عليها «التعلم» اقرأ في ذلك عند ابن تيمية وابن القيم؟ أو أن نتائجه يجب أن تقام على بحث تجريبي يلتزم أصول المنهج التجريبي أيا كان موضوعه؟ والحق أننا - في هذه النقطة - إنما نضع أصابعنا على سر الأسرار وعلى عمق الأعماق، بالنسبة إلى التخلف العلمي والنهوض منه، وذلك لأن التخلف العلمي في بلد ما، أو في عصر ما، ليس إلا أن تدور الحركة العلمية والتعليمية كلها حول «كتب» الأقدمين، تقرأ وتشرح وتلخص وتحفظ، فيصبح من أجاز هذه الأشياء «عالما»، عالما بماذا؟ إنه عالم بما في كتب الأقدمين وليس عالما بحقائق الواقع الجديد في ميدان علمه.
ومع ذلك فلننظر إلى العلوم الإنسانية الثلاثة الأساسية علما علما، لنرى هل يمكن أن يكون العلم منها علما وافيا بما نريده منه، إذا نحن اكتفينا بقراءة «الكتب» أو ما إلى الكتب مما أصدره قدماء أو محدثون؟ قد يكون ذلك كافيا «للتلميذ» الدارس، ولكن هل يظل كافيا بالنسبة إلى «العلماء».
ولنبدأ بعلم النفس، وأول سؤال أطرحه على الدعاة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية هو: بأي منهج علمي تريدون للعالم العربي المسلم أن يجري بحثه العلمي في الظاهرة النفسية التي يختار البحث فيها؟ كأن يختار - مثلا - عوامل التوافق بين الفرد والجماعة التي يعيش بينها فردا فيها، وإنني لأعيد هنا ما قد أسلفته، من أن تعريف العلم مؤسس على منهجه وليس على نوع الموضوع الذي يتناوله الباحث بذلك المنهج؛ إذ الموضوعات العلمية تتعدد وتتنوع، وأما منهج البحث العلمي فواحد من حيث المبادئ الأولية. وأعود فأسأل السادة أصحاب الدعوة إلى «الأسلمة»: بأي منهج تريدون لعلم النفس الإسلامي أن يبحث؟ فإذا كان الجواب هو أن المنهج لا يكون إلا ذلك الذي أقرته الخبرة التاريخية الطويلة؛ أي إنه هو المنهج التجريبي الذي يفحص «العينات» المختارة في حدود الموضوع المطروح للبحث، فحصا معروف الخطوات والتفصيلات الإجرائية، ثم تحسب النتائج بعملية «إحصائية» رياضية (وعلم الإحصاء علم قائم بذاته يدرسه الباحث في ميدان علم النفس أو لا يدرسه فيستعين بأحد علمائه). أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب؛ إذن يكون العالم الباحث عالما باحثا بغض النظر عن عقيدته الدينية، وبغض النظر أيضا عن المادة التي وردت في كتب السالفين أو في كتب المعاصرين، إلا إذا جاء ذلك على سبيل المقارنة التي يريد بها الباحثون عادة، أن يبينوا أين «الجديد» الذي أضافوه؟ وأما إذا سألنا السادة أصحاب الدعوة إلى علوم إنسانية إسلامية: ماذا يكون منهج البحث عندئذ فيما ترون؟ فكان جوابهم هو أن يعيد الباحث دراسة التراث الخاص بموضوعه، ليحاول جهده أن يستخلص منه أحكاما فيما أراد أحكاما فيه؛ وقعنا في أحبولة التخلف الذي يبدي في قديمه ويعيد، وتسير الدنيا بالناس إلى جديد ونحن هناك في ظل التراث ننعم بالنسيم العليل! حتى إذا ما جد بنا الجد في مسألة تؤرقنا، وأردنا لها حلا أرسلنا نستدعي «الخبراء الأجانب».
ولم يعد لدينا الكثير نقوله في العلمين الآخرين: علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، ويكفي أن نشير إلى بدهيات في غنى عن أن يشار إليها، ومنها أن مشكلات الحياة الإنسانية تتجدد عصرا بعد عصر؛ فالذي كان يتحدى الباحث العلمي كابن خلدون فيما يختص بالتفاعل الاجتماعي، ليس هو ما يتحدى الباحث العلمي اليوم، فقد كان من أبرز ما عرض لابن خلدون - مثلا - ذلك الصدام الذي لم ينقطع بين بداوة تنبثق من الصحراء وحضارة زراعية فيما يحيط بتلك الصحراء، فهل لا تزال مسألة كهذه تتطلب كل الجهد من علماء الاجتماع اليوم؟ أو أن موضوعات أخرى قد استحدثت ليست أقل أهمية منها كالتناقض الكامن بين النزعات الوطنية الإقليمية وطموح الإنسانية إلى «أمم متحدة» يتكون من اتحادها أسرة بشرية واحدة؟ ومثل ذلك يقال عن ميادين البحث في علم الاقتصاد، فلو تبينت طبيعة «العلم» على حقيقتها لأصحاب الدعوة إلى «الأسلمة» لسلموا هم، وسلمت معهم علوم الإنسان.
الأفكار كالأشجار تنمو
صدر لي سنة 1960م كتاب صغير بعنوان «الشرق الفنان»، كان حلقة من سلسلة ثقافية أخرجتها وزارة الثقافة يومئذ، ولقد عرضت في ذلك الكتاب صورة لجوهر الثقافة العربية، بمقارنتها بكبرى الثقافات التي شهدها التاريخ، وكان تصوري للأمر هو أن التاريخ قد شهد ثقافتين عظيمتين، إلى جانبي الرقعة العربية التي تميزت دونهما بخصائص انفردت بها، أما تانك الثقافتان؛ فكانت إحداهما هي ثقافة الشرق الأقصى من جهة الشرق، وكانت الأخرى هي ثقافة اليونان القديمة من جهة الغرب، وهذه هي نفسها التي أصبحت فيما بعد بمنزلة الجذور التي انبثقت منها ثقافة الغرب، في أوربا أولا، ثم في أمريكا الشمالية بعد ذلك، وكان الأساس الذي اتخذته لهذا التقسيم، هو وسيلة الإدراك الأساسية في كل من الثقافات الثلاث: الشرق الأقصوية، واليونانية، والعربية، كما تجلت تلك الوسيلة الإدراكية في الناتج الثقافي المتوارث في كل منها، فواضح أن المأثور الثقافي في الشرق الأقصى، كان أهم ما فيه كتب الديانات في ذلك الجزء الفسيح من العالم، وهي كتب تقرؤها فتقرأ ما يشبه الأدب، شعرا ونثرا؛ فهو كلام ينبع من صميم القلب، وينضح من خبرات إنسانية دافئة وأصيلة، وموجه مباشرة نحو الإنسان في حياته الأخلاقية، وكيف ينبغي له أن يقطع رحلة الحياة في دنياه، وإذن فقد كانت الوسيلة الإدراكية الأولى عند أصحاب تلك الثقافة هي نفسها وسيلة الشاعر، والأديب، والصوفي، والفنان. وواضح كذلك أن ثقافة اليونان القديمة - إذا أخذنا جانب الفكر الفلسفي والعلمي من تراثها - كانت مؤسسة على منطق العقل، كما يتجلى ذلك المنطق العقلي في عمليات استدلالية، توضح فيها فروض لتستخرج منها نتائجها، عن طريق المنهج القياسي الذي صاغ أرسطو نظريته بكل تفصيلاتها، وهو المنهج الذي نقله العرب عن اليونان، فيما نقلوه من تراث اليونان القديمة، وأصبح ذلك المنطق من أبرز الملامح التي كان يتميز بها المثقف العربي، أيا كان ميدان تخصصه فوق ذلك، وجاءت الثقافة العربية وسطا بين ذينك الطرفين، لا بالمعنى الذي يجعلها تأخذ قبضة من تلك وقبضة من هذه، لتؤلف بينهما، فإذا هذا الذي ألفته هو ثقافتها العربية، بل بالمعنى الذي يجعل لها بادئ ذي بدء وقفتها الخاصة، استخلصتها من موقعها ومن طبيعة إقليمها، فمكنتها تلك الوقفة الخاصة من أن تستخدم وسيلتي الإدراك السالف ذكرهما - إحداهما عند شعوب الشرق الأقصى والأخرى عند الإغريق - كما مكنتها من أن تضفر تينك الوسيلتين في جديلة واحدة، بحيث أصبح كل عربي ذا رؤية يكون بها صوفي الاتجاه آنا، وعقلي الاتجاه آنا آخر، فإذا نظرت إلى الموقف كله في جملته، بنظرة ترسلها من عل، وجدت الشاعر وصاحب النزعة العقلية، قد اجتمعا في العربي، ووجدت كذلك أن كلا من الاتجاهين، قد امتد وارتفع إلى ذروته في شامخ بعد شامخ؛ فهنا المتصوف، أو الشاعر العملاق، وهناك الفقيه أو العالم في مجال من مجالات العلم، ولولا أن معدة العربي قادرة على هضم الناتج الصوفي، وقادرة في الوقت نفسه على هضم الناتج العقلي؛ لما استطاع العرب وهم في مجدهم أن ينقلوا عن الهند تصوفها، وعن اليونان فلسفتهم وعلومهم؛ ليمزجوا هذه الحصيلة كلها، مضافة إلى ما عندهم من دين وشعر، فإذا كل هذا يتمثل في كتابات الكتاب، وفي نقد النقاد، وفي فقه الفقهاء (من حيث منطق القياس)، بل في شعر الشعراء كذلك، وحسبك أن تقف عند رجل واحد كأبي العلاء المعري؛ لترى صورة تلك المحصلة الثقافية في أوجها.
هذه خلاصة ما عرضته سنة 1960م في كتاب «الشرق الفنان». والحق أني لم أكن يوم أن عرضت ما عرضته في ذلك الكتاب الصغير؛ أفكر، بل لا أحلم بألا تمضي بعد ذلك التاريخ بضع سنوات لم تزد على عدد الأصابع في يد واحدة حتى رأيتني في شغل شاغل لتنمية ما بدأته موجزا ومكثفا، بالنسبة إلى الثقافة العربية وخصائصها، فأخذت أقلب الموضوع باطنا لظاهر، وظاهرا لباطن؛ كي أستوعب من تفصيلاته ما وسعني ذلك، إذ رأيت في تلك الخاصة الفريدة التي تميزت بها الثقافة العربية خير أساس يصلح لأن يقام عليه تصور كامل وشامل لما يجب أن تكون عليه الثقافة العربية في عصرنا هذا، فكما جمعت تلك الثقافة في تاريخها الماضي ما عند الشعوب التي إلى يمينها والتي إلى يسارها على حد سواء؛ تستطيع أن تفعل ذلك اليوم، وإلا فما الفرق بين أن يأخذ العرب الأولون عن اليونان علومهم وفلسفتهم ليهضموها ثم لينشئوها بعد ذلك نتاجا جديدا يقدمونه إلى العالم وبين أن ننقل نحن اليوم ما عند أوربا وأمريكا من علوم وفلسفات لنهضمها ثم لننشئ مبدعات في ميادينها نسهم بها مع سائر العالم المتقدم في بناء الصرح الحضاري والثقافي؟! إن اليونان القديمة كانت للعرب الأولين هي «الغرب»، وإن بلاد الغرب في عصرنا هي لنا بمنزلة اليونان عند أسلافنا، لكن أسلافنا كانوا أصحاء أقوياء، لم يخافوا على رئاتهم من تيار الهواء يأتي من النوافذ المفتوحة، وأما نحن اليوم فبنا ضعف وهزال، نخشى عواقب الهواء والنور، فنغلق دوننا الأبواب والنوافذ، لنجتر ظلاما نزداد به ضعفا على ضعف، وهزالا فوق هزال، وناشدتك الله لا تقل: لكننا يا أخي ننقل عن الغرب في يومنا علومه وفلسفته، على نحو ما صنع قدماؤنا مع قدمائه ، وإلا فماذا ترانا نقدمه لطلابنا في الجامعات إذا لم يكن هو ذلك الذي نقلناه كل منا في ميدانه؟ ناشدتك الله لا تقل هذا؛ لأنك ربما علمت أنت أكثر مما أعلمه من أن المعول آخر الأمر إنما هو على قبول ما قد نقلناه قبولا مخلصا من أعماقنا، ثم هضمه هضما يسمح له بالسريان في عروقنا ليكون جزءا منا، ثم الإبداع على أساسه إبداعا نشارك به في بناء عصرنا، وأنت تعلم أكثر مما أعلم أننا نقلنا لطلابنا ما نقلناه ليحفظوه في الذاكرة حفظا أصم، كما حفظناه نحن من قبلهم؛ ليعدوا أنفسهم فيما بعد «علماء» بالذي حفظوا، كما عددنا أنفسنا «علماء» بالذي حفظنا، «وكان الله غفورا رحيما».
أعيد القول بأنني حين وضعت تصوري لجوهر الثقافة العربية في ذلك الكتاب الصغير، لم أكن أعلم أنني عندئذ إنما وضعت لنفسي خطة سير في رحلة بدأتها بعد ذلك التاريخ بسنوات قلائل، وهي رحلة بذلت فيها كل ما استطعت من جهد في سبيل أن أصور لنفسي وللناس صورة لحياة ثقافية جديدة، ينسج فيها جديد مع قديم نسجا لا يشوبه تنافر أو نشاز.
وفي هذا الجو الفكري الذي أعيشه مع نفسي - على الأقل - جاءني كتاب عنوانه «الوسطية العربية - منهج وتطبيق» للأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم، على أن الذي بين يدي هو الجزء الأول الخاص «بالمذهب»، ولو كنت ذا بصر قارئ لانكببت عليه؛ لأرى ماذا يقول المؤلف الفاضل في موضوعه هذا، ترى أيكون موضوعه هو نفسه الموضوع الذي يشغلني التفكير فيه والكتابة عنه مدة تقرب من عشرين عاما؟ ولا يزال في نفسي شيء من «حتى» كما قال العالم العربي القديم، الذي بذل ما بذله من جهود كان يتعقب بها كلمة «حتى» في شتى معانيها وأوضاعها، ومع ذلك لم يبلغ منها ما يحقق رجاءه، فقال قولته المذكورة، إذ هو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «أموت وفي نفسي شيء من «حتى».» أم كان للأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم هدف آخر ووسائل أخرى؟ ولما عز على نفسي أن أضع الكتاب مع أسرته في خزائن كتبي، يأسا من قراءته استعنت بمناظيري لأقرأ من الكتاب صفحة أو صفحتين؛ أذوق بهذا القليل حسوة من البحر لعلي أعلم كيف موقعه على اللسان، فكان مما وجدته في تلك الحسوة الخاطفة عتاب غاضب يوجهه إلي من لست أدري من، فيقول ما معناه: إن بعض الكتاب يصرخ بأن يكون لنا فكر مستقل، ثم يقف عند حد الصراخ، وعلة موقفهم هذا فيما يرى صاحب «الوسطية العربية» هي أنهم يناقشون الفكر العربي من خلال القوالب الغربية؛ لكي يثبتوا أن لنا - كما للغرب - «وجودية» و«اشتراكية»، وما إلى ذلك من مذاهب وأفكار، ثم يقول المؤلف الفاضل عن كتابه هذا: إنه لأول مرة يتقدم مؤلف إلى الناس بمذهب متكامل لفكر عربي، منتزع من البيئة العربية، وتطبيقات على الممارسة اليومية، وفي مجالات الفن، والأدب، والمنهج، ثم ينبئنا المؤلف عن أولئك الذين يتوجه إليهم بالعتاب؛ إن منهم من يتعجب لما نستعمله من مصطلحات جديدة لم يألفها، ويضرب لنا أمثلة لتلك المصطلحات الجديدة فيقول: إنه يقول «الحكمة» فيما يقولون عنه «الفلسفة»، ويقول: «الوحدة التركيبية» عما يقولون عنه «الوحدة العضوية»، ويقول «مدارس الخط العربي» بدل قولهم «مدارس الفنون التشكيلية» وإنه يستخدم مصطلح «الغربة» بمفهومه الإسلامي، بدل مفهومه وهو يشير إلى غربة الآلة، ويستعمل عبارة «الدفع بين الناس» بدل عبارة «الصراع الطبقي» ... إلخ. وبعد أن ساق لنا المؤلف هذه الأمثلة لما بينه وبين ناقديه من اختلاف، يختتم الفقرة التي جاهدت حتى أتممت قراءتها، بقوله: «وقد يثير هذا المنهج ريبة البعض، وكأنه مكتوب علينا أن تكون لنا فلسفة مثل فلسفتهم، وفكر مثل فكرهم.»
اكتفيت بهذه الأسطر القليلة من مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الوسطية العربية»، ولقد اكتفيت بها مجبرا لا مختارا، وهي بالطبع بضعة أسطر لا تجيز لأحد أن يصدر حكما على كتاب، ودع عنك أن يكون للكتاب قيمته بين الكتب، وأن تكون لمؤلفه مكانته بين المؤلفين، لكنها مع ذلك أسطر أمدتني بشعاع من الضوء كشف لي عما يصح أن يكون وجهة نظر المؤلف، ووجهة نظر جماعة ممن خاصموه، فيما يقال عن الثقافة العربية وخصائصها، إذا ما تناولناها بالمقارنة مع ثقافة عصرنا، وهي وجهة نظر تبعد عما أراه في هذا الموضوع، بزاوية تنفرج إلى مائة وثمانين درجة، فيكون معنى ذلك ألا لقاء في الرأي بيني وبين صاحب «الوسطية العربية» ولا بيني وبين خصومه، إذا كان الرأي عند هؤلاء الخصوم هو ما أشار إليه المؤلف في الأسطر القليلة التي طالعتها من مقدمة كتابه.
فماذا يقول المؤلف عن نفسه وعن خصومه؟ إنه ليبدو لي أنه وخصومه جميعا قد تصوروا مجموعة الأفكار التي تتألف منها ثقافة أمة معينة، وكأنها مجموعة من قطع «الزلط» وضعت في صندوق، يمر عليها الزمن كما يمر، وتبقى كل قطعة منها بعد ألف عام كما كانت قبل ألف عام، غير مدركين أن كل فكرة لها أهميتها في بناء ثقافي معين، إنما هي بمنزلة خطة سلوكية كثفت في كلمة واحدة، أو في جملة واحدة. ومعنى ذلك هو أن الفكرة وإن احتفظت باسمها؛ فإن مضمونها يتغير لينمو مع نمو الحياة الاجتماعية التي من أجلها كانت تلك الفكرة قد أنشئت بادئ ذي بدء. ومهما يكن من أمر فلنعد إلى الأسطر القليلة التي نقلتها عن مقدمة «الوسطية العربية» محاولين أن نستخرج منها صورة حية لما يقول المؤلف عنه إنه منهجه في النظر إلى موضوع الثقافة العربية، وكذلك لما يظنه منهج من خاصموه الرأي، فأتخيل كما لو كان المؤلف قد وضع أمامه صندوقا امتلأ بقطع «الزلط» كل قطعة منها تشير إلى فكرة من بناء الثقافة العربية، وكذلك فعل خصومه، وأمامهما على الجانب الآخر من منضدة الحوار، جلس من يمثل الغرب المعاصر وثقافته، وقد وضع هو الآخر صندوقه المليء بأحجار الزلط، التي هي أفكار ثقافة قومه، ويبدأ الحوار: فيقول ممثل الخصوم لصاحب الثقافة الغربية المعاصرة: هات ما عندك، فيجيبه: عندي في النقد الأدبي شيء اسمه «الوحدة العضوية» فيرد عليه العربي من فئة الخصوم: «الوحدة العضوية» عندنا، وقد سبقناكم إليها بثمانية قرون، وإنه إذ يقول ذلك، يرفع بيده «زلطة» يخرجها مما في صندوقه، وهنا يسرع صاحب «الوسطية العربية » فيقول مصححا: لا، بل إنها في صندوقي تسمى «الوحدة التركيبية»، وينتهي بذلك الشوط الأول من المباراة، ويبدأ الشوط الثاني: يقول العربي من جماعة الخصوم لمن جاء يمثل الغرب المعاصر: هات ما عندك، ويجيب هذا بقوله: عندي شيء اسمه «الفن التشكيلي» ويؤكد له العربي أن الفن التشكيلي موجود كذلك في الثقافة العربية، وهنا يسرع صاحب «الوسطية العربية» مصححا مرة أخرى قائلا: نعم هو عندنا، لكننا لا نعترف لكم باسمكم هذا، ونسميه «مدارس الخط العربي». وهكذا تمضي أحداث اللقاء الثقافي بين تراثنا العربي وثقافة الغرب المعاصر؛ فالمسألة إذن - عند صاحب «الوسطية العربية» - هي مسألة حرب بين الفريقين حول أسماء، ثم يعود الفريق العربي فينقسم على نفسه مجموعتين: المؤلف في ناحية وجعبته مليئة بأسماء عربية وردت في مراجعنا، وخصوم المؤلف في ناحية ثانية يأخذون الأسماء نقلا عن الغرب بعد تعريبها، وكأنه لا اختلاف قط في «المضمون» الثقافي ذاته بين ما هو سائد في عصرنا، وما كان سائدا في عصور التراث العربي، وكأنه كذلك لا تغير ينمو به ذلك المضمون، كلما تغيرت صور الحضارة وألوان نشاطها.
ولنضرب أمثلة توضح كيف تصمد الفكرة المعينة «بعنوانها»، وأما مضمونها فما ينفك متغيرا متحولا عصرا بعد عصر، على أن يبقى خيط رابط، يصل تلك المضمونات المتغيرة في عقد واحد، ما دام كان للفكرة المعينة جوهر واحد، خذ - مثلا - فكرة «المسرحية» في صور الإبداع الأدبي، إنها نشأت بصورتها المعهودة لنا، عند اليونان الأقدمين، ثم دام لها البقاء إلى يومنا هذا، لكنها وإن بقيت بجوهرها - وجوهرها هو أن تتجسد فكرة معينة في عدة أشخاص يتفاعلون معا في حوار وحركة من خلاله تتجلى الفكرة أمام المشاهدين - أقول إنها وإن بقيت بجوهرها؛ فقد تغير مضمونها من حيث «المبدأ» فبينما المبدأ الكامن وراء تصاريف الزمن مع الناس هو «القدر» من وجهة نظر العصر اليوناني، فقد أصبح «المبدأ» في عصر النهضة الأوروبية هو أن ما يصيب الإنسان في حياته، إنما هو نتيجة مباشرة لتركيبته النفسية؛ أي إن قدر الإنسان نابع من داخله، وليس هابطا عليه من خارج، ثم تغير «المبدأ » مرة أخرى في عصرنا هذا وأصبح الإنسان فيما يصيبه من نجاح أو فشل، لا هو من تدبير القدر، ولا هو نابع من نفسية الفرد وحدها، بل هو مرهون في المقام الأول بالظروف الاجتماعية وضغوطها؛ «فالمسرحية» على إطلاقها قائمة عبر العصور، إلا أنها تتغير من حيث مبادئ تركيبها بتغير العصور.
خذ مثلا آخر: فكرة «الصناعة»، فقد كان الإنسان صانعا منذ كان إنسانا، يقد السكين من الحجر، ويقيم مأواه من أغصان الشجر، ويغطي جسده بجلود الحيوان؛ فالصناعة من حيث هي تشكيل الإنسان للمادة التي حوله .. تشكيلا يسد به حاجاته الطبيعية، ودامت الصناعة من فجر الوجود الإنساني إلى يومنا هذا، ولكن انظر كيف تغير مضمون المعنى عصرا بعد عصر، فهل يجوز في هذه الحالة أن نجادل عصرنا، وكأننا لسنا جزءا منه قائلين لأهله: لئن كانت عندكم صناعة فقد سبقناكم إليها منذ عشرات القرون؟
وخذ مثلا ثالثا، فكرة «الحرية»، أو إن شئت فخذ «حقوق الإنسان» في مجموعها، وعد بها إلى منضدة الحوار التي تخيلناها فيما أسلفناه، فعلى جانب من المنضدة جلس من يمثل عصرنا، وفي صندوقه ما يرمز إلى حقوق الإنسان في عصرنا، لا من ناحية المواثيق الدولية وحدها، بل من حيث التطبيق الفعلي في دنيا الحياة اليومية الجارية، وعلى الجانب الآخر من المنضدة جلس صاحب «الوسطية العربية» وجلس بجواره من يمثل خصومه من العرب، فأحسب أنه كلما أخرج الغرب المعاصر من صندوقه حقا من حقوق الإنسان، كالحرية السياسية، والحرية الاجتماعية، وحق الحياة، وحق العمل وحق الاعتقاد ... إلخ؛ أسرع الجانبان من الفريق العربي بالقول بأن كل ما ذكره من حقوق الإنسان في بلاده وفي ظل ثقافته وحضارته، قد سبقه إليه العرب، ولا سيما بعد أن نزلت رسالة الإسلام، وكل الفرق بين جانبي الفريق العربي في مثل هذا القول، هو أن من يخاصمون صاحب «الوسطية العربية» سيسمون الأشياء بترجمات عربية للأسماء التي يستخدمها أبناء الغرب المعاصر، وأما مؤلف «الوسطية» فيستنكر ذلك، ويستخرج لتلك المعاني أسماءها العربية من بطون المراجع التي تحمل الثقافة الموروثة عن السلف !
ترى، هل أدرك الجانبان من الفريق العربي أننا لو صدقناهم فيما يذهبون إليه من أن كل ما يقدمه الغرب المعاصر من أفكار قد سبقناه إليه بعدة قرون؛ إذن فلا نكون بحاجة إلى شيء من بضاعته؟ ولو سلمنا بذلك لما أمكن أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة. وكيف يكون التقدم أو التغيير نحو ما هو أصلح لظروف جديدة طرأت؟
أقول: كيف يكون ذلك التغيير ممكنا ونحن ننكر ابتداء أن يكون قد جد في الدنيا جديد غير مذكور في مراجعنا التي تحمل ميراثنا الفكري؟ وحتى لو ظن أحدهم أن ثمة اختلافا بين محصولنا الثقافي ومحصولهم، قال: إننا لا ينبغي لنا أن نفكر في قوالب الغرب، فلنا نحن قوالبنا ولهم قوالبهم، فكأنما وضعنا أمامنا زجاجتين مغلقتين، في إحداهما خل وفي الأخرى زيت؛ حتى لا يختلط زيت بخل.
جانب كبير من الخطأ في هذا كله راجع إلى غلطة أولى هي الوهم بأن الفكرة المعينة تظل هي هي في مضمونها، ما دام اسمها يظل قائما، فالعلم هو العلم، والشعر هو الشعر، والحرية هي الحرية، والشجاعة هي الشجاعة، والإقدام هو الإقدام، وهلم جرا. ومن هذا الموقف المغلوط، كلما قال لنا عصر جديد: نريد علما؛ أجبناه: العلم عندنا من قديم، ونريد إقداما، قلنا: الإقدام من خصائصنا منذ أول التاريخ. لكن «الفكرة» المعينة - كائنة ما كانت - تنمو في أبعادها ومراميها، وتزداد غزارة في مضمونها، كلما طال بها عمرها في جريانها على ألسنة الناس وأقلامهم. قارن ما كان الناس يسمونه «علما» في القرن العاشر الميلادي مثلا، بما يسميه الناس «علما» في القرن العشرين، وانظر إلى شجاعة السيوف والرماح عند الأقدمين، وقارنها بشجاعة الرأي عند من يريدون برأيهم الجديد أن يغيروا وجه الأرض ليتغير الإنسان، وقس «إقدام» فارس مبارز بإقدام رجل يضع نفسه في صاروخ مغلق، يشق به الفضاء إلى ما لم يكن يطوف لإنسان بخاطر .. اللهم إلا في كوابيس أحلامه .. جوهر المعنى قائم، لكن صورته تتغير مع تغير الحياة وظروفها، تماما كما يحدث للإنسان الفرد، حين تظل هويته قائمة ، رغم تغير أفكاره ومشاعره وكل جوانب حياته باطنا وظاهرا، زيد هو زيد، وخالد هو خالد، منذ أن كان وليدا رضيعا، حتى أصبح شيخا هرما، لكنه في كل مرحلة من مراحل حياته مختلف أشد اختلاف عنه في مرحلة سابقة، أو في مرحلة لاحقة، وهكذا الحال في حياة «الفكرة» المعينة؛ إذ هي تصمد بجوهرها وباسمها عبر القرون، فإذا قال لك قائل من أبناء عصرنا: إننا نعيش اليوم في عصر يعرف بحرية الإنسان، فلا تقل متعجلا: أمسك لسانك؛ فقد كان أسلافنا منذ قرون يعرفون ويعترفون للإنسان بحريته، فقبل أن تسرع بجواب كهذا، حلل مضمون «الحرية» التي كانت، ومضمون «الحرية» التي يريدها هذا العصر للإنسان. وأقل ما أذكرك به هو حرية الإنسان من قيود الطبيعة المادية؛ لأن كل زيادة في علمنا بظواهر الطبيعة، من ضوء وصوت وكهرباء ومغناطيس وجاذبية وغير ذلك، هي في الوقت نفسه زيادة في حرية الإنسان، هكذا يجب أن نقرأ «الأفكار»؛ فلكل عصر قراءته للفكرة المعينة، بناء على زيادة محصوله من المعرفة.
ألا ما أكثر ما حاولنا تحديد الملامح الأساسية التي تجعل الإنسان معاصرا لعصره، وذلك لأن انتماء الإنسان إلى عصره، أو إلى وطنه، أو إلى أمته، أو إلى عقيدته، مسألة تريد شيئا من الروية ودقة التحليل، والذين يحسبونها هنة هينة، في مستطاع كل ذي إدراك أن يحيط بها علما، هم في وهم؛ لأنهم وقفوا عند كلمة «انتماء» وأخذوا يبدون فيها ويعيدون، دون أن يطالبوا أنفسهم بتحديد الجوانب التي من مجموعها يكون «انتماء» وفي غيابها يمتنع الانتماء. أقول إنها كانت محاولات لم تنقطع، منذ فترة طويلة، بحثا عن هذا الانتماء «للعصر»؛ فالذي يجعل من المنتمي «معاصرا» ما هو على وجه الحقيقة؟ خصوصا ونحن في بحثنا عن خصائص «المعاصرة» لم نرد في لحظة واحدة أن تجيء تلك المعاصرة على حساب انتماء المواطن المصري إلى وطنه، وإلى قومه وإلى ديانته.
وها هي ذي قد سنحت فرصة جديدة، برزت فيها أمام أبصارنا سمة مهمة من سمات الانتماء بوجهيه : الانتماء إلى الوطن وهويته الثقافية، والانتماء في الوقت نفسه إلى عالمنا في عصره الراهن. ولأضرب مثلا بشاعر يريد أن يحقق لنفسه انتماءها من الجانبين مجتمعين، فالشرط الضروري لتحقيق ذلك هو أن يكون على دراية وثيقة وكاملة بالشعر العربي في تاريخه كله، وعلى دراية بنبض الحياة في عصره، وعندئذ فقط يجيء شعره حلقة من سلسلة تاريخه القومي، كما يجيء في الوقت ذاته جزءا لا يتجزأ من حياة العصر الذي هو واحد من أبنائه، وقل شيئا كهذا في الفنان، والمفكر، وكل من يتصدى للتعبير بشتى صوره وأشكاله؛ فالانتماء هو أن يكون المنتمي على حس بماضيه وحاضره معا، في المجال الذي يعنيه، ويجب أن يكون منتميا داخل حدوده.
وموضع العلة في حياتنا الثقافية العربية الحاضرة، هو أننا جعلنا للماضي رجالا يحيون فيه ويدافعون عنه، وللحاضر رجالا يحيون فيه ويدافعون عنه، وكأنما الأمر هو إما هذا وإما ذاك، وكأن الطرفين ضدان لا يجتمعان في شخص واحد! وحقيقة الأمر هي أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، مما يستحق أن يسمى باسمه؛ إلا إذا كان المفكر، أو الفنان، أو الأديب، على وعي بتاريخ المجال الذي يبدع فيه، وعلى وعي كذلك بنبض الحياة من حوله؛ فعندئذ يأتي الناتج جديدا، ولكنه يأتي كذلك حاملا من سمات قومه ما يميزه عن قرينه في أمة أخرى، فالفكرة الجديدة لا تكون أبدا إلا تطويرا لفكرة، والفن أو الأدب لا يولدان إلا من أرحام فن أو أدب، وهكذا يتحقق الوجود لما يصح أن يسمى بفكر عربي، أو فن عربي، أو أدب عربي؛ لأنه مرحلة من تاريخ معين، من جهة، ولأنه مرحلة جديدة في ذلك التاريخ، من جهة أخرى.
اللغة ملتقى الثقافتين
كنا في شبابنا نملأ أوعيتنا الثقافية من البحور السبعة، لا نبالي أن يكون هذا الذي ملأنا به الوعاء يحمل فوق رأسه بطاقة «العلم» من أي فرع من فروعه، أو يكون ذلك الذي اغترفناه في وعائنا شعرا وأدبا ونقدا، نذهب إلى معارض الفن، بقوة الدفع التي نذهب بها إلى دار الكتب العامة في باب الخلق بالقاهرة، فإن تكن مقررات الدراسة الرسمية قد احتلت من نشاطنا العلمي والأدبي مكان الجذع من الشجرة؛ فقد كثرت في تلك الشجرة فروعها، وغزرت أوراقها وأثقلتها الثمار والأزهار، وقد ظننت أن كل شاب في مرحلة الدرس أو ما بعدها هو ذلك الإنسان الذي لم يعرف الفواصل الحادة التي تفصل جزءا من المعرفة الإنسانية عن سائر الأجزاء، إلى أن أرسل إلي صديق أديب وناقد مرهف الذوق فيما ينتجه، وما يعرضه، من رائع الشعر والنثر معا، عشر نسخ من كتاب أخرجه عن شعراء الطبيعة من الأقدمين ومن المحدثين، راجيا أن أعينه في بيعها، والحق أن حيرتي أمام هذا الطلب المفاجئ كانت شديدة، وربكتي بهذا التكليف كانت أشد؛ لأنه عمل يتنافى مع طبيعتي، ويكفي أنه منطو على شيء من ذل الرجاء، وليس في طبعي ذرة تدفعني إلى أن أقف من أحد موقف الرجاء وذله، إلا أن ذلك الجانب من كياني يمكن أن أرضيه وأستجيب إليه بلا مشقة ولا عسر، ما دام الأمر أمرا يخصني في حدود حياتي الخاصة، أما أن يكون التكليف آتيا من صديق؛ فذلك شيء آخر، مهما يكن في أدائه من حيرة وارتباك.
وأراد لي الحظ العاثر أن يكون أول من ألتقيه مدرسا للرياضة في إحدى المدارس الثانوية إذ ذاك، وكانت الصلة التي تربطني به لا ترتفع إلى حد الصداقة، ولا تنخفض إلى حد الجهل به، وبعد أن حييته تحية لا بد أن أكون قد بالغت فيها بعض الشيء تمهيدا للقذيفة التي انتويت رميه بها، عرضت عليه نسخة من ذلك الكتاب، ذاكرا له الظروف التي أوقفتني منه موقف البائع وهو المشتري، فتناول الرجل الكتاب وقرأ عنوانه، وسألني وهو في ما يشبه الذهول: ما هذا؟! فقلت له: إنه كما ترى، كتاب وثمنه عشرة قروش، فعاد الرجل إلى دهشته، واتجه ببصره إلى يمينه مرة، ثم قبل أن يعود به ليواجهني مواجهة العاتب الغاضب، قال: كتاب يا أخي؟! وفي الشعر؟! قلت: نعم، إنه كتاب وفي شعر طائفة مختارة من الشعراء قالوه عن الطبيعة وما فتنوا به منها ، فعاد إلى سؤالي في استنكار واضح: «أنا علمي!» أتكون قد نسيت من أنا وماذا كانت دراستي؟! «أنا علمي!» ورد لي الكتاب وانصرف.
وعندما يشاء الله لعبد من عباده أن يزداد علما وخبرة يدبر له المصادر؛ إذ لم يكن قد مضى على ذلك اللقاء أكثر من أيام معدودات، حتى التقيت زميلا كانت بيني وبينه صلة كالتي كانت بيني وبين مدرس الرياضة، وأعني أنها صلة لم ترتفع لتكون صداقة، ولم تنخفض لتكون لا شيء، فلما تبادلنا بأطراف الأحاديث بيننا، جاء ذكر مسألة معقدة يعرفها كل من درس الفلسفة اليونانية القديمة؛ فقد ذهب أحد فلاسفتهم الأولون إلى أن الكون في حقيقته ثابت وساكن لا حركة فيه، وإذا أوهمتنا حواسنا - كحاسة البصر - بأن الأشياء متحركة ومتغيرة؛ فما ذلك إلا وهم، لو سلطنا عليه منطق العقل؛ لأظهر لنا ما قد احتوى عليه ذلك الوهم من تناقض مرفوض، ولكي يوضح مذهبه هذا؛ ضرب أمثلة، كان بينها المثل الذي عرض به تلك المسألة الغريبة التي أشرت إليها، فهو يقول في ذلك المثل: افرض أن «أخيل» (وهو البطل اليوناني الوارد ذكره في إلياذة هومر) اتفق مع سلحفاة على أن يجريا في سباق، ولما كان «أخيل» معروفا بسرعة الجري والسلحفاة معروفة بالبطء الشديد؛ سنفرض كذلك أنه اتفق معها على أن تبدأ هي جريها، من نقطة أمام النقطة التي يبدأ منها هو بمسافة طولها مائة من الأمتار (أو غير الأمتار من وحدات القياس)، ثم سنفرض كذلك أن سرعة أخيل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فهل يلحق بها أخيل أو يستحيل عليه ذلك اللحاق؟ إننا لو حكمنا خبرتنا المستمدة من حواسنا في حياتنا اليومية، لما ترددنا في أنه سيلحق بها ثم يسبقها، وما في ذلك أدنى شك إذا كان الحكم موكولا لحواسنا وما قد خبرته فيما مضى من تجارب حياتنا، لكن اعرض المسألة على العقل الرياضي الصرف؛ ينبئك بأن ذلك اللحاق ضرب من المحال! كيف؟ الجواب هو أن «أخيل» إذا ما قطع المسافة بين النقطة التي بدأ منها، والنقطة التي بدأت منها السلحفاة - وقد فرضنا أنها مائة متر - تكون السلحفاة قد تقدمت عشرة أمتار؛ لأننا فرضنا كذلك أن سرعته عشرة أمثال سرعتها، ولما يقطع أخيل تلك الأمتار العشرة، تكون السلحفاة قد قطعت مترا، فإذا قطع أخيل ذلك المتر، تكون السلحفاة قد تقدمت عشر المتر، وهكذا إلى ما لا نهاية، إذن فرغم أن المسافة بينهما ستظل تتناقص وتتناقص؛ فإنها - رياضيا - لن تنعدم، بحيث يلحق أخيل بالسلحفاة ثم يسبقها، فماذا نحن قائلون بناء على ذلك عن خبرة الحواس التي تؤكد لنا أن ذلك اللحاق مقطوع به؟ الجواب هو، على ضوء المذهب الذي عرضه ذلك الفيلسوف اليوناني - وهو «بارمنيدس» - من أن الكون في حقيقته ثابت وساكن، الجواب هو - إذن - أنه إذا تعارض الحكم بين ما تنبئنا به حواسنا، وبين ما يقضي به المنطق العقلي، كان الصواب لحكم العقل، وكان الوهم المضلل في جانب الحواس.
قلت لزميلي الذي أشرت إليه، حين وردت هذه المسألة القديمة المعروفة في سياق حديثنا: هل تعلم أن تلك المشكلة الرياضية قد لبثت مستعصية الحل على علماء الرياضة جميعا، فلم يجدوا لها حلا يبين لنا موضع «المغالطة» فيها، حتى جاء عصرنا الحديث هذا، فوقع أحد علماء الرياضة منذ مائة سنة فقط، أو ربما أقل من ذلك على الحل، وهو حل يستند إلى التفرقة بين نوعين من «العدد»: الأعداد الطبيعية التي نعرفها جميعا، وتعد بها الأشياء، والأعداد «اللامتناهية» كما تتمثل في النقط التي يتألف منها خط مستقيم مثلا، وهي تفرقة لم تكن معروفة فيما مضى؛ إذ كان الظن هو أن العدد صنف واحد. وهنا أوقفني زميلي حتى لا أستطرد في الحديث، قائلا: من أين لك هذا الكلام؟ ولم تعرضه علي؟ ألست تعلم أنني «أدبي»؟! وإني لأعجب منك وأنت «أدبي» مثلي؛ فتطرق موضوعات هي من شأن «العلمي»! فأضفت له جملة واحدة لذت بعدها بالصمت؛ إذ قلت له: إنني أدرس الفلسفة، وهذه مسألة عرضت في سياق دراستي.
إننا جميعا نعيش حياتنا الثقافية على نحو ما ترص الكتب المختلفة جنبا إلى جنب فوق الرفوف، فإذا وضعنا كتابا في الهندسة إلى جوار كتاب في علم النبات، وإلى جوار هذا وضعنا كتابا في الطب، وبجانبه كتاب في التاريخ، وبجواره ديوان من الشعر، انطوى كل كتاب منها بين جلدتيه، لا شأن له، ولا يريد أن يكون له شأن بما امتلأت به صفحات جاره، فكأننا من الناحية الثقافية أرخبيل من آلاف الجزر الصغيرة، يجمعها أنها في مكان واحد، ويفرق بينها بحر يحيط بكل منها فيعزلها عن أخواتها: فالمهندس جزيرة، وعالم النبات جزيرة، والطبيب جزيرة، والمؤرخ جزيرة، والشاعر جزيرة، وكان الله في عون الجميع، إذا تصايحوا على قضية مشتركة ليتفاهموا.
لقد أهلكتنا الثنائيات ومزقت وحدتنا: الريف والمدن، الفقر والغنى، الأمي والقارئ، المدارس المدنية والمعاهد الدينية، السلفية والمستقبلية، ولم نكن في حاجة إلى مزيد، لكننا أضفنا داخل شريحة المتعلمين ثنائية أخرى: العلمي والأدبي، ولو أطلقنا عليهما اسمين تعارفت الدنيا عليهما؛ لجعلنا أنفسنا على شيء من الصواب، وذلك أن نطلق على النوع الأول من الدراسة «العلوم الطبيعية والرياضية» وعلى النوع الثاني «العلوم الإنسانية» أو «العلوم الاجتماعية»؛ لأن قسمتنا لميادين التعليم إلى «علمي» و«أدبي» فيها خطأ وفيها تشويه وفيها إغراء «للعلمي» أن يتنصل من الإلمام بأي شيء مما يظن أن «الأدبي» ملم به؛ فالذي يفوته علينا هذا التقسيم هو إدراكنا للحقيقة التي هي أن التعليم الجامعي كله «علمي»، فليس بين دراسات الدارسين إلا ما هو «علمي» قائم على مناهج البحث العلمي، ولنتذكر في وضوح أن كلية «الآداب» لا تدرس «أدبا» من حيث هو أدب؛ لأن الأدب نفسه حين يكون موضوعا للدراسة في أقسام اللغات، فإنما يدرس دراسة علمية قائمة على طرائق الدراسة العلمية كأي موضوع آخر، فالعلم يعرف بمنهجه لا بموضوعه؛ إذ قد تختلف الموضوعات المطروحة للبحث، فتكون ظاهرة الضوء أو ظاهرة الصوت، أو ظاهرة الكهرباء، أو طرق المحاسبة وطرق الإدارة، أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان، أو كائنا ما كان الموضوع، لكنه يكون «علما» إذا خضع البحث لشروط البحث العلمي كما حددتها الخبرة العلمية على امتداد العصور، ولا يشذ عن هذا التعميم أن يكون موضوع البحث العلمي شعرا أو رواية أو مسرحية أو أي ضرب من ضروب الفن، وكذلك لا يشذ عن هذا التعميم أن يكون الدين موضوعا للبحث العلمي، وفي هذه الحالة لا يؤخذ الدين من حيث هو عقيدة يؤمن بها الباحث؛ إذ قد يكون الباحث في دين الإسلام - مثلا - من ليس مسلما.
ومرة أخرى نبرز هذه الحقيقة المهمة، وهي أن العلم علم بمنهجه في البحث وليس بموضوعه؛ لأن أي موضوع يمكن إخضاعه لمنهج العلم يصبح موضوعا علميا. وعلى هذا الأساس تكون الموضوعات التي تدرس في جميع الكليات التي درجنا على وصفها بأنها كليات أدبية، أو ما هو أسوأ من ذلك بعدا عن الصواب، وهو أن تصفها بأنها كليات «نظرية» مع أن الدراسة «النظرية» هي نفسها الدراسة العلمية التي تبدأ من «نظرية» وتنتهي إلى «نظرية» في مجال بحثها، أقول إنه على هذا الأساس تكون جميع الدراسات «علمية» رغم اختلاف موضوعاتها، واختلاف الكليات التي تقوم بتدريسها. وأما «الأدب» فهو مخلوق يبدعه من وهبه الله موهبة إبداعه، بغض النظر عن دراسته الجامعية وغير الجامعية ماذا كانت؛ فالشاعر قد يكون طبيبا مثل إبراهيم ناجي، وقد يكون مهندسا مثل علي محمود طه، وقد يكون من رجال القانون أو من رجال الجيش، أو من أي ميدان آخر من ميادين الدراسة والعمل، وكذلك قل في أديب الرواية، والقصة، والمسرحية، ثم كذلك قل في فنان الموسيقى، أو التصوير، أو النحت، أو التمثيل، أو أي فن شئت.
فالعلمي الذي ملأ لي شدقيه بالاستنكار والغضب، قائلا: «أنا علمي.» حين عرضت عليه كتابا في الشعر، والأدبي الذي سالت الدهشة من عينيه، حين أخذت أحدثه عن مشكلة فكرية وردت فيها فكرة العدد، قائلا: «أنا أدبي.» كلاهما من رواسب حياة ثقافية نعيشها، اختلطت فيها الأفكار وانبهمت المعاني؛ ف «العلمي» لا يريد أن تكون له صلة بالأدب، على ظن منه أن الأدب من شأن دارسي الآداب و«الأدبي» يفزع إذا أبصرت عيناه أو وقع على أذنيه أي شيء فيه رائحة العلوم الطبيعية أو الرياضية ، في حين أن أهم شرط يجب توافره في أي إنسان يريد لنفسه أن ينخرط في زمرة المثقفين، كثر نصيبه من ذلك أو قل؛ هو أن يكون - بين صفات أخرى - على دراية متخصصة في موضوع ما، ثم يكون في الوقت نفسه على دراسة هيكلية باتجاهات الموضوعات الأخرى التي لا تقع في اختصاصه ويتولاها عنه آخرون؛ فالطبيب المثقف مطالب - فوق إلمامه الواسع بالطب - بأن يلم بالخطوط الرئيسية التي تسير عليها فنون عصره وآدابه وسياسته واقتصاده ... إلخ، والشاعر مطالب - فوق إلمامه الواسع بتفصيلات الفن الشعري - بمعرفة الاتجاهات الأساسية في دنيا العلوم والسياسة والاقتصاد، وغير ذلك من مقومات الحياة الفعلية والوجدانية والعملية.
لكن هذا جانب واحد من جوانب الموقف الثقافي أينما كان، أضيف إليه في عصرنا جانبا آخر يثير القلق عند من يهمهم حياة الإنسان وتهذيبها والارتفاع بها إلى أعلى ما يمكنها الارتفاع إليه، وأعني بذلك الجانب الآخر المضاف، مشكلة الفجوة التي تفصل التخصصات الدراسية بعضها عن بعض، ولا سيما أن عصرنا هذا قد اتسعت آفاقه العلمية، وغزرت أعماقها؛ حتى لتضيق ميادين التخصص على الأفراد القائمين بها ضيقا شديدا، فيعيش المتخصص العلمي حياته كلها باحثا في فرع صغير واحد من فروع علم واحد، دون أن تمتد له جسور الاتصال بالفروع الأخرى حتى في دائرة العلم الواحد الذي ينتمي إليه، وبهذا الانحصار الشديد في ميادين التخصص العلمي، أصبح العالم الواحد في عزلة عن نبض الحياة الاجتماعية وكأنه ليس منها، كالممثل المسرحي الذي يحفظ بعض كلمات يلقيها في أوانها، دون أن يكون على علم بالمسرحية في مسارها: كيف بدأت، كيف سارت، وإلى أي خاتمة تنتهي. وتزداد خطورة هذه العزلة العلمية بين رجال العلم إذا عرفنا أن الأمر قد يتناول مستقبل البشرية بأسرها، فعالم الطاقة الذرية يستخرج قوانين القوة النووية، وهو لا يدري في أي الظروف يستخدمها من يستخدمها بعد ذلك! أيستخدمها في توليد الكهرباء وإدارة المصانع أم يستخدمها في تدمير هيروشيما وناجازاكي بكل سكانهما وكأن هؤلاء السكان أعشاش من النمل ؟!
إن الحقيقة الضخمة الناصعة التي يتجاهلها نظام التعليم اليوم في العالم كله؛ هي أن انقسام الدراسة العلمية إلى تخصصات كثيرة، ينعزل بها موضوع البحث هنا عن موضوع البحث في القسم المجاور، فضلا عن الأقسام التي تبعد عنه كثيرا أو قليلا؛ إنما هو انقسام صنعه الإنسان تيسيرا للبحث العلمي ودقة نتائجه، إذ إن مجال التخصص كلما اتسع كان اتساعه هذا - بحكم الضرورة - على حساب العمق، وبالتالي كانت النتائج العلمية أميل إلى دمج التفصيلات بعضها في بعض، فيقل علمنا بحقيقة الواقع في واقعيته الفنية بتفصيلاتها، ويصحب هذا أن تقل قدرتنا على التحكم في ذلك الواقع، كل هذا صحيح بالنسبة إلى ضرورة تقسيم المعرفة العلمية إلى أكبر عدد ممكن من التخصصات الفرعية، لكن تلك الضرورة نفسها هي التي تعود فتطرح علينا السؤال الخطير، الذي هو اليوم مطروح بين أيدي رجال الفكر جميعا، وبصفة خاصة أمام رجال التعليم والتربية من هؤلاء، والسؤال هو: كيف نبني الجسور بين تلك التخصصات؛ لتستقيم حياة الإنسان وتتكامل، علما بأن الكون الخارجي في حقيقته لا يقسم نفسه إلى غرف؛ ليحصر في كل غرفة منها ظاهرة واحدة من ظواهره، وإنما هو كون واحد، تتناسق في أصلابه ظواهره، لا تنعزل واحدة منها عن واحدة، وما تلك العزلة التخصصية إلا وسيلة اصطنعها العلم ابتغاء دقة النتائج، والشأن في هذا كالشأن في جسم الإنسان الحي: فيه بصر، وفيه سمع، وفيه رئتان، وفيه قلب، وفيه معدة، وفيه عظام ... إلخ، يتخصص في طب كل جزء من هذه الأجزاء فرع خاص من فروع علم الطب، لكن هذا التفريع في التخصص الطبي لا يعني انقساما في الإنسان ذاته؛ فهو فرد واحد، متصل الأجزاء، كل جزء منها متعاون ومتجاوب مع سائرها.
فالسؤال المطروح بين أيدي رجال الفكر جميعا وفي أرجاء العالم كله، فيما يمس هذا الذي نتحدث الآن عنه، هو: ماذا أضيف من الموضوعات الدراسية لأصحاب هذا التخصص العلمي أو ذاك لكي أحصل على «إنسان» متكامل؟ ولكي نيسر على أنفسنا طريقة النظر بحثا عن جواب لهذا السؤال؛ يحسن أن نضم دراسات العلوم الطبيعية والرياضية في مجموعة واحدة، رغم ما بين أجزائها التخصصية من تباين وتمايز، وأن نضم أجزاء العلوم الإنسانية، أو العلوم الاجتماعية، في مجموعة واحدة كذلك، وهو تقسيم شائع في دنيا التعليم، والتعليم الجامعي بصفة خاصة، وبذلك يصبح أمام قارتين من حيث طبيعة الموضوع المدروس: قارة منهما موضوعها «الطبيعة» كما وكيفا، والقارة الأخرى موضوعها «الإنسان» كما وكيفا كذلك؛ فكلتا القارتين في دنيا الدراسة قائمة على أساس العلم ومنهجه - كما أسلفنا القول - إلا أنهما تختلفان في الموضوع الأساسي المطروح للبحث، وقد ينتهي هذا الاختلاف بينهما في «الموضوع» إلى تخريج نوعين من الثقافة: ثقافة علمية الطابع، وأخرى إنسانية الطابع، فبينما مدار الثقافة الأولى هو الكشف عن حقائق الكائنات اللاعاقلة واللامريدة (إذا كنا على صواب في زعمنا عن الطبيعة بأنها خلو من الوعي العاقل ومن الإرادة)، نجد المدار في الثقافة الثانية هو الكائن العاقل المريد، وذلك هو «الإنسان». ويلحق بهذه الثقافة الثانية، بالإضافة إلى «العلوم» التي تبحث في حقيقة الإنسان، كعلوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والقانون، أقول إنه يلحق بهذه العلوم في هذا المجال الثقافي، نشاط من نوع آخر، هو ذلك النشاط الإبداعي في الإنسان، الذي يخرج للناس فنا، ويخرج لهم أدبا، ومثل هذا التقسيم الثنائي للثقافة هو الذي أغرانا بأن نقسم المتعلمين منا قسمين: «العلمي» و«الأدبي». ولقد بلغ الفصل بين القسمين في أوهامنا، من الحدة درجة سوغت «للعلمي» أن ينفر من أن تكون له صلة بالشعر، كما سوغت «للأدبي» أن يفزع من الصيغ الرياضية إذا وجدها في سياق الحديث، بل إن هذا التقسيم الثنائي للثقافة هو الذي أغرى رجلا من أعلام العلم والأدب معا في إنجلترا، وهو «سي بي سنو» (وله لقب «سير»)؛ أن يخرج إبان الخمسينيات كتابا ذاعت شهرته عند صدوره، بل ولا تزال أصداؤه تتردد إلى اليوم، وهو كتاب عنوانه «الثقافتان». وعلى الرغم من نبوغ «سنو» في العلم وفي الأدب معا (أدب الرواية بصفة خاصة)؛ فإنه في كتابه ذاك أخذ يتعقب عصور التاريخ الفكري، ليصل إلى نتيجة هي أن تقدم الإنسان مرهون بثقافته العلمية، وأما ما ليس بعلم من أدب وغيره؛ فقد يمتع، ولكنه لا يدفع السائر خطوة إلى الأمام. ولقد كان كاتب هذه السطور على هذه العقيدة قبل أن يعلم بوجود هذا الكتاب ومؤلفه، لكن عقبته تلك لم تكن لتستتبع عنده تقليلا من شأن الأدب والفن وما إليهما، بل على العكس على ذلك، كان رأيه ولا يزال (أعني كاتب هذه السطور) أنه لا حضارة بغير فن وأدب؛ لأن ذلك مساو لقولنا إنه لا حضارة بلا «إنسان»، غير أن فكرة «التقدم» الحضاري تنصب أساسا على مدى قدرة الإنسان على فرض سلطانه على الطبيعة.
ولا علينا الآن من هذا التفريع في موضوع الحديث، فسؤالنا مقتصر بالدرجة الأولى على «الثقافتين»، هل نتركهما لتنفرج بينهما زاوية التباعد انفراجا ينعزل فيه من هو «علمي» عمن هو «أدبي»؟ إننا لو فعلنا؛ لتعرضنا إلى تفتيت الوحدة التي تجعل من الإنسان إنسانا متكاملا، ثم تعرضنا بالتالي إلى الخطر الذي هو أخطر ما يهدد الإنسانية بأسرها في عصرنا، وأعني أن ينفلت العلم من قيود «القيم» التي هي في الصميم من حقيقة الإنسان وطبيعته ومثله العليا وأهدافه، إذن ماذا عسانا فاعلين إذ نحن نربي شبابنا ونعلمهم لكي تضيق الفجوة عنده بين الثقافتين؟ كثيرون جدا هم رجال الفكر في بلاد العالم، الذين طرحوا هذا السؤال ثم حاولوا الجواب. ولئن تكن إجاباتهم قد جاءت مختلفة؛ فإن معظمها دار حول محور واحد، وهو أن نضيف مادة من مواد الدراسات الإنسانية، كالتاريخ أو علم الاجتماع، إلى مواد الكليات العلمية، كما نضيف مادة من ميدان العلوم إلى مناهج الدراسات الإنسانية على اختلاف كلياته.
وكاتب هذه السطور - بكل التواضع الواجب أمام رواد الحركات الفكرية في العالم - يرى نفسه على شك في أن تكون تلك الوسيلة المقترحة مؤدية إلى الهدف المنشود، والهدف المنشود هو تعميق الإنسية في من درسوا العلوم الطبيعية والرياضية في مرحلة الجامعة؛ لأن تلك العلوم منصبة على غير الإنسان من حيث هو إنسان؛ إذ هي حتى في الحالات التي يكون الإنسان موضوعها، كما هي الحال في علم وظائف الأعضاء، والتشريح وغيرهما؛ لا ينظر إلى الإنسان إلا كما ينظر إلى أي مادة أخرى من المواد التي يتناولها العلماء بالبحث، ويكمل هذا الهدف بالنسبة إلى دارسي العلوم هدف مشابه بالنسبة لدارسي العلوم الإنسانية؛ إذ يقترح في هذه الحالة أن نعمل على إثارة اهتمام الإنسان العادي بدنيا الأشياء، وتزويده بنظرة علمية تمكنه من الرؤية الموضوعية للمشكلات التي تعرض له في طريق حياته اليومية كما تقع له، أقول إن مثل هذا الهدف المزدوج لا يتحقق بإضافة مادة من الدراسات الإنسانية إلى دارسي العلوم، ومادة من الدراسات الطبيعية والرياضية إلى دارسي الإنسانيات؛ لأن تلك الإضافة المقحمة ستبقى - في أرجح الظن - رقعة منعزلة دخيلة لا تندمج مع غيرها في تكوين الشخص ووجهة نظره.
وإنه ليبدو لي أن هنالك موضوعا قد غفل عنه رجال الفكر في معالجتهم للمشكلة التربوية المطروحة، مع أنه يكاد يفرض نفسه فرضا على العقل، ألا وهو «اللغة»؛ فالفارق الحاسم بين الإنسان وغيره من الكائنات، هو أنه ذو «لغة»، لا بمعنى الإشارات المبهمة التي قد نراها في بعض أنواع الحيوان حين يصيح فرد ليتنبه بقية أفراد نوعه على خطر داهم - أو ما هو من هذا القبيل - ولكن قصدت «اللغة» بالمعنى الذي نعرفه في لغات البشر؛ فلغة الإنسان هي «فكره»، وأرجو أن تلحظ أني لم أقل إنها أداة تنقل «فكره»، بل إنها هي هي «فكره»، وهي هي «وجدانه»، وهي هي كل حياته اللاحيوانية، ولك أن تقول إن ما يكتبه الكاتب أو يقوله المتكلم إنما هو «عقله» وقد ظهر من مكمنه إلى العلانية، وذلك إذا كان الموضوع من موضوعات العقل، وكذلك هو «وجدانه» وقد تجسد في موجات الصوت أو في الكتابة المرقومة على ورق. واختصارا فلغة الإنسان هي نفسه، هي شخصه هي حقيقته، فإذا بقيت بقية غير منطوقة طواها في أحشائه؛ فذلك ما لا يدخل في الحساب عندما ننظر إليه باعتباره عضوا في مجتمع.
فإذا أضفت إلى هذا كله، حقيقة أخرى، هي أن اللغة التي كتب بها أسلافنا ما كتبوه وخلفوه لنا هي أقوى صلة تربطنا بهم في استمرارية تاريخية؛ استطعت القول بأن من قرأ صفحة من تراث الآباء، فقد طالع عقله وأحس مشاعره، وبالتالي فقد عاش معه بمقدار ما قرأ، على أن كتابات السلف ليست كلها سواء في إظهار لفتات عقولهم ونبضات قلوبهم، وإنما هي درجات تتفاوت بتفاوت كاتبيها، فإذا أحسنا اختيار ما يقرؤه طلاب العلوم، وما يقرؤه طلاب الإنسانيات؛ زرعنا بذلك في أفئدتهم ليس فقط إحساسا بانتمائهم إلى خط تاريخي واحد مع هؤلاء السلف، بل إننا لنزرع كذلك في تلك الأفئدة تعاطفا إنسانيا يجاوز حدود الوطنية والقومية؛ ليشمل صلة الإنسان بالإنسان أينما كان.
على أن «اللغة» في عصرنا الحاضر قد ظفرت بكثير جدا من اهتمام العلماء، فأخضعوا هذه الظاهرة البشرية العجيبة للدراسات العلمية البالغة في دقتها حد العلم الرياضي، فكشفوا لنا كثيرا من سر اللغة الذي يجعلها هي وصاحبها مدمجين في هوية واحدة، ولذلك فيمكن عرض هذا الجانب التحليلي العلمي بين مقررات الكليات العلمية، ليتحقق للدارس هدفان في مقرر واحد: منهج علمي أدق ما يكون المنهج، ثم كشف للغطاء عن ظاهرة هي ما هي في حياة الإنسان! على أنني لا أملك إلا أن أصرح هنا بأننا ما دمنا قد اقترحنا «اللغة» وسيلة تقرب الدارسين جميعا بعضهم من بعض، وتصل عصرنا بماضيه وتبث روحا إنسانيا في الإنسان، فلا بد أن يتذوق تلك اللغة في حسوة يحتسيها من رحيقها، وهو «الشعر»؛ لأنه من شجرة اللغة زهرها وعطرها.
الفكر العربي وتحديات العصر
إنما يكون العصر عصرا بأفكاره المحورية، التي حولها تدور الرحى، وتظل تلك الرحى في دورانها تطحن ما تطحنه، وتهمل ما تهمله؛ فيبقى حبيس قشرته كما كان، حتى إذا ما فرغ الوعاء من المادة المراد طحنها، قيل عن ذلك العصر إنه يجر أذياله ليختفي، وتكون عندئذ قد ظهرت في الأفق بشائر عصر جديد. على أن العصر الواحد إذا امتد أجله انقسم في داخله إلى مراحل متمايزة بخصائصها تمايزا يكاد يجعل كل مرحلة منها بمثابة عصر جديد، يختلف عن سابقه، كما يختلف عن لاحقه، بأفكار محورية تميزه.
فالعصر عصر بفكرته، أو بفكراته الكبرى، التي تكون بدورها كالينابيع تنبثق فروعها من أصولها. ولنضرب مثلا لذلك: تاريخ الفكر الإسلامي في قرونه الأولى؛ فبعد أن جاء نصر الله لدين الإسلام، كان الكتاب الكريم هو نفسه الموضوع الأساسي الكبير، الذي انكبت عليه عقول العلماء، وقلوب الشعراء، وجهود الفقهاء، وتأملات المفكرين، وإذن فقد دخل الناس عصرا فكريا جديدا، وقد انقسم من داخله إلى مراحل متمايزة؛ فالقرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) محور دراسات تستهدف آخر الأمر فهم القرآن الكريم حق الفهم، فكان أن شغل باللغة العربية علماؤها، وشغل باستخراج الأحكام الشرعية فقهاؤها، ثم انتقل التاريخ بالناس إلى مرحلة أخرى داخل بنية العصر العظيم، وهي مرحلة الأخذ عن الثقافات والحضارات الأسبق ظهورا، حتى إذا ما امتلأت الأوعية بما أريد لها أن تمتلئ به انتقل التاريخ بالناس نقلة جديدة إلى مرحلة جزئية أخرى من مراحل العصر العظيم، وكان الوقت عندئذ هو القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهنا كانت الفكرة المحورية التي دارت حولها الرحى، هي الوصول بمرحلة الازدهار إلى تخليق الزهرة، فكانت مبدعات الفكر والشعور كلها تتجه نحو ناتج فكري أو أدبي، يسري في أوصاله كل ما قد عرفته الإنسانية من قبل، مكثفا في زهرة واحدة أو مجموعة من زهور، وهكذا أخذت عصور صغرى داخل العصر الكبير تنتقل بالناس من مناخ ثقافي خاص إلى مناخ ثقافي آخر مختلف بخصوصيته.
ونسوق مثلا آخر، يبين كيف تتمايز العصور بأفكارها المحورية، والمثل هذه المرة سيكون بمثابة التمهيد الذي يأخذ بأيدينا مباشرة إلى موضوع هذا الحديث؛ إذ هو مثل منصب على فكر الغرب في تاريخه الحديث، ونحن هنا - في استخدامنا لكلمة «الحديث» - نفرق بين ما هو «حديث» في تاريخ الغرب، وما هو «معاصر»؛ فالحديث هو على وجه التقريب ما امتد من عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر إلى نحو منتصف القرن الماضي (التاسع عشر)، ففي الغرب الحديث اختلفت الأفكار المحورية مع تعاقب القرون، فبينما كانت في السادس عشر وثبة رومانسية تتطلع إلى مغامرات الكشف عن غوامض الكون، من رحلات في بحار الظلمات، إلى جولات في اليابس المجهول، وصعود إلى قمم الجبال التي لم تكن قبل ذاك إلا وسائل رعب وخوف، إلى دوران بالبصر في كواكب السماء ونجومها؛ جاء القرن السابع عشر بعقلانية محكمة الشكائم، لا تريد لأوهام الخيال أن تطيش برزانة العقل، ثم جاء القرن الثامن عشر ومحوره شعلة الإنارة والتنوير، لعل الناس، بمزيد من معرفة لحقائق الحاضر وحقائق الماضي؛ ينهضون بحياتهم الاجتماعية إلى مزيد من حرية وإخاء ومساواة، فلما أن توسط القرن التاسع عشر، مع امتداد يشمل القرن العشرين، دخل الناس في عصر جديد، هو الذي سنورد بعض خصائصه في شيء من التفصيل بعد حين.
لقد أردنا بهذا الذي قدمناه، أن نرسخ في الأذهان فكرة مبدئية، هي أن العصر إنما يكون عصرا بأفكاره المحورية التي ينسج منها المناخ الثقافي العام لذلك العصر، حتى إذا ما رسخ هذا المبدأ، اتجهنا بالأذهان نحو السؤال الذي طرحناه بين أيدينا، الذي يسأل عن العلاقة بين الفكر العربي من جهة، وتحديات العصر الراهن من جهة أخرى، فما نكاد نتجه بالنظر إلى السؤال حتى تملي علينا البداهة أن طريق السير نحو الجواب لا بد أن يبدأ بخطوتين: أولاهما أن نبين في إيجاز ما نعنيه بعبارة «الفكر العربي»، وثانيتهما هي أن نبين في إيجاز كذلك ما نعنيه بعبارة «تحديات العصر»؛ إذ يبدو لنا واضحا أن مجرد النظر إلى هذين المدلولين سيجيء ناطقا بالجواب عن ماهية الجوانب من أفكار عصرنا، التي تثير القلق في أصحاب الفكر العربي.
فما الذي نعنيه بقولنا «الفكر العربي»؟ واضح أننا ما دمنا نذكر الفكر العربي في موقفه من تحديات هذا العصر؛ فالمقصود هو الفكر العربي في عصرنا الراهن؛ أي في الفترة التي تمتد نحو مائة عام، من ثمانينيات القرن الماضي، إلى ثمانينيات هذا القرن، وهي فترة امتزجت فيها، منذ بدايتها بل وما قبل بدايتها، سياسة الغرب مع ثقافته وأصول حضارته، فنتج عن هذا المزيج في نفوسنا مزيج آخر، لعله هو المفتاح الذي يبسط أمام أبصارنا صورة واضحة لحياتنا الفكرية كما هي قائمة الآن، وأعني بذلك المزيج الذي يملأ صدورنا، ذلك المزيج بين كراهية تنفر من الغرب لسياساته الطامعة المغتصبة، مع إدراكنا بضرورة الأخذ عن أصول حضارته وشيء من عناصر ثقافته، ومن هنا ترانا نأخذ ما نأخذه أخذ الكاره المكره، حتى لنود أن يتم ذلك الأخذ والأعين منا مغمضة، فنتج عن ذلك ضرب من الازدواجية في الفكر العربي المعاصر، فمن جهة ترانا نعلن في صراخ استمساكنا بموروثنا عن القديم الأصيل، ولكننا من جهة أخرى نعبئ معاهدنا وجامعاتنا بعلوم الغرب، كما نعبئ أسواقنا بمنتجات الغرب، من أجهزة وآلات، وغيرها من مصنوعات العصر ومبدعاته.
إذن، فلنقف قليلا عند هذا المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق حياتنا الفكرية كلها، ماذا كانت جذوره، ومتى بدأت ظواهره؟ في إيجاز شديد، أقول: إن مراحل الإبداع الفكري في العالم العربي، كانت قد بلغت ختامها عند ابن خلدون، ثم جاء بعد ذلك سلطان الحكم العثماني، ولأمر ما اقترن ذلك الحكم، في القرون الثلاثة التي امتدت من السادس عشر الميلادي إلى التاسع عشر، بجمود في حياتنا أدى بها إلى عقم في إبداع شيء جديد، فانكفأ العلماء في شتى مراكز العلم من أرجاء الوطن العربي، على اجترار القديم، فتناولوه حفظا، وشرحا، وتلخيصا، فلما فتحت أبوابنا على دقات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، وكانت في صحبة تلك الحملة جماعة من رجال العلوم الطبيعية الحديثة، كما كان في صحبتها مطبعة عربية، كانت أول مطبعة شهدتها المنطقة العربية؛ وجدنا أنفسنا عند نقطة على الطريق، قسمتنا شعبتين من الناحية الفكرية، وإنه لمما يصور لنا لحظة الانقسام تصويرا مجسدا؛ أن نذكر كيف كان هؤلاء العلماء الفرنسيون يوجهون الدعوة لعلمائنا في ذلك الحين، مجموعة بعد مجموعة؛ ليعرضوا عليهم نماذج من أعاجيب العلوم الجديدة، كالكهرباء والمغناطيسية وغير ذلك، فكان رد الفعل على معظم علمائنا، هو الدهشة أمام تلك الأعاجيب، إلا أن أحدهم ضاقت نفسه بالألاعيب المعروضة عليه؛ فسأل الفرنسيين: هل لديكم بعلومكم هذه القدرة على أن تكونوا من أهل الخطوة؟ بمعنى أن يكون الواحد منكم هنا الآن، ثم يكون في الوقت نفسه هناك في أي بلد بعيد يختاره؟ فأجاب العلماء الفرنسيون بالنفي، فقال الصوفي المصري: لكن ذلك في مستطاعنا بفضل علمنا الروحاني، وكانت تلك هي اللحظة التاريخية، التي بدأنا ننشق جماعتين عندها؛ فجماعة أقبلت فيما بعد على مصادر العلم الجديد، وجماعة أخرى أدارت ظهرها للعلم الجديد ومصادره والتزمت طريقا واحدا هو طريق السلف فيما ورثناه عنهم من مؤلفات.
لكن الذي يلفت النظر، أن هاتين الجماعتين، على اختلافهما في مضمون المعرفة التي يحصلها كل منهما، كانتا معا على اتفاق في التزام منهج واحد في التحصيل، فأما أنصار السلفية الفكرية؛ فقد أخذوا عن الماضي مضمونا ومنهجا، وأما أنصار العلم الجديد؛ فهم إذا اتجهوا باهتمامهم إلى ما أبدعته حضارة العصر من علوم، ظلوا مقيدين بمنهج السلف، وأعني بالسلفية هنا، القرون الثلاثة التي سبقت الحملة الفرنسية؛ أي ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وأهم ما يميز ذلك المنهج هو - كما أسلفناه - الحفظ، والشرح، والتلخيص، بغير إضافة مبتكرة.
والآن فلنعد ومعنا صورة هاتين الجماعتين في اتفاقهما على منهج «الحفظ» والتكرار، رغم اختلافهما على مضمون ما يحفظونه ويكررونه، أقول: لنعد الآن، ومعنا هذه الصورة، إلى ما ذكرناه، من أن الفكر العربي، منذ أواخر القرن الماضي، قد امتزج في تكوينه عنصران، في علاقته بالغرب: عنصر منهما هو شعور بالكراهية للغرب في سياساته الطامعة، وثانيهما هو شعور بضرورة الأخذ عن أصوله الحضارية والثقافية، لكنه أخذ الكاره المكره، فإذا دمجنا هذا الموقف، الازدواجي، إلى الجماعتين اللتين انقسمنا بهما في التحصيل الفكري إلى طريقين، واحد منا ينهل من علوم الغرب الجديد، والآخر ينهل من تراث السلف بعيده وقريبه، رأينا صورة الفكر العربي المعاصر بعناصرها الأساسية؛ فهو فكر لا يزال في مجموعه يلتزم منهج الحفظ والشرح والتلخيص، وبالتالي فهو فكر يوشك أن يخلو من الأصالة المبدعة للجديد المبتكر، ثم هو في هذا الإطار المنهجي، يعود فيتشعب شعبتين: شعبة تحفظ نتاج المعاصرين من أهل الحضارة الجديدة، وشعبة أخرى تحفظ نتاج أسلافنا القدماء، على أن صورة الفكر العربي المعاصر، بعناصره تلك، لا تكتمل لنا إلا إذا غلفناها بغلاف صحوة دينية، صحونا بها منذ أواخر القرن الماضي، ليس فقط لأن في قوة الإيمان الديني قوة لنا، بل كذلك لأن قوة وعينا بعقيدتنا الدينية هي أفعل وسيلة نصون بها هويتنا الفردية والقومية من أن ننجرف تحت المؤثرات الغربية المتجسدة فيما نعانيه من عدوان قوى الغرب، وفيما ننقله مضطرين عن حضارة الغرب.
وننتقل الآن إلى الشق الثاني من السؤال المطروح، وأعني تحديات العصر، فماذا نعني ب «العصر» وتحدياته؟ إنني إذا ما حاولت النفاذ ببصيرة التحليل خلال الحياة المعاصرة، بكل ما يملؤها من أشتات وتفصيلات، لأصل إلى الجذر العميق، الذي منه تنبعث وتنتشر تلك الأشتات والتفصيلات التي يعيش الناس في غمرة موجها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم؛ فلست أجد ما هو أعمق من فكرة التطور وما يتبعها من إيمان بضرورة التغير، ثم ما يتبع ذلك من حتمية التوجه بالنظر نحو المستقبل، فإذا التفت الناس وراءهم إلى ماضيهم - وهي ضرورة محتومة - فإنما يكون ذلك لاستلهام ذلك الماضي، من أجل أن يعرف الناس كيف يقدرون لأقدامهم مواضعها الصحيحة ليطرد بهم التقدم، مع استمرارية الخط التاريخي بينهم وبين أسلافهم. لكن هذه العبارة الوصفية الموجزة تحتاج إلى شيء من الشرح والتحليل.
ليست فكرة «التطور» وما يتبعها من نتائج في حياة الإنسان، النظرية والعملية على السواء، بالفكرة الجديدة، التي لم يسمع بها تاريخ الفكر إلا في عصرنا هذا؛ فلقد سبق لها أن وردت هنا وهناك آنا بعد آن، لكن الفرق بعيد بين فكرة تظهر عابرة وتختفي، لا تكاد تترك وراءها أثرا، وبين أن تجيء تلك الفكرة نفسها لتسود عصرا بأكمله، وتوجه الإنسان في حياته العلمية والعملية معا، فإذا قلنا عن فكرة «التطور» إنها - فيما يرى كاتب هذه السطور - أعمق الجذور في وجهة النظر المعاصرة، فإنما نعني أن لها سيادة تتحكم بها في تشكيل الرؤية، مهما تكن طبيعة الموضوع المطروح للنظر؛ فلا يكاد أحدنا يهم بالتفكير في أمر من أمور حياتنا، تفكيرا يريد له أن يكون علمي المنهج بمعنى من معاني هذه العبارة؛ حتى يجد نفسه قد بدأ باستعراض المسألة منذ نشأت، ليرى كيف «تطورت» في مراحل نموها، أو في مراحل تقلصها وانكماشها، وإن هذا الموقف ليتضمن عقيدة يضمرها الباحث في نفسه، مؤداها أن كل ما يحتوي عليه هذا الكون، بل الكون نفسه مأخوذا بجملته؛ ليس ثابتا على صورة واحدة، بمعنى أن يكون الشيء في يومه، كما كان في أمسه البعيد، وكما سوف يكون في غده البعيد، لا بل هو «متطور» أبدا، متغير أبدا.
وإذا أردت توضيحا للفرق بين الرؤية العصرية، والرؤية كما كانت فيما مضى؛ فربما وجدنا التوضيح إذا قلنا إن الإنسان فيما مضى، كان ينظر إلى الوجود والموجودات بنظرة «الرياضي»، في حين أنه ينظر اليوم بنظرة «المؤرخ»، فالحقيقة الرياضية، كقولنا عن «المربع» إنه قائم الزوايا متساوي الأضلاع؛ حقيقة لم تتغير منذ الأزل، ولن تتغير إلى الأبد، فالمربع ذو حقيقة ثابتة، هكذا كان، وهكذا هو كائن وسوف يكون، وذلك لأن أمره مرهون ب «التعريف» الذي عرفناه به، فإذا وجدنا شكلا هندسيا لا تتوافر فيه عناصر ذلك التعريف؛ قلنا إنه ليس مربعا، وأما الحقيقة التاريخية فهي على خلاف ذلك؛ لأن «التاريخ» يتضمن امتدادا زمنيا طال أو قصر، فالكائن من الكائنات - أيا ما كان - إنما هو «سيرة» قوامها أحداث تتابعت، فإذا أردت أن تصوره، لم يكن سبيلك إلى ذلك هو أن تورد «تعريفا» له، كما هي الحال في المربع والمثلث والدائرة، بل سبيلك إلى ذلك هو أن تذكر «أطواره» التي اجتازها منذ نشأ وحتى المرحلة التي بلغها، وقل هذا الشيء نفسه في كل جوانب الحياة الإنسانية، فكيف نشأ المجتمع وكيف تطور؟ كيف نشأ نظام الحكم وكيف تطور؟ كيف نشأ نظام التعليم وكيف تطور؟ كيف نشأ الشعر وكيف تطور؟ كيف نشأت العمارة وكيف تطورت؟ وهكذا ... وهكذا ... خذ ما شئت من جوانب الحياة، تجد أنك إذا أردت استيفاء الحديث عنه؛ كنت مضطرا إلى تعقبه منذ نشأ لتنظر بعد ذلك كيف تطور.
رؤية عصرنا إلى الأشياء، والكائنات الحية، والنظم، والعلوم ، والفنون، وإلى أي موضوع نطرحه للبحث؛ هي رؤية تاريخية، بعد أن كانت الرؤية فيما مضى يغلب عليها الرؤية الرياضية، بمعنى أنهم فيما مضى كانوا يبحثون في كل شيء عما أسموه «جوهر» ذلك الشيء، وجوهره هو «تعريفه»، تماما كما تبحث عن تعريف المثلث وتعريف المربع، وما دمت قد وقعت على «التعريف»؛ فقد وقعت على ما هو ثابت على امتداد الزمن، فحتى إذا تغيرت أوجه الحياة بعد ذلك تغيرات ترصدها العين، قيل إنها إنما تغيرت في العوارض الزائلة، أما جوهرها فثابت، لا فرق فيه بين ما كان وما يكون.
وإذا كانت فكرة «التطور» هي في صميم الصميم من رؤية أبناء هذا العصر؛ عرفنا أن «التغير» أمر محتوم، إذ كيف يتطور الوجود بكل موجوداته ولا يتبع ذلك أن تتغير صور الحياة وتتغير معها مسالكنا إزاءها وردود أفعالنا لمثيراتها؟ لقد حدث للفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» أن رأى هذه الرؤية بلمحة من بصيرته النافذة، فتصور عالم الأشياء وكأنه نهر دفاق المياه وقال في ذلك قولته الشهيرة: «إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين.» مريدا بذلك أنك إذا وضعت قدمك في ماء النهر مرة، ثم رفعتها لتضعها مرة أخرى؛ كان الماء في النهر غير الماء في المرة الأولى، لكن فكرة هرقليطس ذهبت خطفا كما جاءت خطفا، ولو أنها قيلت في عصرنا؛ لكانت معبرة عن العصر كله، فالأوضاع السليمة السوية قد أصبحت في عصرنا هي الأوضاع التي ما تنفك تتغير مع تغير الظروف.
إننا قد نجد مفتاح الحقيقة في الفرق بين وجهة النظر في الماضي ووجهة النظر اليوم، في تصور العلماء للذرة، ففي كل العصور حاول العلماء تحليل الطبيعة إلى أصغر وحداتها؛ إذ إن مثل هذا التحليل الذي يرد موضوع البحث إلى وحداته أو إلى عناصره الأولية، هو جانب مهم من المنهج العلمي، فلما كان بحث علماء الطبيعة فيما مضى عن الوحدات الصغرى؛ أي الذرات التي من تجمعاتها تتألف الأشياء، تصوروا الذرة جسما مصمتا لا ثقوب فيه ولا حركة، في حين أن الذرة في تصور عصرنا هي كون صغير قوامه كهارب تتحرك في أفلاكها، كما هي الحال - مثلا - في كواكب المجموعة الشمسية، فما الذرة إلا حركة، إنها إشعاع، بل إن الحركة فيها تتميز ب «الحرية»! أي إن المبدأ الحاكم فيها ليس هو مبدأ الحتمية، بل هو مبدأ «اللاحتمية»؛ لأن العلماء لم يجدوا تلك الكهارب في انتقالها من فلك إلى فلك محكومة بقانون حتمي صارم. ومن هذه الحقيقة عن طبيعة الذرة الصغيرة، وهي أنها حركة دائمة، وتغير دائم؛ نستطيع أن نصعد إلى المتطور نفسه بالنسبة إلى المركبات الكبرى، أشياء كانت أو كانت مواقف ونظما اجتماعية.
تلك هي رؤية عصرنا من أساسها، فإذا أدركناها حق الإدراك؛ عرفنا النتيجة التي تلزم عنها، وهي أن اتجاه السير لا بد أن يكون نحو «مستقبل» ما، وأن الماضي قد مضى، وأقصى ما يستطيعه هو أن يرجع إليه ليساعدنا على فهم حاضرنا كيف جاء، وفهم مستقبلنا وكيف ينبغي له أن يجيء، وإذا شئت فانظر حولك، تجد - أينما وجهت النظر - سرعة محمومة في تغير الأوضاع بكل صنوفها: علم يتغير كل يوم، لا ينسخ ماضيه، بل بالإضافة إليه نظم سياسية تدول ونظم سياسية تقوم قوائمها، ثورات لا تنقطع أسبابها، بعضها رأسي يبدأ في إقليمه وينتهي في إقليمه، وبعضها أفقي يمتد ما امتدت أقطار الدنيا، فيشمل فئات من البشر تتشابه ظروفها وإن تباعدت أوطانها، كالعمال، والشباب، والمرأة، وهكذا. إن كل شعوب الأرض في يومنا يأخذها قلق على المصير، سواء أكانت الشعوب ممن تقدم أم كانت ممن تخلف؛ فمن تقدم تقلقه سرعة التقدم حتى ليفزع على سلامة مصيره، ومن تخلف يقلقه بطء خطواته نحو أن يلحق بالركب؛ فالمستقبل هو ملتقى أنظار الجميع، ثم يأتي في هذا الإطار حنين الإنسان إلى ماضيه، ولا سيما إذا كان ذلك الماضي - مثل ماضينا - ساطعا بأمجاده.
أما وقد رسمنا صورة مركزة لما يسمى بالفكر العربي، ورسمنا معها صورة أخرى موجزة لما نسميه بالعصر؛ فقد بقي علينا أن ننقل أبصارنا بين الصورتين، ولن نلبث إلا لحظة قصيرة حتى تتبدى لنا عوامل التحدي ومصادره؛ فالعصر يتحدى الفكر العربي، يتحداه أن يظل مستمسكا بمنهج الدوران في قديمه، ثم يطمع في قوة حربية، لا أقول: يقهر بها آخرين، بل أقول قوة يصون بها نفسه من قهر الآخرين له ولأرضه، يتحداه أن يظل ثابتا على احتكامه إلى وجدان قلبه في مسائل لا يحلها إلا منطق عقله، ثم يطمع في منافسة الممسكين بزمام العلم الجديد على السيادة فوق هذا الكوكب الأرضي بأي صورة من صورها، يتحداه إذا هو انطوى على نفسه من الناحية الفكرية، وترك رحاب الكون الفسيحة لغيره يجول فيها ويصول بعلومه وصواريخه وغزواته، ثم يتوقع في الوقت نفسه أن يكون عابدا لله حق عبادته، مدركا لقيمة الإنسان وكرامته إدراكا صحيحا، وإذا هو فعل؛ فما أسرع ما يجد نفسه في زمرة الأذيال والأتباع.
لكن عصرنا إذا تحدانا، مستظلا بمظلة العلوم وتقنياتها، وما يتبع ذلك من قوة الصناعة، وقوة السلاح، وثراء المال، وارتفاع مستوى العيش ... إلخ؛ ففي مستطاعنا - بدورنا - أن نتحداه، مستظلين بمظلة الأخلاق وقيمها، لا لأن سادة العصر بغير أخلاق، بل لأنهم اضطروا تحت مظلة العلم والصناعة إلى أن يجعلوا الأولوية في تلك الأخلاق لما هو نافع آخر الأمر بنتائجه هنا في هذه الدنيا، في حين أننا ما زلنا - من الوجهة النظرية على الأقل - نجعل الأولوية في قيم الأخلاق لما هو مؤد بنا آخر الأمر إلى حسن الثواب في الآخرة؛ ففي مستطاعنا أن نتحدى سادة العصر بعلمه وصناعته أن يبينوا لنا كم ينعم الإنسان في ظل العصر بنعمة الطمأنينة! وكم يشقى بالقلق! إنه إذا كان العاملون في ظروف هذا العصر، كثيرا ما يأخذهم الشك في قيمة ما يعملونه، فيسألون ما جدوى أن نمسي لنصبح فيما كنا عليه بالأمس؟! يأخذنا تعب وعناء في ساعات العمل، الذي لا يعرف كل عامل على حدة لما يعمله رأسا ولا ذنبا، فننام الليل لنستريح، ثم يعود الصباح لنعود إلى تعب وعناء، وهكذا تدور بنا العجلة أو العجلات لا ندري من أين تدور، ولا إلى أين ندور، أقول إن العاملين في ظروف العصر إذا ما رأوا أنفسهم يسألون على هذا النحو؛ فالمؤمنون منا حق الإيمان لا يسألون؛ لأن الغاية التي من أجلها يعملون تستحق تعبها وعناءها، ألا وهي رضا الله سبحانه وتعالى، وما يصحب ذلك الرضا من جنة ونعيم.
لكن سؤالا هنا يفرض نفسه علينا، وهو: أهو محتوم للفجوة التي يتباعد بها الفكر العربي وفكر العصر أن تظل قائمة ولا سبيل إلى التئامها؟ الجواب عندي هو بالنفي القاطع؛ فليس هناك ما يمنع صاحب العلم وتقنياته من أن يضيف إلى حياته إيمانا صحيحا باليوم الآخر، ولا ما يمنع صاحب الفكر العربي بعناصره القائمة من أن يضيف إلى حياته كل علوم العصر وما يتبعها من ضوابط المنهج، ومن نتائج تتبدى في أجهزة المعامل وآلات المصانع وتقنيات الحياة العملية، محتفظا في الوقت نفسه بما هو عليه من إيمان، وإنه ليبدو أن سد الفجوة بين الطرفين أقرب إلى أن تقع مهمته علينا نحن، وقلوبنا يعمرها إيمان بدين يحضنا حضا على العلم بأسرار الوجود.
حرية لم يعرفها الأقدمون
كان مما احتفظت به الذاكرة عن «كليوبطره» ما قاله عنها شيكسبير: قدرتها على أن تبدع من أنوثتها الخصيبة امرأة جديدة في كل يوم. ومن ذلك الثراء الغزير، استطاعت أن تفتن قادة الرومان، وعلى هذا المنوال نفسه، أقول عن «الحرية» أضعاف أضعاف ما قاله شيكسبير عن «كليوبطره»؛ فلهذه الحسناء، التي يطلقون عليها اسم «الحرية» ألف وجه ووجه، لكل وجه منها فتنة خلابة، تهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس معا، وإنها لمن الخصوبة والغنى ما عظمت به عن أن تكشف أسرارها دفعة واحدة في عصر واحد، فإن لها في كل عصر جديدا تبديه. فلقد عرف أقدم الأقدمين عن الحرية شيئا وغابت عنه أشياء، ولبث الإنسان في كل عصر من عصوره الكبرى - إذا أسعده الحظ - يكشف من معاجمها معنى جديدا يقاتل في سبيله حتى يظفر به، ليفرغ أحفاده لمعنى آخر يجاهدون بدورهم نحو بلوغه؛ فهنالك منذ قديم الزمان كان هناك رق يملك فيه الإنسان إنسانا كما يملك الأرض والأغنام، وكلنا يعلم كم ألح الإسلام على فك الرقاب؛ فأبسط حريات الإنسان أن يكون حرا في جسده، يملكه هو ولا يملكه عنه سواه، وهذه الملكية من الفرد لبدنه، إذا ما تحققت له استلزمت ضربا آخر من الحرية، وأعني حرية الإرادة، بمعنى أن يكون من حق الإنسان أن يختار لنفسه طريقا بين البدائل المتاحة؛ لأنه بغير هذا الحق لا تقع تبعة الفعل على فاعله، وإنني لأذكر كم أخلصت لنفسي ساعات فوق ساعات، محاولا أن أقع على منفذ واحد أنفذ منه إلى أولئك القدماء - وتبعهم كثيرون من المحدثين - الذين يسلبون الإنسان إرادته الحرة؛ ليجعلوا المشيئة لله وحده - سبحانه - وليجعلوا الإنسان مخلوقا مجبرا على فعل ما قد أريد له أن يفعله. ولقد كان هذا الموضوع موضوع الإرادة في الإنسان بين حريتها وجبرها، من أبرز المشكلات التي تعرض لها رجال الفكر الديني في العصر الأول من تاريخ المسلمين، وخصوصا من يسمون بعلماء «الكلام»، و«الكلام» هنا مقصود به كلام الله جل وعلا، وكانت من أشد الجماعات الكلامية غلوا في جبرية الإنسان فرقة «الجهمية» - نسبة إلى رائدها جهم بن صفوان - فإذا سئل هؤلاء، أو من سار على دربهم بعد ذلك: كيف إذن تقع التبعة على مخطئ؟ كان بعض جوابهم هو أن معنى «العدل» الإلهي مختلف عن معناه في حياة البشر، وليس لإنسان أن يسأل بعد ذلك؛ حتى لا يخوض في مجهول، لكن «الجهمية» ومن تابعوها قديما وحديثا، لم تكن - والحمد لله - هي وحدها صاحبة الكلمة، بل كان معها صوت آخر ينقض قولها، وهو صوت جماعة «المعتزلة» الذين عرفوا باتجاههم العقلي في فهم ما يعرض لهم من مشكلات، وقد نادوا بحرية الإنسان في إرادته عندما يختار هذا الفعل دون ذاك، ومن هنا وقعت عليه تبعة فعله وحق عليه الحساب يوم يقام الميزان، وإذا وجدت جماعة المعتزلة مشارا إليها في الكتب أحيانا باسم «القدرية»؛ فاعلم أن المقصود بهذه الكلمة هو أن «قدر» الإنسان في يديه، فهو الذي يختار الفعل بإرادته الحرة، ومن ثم يصبح «للعدل» يوم الحساب معناه الواضح المفهوم. ولا غرابة أن يفاخر المعتزلة خصومهم بقولهم عن أنفسهم: «نحن أهل توحيد وعدل.» والحق أني لا أجد عسرا في التوفيق بين أن تكون المشيئة في كل شيء لله سبحانه وتعالى، وأن تظل للإنسان إرادته الحرة في التنفيذ، وأذكر أني في مناسبة سابقة طرقت هذا الموضوع، وضربت مثلا بمسافر في سيارة، يقول لسائقه: أريد السفر إلى الإسكندرية، ثم يترك السائق بعد ذلك لينفذ تلك المشيئة على أي نحو يراه ملائما، وهو - بالطبع - مسئول عما يختار، ولست أريد لهذه الفرصة المناسبة أن تفلت، دون أن أشير إلى الآية الكريمة التي تقول:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
وقد كتبت عنها في استفاضة يوما ما؛ لأقول إن أقوى ما يرد على الذهن من معنى للأمانة في هذه الآية هو إشارتها إلى حرية الإنسان إرادة واختيارا؛ فالفرق الواضح بينه وبين السموات والأرض والجبال هو أن هذه جميعا لا إرادة لها، وهي تسير وفق قوانينها التي أريدت لها؛ ولذلك فهي لا تخطئ في سيرها، وبالتالي فهي لا توضع موضع الحساب والجزاء ثوابا وعقابا، وأما الإنسان فقد حمل هذه «الأمانة»؛ أمانة أن تكون له الإرادة الحرة في اختيارها، التي تتعرض للخطأ، ومن هنا يكون الحساب على وزرها. وإذا كانت الآية الكريمة قد وصفت الإنسان في ختامها، بناء على تصديه لحمل «الأمانة» الصعبة؛ بأنه ظلوم جهول، فذلك لهول ما أقدم عليه، وإذا نحن فهمنا كلمة «ظلوم» من جانب إشارتها إلى «الظلام» - والجذر اللغوي واحد في الظلام والظلم - كانت الإشارة هنا إلى أن الإنسان في قبوله لحرية الاختيار، التي قد تخطئ كما قد تصيب، فإنما أقدم على نتائج مظلمة مجهولة لا يستطيع التنبؤ بها قبل وقوعها على سبيل القطع واليقين.
ولم تكن الحرية بعد عبودية الرق، وحرية الإرادة في الاختيار بين البدائل المتاحة؛ الجانبين الوحيدين اللذين أدركهما السابقون من جوانب الحرية، بل عرفت من جوانب الحرية ضروب كثيرة على مر التاريخ، وفي الأقطار المختلفة؛ إذ قد يدرك قوم هنا معنى جديدا من معاني الحرية، لا يدركه قوم هناك، فإذا أخذنا أهل الأرض في مجموعهم؛ قلنا إنهم أدركوا ما نسميه اليوم بالحرية السياسية، بمعنى ألا يحكم البلد بلد آخر، وأن يكون داخل البلد الواحد حق لأبنائه الراشدين في أن يختاروا من يتولى زمام أمورهم. وعرفوا حرية الإنسان في الحركة من مكان إلى مكان آخر، وعرفوا حرية الإنسان في العمل الذي يؤديه، وعرفوا حرية الفنان في صياغة مبدعاته، وحرية الأديب - شاعرا وناثرا - في اختيار العبارة التي يعرب بها عما يريد الإعراب عنه، وعرفوا الحرية من الجوع، وعرفوا فوق ذلك كله الحرية من الخوف، وهنا تجمل بنا وقفة قبل أن نمضي في سبيلنا، فقليلون هم الذين تنبهوا على عظمة الحرية حين تكون منصبة على الجوع وعلى الخوف، فقد لا يكون بين الفاتكات بحرية الإنسان ما هو أفتك من أن يجوع وأن يخاف! وفي القرآن الكريم أكثر من موضع واحد قرنت فيه هاتان الوسيلتان: الجوع والخوف، من حيث هما أداتان من أشد ما يكرث الإنسان من كوارث! فإذا لم يكن من فضل لله على الإنسان إلا أنه قد أطعمه من جوع، وآمنه من خوف؛ فمن أجل هاتين النعمتين وجبت عليه عبادة الله.
حريات كثيرة عرفها القدماء والأقدمون، وحريات كثيرة أيضا لم يعرفوها، إحداها هي التي سأقصر بقية حديثي على عرضها؛ فهي ضرب من الحرية لا أظنه قد وضح أمام الأبصار والبصائر، وتبلورت معالمه في صياغة مبينة، إلا منذ منتصف القرن الماضي، ولذلك يمكن القول عن ذلك الضرب الجديد من حرية الإنسان .. ملمحا مهما من ملامح هذا العصر وثقافته. والخلاصة التي أقدمها بين يديك لأعود بعد ذلك فأتناولها بالتحليل والتوضيح؛ هي أنه لما كان محالا على «العقل» أن يبدأ فعله من فراغ، بل لا بد أن تكون هناك ركيزة ما يرتكز عليها لتتحرك فاعليته في العملية الاستدلالية التي هي مهمته التي يتميز بها دون سائر القوى الإدراكية في طبيعة الإنسان، فإن تلك الركيزة إما أن تكون مأخوذة مما كان الناس قد عرفوه من قبل ، فتوضع تلك المعرفة في مستهل الطريق الفكري؛ ليستند إليها «العقل» في انتقاله منها إلى نتيجة تترتب عليها، وإما لا يكون هناك في معارف الناس ما يصلح أن يكون نقطة ابتداء، فيضع «العقل» من عنده فرضا يفرضه؛ ليكون هو الركيزة في الانتقال الاستدلالي إلى النتائج التي تترتب على ذلك الغرض.
إلى هنا تؤخذ على رجل الفكر مؤاخذة في طريق سيره، فإذا كنت - مثلا - على أهبة السفر من القاهرة إلى الإسكندرية بالسيارة، وأردت مسبقا أن أعرف الزمن الذي تقتضيه رحلتي تلك، كانت ركيزتي الأولى في العملية العقلية هي أن أستند إلى ما كان الناس قد عرفوه قبل ذلك عن طول المسافة بين القاهرة والإسكندرية، ثم أضيف إليها ركيزة ثانية مما قد عرفته عن سيارتي، وهي أنها تجري وهي في أمان نحو ثمانين كيلو مترا في الساعة، ومن هذه البداية يبدأ «العقل» سيره، فيقسم طول الطريق على سرعة السيارة، فتجيء النتيجة التي أريدها مسبقا قبل الرحلة، وهي أن وصولي إلى الإسكندرية سيكون - بإذن الله - بعد نحو أربع ساعات.
ولكن قد تعترض العقل حالات ليست فيها معرفة سابقة للإنسان؛ فها هنا يفرض هو من عنده فرضا أو فروضا تصلح أن تكون مرتكزا للوثوب إلى النتائج التي يبحث عنها، ومن أهم الأمثلة التي تساق في مثل هذه الحالة، ما فعله الرياضي العملاق «إقليدس» (وهو من أهل الإسكندرية في عهدها القديم) حين أقام بناءه الرياضي في علم الهندسة، وليس فينا واحد لم يدرس في المدرسة الثانوية قليلا أو كثيرا من هندسته تلك في فروضها وفي نظرياتها، فلقد بدأ إقليدس إقامة بنائه، بأن فرض فروضا من ضروب ثلاثة، رأى أنها تكفي لتعينه على أن يستدل منها نتيجة - هي النظرية الأولى في البناء الهندسي عنده - فنتيجة ثانية، فثالثة، حتى اكتمل له ما أراد، على أنه كلما استدل على نتيجة من تلك النتائج، أضافها سندا يستند إليه في سيره الاستدلالي بعد ذلك مع الإسنادات الأولى التي كان قد افترضها بادئ ذي بدء.
أعيد القول مرة أخرى حتى لا يفلت الخيط من أيدينا، فأقول: إن «العقل» البشري محال عليه أن يتحرك في مهمته الاستدلالية - وتلك هي مهمته الأولى - إلا إذا كان أمامه منذ البداية سند يرتكز عليه، وذلك السند يؤخذ مما قد عرفه الناس من قبل، فإن لم يجد، فرض من عنده فروضا يتحرك منها. أرأيت سباح الماء الماهر؟ إذ يقف على لوح خشبي نصب على ارتفاع معين من حوض الماء، فيقفز على طرف ذلك اللوح قفزات خفيفة، ثم تشتد به قفزة أخيرة يهتز لها اللوح الخشبي، فيرتفع بها جسده؛ ليكون ذلك أول طريقه إلى الهبوط بحسمه إلى الماء، غاطسا فيه أول الأمر ثم سابحا على سطحه بعد ذلك. إذا كنت قد رأيت ذلك في سباح الماء؛ فقد رأيت معه «عقل» الإنسان وهو يتهيأ للتفكير في موضوع ما، فبادئ ذي بدء تكون سنادة مجهزة للقفز عليها قفزا من شأنه أن يعين على الغطس في صميم الموضوع المطروح، حتى إذا ما تمت تلك الحركة الأولى؛ انسابت مراحل الاستدلال بعد ذلك مرحلة مشتقة مما سبقها، إلى مرحلة تجيء بعدها متولدة منها، وهكذا. لكن الإنسان في معظم تاريخه العقلي فيما مضى لم يلبث أن أخذه النسيان بأنه هو هو نفسه الذي اختار لعقله الركائز التي يقفز منها إلى النتائج، وسرعان ما ظن، ثم تحول ظنه إلى اعتقاد، بأن تلك الركائز العقلية، إنما هي حق في ذاتها، بل هي بين سائر الحقائق أيقنها يقينا؛ ومن ثم قيد نفسه بها، لا يجيز لنفسه أن يخرج عنها أو عليها، ونعود إلى هندسة «إقليدس» فهي خير مثل يوضح لنا ذلك.
اختار إقليدس فروضه التي أراد لها أن تكون وسيلة الوثوب إلى النتائج، فاختار عددا من تعريفات حدد بها معاني المصطلحات المهمة التي ينوي استخدامها، كالنقطة والخط، والسطح ... إلخ، ثم اختار عددا آخر من الحقائق الرياضية، المأخوذة أساسا من علم الحساب؛ ليجعلها بمنزلة «البدهيات» في علم الهندسة، وأخيرا اختار مجموعة ثالثة من الحقائق المتصلة بعلم الهندسة ذاته؛ ليعفيها من ضرورة أن يقام برهان على صحتها، ولتكون هي في الوقت نفسه مقياسا تقاس به صحة ما عسى أن يولده من نتائج، وتسمى هذه المجموعة الثالثة «بالمصادرات»؛ إذن فهذه مجموعات ثلاث من فروض وضعها إقليدس لتكون وسيلته إلى القفز، كما رأينا اللوح الخشبي وسيلة لقفز السباح إلى الماء. ولأن إقليدس كان نابغا عملاقا في الفكر الرياضي، عرف كيف يقع على فروض تتيح له الانتقال إلى عدد كبير من نظريات الهندسة، ثم عرف كيف يختار فروضا، إذا انسلت نتائجها جاءت تلك النتائج مطابقة للواقع الفعلي في العالم الحقيقي، فمثلا، إذا كانت إحدى النتائج التي تولدت له من تلك الفروض، تقول: إن المربع المنشأ على وتر مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين (وهي نظرية رقم 9 والمعروفة باسم نظرية فيثاغورث) فليست هذه النتيجة مجرد نتيجة نظرية تولدت عن فروض نظرية، وإنما هي ما نجده مطابقا للواقع المكاني، إذا نحن اقتطعنا مساحة من الأرض - مثلا - وراعينا فيها أن تكون على شكل مثلث قائم الزاوية؛ فعندئذ نجد أن مربع طول الوتر مساويا لمجموع مربعي الضلعين الآخرين، بل إن هذه الحقيقة الرياضية عن المكان، هي التي مارسها المصريون القدماء، كلما أرادوا أن يعيدوا تقسيم الأرض الزراعية بعد أن ينحسر عنها فيضان النيل؛ فكانوا يأتون بحبل يعقدونه اثنتي عشرة عقدة، إلى مسافات متساوية، ثم يمدونه على جانب الأرض المراد تحديدها، بحيث تكون ثلاث عقد في جانب، بعدها يميلون بالحبل مسافة أربع عقد، ثم يميلون بالمسافة الباقية وقدرها خمس عقد، حتى يلتقي طرفا الحبل، فيكون الحبل قد كون مثلثا قائم الزاوية، يضمن لصاحب الأرض أن قائمة الزاوية عند الركن تعيد تخطيط الأرض إلى نظامه، فعل ذلك المصري القديم، لكنه لم يعبأ بالأساس الرياضي الكامن فيه، وهو ما أقام عليه البرهان الرياضي النظري فيثاغورث أولا، ثم ورد في هندسة إقليدس حلقة من حلقات بنائه الهندسي.
من أجل هذا التطابق بين فروض إقليدس من جهة، وحقيقة المكان الفعلي من جهة أخرى؛ ظن أن فروضه لم تكن مجرد فروض قابلة للتغيير ، بل هي «حقائق» رياضية، وحقائق طبيعية في الوقت نفسه، إذا ما أردنا التطبيق. وإذا كان ذلك كذلك، إذن فالعقل ملزم بقبولها على أنها «حقائق»، ولبث الأمر قائما على هذا النحو طوال القرون الماضية، حتى كان القرن التاسع عشر عند منتصفه، فتساءل علماء الرياضية: أصحيح هي حقائق أم أنها فروض يمكن أن نستبدل بها سواها؟ فإذا كانت الأولى؛ كانت هندسة إقليدس هي وحدها التي تهندس للمكان، وأما إذا كانت الثانية؛ كان في مستطاع علماء الرياضية أن يقيموا أي عدد شاءوا من الهندسات، بأن يغيروا من تلك الفروض ويفرضوا سواها، وكلما وضعوا مجموعة جديدة من فروض خرجت لهم هندسة جديدة، وفي هذه الحالة تكون صحة أي بناء رياضي كامنة فيه؛ أي إن العمليات الاستدلالية فيه عمليات لا خطأ فيها، وبهذا يكون البناء الرياضي صحيحا، وليست صحته مرهونة بانطباقه على أي واقع كان.
وهنا أشرقت على العقل البشري حقيقة كبرى كانت لها أصداؤها وأبعادها في كل مجال آخر من مجالات الفكر، ألا وهي أن «العقل» حر في الأسناد التي يختارها ليستند إليها في استخراج نتائجه، والفيصل الوحيد الذي يميز بناء فكريا عن بناء آخر؛ هو ما يعود به على حياة الإنسان من قدرة في السيطرة على ظواهر الكون، فيلجمها ويسخرها فيما يدفع المسيرة الحضارية إلى أمام.
لقد لبث «العقل» البشري خلال العصور الماضية، مستسلما لحالة من الطمأنينة والرضا، وكأن لم يكن فوق رأسه سقف من قضبان الحديد، لا يؤذن له بأن ينفذ إلى ما وراءها، وكأنما قد حكم عليه أن يظل حبيس تلك القضبان، فله أن ينشط ما شاءت له قدراته، على شرط ألا يجاوز بنشاطه سقف الحديد، وما ذلك السقف إلا موانع وضعها هو فوق رأسه طواعية واختيارا، ثم نسي أنه هو صانعها وواضعها، فتوهم أنها «حقائق» لا حيلة له فيها ولا مندوحة له عن قبولها، ويقنع بأن يستخرج منها ما يمكن استخراجه من أفكار وأحكام، فمرة تكون تلك القضبان أعرافا وتقاليد ورثها عن أسلافه، ومرة ثانية تكون مجموعة من «مبادئ» سارت عليها حياة السابقين؛ فحسب أنها ثابتة على الدهر مهما تغيرت بالناس ظروف الحياة، ومرة ثالثة تكون مجموعة من النظم الاجتماعية اكتسبت على مر الزمن جلالا يوشك أن يبلغ عند أصحابها مبلغ التقديس.
وها نحن أولاء قد عرضنا عليك فيما أسلفناه كيف وقع علم هو أكثر علوم الإنسان دقة، وأعني علم الرياضيات بمختلف صورها، في أحبولة المحبس تحت سقف الحديد، إذ جرى العرف فيه على أن ثمة حقائق رياضية لا مفر من التسليم بها، لأنها بدهيات تفرض نفسها على العقل فرضا، فلم يجرؤ أحد، بل لم يفكر أحد في إمكان رفضها وإحلال غيرها محلها؛ لأنها في حقيقتها لم تزد على كونها «فروضا» فرضت لتصبح عملية التفكير ممكنة، إلا أنها «فروض» وليست «حقائق» فيمكن لمن فرضها أن يفرض سواها، فإذا قلنا إن حقيقة كبرى، هي أسطع ضوءا من شمس الظهيرة في سماء صافية؛ قد أشرقت على الإنسان في أواسط القرن الماضي، وكان ذلك على أيدي أفراد أفذاذ من علماء الرياضة، وخلاصتها أن «مسلمات» البنى الرياضية ليست أكثر من فروض يمكن أن تستبدل بها فروض سواها، فيخرج الإنسان نظريات في الرياضة غير التي كانت؛ فنحن إذ نقول - مثلا - إن مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين؛ فإنما يصح هذا القول على «فرض» بأن السطح الذي رسم عليه المثلث سطح مستو، وأما إذا كان السطح منحنيا، محدبا أو مقعرا، اختلفت مقادير تلك الزوايا، فإذا كان هذا هكذا في العلوم الرياضية ذاتها؛ فما بالك إذا كان الأمر أمر أفكار تولدت للإنسان من عرف وتقاليد أو ما إليها من معايير أورثها السلف للخلف؟! إنه لا بأس في عرف وتقليد يربطان صور الحياة الحاضرة بالحياة الماضية، شريطة ألا يكون ذلك على حساب التقدم العلمي والحضاري؛ إذ ما أكثر ما تكون تلك الموروثات مما يتناقض مع حقائق العلم، أو مع أوضاع حضارية جديدة. ويكفي أن نذكر - مثلا - أن مخالطة ذوي القربى بمريضهم كانت عرفا جاريا بيننا إلى وقت قريب، وربما كانت لا تزال قائمة في بعض الجماعات حتى اليوم .
ولكي نزيد الفكرة وضوحا؛ لا بد أن نذكر بأن موقف العقل العلمي حيال الموضوع المطروح أمامه للبحث، يختلف باختلاف ذلك الموضوع، فهناك طريقان رئيسيان: أولهما أن يكون موضوع البحث متصلا بما هو موجود في عالم الواقع المحسوس، كأن يكون مشكلة خاصة بالزراعة أو بالصناعة، أو بظاهرة الخماسين، أو بظاهرة فيزيائية أو كيميائية، وما يجري هذا المجرى؛ ففي هذه الحالة يندر أن يقع الباحث العلمي في المحظورات التي أشرنا إليها، لأن مرجعه دائما هو الواقع نفسه، فإذا انتهى به البحث إلى نتيجة لا يراها مطابقة لما هو واقع في عالم الحس؛ لم يكن له بد من مراجعتها وتصحيحها. وأما الطريق الثاني في دنيا البحوث العلمية، فهو ذلك الذي لا تكون نقطة البدء فيه مأخوذة من واقع حسي، بل تؤخذ من «تعريفات» يفرضها الباحث نفسه لطائفة من المعاني التي ينوي تناولها في بحثه، ثم يقيم على تلك «التعريفات» قوائم بحثه العلمي، فافرض - مثلا - أن علماء النفس قد أقاموا أبحاثهم عن الشباب المنحرف، على أساس تعريف «للانحراف» بأنه الخروج على ما قد ساد في أغلبية المواطنين، وأن علماء التربية قد أقاموا خطة التعليم كلها على أساس أن تخرج «المواطن الصالح» مع تعريفهم المبدئي «للصلاحية» على أنها الانتماء للنظم القائمة على أرض الوطن، وأن خبراء الحياة السياسية قد أقاموا هيكل الدولة على أساس مبدأ «الحرية» مع تعريفهم «للحرية» تعريفا يجعلها صفة لمجموع الشعب، لا للفرد الواحد من أبناء ذلك الشعب، وهكذا، إلى أن نجد أنفسنا تحت سقيفة صنعت كلها من معان وقيم ومبادئ، صيغت كلها وفق «تعريفات» رآها من رآها من رجال الفكر والعلم والسياسة، فماذا يكون موقف الناس من تلك المظلة الثقافية التي كتب عليهم أن يعيشوا حياتهم في ظلها؟ إنهم لو حرصوا على أن يظلوا ذاكرين أن تلك المظلة إنما هي من صنعهم، بما قد ارتأوه من «تعريفات» للمعاني والقيم والمبادئ؛ لما دخل ديارهم شر إذ هم في هذه الحالة على استعداد بأن يغيروا تلك السقيفة الثقافية بسواها، إذا ما تغيرت ظروف الحياة بحيث لم تعد السقيفة الأولى صالحة، لكن الذي حدث طوال العصور الماضية، هو أن كان الناس دائما على وهم بأنهم إنما يستظلون بمظلة من «حقائق» لا سبيل لرفضها أو الشك في صحتها؛ فهي هناك فوق رءوسهم، وإذا هم زعموا لأنفسهم حرية فكر أو حرية اعتقاد؛ فإنما يكون ذلك فيما هو تحت السقف، وأما السقف نفسه فباق فوق رءوسهم، أحبوا ذلك أو كرهوا. وكان النموذج العقلي لهذا التركيب متمثلا في بنية العلم، والعلم الرياضي بصفة خاصة، ولعلها مناسبة هنا أن نذكر القارئ بأن الرياضة ومنهجها لبثت أمام العلماء بمختلف تخصصاتهم العلمية مثلا أعلى يقاس عليه أي بحث علمي مهما كان موضوعه؛ لأن الرياضة وحدها هي التي بلغت من الدقة ما يستحيل على الشك في صوابه، فكان على هذه الوجهة من النظر - هي الأخرى - أن تنظر إلى انقلابات القرن الماضي في دنيا العلوم؛ لتتبادلها أيدي التصحيح، فللعلوم الطبيعية منهاج، وللعلوم الرياضية منهاج آخر، ولا يجوز الخلط بينهما، أو أن تؤخذ إحدى المجموعتين نموذجا للأخرى.
إذن فقد جاء القرن الماضي، في نصفه الثاني؛ ليقوم عوجا في البنية الثقافية كلها، وأهم ما يهمنا من ذلك التقويم في حديثنا هذا هو أن فتحت الأعين واسعة لترى الفرق بين ما هو «فروض» فرضها الإنسان استجابة لظروف أحاطت به، في حياته العلمية أو في حياته العملية، وبين ما هو «حقائق» واقعة لا سبيل إلى دحضها أو التنكر لوجودها. فأما ما هو «فروض»؛ فنحن لا نستخدم هذه الكلمة في هذا السياق بالمعنى الديني عندما نتحدث عن الفروض الدينية، بل نستخدم كلمة «الفروض» بمعناها في مناهج البحث العلمي، حين يبدأ الباحث بافتراض فكرة ليختبرها، فإذا وجدها تصدق على التطبيقات العملية في دنيا الوقائع؛ احتفظ بها، وإلا فإنه يغيرها بفكرة أخرى تكون أصلح منها وأصدق.
ونعود إلى سياق حديثنا فنقول: إن ما هو في بنائنا الثقافي من قبيل الفروض فلا ينبغي أن يكون ملزما لنا بأي وجه من الوجوه، إلا بمقدار ما نراه صالحا للتطبيق في حياتنا اليومية الجارية ، فإذا تغيرت ظروفنا بحيث فقدت تلك الفروض شيئا من صلاحيتها؛ فلا جناح علينا في تغييرها، وأما ما هو «حقائق» فثابت حتما بما فيه من قوة الحق وصلابته.
وبعد هذا فانظر إلى الثقافة العربية كما هي قائمة اليوم، كم فيها من قضبان الحديد فوق رءوسنا، ومن قيود في الأرجل وأغلال في الأيدي، بحيث تسير الدنيا من حولنا ولا نسير، فلو أن تلك العوائق كلها من قبيل «الحقائق» التي لا قبل لنا بردها ورفضها؛ لقلنا: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين، لكن الكثرة الغالبة من تلك العوائق في حياتنا الثقافية، إنما هو في أساسها من قبيل «الفروض» التي افترضها السابقون استجابة لظروفهم، وكان لهم في ذلك الحق كاملا، فما الذي يلزمنا نحن بفروض افترضها آخرون لزمن آخر؟ أليس لنا مثل ذلك الحق كاملا في أن ننسج لأنفسنا عريشة جديدة من «تعريفات» حديثة للمعاني وللقيم وللمبادئ .. فنستجيب بها استجابة صحية لحياة جديدة؟!
أنجعل التراث كنزا نحن حراسه؟!
لست أذكر على وجه اليقين أي مسألة كانت تلك التي ثارت فأثارت رجال الفكر والأدب فينا؟ حتى لقد انقسموا حزبين، في معركة اصطرعت فيها الأقلام لفترة من الزمن، فجاءني من جاءني ليسأل في سخرية ملحوظة قائلا: علام الضجة الكبرى علام؟ فأجبته: شهد الله أنها معركة في غير معترك؛ فحقيقة أمرها ناصعة بوضوحها، فكل ما هنالك في الحزبين المتحاربين حول قديم وجديد هو أن خلط الفريقان معا بين الوسائل وغاياتها، فأما حزب القديم فقد تحولت الوسيلة بين يديه فأصبحت غاية يوقف عندها، وأما حزب الجديد فقد خيل له أن الجديد الذي هو غايته يمكن أن يتحقق له بغير وسيلة تؤدي إليه، ولو أن الفواصل تبينت بين غاية ووسيلة لهذا القتال؛ لوضح الأمر ورضي الحزبان معا.
قال الصديق الساخر: وكيف كان ذلك؟ ها أنا ذا مصغ أنتظر الجواب قلت: الجواب يا أخي طويل عريض، فيه أصول وفروع، ولأبدأ لك بتشبيه بسيط إلى حد السذاجة لعله يفتح لنا بابا للدخول ؛ فافرض أن مائدة الغداء قد أقيمت لأسرة تعدد أفرادها وتنوعوا، وعلى المائدة من ألوان الطعام صنوف وأشكال؛ فها هنا تكون نقطة البدء التي تؤدي بالآكلين إلى نتيجتين: إحداهما قريبة والأخرى بعيدة، فأما النتيجة الأولى القريبة فهي ما يصيبه الطاعم من لذة الطعام، وأما النتيجة الثانية البعيدة فهي أن يتحول الطعام ليصبح غذاء لكل خلية من خلايا البدن، ثم يعود ذلك البدن الناشط بكل أجهزته، فيترجم ذلك إلى عمل لا نستطيع التنبؤ به عندما جلس الطاعم على مائدة الطعام، فقد يكون عملا علميا يؤديه عالم وهو في مكتبته أو في معمله، أو يكون معزوفة موسيقية، أو قصيدة من الشعر يبدعها شاعر. وبهذه المناسبة أذكر أني، وأنا الشاب الصغير، زرت صديقا يوم عيد، وهناك وجدت المرحوم علي الجارم، ولم أكن رأيته قبل ذاك، وإن كنت بالطبع قد سمعت عنه وسمعت شعره؛ فقد كان الأستاذ الشاعر من أقرباء صديقي ذاك، ورأيت الأستاذ الجارم يأكل لوزة، فانطلق لساني قائلا: ترى ماذا يكون بيت الشعر الذي ستعمل هذه اللوزة على إبداعه؟ وضحك الأستاذ الجارم، ربما لجرأة الشاب وبساطته. هكذا تكون النتيجة البعيدة لما طعمه الطاعمون على مائدة الغداء: قلما يتحرك بفكرة مسطورة على ورق، أو فأسا يضرب بها زارع يفلح أرضه، أو حركة ينشط بها جندي في ساحة القتال، إلى آخر أوجه الحياة البشرية التي ليس لها آخر، فكأن أفراد الأسرة التي حدثتك عنها، وهم على مائدة الغداء يأكلون؛ كانوا يفعلون فعلا يتعدى بمفعولين، فهل تذكر ما تلقيته من دروس النحو في مرحلة التعليم الابتدائي حين تلقيت درسا عن الفعل اللازم والفعل المتعدي؟ فالفعل اللازم له فاعل ولكنه لا يستتبع مفعولا، كأن تقول قام زيد، وأما الفعل المتعدي فله فاعله بالطبع، لكنه بعد ذلك يستتبع مفعولا واحدا أحيانا، كأن تقول ضرب الوالد ولده، أو مفعولين كأن تقول: أعطى الوالد ولده كتابا.
وتشبيها بالفعل الذي يستتبع مفعولين نقول: إن طعام الطاعم ينتج له في حياته نتيجتين: إحداهما لذة الطعام عند الأكل، والأخرى نشاط يتولد عن تغذية الجسم؛ فيبدع به صاحبه إبداعا لم يكن هو نفسه يستطيع أن يتنبأ به ساعة استوائه إلى مائدة الطعام، وهكذا الحال مع التراث ووارثيه.
إننا نتحدث عن التراث ألف ألف مرة في النهار الواحد، وكأن الذي في حسابنا ونحن نلوك هذه الكلمة في أفواهنا أنه ما دامت هي كلمة واحدة - وأعني كلمة تراث - إذن لا بد أن يكون هناك في عالم الكائنات كائن واحد نستطيع أن نشير إليه بأصابعنا قائلين: ذلك هو التراث، لكن تلك الكلمة الواحدة إنما نسير بها إلى عالم ضخم الله وحده أعلم بمداه: مئات الملايين من الصفحات المكتوبة، مضافة إلى ما ليس في وسع أحد أن يحصيه، من الأفكار، ومن العادات، ومن المباني ومن المأثورات؛ ما يترتب عليه آخر الأمر مناخ ثقافي عام يعيشه كل فرد من أفراد الأمة المشاركة في ذلك التراث دون أن يكون بمستطاع كل فرد أن يحدد عناصره، فالمصري يعيش مصريته، والعربي يعيش عربيته، بحيث لا يتعذر على الرائي أن يقول عن شخص يراه: هذا مصري، وذلك عربي، أو على الأصح هذا هو مصري عربي.
ولكي نيسر على أنفسنا الأمر بعض الشيء؛ سنقصر حديثنا فيما يخص التراث على ما هو مكتوب، كان السؤال هو كيف نرى العلاقة بين تلك المجموعة الضخمة من الكتب أو ما يشبه الكتب وبين حياتنا العملية الآن؟ وإن سؤالا كهذا لهو بالفعل مطروح في سمائنا وعلى أرضنا طرحا كثيفا يكاد يسد علينا مسالك التنفس، وكأنه سؤال ذو معنى قريب يصل إلى أفهامنا لمجرد النطق به! والحق أن هذا التراث أقرب شبها إلى قارة فسيحة الأرجاء، فيها جبال وسهول ووديان، وما يشغل سكان الجبال مختلف عما يشغل أهل السهول والوديان، فلنقل - مثلا - إن الشعراء والأدباء والنقاد والفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة يسكنون الذرى، وإن علوم الفقه وعلوم اللغة وعلوم الكيمياء والفيزياء والرياضة هم أهل السهول، وأما الوديان ففيها المؤرخون والرحالة ورواة الحكايات، فإذا كان هذا هكذا أو ما يشبهه؛ فماذا نعني حين نصرخ لأنفسنا اليوم قائلين: التراث! التراث! يا قوم، عليكم بتراث أسلافكم؛ ليجري رحيقه في دماء حياتنا الحاضرة؟! أيمكن أن يكون ما نعنيه هو أن يحيي كل مثقف منا في نفسه كل هذا الخضم الطامي؟ هذا محال لأنه كمن يقول لظامئ اشرب ماء المحيط بأكمله! إذن فالمقصود المعقول هو أن يكون كل ذي اختصاص منا على شيء من العلم بما خلفه أسلافنا في مجال تخصصه، ومع ذلك فالأمر في هذا يختلف اختلافا بعيدا بين مجال ومجال؛ فلئن كان الشاعر العربي المعاصر - مثلا - مطالبا بأن يكون على أوسع علم وأدق علم بالشعر العربي في مختلف عصوره، لكي يتشرب روح الفن الذي يرى موهبته متجهة إليه، ويريد أن يكون صفحة من تاريخه؛ أقول: لئن كان مثل هذا الاستيعاب مطلوبا في الشعر والأدب والنقد، وكذلك في علوم اللغة وما إليها وعلوم الدين؛ فإنه ليس كذلك في علوم الكيمياء والفيزياء والفلك والرياضة والطب وما إليها؟ وكذلك نقول إنه إذا كان علماؤنا اليوم في مجالات الطبيعة والرياضة والطب والهندسة وما إليها مطالبين بأن يكونوا على شيء من تذوق الشعر العربي والموسيقى وبقية جوانب الفن؛ ليتسنى لهم أن يتجهوا بحياتهم الوجدانية نحو المشاركة الصحيحة العميقة الحية مع قولهم، فليس معقولا أن نطلب من رجال الأدب والفن منا أن يكونوا على دراية بما أنتجه أسلافنا في علوم الفيزياء والكيمياء والرياضة، اللهم إلا إذا صدر أحدهم في ذلك عن ميل خاص. ومن جهة ثالثة نقول: إن موقف الشاعر العربي المعاصر من شعر أسلافنا، ليس هو كموقف عالم الكيمياء أو الفيزياء المعاصر، من قرينه في تاريخ أسلافنا؛ فبينما يراد للشاعر المعاصر أن يكون على درجة من التجانس الذوقي مع الشاعر القديم، لأن اللغة بينهما واحدة ولأن الوجدان العربي فيه خيط ممتد معنا عبر العصور؛ فلا ينبغي لعالم الفيزياء أو الكيمياء أو ما إليهما في عصرنا هذا، أن ينخرط مع مثيله من الأسلاف في منهج واحد، أو في نتائج علمية بعينها، وذلك لأنه بينما نحن إذ نصف الشعر - أو أي ضرب آخر من ضروب الأدب والفن - بأنه قديم أو بأنه جديد ؛ فإننا لا نعني ما نعنيه إذ نصف كتابا في الكيمياء - مثلا - بأنه قديم أو بأنه جديد، وعلة ذلك واضحة، وهي أن الآية من آيات الأدب والفن قد تكون قديمة بزمان إنتاجها، لكنها رغم ذلك خالدة باقية لكل عصر بعد عصرها، ولا كذلك العلوم الطبيعية وما لف لفها؛ فالقديم فيها هو قديم في تاريخ إنتاجه وقديم كذلك في درجة صحته، واختصارا بأن الأدب والفن لا يلغي جديدهما ما قد سبقه، وأما في مجال العلوم فالجديد كثيرا جدا ما يلغي القديم.
والمحصلة من هذا كله، هي أن الدعوة إلى إحياء التراث واجبة في ذاتها، لكننا في الوقت نفسه يجب أن نكون على علم بما نعنيه، والذي ينبغي له أن يكون هو ما نعنيه بتلك الدعوة؛ هو: أولا أن يكون كل ذي مجال خاص مسئولا عن مجاله في هذا التراث، وثانيا أن تختلف الصلة بين جانب الشعر والأدب والفن من جهة، وجانب العلوم من جهة أخرى، وثالثا - وهو أهم ما أردت أن أبرزه - ألا يكون هدفنا من إحياء تراثنا والاتصال به أن نعيده في ذاكراتنا حفظا، ثم نقف عند هذا الحد؛ لأننا لو فعلنا ذلك لقتلنا الماضي وقتلنا الحاضر معا، فأما قتل الماضي؛ فلأنك إذا أعدت معلومة في سياق مختلف عن السياق الذي قيلت فيه، فربما أدى ذلك إلى السخرية منها لشدة بطلانها في غير عصرها، وأما قتل الحاضر؛ فذلك لأننا لو خرجنا إلى الدنيا مزودين بعلوم القدماء فربما أعدنا قصة أهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل، وذهبوا إلى المدينة بما لديهم من نقود، أنكرتهم المدينة إنكارا دفعهم إلى العودة إلى كهفهم ليستسلموا إلى الموت.
لا، ليس المراد بإحياء التراث أن ندفن في ثنايا صفحاته، مغمضين العين عما تعج به الحياة من حولنا، بل المراد يختلف باختلاف القول، فإذا اختصرنا وقلنا إن تراثنا إما أدب وإما علم؛ كان المراد من إحياء التراث الأدبي هو أن يكون مصدر وحي لرجال الإبداع الأدبي، حتى نضمن استمرارية تاريخية في كل جنس من أجناس الأدب والفن ، ولماذا نريد أن نضمن ذلك؟ إننا نريده لأن الأدب والفن هما النفس الإنسانية وقد خرجت من مكمنها في الحشا وتموضعت في عالم الأشياء الظاهرة لتراها الأعين أو لتسمعها الأذن، فنحن إذا كنا حريصين على بقاء هويتنا الوطنية والقومية؛ كنا حريصين كذلك على أهم العوامل التي تعمل على بقاء تلك الهوية بمنجى من التحلل والضياع، وأبرز تلك العوامل هو الذوق الفني. وأما المراد بإحياء العلوم التي أنتجها أسلافنا فشيء آخر؛ لأن الاستمرارية التاريخية هنا مختلفة المعنى؛ إذ تدخل فيها حلقات التاريخ العلمي أينما نتج للعلماء ناتج جديد في مجال العلم، فنحن نقول في مجال الفن والأدب: هذا شعر عربي، وفن عربي، وأما في مجال العلوم؛ فلا نقول هذه فيزياء عربية، بل نقول هذه هي الفيزياء بالنسبة إلى العالم كله حتى لو كان العلماء الذين أنتجوها ينتمون إلى أوطان بعينها؛ إذن ماذا عسانا فاعلين بما نحييه من تراثنا العلمي؟ يبدو أن كل ما نجنيه من ذلك الإحياء هو رفع الروح المعنوية عند العلماء العرب في أيامنا هذه كما تقول لشاب مات عنه أبوه وهو طفل، إن أباك كان شهيرا في مهنة الطب؛ لعل هذا القول يثير العزم في قلب الشاب ليسطع نجمه في سماء الطب في جيله الحاضر سطوع أبيه في سماء الطب في جيله، وأما المادة العلمية ذاتها فمختلفة بين الجيلين بحكم طبيعة العلم في نموه عصرا بعد عصر، فالعلم في مسيرته تلك يصحح نفسه، على خلاف الأدب والفن؛ إذ فيهما لا مكان لتصحيح عصر أخطاء عصر آخر، فالشاعر العظيم عظيم ما امتد الزمن. هو - إذن - استلهام الحاضرين للسالفين وليس حفظ الحاضرين لما تركه السالفون، وكيف يكون ذلك الاستلهام؟ الله في ذلك أعلم، لكنه يحدث، ولحدوثه شواهد لا يحدها إحصاء؛ فقد يقرأ صاحب الموهبة كتابا، أو حتى صفحة واحدة من كتاب، وإذا به وقد انقدحت في رأسه فكرة عمل جديد ينهض لإنجازه، ولا تكون بينه وبين ما قرأه أي صلة ظاهرة، أو قد تكون الصلة ظاهرة ولكنها أوهى من أن تبشر بإنتاج مبتكر ضخم. وخذ أمثلة كذلك نسوقها عفو الخاطر، وإني لأرجو القارئ بأن يتذكر صورة المائدة التي أسلفتها قائلا عنها إن أسرة كثيرة الأفراد الذين تنوعت خطوطهم في طرق الحياة العملية، قد جلسوا إليها يطعمون، ثم ذكرت لك عندئذ أن لهذا الفعل نتيجتين إحداهما قريبة مباشرة والأخرى بعيدة وغير مباشرة، على نحو ما نقول في علم النحو عن بعض الأفعال إنها تتعدى بمفعولين، وهكذا استلهام التراث؛ فكما يطعم الطاعم طعاما يلتذ به أولا، ثم يتحرك بعد ذلك بتأثيره في حيوية نشاطه ناشطا في مجال عمله أيا كان ذلك العمل؛ كذلك قارئ قطعة موروثة عن السلف يعجب بها عند قراءتها، ثم تسري حيث تسري في كيانه، فإذا هي قوة خفية تدفعه إلى إبداع ثمرة جديدة.
جاءت إلى أبي العلاء المعري رسالة من ابن القارح فيها أخبار من هنا وهناك عن شعراء وفقهاء وفلاسفة وزنادقة كتبت على الطريقة الاستطرادية التي نألفها عند أدباء العربية الأقدمين، وقد وردت فيها لمحة عن المعري نفسه جاء فيها قوله عنه: «... إن رسائله (أي رسائل أبي العلاء) لو صدرت عن رجل كتبه حوله يراجعها لكانت عجيبة، فكيف بأبي العلاء وهو يعتمد على ذاكرته؟!» فكتب أبو العلاء ردا على رساله ابن القارح، فهل تدري ماذا كانت رسالته تلك؟ إنها هي رسالة الغفران التي تعد في الأدب العربي كله درة من دراته، ثم هي الرسالة التي أثبت بعض علماء التاريخ الأدبي في الغرب أنها كانت ملهما مباشرا للشاعر الروماني دانتي في آيته الأدبية الخالدة «الجحيم»، وأريد للقارئ أن يعلم بأن جحيم دانتي مختلفة عن غفران أبي العلاء اختلافا لا حد لمداه، وكل ما بين العملين من تشابه هو أن كليهما صور زيارة لأهل الجنة وأهل النار ممن ماتوا وصعدت أرواحهم إلى حيث أقيم لها ميزان الحساب، وكان ما كان من جزاء، إلا أن أبا العلاء كاد يقصر زيارته على الشعراء فشعراء الجنة هم الذين أجادوا القول وشعراء النار هم الذين كانت لهم سقطات استحقوا عليها العقاب. وقد أظهر أبو العلاء علمه التفصيلي الواسع بشعراء العربية الذين سبقوه؛ إذ أخذ يناقش أولئك في مواضع الجودة من شعرهم، كما يناقش هؤلاء في مواضع الرداءة التي أوردتهم نار الجحيم. أما دانتي فأوشك في «الجحيم» أن يقتصر على أهل النار وحدهم ممن أساءوا في حياتهم الأولى، وكانت جحيمه درجات متفاوتات من العذاب كما كان هذا العذاب صنوفا مختلفة أيضا؛ فلكل سيئة من السيئات الكبرى درجتها ونوع عذابها، والذي يهمنا الآن مما ذكرناه هو أن نتأمل طريقة الإحياء كيف تجيء، فماذا قرأ أبو العلاء في رسالة ابن القارح بحيث تنقدح له فكرة رسالة الغفران؟ وماذا قرأ دانتي في رسالة الغفران لتتولد له الجحيم؟ لكن هكذا يوحي عمل بعمل، وهكذا يرجى لمن يراجعون تراثنا أن تلمع في رءوسهم لمعات تلد الجديد الذي قد يصعب أحيانا إلا على خاصة الخواص أن يجدوا العلاقة بين مصدر الإلهام وما أثمره ذلك الإلهام من نتاج جديد.
ولعل كثيرين منا ما زالوا يذكرون قصة وردت في كتب المطالعة في المرحلة الابتدائية من مراحل التعليم، وهي قصة رجل يملك قطعة من الأرض الزراعية، ولكنها أهملت لما أصابه مرض أقعده عن العمل، وكان للرجل بنون لا يميلون إلى فلاحة الأرض؛ فلم يواصلوا عمل أبيهم في أرضه، ودنت من المريض ساعته فجمع بنيه هؤلاء حول سريره، وقال لهم اسمعوا يا أبنائي؛ فسأطلعكم على سر أخفيه عنكم، لكنني الآن أحس أن رحيلي قد اقترب، ولا بد أن أكاشفكم به، والسر هو أني خبأت في أرضنا كنزا نفيسا من الذهب دفنته على عمق؛ حتى لا ينكشف أمره لأحد، قال ذلك وأسلم الروح، فما كان من أولاده إلا أن أخذوا ينكتون الأرض نكتا لعلهم يعثرون على الكنز المخبوء، ولكنهم لم يعثروا من ذلك على شيء، ثم ما هو إلا أن تنبه أحدهم، فقال لإخوته: أرجح ظني أنه لا كنز مما تتصورون، وإنما أراد لنا أبي بهذه الحيلة أن نحرث الأرض، وما دمنا قد حرثناها؛ فماذا يبقى لزرعها سوى أن نبذر البذور وتسقى؟ إذن فهيا يا أشقائي ؛ فحصاد الزرع موسما بعد موسم وعاما بعد عام هو الكنز الموعود. وإني لأتخيل صحائفنا الموروثة عن آبائنا لو أن ناطقا نطق بلسانها لقال لنا نحن أبناء اليوم: لقد خبأت في هذه الصحائف كنزا بل كنوزا فابحثوا عنها، فلو صنعنا صنيع أولئك الأبناء؛ لقرأنا ثم قرأنا، ودرسنا ثم درسنا، ما قد ورد في تلك الصحائف، كل منا في مجاله، حتى تشرق علينا الفكرة الصحيحة، وهي أن الكنز الحقيقي هو ما سوف نتوجه إلى إبداعه نتيجة لما قرأناه ودرسناه.
كان الفيلسوف الألماني العظيم عمانوئيل كانط الذي يمكن القول عن مكانته في تاريخ الفلسفة إنه إذا كان أرسطو قديما قد ساد الفكر من بعده لعدة قرون، فإن كانط قد كانت له سيادة كهذه على من جاء بعده، فكأنما دار الفكر الإنساني حول قطبين؛ أرسطو قديما وكانط حديثا، فماذا صنع هذا الفيلسوف الكبير؟ إنه أدرك ما يدركه كل واع، بأن علمي الطبيعة والرياضة يأتيان للإنسان بعلم صحيح، حتى إذا ما نظرنا إلى المبحث الثالث وهو الميتافيزيقا؛ أي ما وراء الطبيعة، وجدناه قد وضع بين أيدينا ضربا من المعرفة، أقل ما يقال فيها هو أن ما يقبله منها هذا الإنسان من رجال الفكر قد يرفضه ذلك الإنسان؛ ما يدل على أنها معرفة لا تقطع بيقين. ولما كان ذلك المبحث الثالث - أعني ما وراء الطبيعة - هو ما يشغل به الفكر الفلسفي بصفة خاصة فقد أراد كانط أن يتعقب العلة التي تجعل نتائج ذلك المبحث معرضة للخلاف والاختلاف، وكان المنهج الذي اختاره لمهمته تلك هو أن يتوفر - أولا - على تحليل مستفيض للكيفية التي يعمل بها العقل في مجال العلم الطبيعي والعلم الرياضي، وكأنه يسأل ما الذي يجعل نتائج هذين العلمين مقطوعا بصحتها؟ حتى إذا ما وقع على جواب نقله إلى المجال الثالث، وهو المجال الذي يبحث فيه مسائل الميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة، لكنه بعد أن أضنى نفسه في أشق عمل اضطلع به فيلسوف من حيث تحليلاته الدقيقة العميقة للعقل الإنساني، وكيف يعمل حين تكون فاعليته منصبة على موضوع في علوم الرياضة أو في علوم الطبيعة؛ أمعن النظر فيما قد وصل إليه تمهيدا للانتقال به إلى البحث فيما وراء الطبيعة، أشرقت عليه الفكرة العظيمة وهي أن الميتافيزيقا هي هي نفسها تلك التحليلات التي مارسها على عمليات العقل حالة انشغاله بعلم الرياضة وبعلم الطبيعة، وليس هناك شيء مستقل بذاته يصح أن يكون موضوعا لعلم ثالث. بعبارة أخرى فإن ما يطلق عليه اسم الميتافيزيقا إنما هو - أو يجب أن يكون - تحليل للعلم كما هو معروف في المجالين الأولين، إذن، فها هي تي قصة أخرى نأخذها من تاريخ الفكر في أعلى ذراه تشبه شبها قويا قصة الأبناء الذين حرثوا الأرض بحثا عن كنز مدفون فتبين لهم أن الكنز المنشود هو عملية الحرث نفسها تمهيدا لزرع جديد.
ومن هذه الأمثلة التي قدمناها تستطيع أن ترى كيف يحدث للإنسان أن يتخذ وسيلة ما ليبلغ بها غاية وراءها، فإذا به قد وجد غايته في تلك الوسيلة نفسها، شريطة أن يتوجه بها وجهة جديدة ما كانت لتخطر لأحد على بال.
وعلى ضوء هذه الحقيقة انظر إلى الثقافة العربية كما هي كائنة؛ تجد جماعتين في طرفين متضادين (وجماعة ثالثة تتوسطهما نترك أمرها الآن) فإحدى تينك الجماعتين تدعو إلى إحياء التراث، والأخرى تجهل ذلك التراث بل تتنكر له، فأما الجماعة الأولى فموضع الخطأ في موقفها هو أنها قرأت ما قرأته من كتب التراث: في علوم اللغة والفقه والفلسفة والأدب والنقد وغيرها، فتوهمت أن تلك هي رحلة الحياة الفكرية قد انتهت بهم إلى غايتها التي لا غاية بعدها، ثم جاوزوا الحد فنادوا بوجوب العودة بحياتنا إلى صورة يكون فيها ذلك الماضي هو حاضرها؛ فهم بهذا الذي توهموه بمنزلة من وقف عند الوسيلة، وكأنها هي نفسها الغاية فلا هم توجهوا بها وجهة جديدة، ولا هم جاوزوها إلى مرحلة أخرى بعدها، فهم في ذلك كراكب قطار لبث في موضعه من القطار لا يبارحه، وكأن ذلك القطار لم يكن وسيلة توصيل إلى شيء آخر غير القطار، وأما الجماعة المتطرفة الثانية فقوامها أفراد من رجال ونساء تعلموا ما تعلموه في معاهدهم وجامعاتهم، فكان كل ما تعلموه منقولا عن علم الغرب وفنه وأدبه، ولولا أن لغة هؤلاء هي اللغة العربية لانقطعت كل صلة تصلهم بالثقافة العربية، وحتى هذه اللغة التي بقيت لهم يندر جدا أن يتقنوا منها ما يقترب بهم من لغة عربية صحيحة، وبهذا تكون هذه الجماعة بمنزلة من بلغ غاية بغير وسائلها، فجاءت تلك الغاية كالمسخ الذي لم تكتمل أعضاؤه، ولن يرجى من هؤلاء أن يثمروا ثمرة يحسبون بها على الثقافة العربية، وهاتان هما الطائفتان اللتان تقتتلان فيما يسمى بالمعارك بين قديم وجديد كلتاهما تمضي بها الحياة لا تترك خلفها ما يصح أن يكون إضافة تزدهر بها الثقافة العربية وتنمو.
والأمل في ازدهار ونماء معقود على جماعة ثالثة اهتدت بفضل الله إلى موقع وسط، لا بمعنى أن نصلح بين خصمين بحل وسط يتنازل فيه كل طرف منهما عن شيء من خصائصه التي يتمسك بها، بل بمعنى أن يتوجه بوحي من التراث وجهة جديدة تشيع فيها روح عصرنا بهمومه ومشكلاته وتقدمه ونجاحه، فكما عرفت الثقافة العربية في ماضيها رجالا من أمثال الجاحظ وأبي العلاء تقرأ لهم فإذا بك تقرأ ثمرة عربية تغذت شجرتها من كل ما عرفته الإنسانية حتى عهدهم من معارف وأذواق، فكذلك نجد اليوم في هذه الجماعة الثالثة من يقدم لنا مثل تلك الثمرة العربية الجديدة، فما الذي ينقصنا إذن؟ ينقصنا أن هذا الذي تحقق في أفراد الجماعة الثالثة يتسع به المدى ليصبح هو الرؤية الشعبية السائدة في الأمة العربية طولا وعرضا حتى إن اختلف الأفراد بعد ذلك تفاوتا في درجات الصعود.
هذه ثقافتنا من رجالها
عندما أعددت نفسي صباح اليوم، لأكتب هذه الكلمات عن تحديث الثقافة العربية؛ قفزت إلى ذهني من ظلمات الماضي البعيد صورة لم أكن أريدها، ولا هي مما يتصل بموضوع الثقافة العربية وتحديثها بسبب قريب أو بعيد، وتلك هي صورة قيصر، في مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير حين أخذ أحد أصدقائه المخلصين يصرفه عن الذهاب إلى مبنى الكابتول؛ خوفا عليه من نبوءة عراف تنذر بالخطر! فرده قيصر في عنف، قائلا له: عني، أو تزحزح الجبل! تركت قلمي حيث كان، وطالبت نفسي أن تبحث عن الخيط - حتى لو كان خيطا واهيا - الخيط الذي ربط في خواطري المنسابة، بين قيصر في عناده الراسخ رسوخ الجبل، وبين ما كنت هممت بكتابته. رحت أتحسس دخائل نفسي من جهة، وأتحسس ما اعتزمت أن أدير حوله هذا الحديث من جهة أخرى، حتى بدت أمامي رابطة يحتمل أن تكون هي الخيط الذي جذب قيصر في صلابته حتى مثل أمامي في سيل خواطري، وذلك أني كنت اعتزمت أن أبرز ما يغلب على المصري - وعلى العربي بصفة عامة - من حب السيطرة والتسلط، حتى لو كانت السيطرة سيطرة على أشباح، وكان التسلط تسلطا على ذوي قرباه، وهذا الميل القوي فينا نحو سيطرة وتسلط، هو نفسه الذي أمدنا بالقدرة على الرضوخ والإذعان؛ لأن الخاضع لمن هو فوقه بدرجة يعوض كرامته ما قد فقدته بخشوعه ذاك، يعوضها بأن يلزم من هو دونه بدرجة أن يذل له ويخشع، ولست أنسي خادمة نشأت معنا منذ طفولتها، وكانت على درجة من البساطة والاستقامة والإخلاص، بحيث كان محالا على خيالي أن تجد الوقت الذي تستأسد فيه أو تتنمر، وللحقيقة أقولها صادقا، إن أحدا من أسرتنا لم يكن يبدي في معاملتها تكبرا ولا تجبرا، ربما لأن طبيعة البنية لم تكن لتستثير في أحد الرغبة في تكبر وتجبر، حتى إذا ما جاء يوم اضطررنا فيه أن نستخدم معاونة أخرى تختص بالوقوف على حاجات أمي في مرضها (عليها رحمة الله) أرادت فتاتنا الأولى أن تكون لها على الثانية إدارة وإمارة على صورة لم يتوقعها أحد، إذن فالظاهرة مغروزة فينا جميعا، تختفي مجبرة، فإذا زالت العوائق خرجت من مكمنها، أو قل إنها مغروزة في طبيعة البشر جميعا، إلا أن أقواما عرفت كيف تهزمها بثقافة عامة يعيش الشعب كله في ظلها، وأقواما أخرى - ونحن منهم - عجزت عن تحقيق ذلك؛ لأنها في حقيقة أمرها لم ترد له أن يتحقق مكتفية بكلام عن «المساواة» تقوله وتعيده، لكنها لا تريد له أن يجاوز حدود الكلام.
كان في نيتي - إذن - أن أدير جانبا من هذا الحديث، حول رغبتنا الجامعة في التسلط بعضنا على بعض، من استطاع منا أن يضع نفسه في مكان يمكنه من ذلك التسلط، وإذا كان هذا هكذا، فلا تحديث للثقافة العربية إلا إذا اتجهت بجهودها، إبداعا وغير إبداع، نحو أن تبث في الناس روحا جديدة، من حيث القيم الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالإنسان، ولا يقلل من ضرورة هذه الجهود، أن تكون تلك القيم وهذه العلاقة بين الناس، واردة في كتاب الله الكريم، وفي الأدب العربي كله شعرا ونثرا؛ لأن ذلك كله لم يزحزح العربي عن طبعه الراسخ رسوخ الجبل.
وهنا نجد التعليل الذي ربما يفسر لماذا قفزت إلى ذاكرتي عبارة قيصر «عني أو تزحزح الجبل.» فكأنما تخيلت رغبتنا الكامنة في تسلط بعضنا على بعض جبلا من ثوابت الجبال وأردت أن أقول لنفسي: من أنت، وماذا يكون جهدك المبذول إزاء ذلك الجبل الرابض ربوض الوحش فوق صدورنا؟
فلما حملت القلم لأكتب، بعد أن استراحت نفسي للتعليل الذي فسرت به ورود قيصر إلى تيار خواطري، دون أن أستدعيه وجدتني أمام خاطر آخر لم أكن قد دبرت أمري لظهوره ثم لم أستطع له دفعا، والحق أني رحبت به؛ لأنه فتح لي بابا لم أكن قد فكرت في أن أدخل منه إلى موضوعي الذي أتحدث فيه، وذلك أني كنت يوما ما تلقيت فيما تلقيته من بريد مذكرات كتبها صاحبها عن بعض خبراته في شبابه، بل بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، ولعله أرسلها إلي ظانا أني قد أكون وسيطا لنشرها؛ فهو بالطبع لا يعلم عني أنني أسير وحدي في واد غير ذي شباب ينفتح عليها أو تنفتح عليه، إلا أنني حفظت مذكراته تلك مع ما أحفظه من أوراق، لا حاجة لي بها، ولكن يصعب علي تمزيقها، ربما لصلة حميمة بيني وبين مضمونها، وربما لجودة أسلوبها وعمق فكرتها. وأذكر أني إزاء تلك المذكرات، قد حرصت على حفظها لسبب آخر أضيفه إلى تلك الأسباب، وهو أن كاتبها قد أعلن في عنوانها أنه كتبها في مناسبة يوم ميلاده؛ إذ أثارت فيه تلك الذكرى هذه الذكريات.
جئت بها من حيث اختزنتها وأعدت قراءتها فإذا هي في الصميم مما أردت أن أعرضه على الناس، وهو أن من أراد أن يراجع نتاجنا الثقافي الذي نعيش حياتنا في ظلاله؛ فلا بد له أن ينفذ ببصره إلى طبائع الرجال الذين صنعوه وأبدعوه، ليرى إن كان هؤلاء الرجال قد وضعوا أنفسهم وعقولهم حقا على الورق، صادقين منزهين عن الهوى، أو أنهم أظهروا للناس شيئا وأخفوا عنهم شيئا آخر هو الذي يحيون على أساسه، فإذا كانت الثانية، عرفنا لماذا هم يكتبون ويكتبون، ومع ذلك لا يكاد يتغير من أسس الحياة عند جمهور الناس شيء بدافع مما كتبوه؛ لأن هذا الذي كتبوه - إذا صدق الغرض الثاني - إنما كتبوه في غير صدق مع أنفسهم، وإنما هي بضاعة تقدم في أسواق الفكر والأدب؛ لأنها نافذة غير كاسدة، ومن ثم فهي بضاعة تعود عليهم بالمال، والشهرة، والمناصب، ورضا جمهور الناس. لكنها مع ذلك كله تمضي بغير أثر في استحداث التغيير المطلوب، وما الذي تغيره إذا كانت قد جاءت لتكون مرآة تعكس ما يستريح له الناس؟!
قال فيما قال صاحب المذكرات: ... لم أكن حدثا، ولا حديث عهد بالقلم، ولم أكن قصير الدراسة ولا قليل التحصيل، حين جلست لأول مرة مع جماعة ممن يضعون أنفسهم، ويضعهم الناس، في مكان الريادة من حياتنا الثقافية فرأيت من سلوكهم عجبا! لقد كنت أتخيل قبل أن أراهم حكما بالهالات الساطعة التي تحيطهم بها كل وسائل الإعلام، كنت أتخيل أن كل واحد منهم هو المشار إليه بقول الشاعر: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» فلما اقتربت منهم؛ وجدت ما يدعون إليه من حقوق الإنسان في واد وما يحيونه مع الناس بالفعل في واد آخر، ينادون في الناس بأعلى أصواتهم: المساواة، المساواة. وأما إذا كان الأمر أمر موقف عملي هم أطراف فيه؛ فوجدتهم وكأن لهم على الناس سيادة بالحق الإلهي الذي كان لملوك العصور الماضين، خصوصا إذا كان الواحد منهم ذا منصب له نفوذ وسلطان؛ فها هنا ينتقل ذلك النفوذ المتسلط - بقدرة قادر - من علاقته بالناس وهو يمارس منصبه، إلى علاقاته بهم في دنيا الحياة الجارية، فحين جلست مع جماعة منهم لأول مرة وكان بينهم من كان مثلي من غير ذوي المناصب، ولكنهم أصحاب علم وفكر وأدب، رأيت كيف يكون الصلف الغاشم والكبرياء الحمقاء؛ فأصحاب الجاه منهم يتبادلون أطراف الحديث أخذا وعطاء، حتى إذا ما تقدم بالرأي أحد من صنف غير صنوفهم؛ نظروا إليه نظرات متعالية في صمت، حتى إذا ما فرغ الدخيل من عرض رأيه؛ عادوا هم إلى ما كانوا فيه، وكأن أحدا لم ينطق بشيء.
ولست أنسى مواقف شهدتها من «المثقفين» أصحاب النفوذ المتسلط (فهؤلاء صنف من البشر قائم بذاته)، شهدت تلك المواقف فأذهلتني - هكذا كتب صاحب المذكرات - فقد أرسلت إلي يوما ما هيئة رسمية تضطلع بترجمة ما ترى وجوب ترجمته من مراجع علمية أو من عيون الأدب في شعوب أخرى، أرسلت إلي كتابا علميا كان قد قام بترجمته ومراجعته أستاذان فاضلان، أحدهما من أصحاب المناصب الذين أشرت إليهم. وكانت طريقة تلك الهيئة في ترجمة ما تعمل على ترجمته، أن يطلع «فاحص» على ما قد تمت ترجمته ومراجعته، ولم يكن «للفاحص» أي حق من الحقوق فلا اسمه يذكر على الكتاب كما يذكر اسم المترجم واسم المراجع، ولا هو يتقاضى مكافأة مالية على فحصه تزيد على مكافأة الحضور جلسة واحدة من جلسات إحدى اللجان؛ فالمسألة كلها - إذن - هي خدمة في سبيل الثقافة، لكي نسير بها في طريق مستقيم، إلا أنني أردت - كعادتي - أن أؤدي ذلك الواجب الثقافي على أكمل وجه مستطاع، فأثبت ما قد لحظته من تجاوزات في ترجمة المصطلحات العلمية، بل أكملت ترجمة فقرات استعصت على المترجم وعلى المراجع فتركوا مواضعها بياضا! فما إن علم صاحب المنصب بما قد ورد في تقرير «الفاحص» حتى استحل لنفسه توجيه لذعات جارحة إلى الفاحص بلغت حد الإهانة التي لا تجوز في التعامل بين إنسان وإنسان، ولم يكن هناك من حجة يستند إليها إلا أنه صاحب نفوذ وسلطان، فكيف يجترئ مجترئ على تصويبه؟! وكأن المادة الأولى في دستورنا الثاني هي: أنا مهم بمنصبي؛ إذن أنا معصوم من الخطأ! والعبرة في هذه الرواية هي أن الدعوة النظرية إلى احترام الحق شيء وتطبيق الدعوة على أصحاب المناصب الحاكمة شيء آخر.
واستطرد صاحب المذكرات يقول: إنني كلما قرأت قول الله تعالى في كتابه الكريم:
لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (سورة النبأ) أو قوله تعالى:
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما (سورة الواقعة)؛ إلا أحسست وكأن هامسا من نفسي يهمس لي: ألا يكون في هذا الذكر الحكيم ما يلفت أنظارنا إلى سوء الحياة الدنيا حين تسوء فتسري فيها أضداد تلك الحالات من النعيم في جنة الخلد؟ فإذا كان هنا لغو وتأثيم وكذاب (الكاف بالكسرة والذال بالفتحة المشددة) فهناك لا يسمع أصحاب الجنة شيئا من ذلك، فما اللغو الذي هو هنا وليس هناك؟ إنه هو الكلام إذا فرغ من المعنى، أو الكلام إذا قيل في غير موضعه المناسب، وماذا يكون «معنى» الكلام إذا لم يكن احتواؤه على ما يرشد السامع إلى خير يفعله مصلحا به حياته وحياة الناس معه؟! وعلى هذا الضوء فانظر إلى القناطير المقنطرة مما تجري به أقلامنا ونزعم له أنه ثقافة وتثقيف، وقل لي: كم فيه مما يعمل على تغيير حياتنا إلى ما هو أصلح؟ وأخشى أن تراجع كثرة غالبة مما يكتبه الكاتبون، وينطق به المذيعون، أدخل في باب «اللغو» منها في باب الكلام الذي يحمل في طيه معنى! وما «التأثيم»؟ أليس هو التقاذف بالتعييب والتجريح؟! ومرة أخرى فانظر إلى حياتنا الثقافية وكم فيها من تعييب وتجريح! بل من طعن وتقتيل، وأخيرا يجيء «الكذاب» أو المكاذبة بمعنى أن يكذب كل فريق فريقا آخر؛ فتكون الحصيلة كذبا في كذب (انتهت المذكرات).
وقفت طويلا عند هذه الكلمة الأخيرة من المنقول عن تلك المذكرات، وهي «الكذب» في ثقافتنا وعند فئة كبيرة من مثقفينا، وإنها لتهمة تستحق الروية والنذير، فماذا تعني؟
الثقافة صفحتان: صفحة معيشة بالفعل، في عادات وتقاليد ونظم وقوانين، وغير ذلك مما نراه مجسدا في حياة الناس يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ فللأسرة روابط تنظم التعامل بين أفرادها، حتى إذا ما انحرف عنها والد أو ولد؛ عرفنا أنه قد أخطأ سواء السبيل، وللمولود صور من الاحتفال بقدومه، وللموالد صورها وصخبها، ولأولياء الله الصالحين كراماتهم وشفاعاتهم، وللمواسم المختلفة طقوسها وللموت رهبته، ولإحياء ذكرى من ذهب عنا سبل نعرفها جميعا؛ فنعرف كيف نعزي المحزون، وكيف نتقبل العزاء، وهكذا، وهكذا، إلى ما ليس له آخر من تلك الأوضاع، التي لقيناها جميعا منذ الطفولة والتي نعرفها جميعا ويعامل بعضنا بعضا على أساسها.
تلك هي الثقافة المعيشة بالفعل، وإلى جانبها «ثقافة» تجري ألفاظا بين الشفاه وعلى الأقلام وأنغاما على أوتار العازفين وغناء وألوانا على لوحات المصورين ومسرحا، ووسائل إذاعة مرئية ومسموعة، وهكذا إلى آخر ما نعرفه من منتجات الفن، والأدب، وقبلهما يجيء علمنا بالعقيدة الدينية عقيدة وشريعة، وهو علم يتجدد ويتسع بما يكتبه أو يذيعه العلماء في هذا المجال، وإذا نحن عددنا جوانب «الثقافة» في صورتها، وهي في الكلمات والأصوات والألوان؛ فالأصوب ألا نذكر «العلوم» لأنها صنف قائم بذاته، فبينما يجوز للشعوب، بل للأفراد من أبناء الشعب الواحد، أن يختلفوا قليلا أو كثيرا فيما هو «ثقافة»؛ فلا يجوز لأحد أن يختلف فيما هو «علم» ثبتت صحته بمناهج البحث العلمي، ومع ذلك فهنالك جانب مستصفى من مجال العلوم ليضاف إلى ما هو «ثقافة»، وأعني به أمرين: أولهما أن يتشرب «المثقف» من العلم «نظرته» العامة عند رؤية الأشياء والمواقف، والمقصود بتلك «النظرة» إحكام الرابطة بين الأسباب ومسبباتها؛ إذ «الخرافة» ما هي إلا خلل يصيب الإنسان في إدراكه للروابط السببية على حقيقتها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون «المثقف» على وعي باتجاهات العلم في عصره، فلئن ترك تفصيلات ذلك العلم لرجاله المتخصصين؛ فإنه مطالب بأن يعرف صورة تقريبية تبين له في أي اتجاه يسير العلم في عصره، تانكم إذن صفحتان للثقافة صفحة معيشة، وأخرى منطوقة مرقومة مرسومة، والفرق بينهما هو - أو ينبغي له أن يكون - فرق في طريقة الإخراج، وليس في طبيعة المضمون؛ ففي الحياة السوية تجيء الثقافة المعيشة منطوية على مجموعة من قيم وأفكار، هي نفسها القيم والأفكار التي يعرضها الدين والفن والأدب والاتجاه العام لعلوم العصر، وفي الوقت نفسه تجيء الثقافة المنطوقة والمرقومة والمرسومة مشيرة إلى صور من الحياة المعيشة كما هي قائمة بالفعل.
ففي فترات الحياة المستقرة، يغلب أن يكون بين الصفحتين تناسق يجعل كلا منهما تعبيرا عن الأخرى وموازية لها؛ فالثقافة المعيشة تجسد القيم والتصورات التي ينشغل بها رجال الفكر والأدب والفن، وكذلك هذا الذي يشغل هؤلاء إنما يكون ضربا من المرآة التي تنعكس عليها صورة الحياة كما هي قائمة، أو قل إنها تكون بمنزلة الصدى الذي يردد تموجات الحياة كما هي واقعة في دنيا الناس، على أن ذلك الاستقرار الذي يؤدي إلى تناغم بين الصفحتين ليس هو بالضرورة استقرار على ارتفاع؛ إذ قد يكون استقرارا على انخفاض وجمود، وقارن - إذا شئت - صورة الحياة العربية في القرن العاشر الميلادي بصورتها في القرن الثامن عشر، فبينما نرى قوة الدفع وتوثب الطموح في الحالة الأولى، حياة واقعية وحياة فكرية وأدبية؛ نجد صورتها في الحالة الثانية راكدة وكأنها يوم واحد يتكرر! فالفرق بعيد بين الحالتين ولكنهما معا حالتان من حالات الاستقرار في تصورات الناس لحياتهم وما ينبغي لها أن تكون.
وأما إذا كانت الفترة التاريخية فترة تحول وتغير وقلق وتأهب كالتي تكون في فترات الانتقال الحضاري من عهد إلى عهد؛ فإن العلاقة بين الثقافة وهي معيشة والثقافة وهي صور من التعبير تفقد تجانسها واطرادها. ولما كنا نحن الآن في مرحلة من هذا القبيل المضطرب، والأمر في هذا لا يقتصر على مصر أو على الأمة العربية، بل يعم العالم كله بدرجات؛ فواجبنا هو أن نتدبر خطأنا على حذر.
وأول ما يلفت النظر في حالة كهذه هو أن جماعة المنتجين للصور الثقافية من فكر وفن وأدب ينقسمون ثلاثة أقسام تتناحر علانية أو لا تتناحر لكن كل قسم يحيا في مجاله الذوقي المغلق على نفسه، وكأنه ليس في الدنيا سواه، فهنالك الفريق الذي يستطيب ما هو قائم، والذي هو في الوقت نفسه ما قد ألفه الجمهور العريض، وإن رضا هذا الفريق عما يسود الجمهور، إما أن يكون عن رغبة مخلصة في الثبات، وإما أن يكون ضربا من ضروب النفاق الاجتماعي، وفي هذه الحالة يكون منتج الثقافة على عقيدة حضارية معينة، وربما يعيشها هو وأسرته في حياتهم العملية لكنه إذا أخرج للناس نتاجا ثقافيا أخرجه ليتجه به مع سواد الناس في تيار واحد. وإن كاتب هذه السطور ليرجو أن يكون مخطئا في تصوره، ولكنه إذا تصور شطرا كبيرا من نشاطنا الثقافي الآن وقبل الآن بنحو جيل كامل، فإنما الصورة التي تتكون له هي صورة فيها مثل هذا النفاق الاجتماعي بدرجة يظنها واضحة ولا يخطئها البصر، ولعل في ذلك ما يفسر لنا لماذا ننتج ثقافة بشتى قوالبها، ثم ننتج وننتج، حتى إذا ما أردنا قياس التقدم الحقيقي في جمهور الشعب؛ وجدناه أقل من أن يذكر، والذي أعنيه بالتقدم الحقيقي هنا هو مقدار ما تتحول به «وجهة النظر» عند الفرد العادي من أفراد الشعب، وجهة النظر التي في إطارها يكون لنفسه فكرة عن الإنسان وقيمته، وعن الكون الذي هو البيت الكبير الذي يقضي ذلك الإنسان حياته في رحابه.
قلنا إن مبدعي الناتج الثقافي في فترات القلقلة الحضارية، ومنها هذه الفترة التي يجتازها العالم كله اليوم انتقالا بنفسه من حضارة ختمت عمرها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى حضارة جديدة هي الآن في حالة إرهاصات ومخاض لولادتها، وهي إذا كانت مرحلة تعم العالم كله اليوم؛ فمصر والأمة العربية جزء من هذا العالم في تحولاته واضطرابه، وفي مثل هذه الحالة المضطربة يتجه فريق من مبدعي الناتج الثقافي نحو أن تؤيد ما قد ألفه الناس، وقد يكون مبدع الثقافة في هذا مخلصا مؤمنا بصدق ما يقوله؛ حتى لتراه يعيش حياته العملية على غرار ما يتصوره وما يصوره للناس في مبدعاته، ولكنه أيضا قد يكون منافقا وكاذبا ابتغاء منفعة يسعى إلى تحصيلها، وذلك حين يؤمن في ذات نفسه بضرورة التغيير، بل يعيش في حياته الخاصة على صورة التغير المرتجى، لكنه إذا كتب للناس أيد لهم ما هم غارقون فيه، وإلى جانب هذا الفريق المؤيد للأمر الواقع - بشعبيته: المخلصة والمنافقة - هنالك فريقان: أحدهما يدعو إلى التغيير في جرأة لا يبتغي من ورائها إلا أن ينقل للناس ما يظنه صوابا وخيرا، والأغلب في الجماعة الأولى أن تكون سلفية ترى مثلها الأعلى في صورة الماضي البعيد، والأغلب في هذه الجماعة الثانية المطالبة علنا بضرورة التغيير أن تكون مستقبلية الرؤية، وحتى إذا هي رأت وجوب استحضار ماضينا في وعينا وفي وجداننا فلا بد أن يكون ذلك توسلا بذلك الماضي؛ ليزيدنا عزما على رؤية مستقبل يتفق مع هويتنا القومية، حتى لا نجعل من أنفسنا أمساخا شائهة، ولا بد أن نلاحظ هنا، أن الجماعة الأولى المؤيدة لما عليه جمهور الناس بما يتضمنه ذلك عادة من سلفية النظر؛ يسهل عليها الاستيلاء على ألباب الناس، فصوت تلك الجماعة يبلغ من أعماق الجماهير وقلوبهم ما لا يبلغه صوت الجماعة الثانية المنادية في جرأة بضرورة أن تتغير صورة حياتنا؛ لتكون أكثر ملاءمة لعصرها.
وإلى جانب هاتين الجماعتين تقوم فئة ليست بالقليلة لا تتجه بنشاطها الثقافي نحو أولئك ولا نحو هؤلاء، بل تشطح وحدها في وديان من الفكر ومن الفن ومن الأدب، لا هي متصلة بماضينا، ولا هي متصلة بمستقبلنا، وإنما هي على الأغلب مستوحاة من أفكار الآخرين وفنونهم وآدابهم دون بذل الجهد الإبداعي الذي يطوع تلك الروافد تطويعا، ويجعلها متجانسة مع نسيجنا القومي.
تمنيت لو أني وضعت بين يدي القارئ عشرة أسماء من اللوامع ذوات الصدى في حياتنا الثقافية اليوم؛ لأجسد له في أشخاص أصحابها تلك الفئات الثلاث التي ذكرتها، لكنني أمسكت عن ذلك؛ حتى لا تظن بي الظنون، وما ابتغيت إلا الحق والخير، فأترك للقارئ أن ينتقي لنفسه من الأسماء ما يراه ممثلا لكل فئة منها؛ حتى يكسو الفكرة المجردة التي عرضتها لحما ودما، ولكني أذكره بأن الفئة الأولى، وهي التي تساير مزاج الجمهور العام، والتي هي على الأغلب سلفية الطابع؛ تنشطر شطرين: شطر مخلص فيما يقول إخلاصا حبيسا فيما درسه وحفظه، وهو الآن جاد في تسميعه أمام الناس، لكنه كذلك إخلاص من يتنكر لضروب القول الأخرى؛ لأنه يجهلها، فكيف يخلص لما يجهله؟! وإذن فلو أنه علم أكثر مما يعلم؛ لاتسع نطاق إخلاصه. وأما الشطر الثاني من الفئة الأولى فمنافق كاذب، يعتقد في شيء ويصارح الناس بشيء آخر، وهو أخطر جماعة في حياتنا؛ لأنها تضم نفرا من أصحاب السيرورة في أوساط القراء على نطاق واسع يقرأ لهم الناس ما يكتبونه ويصدقونه ولا يرتابون في حسن نواياهم.
إنه لا لوم على مخلص ينشر في الناس ما يؤمن بأنه الصواب، لكن اللوم كل اللوم إنما يقع على من يضمر لنفسه رأيا ويعرض على الجمهور رأيا آخر، فلو استيقظت الضمائر عند هؤلاء؛ لسرنا نحو تحديث الثقافة العربية شوطا بعيدا بقفزة واحدة.
الكتيبة الخرساء
هما بيتان من شعر أبي العلاء المعري، ما أكثر ما همست بهما لنفسي، عن عمد حينا إذا استلزم مني ذلك طبيعة الموقف الذي يواجهني، وعن غير عمد حينا آخر بقوة العادة وتكرارها، فلو قلت إني قد همست لنفسي بهذين البيتين أكثر من ألف مرة على مر السنين؛ لما غلوت في التقدير، فكيف إذن أراني اليوم وقد جرى بهما اللسان عفو الخاطر وكأنني أتبين من معناهما ما لم أكن قد تبينته فيما مضى بكل هذا الوضوح؟! أو قل إن موضوع الثقافة العربية في حاضرها هو الذي يسبق غيره إلى فكري، فتراني أقرأ ما أقرأه تحت هذا الضوء؛ فلا عجب أن تنطق لي المادة المقروءة بمعان تتصل بالثقافة العربية، لم تكن لتنطق بمثلها لو أن الذي يشغل فكري سياسة أو اقتصاد أو غيرهما مما يصح أن يعرض للفكر من موضوعات، وهذه في حد ذاتها حقيقة إنسانية لها شأنها، قد يأتي منها الهدى مرة، ويأتي الضلال مرة، وأعني ذلك الميل في فطرة الإنسان نحو أن يقرأ الوقائع بما يتفق مع فكرة مسبقة تشغله، فيرى في تلك الوقائع ما ليس يراه قارئ آخر، تملأ رأسه فكرة أخرى، فكل يغني على ليلاه.
لا علينا، ولننصرف إلى ما نحن فيه؛ فللمعري بيتان من الشعر، سأضعهما بين يديك بعد أن أقدم شيئا من الشرح ليظهر معناهما واضحا عند قراءتهما، وأول نقطة أتناولها بالتوضيح هي نظرية «الإمامة» في الفكر الإسلامي؛ فكلمة «الإمام» معروفة لنا جميعا، نقولها ونكتبها، ونصف بها الرجال، دون أن نشغل أنفسنا بما وراءها من معان مضمرة، بل قد لا يكون من يستعملها على قصد متعمدا أو غير متعمد، بأي معنى مضمر فيها، سوى أن من نصفه بالإمامة رجل ذو علم يهتدي به لنفسه، ويهدي الآخرين، لكن هنالك مذاهب إسلامية تبنى على أساس نظرية خاصة في «الإمامة»، ولا سيما عندما يكون الحديث منصبا على ما تزعمه تلك المذاهب من «إمام منتظر» يظهر بعد اختفاء فيظهر الحق على يديه، وأيا ما كان الأمر بالنسبة إلى ذلك الإمام المنتظر؛ فقد اكتسبت فكرة «الإمامة» قوتها منذ صدر الإسلام، وذلك حين نشأ السؤال عمن يكون له الحق في تفسير ما استعصى على الناس تفسيره من آيات الكتاب الكريم، ولم يكن ثمة موضع لسؤال كهذا أيام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان المرجع الفاصل في ذلك، ولكن ماذا بعد موت الرسول؟ قال قائلون إنه كما نزل القرآن الكريم وحيا على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا مفر من أن ينزل تفسيره وحيا كذلك، لأن التفسير إذا ترك للاجتهاد؛ فقد تتعدد اتجاهاته، وبهذا التعدد تكثر صور الإسلام بين المسلمين، لكن من ذا الذي يتلقى الوحي بالتفسير كلما استعصى أمر بين المسلمين؟ هنا كان الجواب عند هؤلاء بأن من ينزل عليه مثل هذا الوحي لا بد أن يكون إماما معصوما، ولمثل هذا الإمام الملهم بوحي من الله سبحانه وتعالى تكون أحقية الخلافة وأحقية الحكم.
تلك - إذن - نقطة أولى مما سوف يراه القارئ واردا في بيتي المعري. وأما النقطة الثانية فخاصة بجمهور الناس، فإذا سأل سائل: أنسلب المؤمنين جميعا إلا واحدا حق الاجتهاد في فهم آيات الكتاب الكريم مهما أوتوا من العلم؟ فيبدو أن الإجابة عن هذا السؤال إذا جاءت من أصحاب النظرية الخاصة بالإمامة المعصومة هي بالإيجاب، فكأنهم يقولون: إن ثمة رجلا واحدا ينطق بالحق عن وحي يوحى إليه، وأما سائر الناس فيجب عليهم الصمت اكتفاء بما يقال لهم من «الإمام»، ومن هنا أشار أبو العلاء في بيتيه، بقوله «الكتيبة الخرساء»؛ فهنالك قائد واحد هو «الناطق» وأما من عداه من عباد الله فجمهور أخرس.
وأما النقطة الثالثة مما أريد أن أقدم به بيتي أبي العلاء؛ فهي عن «العقل»، إذ يقيم أبو العلاء مقابلة بين «الإمام» من جهة، و«العقل» من جهة أخرى، فلأيهما يلقي الإنسان بزمامه؟ هل يقف أمام ما عساه ينشأ له في حياته من مشكلات وقفة من ينتظر الحل ينطق له به «إمام» أو إنه يعمل فيه عقله مجتهدا لإيجاد الحل المطلوب؟ ولقد كان ينبغي ألا يكون سؤال كهذا واردا على مسلم، وإلا فلماذا كان الإسلام آخر الديانات ظهورا؟ أكان ذلك لأن حياة الإنسان بعد ظهور الإسلام لن تتعرض لأي أمر مشكل لم يرد له حل في آيات الكتاب الكريم أم أن حياة الإنسان تفرز مشكلاتها جديدة مع كل يوم جديد؟ ولقد كان المستحدث من تلك المشكلات فيما قبل الإسلام نزل من أجل حله رسالات الرسل على تعاقب العصور، فأما وقد نضج العقل الإنساني؛ فقد جاء القرآن الكريم بحلول لطائفة كبيرة من مسائل الحياة التي عرضت للناس في مناسباتها، ثم أمر الإنسان بأن يركن إلى عقله بعد ذلك، كلما جد له في حياته جديد، ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات، فإذا كان الخيار بين «إمام» و«عقل» لم يتردد المعري في أن يقع اختياره على «العقل» أداة إرشاد لصاحبه، ما أصبح به صبح أو أمسى مساء. أما بعد، فهاك البيتين:
زعم الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الزعم لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
وحديثنا هو - كما تعلم - حول حاضر الثقافة العربية، فلو قرأت هذين البيتين، حين تكون منشغلا بموضوع الثقافة العربية؛ فبأي الصور تجيئك هذه القراءة؟ إنني لا أعرف بماذا تجيب، وأما أنا فكما حدثتك فيما أسلفته لك وجدتني كأنما أقرأ البيتين لأول مرة، رغم أني قد همست بهما لنفسي قبل ذلك ما يزيد على ألف مرة، وذلك لأني قرأتهما بهداية من الموضوع الذي يشغل فكري الآن، وهو حاضر الثقافة العربية، فكانت الصورة التي وثبت منهما إلى ذهني، هي صورة جمهور عريض أخرس، أو كالأخرس، لا يعرف كيف ينطق، ولا بأي شيء ينطق، فيتنازعه رجلان: أحدهما يضطلع بدور يشبه دور «الإمام المعصوم» الذي حدثتك عنه عند طائفة من مذاهب الإسلام، والآخر يؤدي دورا يشبه دور العقل حين يصدر أحكامه على الأشياء والمواقف. فأما أول الرجلين فسنده في اجتذاب الجمهور هو محفوظات ينقلها إليه عن مؤلفات السابقين ممن كانت - ولا تزال - لهم مكانتهم في قلوب المسلمين، وأما ثاني الرجلين فسنده أمور الواقع الحاضر، وكيف أنها في حاجة إلى نظر جديد وحل جديد، وإلى أي الرجلين - يا ترى - قد انجذب جمهورنا؟ لقد تغيرت معه وجهة الجذب بتغير المراحل الزمنية من هذا القرن، وإذا أردت وصفا عاما لاتجاه الجمهور، يقبل الاستثناء هنا وهناك، فقل إن رجل العقل كان أشد جذبا له في المرحلة الأولى، ورجل المحفوظات المأثورة أشد جذبا له في المرحلة الثانية: فهل كان تغير الجمهور في الجذابة بين المرحلتين راجعا إلى وعي زاد فيه هناك ونقص هنا أو نقص هناك وزاد هنا؟ أرجح الظن أن الأمر في تغيره بين المرحلتين يرجع إلى ظروف اجتماعية واقتصادية أضفت قوة على رجل العقل إبان المرحلة الأولى، وإلى ظروف أخرى حلت محل الأولى أضفت قوة على صاحب المحفوظات في المرحلة الثانية، وأما كتلة الجمهور في ذاتها، رغم التزايد المتصل في أعداد المتعلمين بها، فإذا أخرجت من حسابك القدرات النوعية المكسوبة لأصحابها، بالتعليم في المدارس أو بالتدريب بين الحرفيين؛ أقول إن كتلة الجمهور ذاتها ، بعيدا عن مجالات العمل المهني أو الحرفي، فهي في حالة من «القصور الذاتي» الذي نسبه «نيوتن» إلى الأجرام المادية المتحركة أو الساكنة، إذ قال إن كل جسم يظل على حالته من حركة أو سكون حتى يصادف عاملا خارجيا يغير من اتجاه حركته، أو يبث فيه الحركة بعد سكون، أما الجسم نفسه ففيه «قصور ذاتي» لا يستطيع معه أن يغير نفسه بنفسه، ليس الأمر في ذلك مقصورا على شعب دون شعب آخر، فالجمهور العام في كل شعب أميل جدا إلى المحافظة على قديمه المألوف، إنه يفضل السير على طرق دقتها قبل ذلك أقدام السائرين، فذلك عنده أفضل من المغامرة في طريق جديد قد يباغت المسافر بمفاجآت، ولقد صب المصري خبرته الخاصة بالمفاضلة بين قديم معروف وجديد مجهول في المثل السائر: «من ترك قديمه تاه.» فالجمهور أينما كان محافظ بطبعه، يتردد ألف مرة قبل أن يغير من رتابة حياته شيئا، وربما كان له في ذلك حكمته المستفادة من خبرات الزمن وتقلباته، فلو أن «الجديد» الذي يبشر به أصحابه مضمون الصواب مأمون النتائج؛ لحق اللوم على جمهور يرفضه، ولكن من ذا الذي يضمن له ذلك؟ فما أكثر ما يبشر المجددون بفكرتين متعارضتين فأيهما يكون الصواب؟ وانظر إلى الأحزاب السياسية المتعارضة، حتى في أكثر بلدان العالم تقدما، تجد حزبا منها يبشر بفكرة يراها خيرا كل الخير للناس، في حين يبشر الحزب الآخر بنقيضها، حزب يرى الخلاص الاقتصادي في تأميم المشروعات الكبرى، وحزب آخر يراه في الملكية الخاصة لتلك المشروعات! حزب يرى ضرورة الحرب مع أعداء الوطن، وحزب آخر يفضل السلام والمسالمة! انظر كم يختلف الرأي في المرأة الجديدة وحقوقها! فما الذي نريد من جمهور الناس قبوله وهو مطمئن؟ وحتى أولئك الذين يخلصون الدعوة إلى وضع اجتماعي جديد لا يتسرع هو نفسه في تطبيق دعوته تلك على حياته الخاصة، إلى أن يستقر ذلك الجديد في حياة الناس.
من هنا كان الشبه بين كتلة الجمهور، وكتلة الصخر، من حيث إن كلتيهما مقيدة «بالقصور الذاتي» شبها واردا من بعض الوجوه فكلتاهما تحافظ على الوضع الذي هي فيه من حركة أو سكون، حتى تصدمها العوامل الخارجية فتغير لها وضعا بوضع، كأن تتحرك بعد سكون، أو أن تسكن بعد حركة، أو نغير من اتجاه حركتها، إلا أن الفرق الكبير بين الحالتين، الذي هو فرق ذو مغزى بعيد، هو أن كتلة الحجر يجيئها التغير بفعل عامل خارجي ليس منها، كالكرة المقذوفة نحو وجهة معينة يعترض سيرها لاعب فيضربها ضربة تغير من وجهة السير. وأما كتلة الجمهور، فهي وإن لم تكن قادرة من تلقاء نفسها على تغيير شيء من أوضاع حياتها؛ فالذي يحدث فيها ذلك التغير المطلوب عامل من أفرادها، وها هنا تجب علينا وقفة متأنية؛ لأننا الآن أمام مسألة تمس التعليم من أساسه كما تمس الثقافة في صميمها، وأعني بها مسألة «المواهب» في من هم ذوو موهبة وهبهم إياها ربهم الذي خلقهم وبراهم وسواهم، ولم يعد يحق لأحد إنكار موهبة إلهية على موهوب؛ إذن «فالكتيبة الخرساء» التي أشار إليها أبو العلاء، وإن تكن خرساء في مجموعها؛ فإن منها هي قد يخرج فرد «ناطق»، وإن ما ينطق به ليزداد ارتفاعا في الصوت، وانتشارا في الأرجاء حتى يبلغ من الناس مبلغه، فيأخذ الجمهور عندئذ في التحول عن قديم نحو جديد، على أن الينبوع الدفاق الذي استقى منه ذلك الابن الناطق من أبناء الكتيبة الخرساء؛ إنما هو تلك الكتيبة الخرساء نفسها، والفرق بينها وهي في خرسها وبين ابنها الموهوب الذي ارتفع صوته هو الفرق بين من يكتم الألم ومن يبوح، أو بين من يخفي آماله ومن يفصح عنها ويعلنها، وكأنه هو نفسه الفرق بين كتاب في جماعة أمية لا تقرأ المسطور على صفحاته؛ فيظل ذلك المسطور رموزا مكتومة الصوت، حتى يقيض الله لتلك الأمة ذاتها ابنا من أبنائها؛ فيقرأ لهم كتابا بصوت مسموع، وبهذا يصبح السؤال الأهم في حياتنا هو: من ذا الذي يخرج لنا من جمهورنا الصامت أصحاب المواهب ليغيروه؟ أو قل إنهم سيخرجون ما قد كمن في صدورهم من ألم ومن أمل؛ لتصير على ألسنتهم وعلى أقلامهم دعوة صريحة مفهومة الكلمات والجمل.
وإنهم لكثيرون أولئك المفكرون من علماء التربية من نادوا بأن يكون الهدف البعيد من العملية التعليمية كلها هو فرز أصحاب المواهب من أبناء الأمة؛ لأنهم هم من تلك الأمة عقلها وقلبها معا، فكأننا في العملية التعليمية من وجهة نظر هؤلاء أمام تل من الرمل والحصى، يشتمل في رمله وحصاه على جواهر تبعثرت في جوفه، ونريد أن نغربل عناصره كلها لكي نقع على تلك الجواهر، وما عملية الغربلة هذه إلا تعليم المواطنين جميعا، للكشف عن المواهب المخبوءة فيهم، فنرعاها حق رعايتها. وإذا نحن آخر الأمر في أمة لها من أبنائها علماؤها وفنانوها، وأدباؤها ومحاربوها، وكل صنف من الرجال الهداة إلى طريق النهوض والتقدم. لكننا اليوم نتطلب تعديلا ضروريا في هذه الرؤية؛ إذ هي رؤية تجعل تعليم عامة الناس من أبناء الشعب وسيلة وليس غاية في ذاته، والصواب هو أن يكون التعليم حقا للجميع، على ألا ننسى فوق ذلك أن الرعاية الخاصة حق لأصحاب المواهب.
وحديثنا هذا هو حديث عن الثقافة العامة والنهوض بها، فأين هذا الهدف مما أسلفناه؟ وتكمن الإجابة في تصورنا «للثقافة» العامة ما طبيعتها وما دورها في نهضة نريدها لأمتنا، وما أكثر ما تحدثنا عن «الثقافة» ومعناها ودورها فيكفينا في هذا السياق أن نجتزئ من ذلك البحر الواسع الغامض قطرة واحدة هي التي نستعين بها على بسط ما نريد توصيله إلى القارئ، وتلك القطرة الواحدة هي أن الثقافة ليست مجموعة معينة من معلومات، من جمعها في وعائه كان «مثقفا» بدليل أنك قد تجد مثقفا هنا يعرف من المعلومات: أ، ب، ج، ومثقفا هناك يعرف منها: د، ه، و، ومع هذا الاختلاف بينهما فيما يعرفانه، يحسبان على الثقافة! فماذا يكون العامل المشترك إذن الذي يدور مع «الثقافة» وجودا وعدما؟ فإذا وجد ذلك العامل وجدت وإذا غاب غابت؟ إنه - آخر الأمر - حالة من الحساسية تمكن صاحبها من قبول ما يقبله ومن رفض ما يرفضه، فورا وبغير تدبر أو تردد، وإنها لحساسية تشيع في الشعب المعين شيوعا قد يختلف فيه الأفراد قليلا هنا أو قليلا هناك، لكنها بوجه عام مناخ مشترك يتنفسه المواطنون جميعا؛ فالفرد من أفراد شعب معين، كالمصري أو الفرنسي أو الإنجليزي ... إلخ، له طريقته الخاصة في كيف يحزن وكيف يفرح، وكيف يجامل شخصا آخر أو لا يجامله، وهكذا وهكذا، عندما كنت في بعثتي الدراسية في إنجلترا جاء مبعوث مصري من إحدى الكليات العلمية بالجامعة، فما إن علم بأن أستاذته سيدة، ولم يألف بعد في مصر أن تكون الأستاذية لامرأة؛ حتى اضطرب اضطرابا عكر عليه صفو حياته، وكان يطلب إلغاء البعثة والعودة إلى مصر، فإلى هذا الحد تبلغ «الحساسية» الثقافية في الشعوب!
ومن هذه الزاوية نقول: إن استقامة حياتنا بعد عوج لا بد أن تسبقها عوامل تشيع في الناس «حساسية» جديدة لما يقبلونه وما يرفضونه، ومهما تباينت تلك العوامل في مختلف الظروف المحيطة بالناس، فإن أهم مصادرها هي تلك المصادر الأساسية نفسها التي تستقى منها «القيم» فيما يجوز فعله وما لا يجوز، وهي: الدين، والفن، والأدب، والأعراف والتقاليد التي يتوارثها أبناء الشعب جيلا عن جيل، وقد تأخذك حيرة التساؤل هنا فتقول: لكن إذا كانت هذه هي المصادر التي تنتج عنها الحساسية الثقافية؛ أفليست هذه العوامل ثابتة في الشعب الواحد إلى حد كبير؟ إذن كيف يتاح لشعب أن يغير مناخه الذوقي لينتقل من عصر إلى عصر؟ وللسؤال وجاهته، وفي الإجابة عنه لا مفر لنا من درجة من الغموض، إلا أنه في مستطاعنا مع ذلك أن نقول: إن تلك المصادر التي ذكرناها هي - لحسن الحظ - مما يصاغ في وسائط مرنة تقبل أن تضيق وتقبل أن تتسع، وليس فيها تلك الدقة الحادة الباردة التي تجدها في مصطلحات العلوم الفيزيائية والكيميائية - مثلا - أو في العلوم الرياضية. ولأضرب لك مثلا واحدا من عنصر واحد مما يدخل جزءا في التركيبة الثقافية عند المصري، وهو شعور المصري بالفخر لأنه من شعب «طيب»، ولذلك فالمصري حريص - في الظاهر على الأقل - أن يكون «طيبا» في تعامله مع الآخرين ، وإذا وجد في شعوب أخرى لونا آخر من السلوك الصارم ازدراه وعف عنه، فمن ذا الذي يستطيع أن يحدد لي في شيء من الدقة ما يراد بكلمة «طيب» عندما نفاخر بها - نحن المصريين - ونجعلها صفة مميزة لشعبنا دون كثير من الشعوب الأخرى؟ وإنني لأصرح هنا عن نفسي، إنني - لأمر ما - شغلت نفسي بالبحث عن تعريف محدد لهذه الصفة الأساسية بين صفاتنا الوطنية، ولعل ما حرك رغبتي في الوصول إلى تحديد المعنى المقصود هو ما قد أصاب شعبنا في مرحلته الأخيرة من تنافر ملحوظ بين أفراده، بل ما هو أكثر من مجرد التنافر؛ لأن التنافر قد يسود بين الأفراد في جماعة دون أن يستتبع بالضرورة نهشا ينهشون به الأبدان والنفوس بغير داع مرئي أحيانا، بل لمجرد إثبات الذات وشطارتها وتفوقها ونجاحها.
ومع ذلك نصر على قولنا إن شعب مصر شعب طيب! ثم مع ذلك أيضا، أراني أحس إحساسا قويا بأنه وصف صحيح، ومن هنا - فيما أظن - جاء الدافع إلى البحث عن تعريف مقنع لهذه الصفة فينا التي أصبحت أحسها ولا أراها، وآخر ما اهتديت إليه في هذا السبيل هو أن طيبة المصري تعني شيئين - بين أشياء أخرى ربما - وهما: ميله إلى التسامح مع من أنزل به الأذى، واستعداده لخدمة غيره بلا مقابل، بل كثيرا ما يرفض المقابل إذا قدم إليه ليجعلها خدمة لوجه الله.
هل تراني قد بعدت بهذا الاستطراد عن موضوع الحديث؟ لا، لست أظن ذلك، فحديثنا قد انتهى بنا إلى أن الثقافة التي إذا تغيرت تغير معها الشعب نحو السير في اتجاه جديد؛ ليست مجموعة معينة من معلومات تحفظ، بل هي «حساسية» عامة مرهفة تعين صاحبها على التفرقة الفورية بين المقبول والمرفوض، فإذا قلنا عن حياتنا - نحن - الثقافية بأنها تغيرت اليوم تغيرا واضحا عما كانت عليه في الشطر الأعظم من النصف الأول من هذا القرن؛ فالمقصود هو أن تلك الحساسية العامة قد تبدلت اليوم عما كانت عليه بالأمس، فبات مرفوضا عند الناس ما كان بالأمس مقبولا، ومقبولا ما كان مرفوضا، ولقد حددنا فيما أسلفناه محور ذلك التغير، حين قلنا إن الدعوة بالأمس كانت تميل بالناس نحو الإعلاء من شأن «العقل» فأصبحت دعوى اليوم تشد الناس نحو المحفوظات عن صحائف السابقين، فبالأمس كان تفكيرا وهو اليوم ذاكرة.
وانتقالنا من محور التفكير الحر إلى الذاكرة المقيدة بما حفظت، معناه انتقال من الآفاق الرحبة إلى الغرف المغلقة، فبينما حساسية الأمس كانت ترحب بانطلاقة المغامرة الحضارية، أصبحت حساسية اليوم تنفر من تلك الانطلاقة الحرة، ويسعدها أن ترانا في الطريق إلى أغلال تشدنا إلى رؤية الأشباح: أقول ذلك وفي ذهني صورة للكهف الشهير في التشبيه الذي قدمه أفلاطون ليصور به أولئك الذين يديرون ظهورهم إلى الحقائق قانعين بأن يروا ظلالها معكوسة على جدار الكهف الذي سجنوا أنفسهم فيه؛ فهو كهف مفتوح على الطريق العام وأما ساكنوه فقد قيدوا أنفسهم بجلسة تجعل ظهورهم إلى ناحية الطريق الخارجي ووجوههم نحو الجدار الخلفي من الكهف فيمر الناس وتمر العربات وتقع الأحداث في الطريق العام وتلقي بظلالها خلال فتحة الكهف لتسقط على الجدار الخلفي؛ فلا يرى ساكنوه من تلك الحقائق إلا ظلالها، وبهذه الظلال الباهتة يقنعون ويسعدون.
فما أحوجنا - إذن - إلى نور يبدل لنا حساسية ثقافية بحساسية! بحيث يجيء النسج الثقافي الجديد حاثا على العلم بحقائق الكائنات لا بظلالها دافعا إلى اختراق الآفاق وليس إلى انكفاء على مواضع الأقدام، وعاملا على قوة نسود بها لا على ضعف نذل به ونخشع، وماذا تكون في ذلك النسيج الثقافي لحمته وسداه؟ إنه الدين أولا وثانيا وثالثا، الدين الذي يفتح الأبصار على عظمة الكون وعمق أسراره، وليس الذي يغمض الأعين إلا على أسطر يحفظها الحافظون حفظا أصم، الدين الذي يعرف للإنسان كرامته لأنه إنسان وكفى، قبل أن تضاف إليه صفات تعلو به في مراتب المجتمع أو تسفل، وليس الدين الذي يتقرب به صاحبه إلى كل ذي سلطان، الدين الذي يعلي كلمة الحق في أي ميدان من ميادينها مهما أوذي في سبيلها وما عليه إزاء هذا الإيذاء إلا الصبر مع مواصلة التمسك بما هو حق، وليس الدين الذي ينافق بوجهين فوجه منهما أمام القوي ووجه أمام الضعيف.
وتأتي مصادر الفن والأدب على اختلافها، فهي وإن تكن عند المبدع فيضا يفيض عن موهبة؛ فإنها لا تؤدي بنا إلى بعيد إذا هي لم تكن للناس مرآة ومصباحا في آن معا، فبعضها يعرض على الناس صورتهم كما هي؛ ليتبينوا أين فيها القبح وأين الجمال، ثم ينهض بعضها الآخر نحو إلقاء الأضواء الكاشفة على طريق الحياة القوية العلمية المريدة المستبشرة؛ ليعرف الناس إلى أي غاية يقصدون. نريد حساسية ثقافية جديدة لا تقتل مواهب أبنائها، بل تعنى بها وترعاها، فبهذه المواهب وحدها تنطق الكتيبة الخرساء.
فجوة بين واقع ومثال
في الفلسفة الأوروبية المعاصرة - والإنجليزية منها بوجه خاص - تيار فرعي يكاد يكون مجهولا جهلا تاما بين صفوة المثقفين عندنا؛ وذلك لأنه لم يجد من الدارسين من يخرجه من مراجعه الجامعية، ليعبر به الأسوار إلى دنيا الثقافة غير المتخصصة حتى وهي في ذروتها؛ مع أن الفكرة الأساسية التي أراد ذلك التيار الفرعي ترويجها قد تكون ألزم لنا، بما يميزنا من خصائص في طريقة التفكير والتقدير، من أفكار أخرى كثيرة، حسن حظها على الأقلام، فشاعت بيننا شيوعا لم يقف بها عند صفوة تحسن الفهم، بل تجاوزتها إلى من هم دون ذلك تحصيلا وتدقيقا.
فلعلك تعلم أنه لما كان «العلم» - والعلم الطبيعي بوجه خاص - منذ النهضة الأوروبية، وما زال حتى اليوم؛ هو أبرز خاصة من خصائص أخرى كثيرة تميز العصر الحديث كله، بما فيه هذه المرحلة المعاصرة، ثم كانت الفلسفة في معظم حالاتها، إنما هي آخر الأمر تحليل للوجود الثقافي القائم في عصرها، علما كان أو دينا، أو غير ذلك من المحاور الأساسية التي تعلق بها الفكر الإنساني، فقد كان «العلم» ومنهجه - أو من مناهجه - هو أهم مشغلة شغلت بها الفلسفة في هذا العصر؛ فما الذي كانت - وما زالت - تبحث عنه في حياة العلم؟ إنه إذا جاز لنا أن نلخص البحر في فنجان؛ قلنا إن السؤال الأساسي الكامن وراء جهود الفكر الفلسفي خلال القرون الأربعة الأخيرة، هو هذا : ما الذي يثبت لنا أن ما يقدمه العلم صحيح صحة لا يأتيها البطلان؟ ولقد اقتضت الإجابة عن هذا السؤال تحليلات لكل ما يتعلق بالعملية العقلية بسبب من الأسباب؛ فالعقل ما هو؟ والعقل كيف يعمل؟ والعقل ما حدوده التي لا يستطيع مجاوزتها؟ وإلى أي حد يمكن للعقل أن يصل إلى يقين؟ وهل العقل - يا ترى - هو حقا العامل الأساسي في إدراك الإنسان لما هو حق أو أن هناك من وسائل الإدراك ما هو أصدق منه كالحدس أو البصيرة والقلب أو ما يوحى به إلى الإنسان وحيا؟
وهكذا أخذ رجال الفكر يقلبون الموضوع من كل نواحيه؛ ليكونوا آخر الأمر على بينة من قيمة الحقيقة العلمية: أهي مما يوثق في صدقه أم هي أقرب إلى الوسيلة المؤقتة تدوم ما دام لها نفع في التطبيق ثم تمضي إلى خزائن التاريخ؟
وتقليب الموضوع على هذا النحو الواسع والعميق، قد أدى ببعض هؤلاء الباحثين إلى التنكر للعقل من أساسه، من حيث هو أداة أولى في إدراك العلم الصحيح، نعم إنه هناك بين الأدوات التي جهزت بها فطرة الإنسان، لكنه يجب أن ينتظر دوره في العمل؛ إذ ليس هو الذي يكشف لنا عن «الحق» بادئ ذي بدء؛ إنما هي قوى أخرى في طبيعة الإنسان، أمده بها خالقه سبحانه، فهي التي تبدأ بذلك الإدراك للحق في جملته، وفي بداهته، وعندئذ فقط يتقدم «العقل» ليؤدي دوره؛ ودوره هو تحليل ذلك المجمل الذي أدركته بداهة الفطرة (على اختلاف الفلاسفة بعد ذلك في تخصيص الجانب الفطري في ذلك ماذا يكون) والقيام بعمليات استدلالية تخرج من تلك البداية المدركة نتائجها التفصيلية التي تترتب عليها.
وكان التيار الفرعي الذي أشرت إليه في مستهل الحديث أحد التيارات التي لم ترد لمنطق العقل التحليلي أن يكون هو الجذر الأول في شجرة الإدراك؛ وإنما ذلك الجذر الذي لم يسبقه شيء في عملية الإدراك هو ما أسموه أصحابه «بالحس المشترك»؛ فهو «حس» لأنه مستمد من هذه الحاسة أو تلك، وهو «مشترك » لأن كل إنسان - ما دام سوي البدن والحواس - يطابق كل إنسان آخر فيما يدركه، فإذا كنا عشرة أشخاص - مثلا - نتجه بأبصارنا نحو بقعة من اللون الأصفر، فلن نجد منا واحدا يقول إنه لا لون هناك، أو إنه لون غير الأصفر؛ تلك هي البداية الفطرية لكل إدراك، وهي بداية لا شأن للعقل بها، ومنها يبدأ العقل فاعليته، إذ قد يأخذ في تعقب الخطوات والمراحل التي تبدأ من وقوع البصر على ما وقع عليه؛ ليرى كيف تتم العملية الإدراكية بعد ذلك: وقوعا على شبكية العين، فسيرا في العصب البصري، فوصولا إلى المركز المختص بها من مراكز المخ، وعبورا بعد ذلك من المخ إلى الأعضاء والأطراف التي تتحرك في جسم الإنسان المدرك، لتؤدي ما طلب منها أن تؤديه؛ كأن يتحرك جهاز النطق فتقول: تلك بقعة صفراء، أو أن تمتد الذراع لتمس بأصابعها تلك البقعة الصفراء، مستطلعة كيف يكون ملمسها، وغير ذلك من نشاط بدني يجيء نتيجة ما أدركه المركز المختص في المخ. هذه التحليلات أو ما يشبهها هي من عمل «العقل»، لكنها - كما رأيت - لم تكن هي نقطة البدء في خط السير؛ إذ كان البدء حسا مشتركا نادى بأن هنالك بقعة صفراء.
وما معنى ذلك؟ معناه كبير وبعيد وعميق، وهو أنه ليس من حق «العقل» أن يشك في صحة ما يثبته الحس المشترك. وقد تسأل: وهل هناك من يجادل في وجود بقعة صفراء إذا قال الحس المشترك إنها هناك؟ والجواب هو نعم، هناك من رجال الفكر الفلسفي من يريد أن يبدأ مما هو قبل ذلك الحس المشترك، من مدركات عقلية خالصة، هي التي تمكن ذلك الحس من أداء وظيفته أو لا تمكنه، والكلام على هذا يطول.
وعلى هذا السند الذي قدمناه .. نستند فيما نحن ذاكرون هنا عن الثقافة العربية وتحديثها: وذلك أننا إذا ما أدرنا الأبصار هنا وهناك، فيما ينتجه مبدعو العناصر الثقافية عندنا، ارتدت إلينا تلك الأبصار قائلة: إن في حياتنا الثقافية ازدواجية من نوع خطير؛ لأنها ازدواجية بين «الواقع» و«المثال »، كيف ذلك؟ وماذا تعني؟ أعني أن في رءوسنا جميعا - منتجا لثقافة أو متلقيا لها - صورة عما «ينبغي» أن يكون، وقد يكون مصدر هذا الانبغاء عقيدة دينية أو سياسية، أو عرفا اجتماعيا، أو تقليدا موروثا عن السابقين، أو تصورا مفروضا علينا ممن بيده السلطان، يجب علينا أن نتصور الوقائع في إطارها، لكن أمور الواقع الفعلي لا يلزم دائما، وبحكم الضرورة، أن تجيء على تلك الصورة التي ينبغي لها أن تكون، وها هنا يجيء منتج الناتج الثقافي ليجد أمامه هذين الطرفين: هنالك «مثال» مرغوب فيه، وهنالك واقع فعلي لا حيلة لنا فيه، وهو واقع لم يقع على غرار المثال المطلوب، فماذا يختار محورا لإبداعه الثقافي؟ أيصور هذا الواقع الناقص كما يقع في نقصانه أم يصور المثال زاعما أنه هو الذي رأته عيناه واقعا في حياة الناس؟ وكأن الذي ارتدت به الأبصار التي أرسلناها تستطلع حقيقة الأمر في الحياة الثقافية - منتجا ومتلقيا - هو أن الهوى، أو الخوف، أو تصيد الرضا عند الجمهور أو عند صاحب السلطان أو عند كليهما إذا تصادف أن يتطابقا على رغبة واحدة؛ يميل بمنتج ابتغاء أن يصور لنا واقع الناس وكأنه هو المثال المرجو وقد تجسد وتحقق، فمثلا، أيقول «المثال» إن الريفي صاف نقي لا رذيلة فيه بل إنه لا يعرف للرذيلة طريقا إلى أن توقعه الأحداث في مصيدة «المدينة» وشرورها؟ إذن فليكن ذلك هو ما تصوره الرواية: ريفي على الفطرة المستقيمة، يذهب إلى المدينة فما هو إلا أن يتحول شيطانا فاسقا فاجرا ضالا، أيقول «المثال» إن العاملين بسواعدهم فلاحة وصناعة قد صنعوا من معدن أصيل نفيس لا يكذب ولا يغش ولا يخذل الجار والصديق على عكس من لوثتهم المدارس والجامعات بوباء الحضارة العصرية في انحرافها وشرها؟ إذن فلتعرض على الناس مسرحيات ومسلسلات ومقالات وأحاديث تبين لهم كم هو نقي طاهر معصوم فلاح الأرض وعامل الحرفة اليدوية! وكم هو مصنوع زائف فلان حامل الشهادات العلمية! وإنها لتعرض على الناس أمثلة من فداحة الخسران الذي لحق بهؤلاء الذين تحضروا فسكنوا المدن بعد القرى، ثم سكنوا في المدينة شوارعها المرصوفة متنكرين للأزقة والحارات، رغم ما فسدت به أخلاق الناس من أهل الشارع المرصوف، وما استقبلت به الأخلاق الأصيلة بين أهل الحارة والزقاق!
أيقول المثال عن أبطال السلف إن الواحد منهم إذا ما تعقبت حياته الخاصة والعامة وجدته فضيلة كله لا تشوبها نقيصة واحدة ووجدته علما خالصا صحيحا لا خطأ فيه ووجدته جوهرة نقية لا شية فيها لا باطنا ولا ظاهرا؟! فإذا كان هذا ما يقوله «المثال» عن بطولات السابقين، إذن فليكتب أدباؤنا عنهم تراجم يصورونهم استقامة بلا عوج وصوابا بلا خطأ، وقوة بلا ضعف؛ وكذلك لينظم عنهم الشعراء، وليتحدث عنهم المتحدثون.
وهكذا يتحرك المبدعون للثقافة فيما يبدعونه مستلهمين مثلا عليا خلقتها الأماني ونسجتها الأقلام، وأما الواقع كما يقع فلا شأن لهم به، أما الضعف البشري الذي لا بد من شيء منه في أقوى الأشياء، أما التعرض للخطأ الذي لا بد أن يصيب أعلم العلماء، أما غواية العاطفة والغريزة، التي لا بد أن تنال بمغرياتها حتى من هم أكثر الناس عفة وترفعا، أما الصغائر الصبيانية التي تعاود الكبار آنا بعد آن وهم في مباذل حياتهم الخاصة، أما كل هذه الشوائب؛ فيكاد مبدعو الثقافة عندنا أن يغضوا عنها الأبصار، ويتلقى المتلقي صورا من ذلك الكمال في حيوات السالفين، ثم ينظر إلى نفسه، وإلى من يعرفهم من معاصريه، فإذا هم جميعا يزلون في الخطأ رغم علمهم، ويسقطون في مزالق الضعف رغم قوتهم، وتغريهم العاطفة أو الغريزة بغوايتها رغم صلابتهم، فمن ذا الذي يلومه بعد هذه المقارنة إذا فقد الثقة بنفسه، وبعصره ومعاصريه، وارتد بالحنين كله وبالشوق كله إلى حياة السلف في صفائها ونقائها، إلا يكن بسلوكه الفعلي؛ فلا أقل من أن يكون ذلك بالخيال، فينتج عن هذا ما لا بد له أن ينتج من فجوة واسعة وعميقة، بين واقع ومثال.
والحق أن شيئا من هذا قد ورثناه جاهزا من أسلافنا: العربي القديم - ولا يختلف معك الأمر إذا قلت: المصري القديم - يختلف في تكوينه النظري ؛ أي في طريقة رؤيته إلى الكون والإنسان عن اليوناني القديم، الذي منه انبثق الغرب كما نراه اليوم في وجهة نظره؛ فأما العربي القديم، فلكونه يسكن الصحراء؛ فقد أمدته هذه الصحراء بأسلوب النظر، فما الذي أمدته به الصحراء؟ إنك لست في حاجة إلى كاتب وكتاب ليعطيك الجواب؛ بل ارجع إلى نفسك إذا ما وقفت على مشارف الصحراء، شاخصا ببصرك إلى السماء وآفاقها؛ فهنالك التجانس في اللوحة المرئية، رغم ما قد يعتور سطح الأرض من كثبان الرمل تعلو وتهبط؛ فالسماء امتداد لوني واحد، والأرض امتداد لوني واحد، والاثنان يتلاقيان في أفق بعيد، يتراجع أمام المسافر كلما تقدم إليه، وهنالك الصمت الذي لا تسمع فيه الآذان إلا صمتا، وهنالك الرتابة التي تكرر نفسها يوما بعد يوم، فما الذي يخرج به ابن الصحراء إذا ما توالت عليه الأعوام؟ أليس الذي يخرج به هو «اللانهائي» الذي لا يعرف النهايات؟ هو «اللامحدود» الذي لا يعرف الحدود؟ نعم، هو ذاك؛ فلا يلبث ساكن الصحراء مع انطباعه هذا؛ حتى يجعل ذلك اللانهائي، اللامحدود؛ هو نفسه الإطار العام الذي يقيم عليه مقومات حياته العملية، من أخلاق تضبط له سلوكه، ومن أدب ومن فن يعكس فيهما ذاته نفسه، فأما الأخلاق ومعاييرها الضابطة؛ فهي متشابهة بين شعوب الأرض جميعا، فالفضائل عند هذا هي نفسها الفضائل عند ذاك، والرذائل عند ذاك هي نفسها الرذائل عند هذا، ولكن الفرق بين عربي الصحراء وغربي الغابة والسهل والجبل هو أنه بينما هذا الغربي يعرف للإنسان مواضع نقصه وعجزه وضعفه؛ فيجعل قيم الأخلاق بمنزلة مثل عليا، يتشوف إليها الإنسان في حياة نقائصه، لعله يزداد بتلك الرؤية استقامة ورشدا، مع اعتراف أهل الفكر والنظر منهم، بأن نزول المثل الأعلى ليتجسد في الناس على أرضهم هو ضرب من المحال، عمليا ونظريا على السواء؛ فهو محال من الناحية العملية بشهادة ما نراه واقعا بالفعل في حياة الناس الجارية، ثم هو محال من الناحية النظرية؛ لأنه لو كان ما هو قائم بالفعل هو نفسه ما كان ينبغي له أن يكون ؛ لفقد هذا «الوجوب» معناه، ولفقدت كلمة «الأعلى» التي تصف بها «المثل الأخلاقية العليا» معناها؛ فما هو غاية الغايات لا يكون هو نفسه الوسيلة فيما يسعى إليه الإنسان بحياته.
ومن هنا رأينا أدب الغرب وفنون الغرب تقدم إلينا الفرد الإنساني في خضم حياته العملية ممزوجة فيه الكمالات مع النواقص والشوائب، ولا كذلك العربي القديم - والعربي الحديث من بعده وعلى غراره - في رؤيته للمثل الأعلى في أي ميدان من ميادينه، أخلاقا وغير أخلاق؛ إذ هو لا يرى ما يمنع أن ينزل ذلك المثل الأعلى ليمشي على أرض الناس بقدميه، ومعنى ذلك أن نطالب الفرد الإنساني في حياته الفعلية؛ ليس فقط بأن يشخص ببصره إلى الكمال الخلقي في غاياته البعيدة، مهتديا لا متقمصا إياه؛ إذ إن تقمصه للكمال المرجو محال على طبيعته الناقصة، بل أن نطالب الفرد الإنساني في حياته الفعلية بأن يجسد الكمال الخلقي في تلك الحياة.
وانظر في هذا الضوء إلى الأدب العربي الأصيل، وإلى الفن العربي الأصيل، تجد أن الأدب إذا صور ما أراد تصويره؛ فالأغلب أن يصور المثل الكامل من خياله وليس الكائن الناقص فيما يراه من مخلوقات على الأرض؛ فالشاعر يمدح من يمدحه، وكأن ممدوحه ذاك قد تمثلت فيه القيم الأخلاقية العليا، ولم تعتورها فيه نقيصة واحدة، والشاعر يهجو من يهجوه، بأن يأتي بما ينتقض صورة المثل الأعلى نقضا كاملا، أما أن يكون الكائن البشري مزيجا من كمال ونقص، فيرجح الكمال في من يمدحه الشاعر، ويرجح النقص في من يهجوه؛ فذلك أمر بعيد عن رؤية العربي الأصيل.
وانظر إلى الفن العربي الأصيل - حيثما وجدت فنا - وأقول ذلك لأن العربي قد صب معظم طاقته الفنية في فن الكلمة، وأعني الأدب شعرا ونثرا، فلما اتجه نحو فن التصوير، على الجدران، أو مختلف المصنوعات، كالسجاد، والنحاس، والخشب، والفخار، وجدناه بين اثنتين: فإما هو متجه بفنه نحو تكوينات هندسية، وإما هو متجه به نحو رسوم من النبات والحيوان والطير، ومن الإنسان أحيانا، مراعيا أن تجيء الصورة مجردة من تفصيلات الأبدان، ومكتفية بالخطوط الخارجية التي تعطيك الإطار خاليا من أعضائه وأجزائه، وكأنما أراد الفنان العربي بنزوعه إلى التجريد في كلتا الحالتين: حالة الرسوم الهندسية، وحالة الخطوط الإطارية الخالية من تفصيلات مضمونها، أقول إن الفنان العربي في كلتا الحالتين، كأنما أراد أن يصور «أفكارا» عقلية وروحانية، وليس أبدانا وأشياء مجسدة في موادها الأرضية؛ فإذا أمعنت النظر في رؤية الفنان، التي يعلو بها على ما هو كائن بالفعل في دنيا الناس؛ مقارنا إياها برؤية الشاعر في تصوره وتصويره للمثل الأعلى من خياله لا من الواقع؛ ومقارنا إياها كذلك برؤية الأخلاقي الذي لم يجد ما يمنع أن يتوحد ما «يجب» أن يكون فيما هو كائن بالفعل؛ رأيت بين يديك نموذجا لوجهة النظر العربية الأصيلة، وقد انعكست في الأدب شعرا ونثرا، وفي الفن زخارف ورسوما، وفي الأخلاق دمجا للمثل الأعلى في الكائن المتحقق وجودا على الأرض.
لكن الواقع الفعلي الذي تراه الأعين وتسمعه الآذان هو أن الناس بشر فيهم نقص البشر، يتمنى لنفسه علوا ثم يقصر دون العيش على نحو ما تمنى، فما الذي أنتجته هذه المفارقة في ثقافتنا معيشة أو مصورة في مبدعات الفن والأدب؟ إنها أنتجت فينا ازدواجية قل أن تجد لها نظيرا في ثقافة أخرى، نعم، إنها قد توجد في كل ثقافة أخرى آنا بعد آن، تبعا لتغير الظروف الاجتماعية في فترات التاريخ، كالازدواجية أو النفاق الاجتماعي الذي يقال عن الحياة الإنجليزية في العصر الفكتوري؛ أي إبان القرن الماضي في حكم الملكة فكتوريا، حين انفرجت الزاوية بين ما يدعو إليه الناس في حياتهم الأخلاقية وما كانوا يحيونه بالفعل؛ ولذلك يسهل علينا أن نلحظ ما يشبه الثورة في الفكر والأدب هناك بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أخذ رجال الفكر والأدب يلحون على وجوب الشجاعة الاجتماعية؛ ليستطيع الفرد أن يعلن ما يحياه، وأن يحيا ما يعلنه، وأما الموقف في الرؤية العربية - قديمها وحديثها المحاكي لقديمها - فهي عن مبدأ تعلن ما هو أعلى وأمثل، ثم عن ضعف بشري يعيش مزيجا بين أعلى وأسفل، فينتج أن يعيش الناس على وجهين: أحدهما يكتبه الكاتبون ويتفنن به رجال الفن، ويشيد به أصحاب الفكر، وأما الوجه الآخر فهو الذي يحيونه بالفعل في خفاء؛ فالواجهة الثقافية معيشة ومكتوبة ومرسومة هي «عال العال»، وما وراء الواجهة حياة مليئة بضعف البشر.
كان ما ساعد الثقافة العربية في عهدها السابق، على أن يكتب الكاتب شيئا ثم بعد ذلك يحيا شيئا آخر، يبعد كثيرا أو قليلا عن الصورة المكتوبة (أو المنطوقة) دون أن يأخذه القلق من المفارقة بين الموقفين؛ هو أن تلك الثقافة في صورها التعبيرية، لم تلجأ إلى الأجناس الأدبية التي من شأنها أن تصور الإنسان على حقيقته وعلى دوافع طبيعية، كأدب الرواية وأدب المسرح (بالمعنى الذي يفهم به اليوم ذلك الأدب)؛ فهاتان الصورتان من الإبداع الأدبي لا تتحرجان من تصوير الإنسان كما هو، كمالا ونقصا، وعظمة وخسة، فإذا انحرف الأديب عن صدق التصوير، لم يفلت من النقاد. وأما في التقليد العربي المراعى في أدب «الحكايات» (وهي مختلفة عن أدب الرواية والقصة بالمعاني المألوفة اليوم) مثل حكايات ألف ليلة وليلة؛ فقد روعي ألا تنتهي الحكاية إلا بعد أن يجد المستقيم في أخلاقه ثواب ما استقام، وأن يلقى المنحرف عقاب ما انحرف، بغض النظر عن حقيقة الحياة العملية في ثوابها وعقابها. ولقد حدث لي يوما ما أن شاركت في لجنة رسمية تنظر في شئون الأدب، فسمعت عضوا فاضلا يبدي رأيه في وجوب أن تراعى القيم الدينية في كل أدب ينتجه أديب، فتوجهت إليه أطلب الشرح لأستنير، وسألته: افرض أن روائيا مثل أديبنا نجيب محفوظ يصور لنا حياة الناس في حارة قاهرية من حواريه، وكان بين هؤلاء الناس سكير، أو لص يقطع على المارة طريقهم، فما الذي تقترحه عليه في هذه الحالة؟ أتقترح أن يسقط من حسابه كل من انحرف عن الخلق القويم فلا يمتد إليه بقلمه أم تقترح عليه أن يتناول هؤلاء على أن يؤدبهم علنا صونا لأخلاق القراء حتى لا يتأثروا بمن انحرف؟ ولست أذكر بدقة ماذا كان جواب العضو الفاضل، لكنني أذكر جيدا أن فجوة كانت هناك، تباعد رؤيته إلى الأدب عن رؤيتي، فبينما رأيت في الأدب كشفا عن طبائع الناس كما هي واقعة؛ رأى سيادته في الأدب تعليما وتقويما، أو بعبارة أخرى، لقد رأيت أن يربط الأدب «بالواقع»، ورأى هو أن يعلو الأدب بعرض المثل.
إن الأدب العربي كما هو قائم بيننا الآن: قد خطا - بغير شك - خطوات بعيدة على الطريق الصحيح، وذلك بفضل لجوئه إلى الأشكال الأدبية الجديدة، والمأخوذة عن الغرب، كالرواية، والقصة، والمسرحية، فهذه كلها أشكال لا يدري الكاتب كيف يقيمها، دون أن تكون مادته الخاصة أفرادا بتفرد شخصياتهم، ومواقف بتفرد عناصرها؛ أعني أنها أشكال تلزم الأديب إلزاما، بأن يعرض نماذجه البشرية والواقعية؛ بحسناتها وسيئاتها، لكن الأمر لا يخلو، لا، بل إنه ليزدحم بأمثلة تبين كم يحن أديبنا الجديد إلى تقاليد كانت مقبولة إلى حد ما في الشعر كما كان وفي النثر كما كان، لكنها لم تعد مقبولة في الأشكال الأدبية الجديدة التي اصطنعناها؛ وذلك أننا كثيرا جدا ما نجد أديب الرواية وأديب المسرحية يشيع في الرواية أو في المسرحية تبشيرا سياسيا، أو دينيا أو قوميا، وكأن الذي يكتبه هو من قبيل «المنشورات» الدعائية، فيحكم ذلك على أدبه بالسقوط. نعم، إن للأديب مذهبه وعقيدته الدينية، ووطنه، وهنالك الوسائل لعرضها بكل ما أراد من إخلاص وقوة، كوسيلة «المقالة» السردية (وهي شيء غير المقالة الأدبية)، أما إذا تصدى للأدب في أي شكل من أشكاله؛ تحتم عليه أن يتنصل من مذهبه، وعقيدته، ووطنيته، ليفرغ إلى شيء واحد، هو دراسة الإنسان على طبيعته وحقيقته، كما يظهر في تفاعلاته مع الأشخاص الآخرين، ومع المواقف التي يقف إزاءها وهو على طريق الحياة، فيما يرسمه من حياة في روايته أو مسرحيته. وحقا قد وفق كثيرون من أدبائنا اليوم في بلوغ التصور الأدبي الصحيح، سواء من أجاد التحليل والتصوير بعد ذلك، ومن قصرت به موهبته دون إدراك المدى. ولا أريد أن أترك هذا السياق، دون أن أثبت الرأي ذاته في شعر شعرائنا اليوم، فلقد وقعوا كذلك في إدراك الهدف الصحيح، وهو أن يكون الأدب تصويرا للواقع لا تبشيرا بالمثال، إلا أنهم كذلك كان منهم من وفق إلى الشكل الصحيح مع الهدف الصحيح، ومنهم من قصر دون ذلك.
وما الذي يدعو ثقافتنا بكل أشكالها إلى النفور من «الواقع» والجنوح نحو «المثال»؟ أهو السبب نفسه الذي تأثر به العربي القديم؟ وأعني به تأثره بالصحراء في طلاقتها ولا نهائيتها، أم هو سبب آخر استحدث له مع الزمن؟ وإنني لا أميل إلى إلقاء التبعة على قوة السلطان من جهة، وضغط الرأي العام من جهة أخرى، وعلى أي الحالتين، فهو «الخوف» ومعه «الطمع» اللذان يفعلان في نفوس الأدباء فعلهما؛ فيصوروا في أدبهم ما لا يرونه، لا في حياتهم هم، ولا في حياة الناس؛ فأما الخوف من الأذى فيأتي من ذوي سلطان أو من غضبة الرأي العام، والرأي العام في ذلك أعنف وأشد تأثيرا؛ فلئن كان ذوو السلطان حريصين على مذاهب سياسية بعينها، يريدون لها الظهور علانية فيما تكتبه الأقلام؛ فإن الرأي العام يريد أن يرى التقليد الأدبي قائما من حيث الإشادة بالمثال في كماله، وغض النظر عن الواقع في نقصه. ولما كانت قوة المذاهب السياسية تظهر وتختفي، في حين أن التقليد الأدبي راسخ بطيء الزوال؛ كانت غضبة الرأي العام أقسى على الأديب وأفعل، وحتى أعلامنا الكبار في الجيل الماضي وفي هذا الجيل الحاضر؛ قد يأخذهم الإخلاص للإبداع الأدبي، فيلتزمون واقع الحياة كلها في الجنس الأدبي الذي يكتب فيه، ولكنهم في كثير من الحالات «طمعوا» في رضا الرأي العام، بالإضافة إلى ما كان يساورهم من «خوف»؛ فأداروا ظهورهم لما بدءوا به، وتفرغوا للأداء الأدبي على صورة تزيل عنهم ذلك الخوف، وتحقق لهم عند عامة الجمهور «حسن السير والسلوك».
هي جملة ينقصها الفعل
كنت وصديقي في غرفة المكتب من منزلي، فلقد تفضل بزيارتي بعد غياب طويل، ربما امتد به أكثر من عشرين عاما، وللمصادفات أحيانا لعبة تجيدها إذا هي رسمت خطتها لاثنين لا تريد لهما لقاء، فواحد منهما يجيء ليجد الآخر قد ذهب منذ قليل، أو هو قد يذهب فإذا الآخر قد جاء بعد ذلك بقليل. ويبدو أن الروائي الإنجليزي «توماس هاردي» (في أواخر القرن الماضي) قد التقط هذه المكيدة التي كثيرا ما تحبكها المصادفات في حياة الناس، فعول عليها في بنائه الروائي، فيدوخ الحبيب في البحث عن مستقر حبيبته بعد أن غابت عنه في زحمة الحياة، ويقضي في البحث عنها أعواما، حتى إذا ما اهتدت قدماه آخر الأمر حيث تقيم في بلد بعيد، وقرع بابها خرج له من ينبئه بأنها كانت تسكن هنا، ولكنها رحلت أمس إلى حيث لا يدري!
وكنت يوما ما بعيدا، قرأت لناقد يأخذ على هاردي مبالغته في معاكسات الصدف، ولكن حياتي علمتني أن «هاردي» كان أصدق لمحا بطبيعة الحياة من ناقده.
وأيا ما كان الأمر، فقد شاءت لنا المصادفات - أنا وصديقي الذي أحدثك عنه الآن - شاءت لنا أن أسافر حين يعود هو من سفر، أو أن يسافر حين أعود! وأخيرا حدث هذا اللقاء وجلسنا جلسة طويلة في غرفة المكتب من منزلي، ولما كانت خبرات حياتنا الماضية متشابهة إلى حد كبير، فقد وردت مشكلة التعليم في غضون الحديث، وتناولنا أطرافها أخذا وردا.
لم نرد تفاؤلا، ولم نرد تشاؤما، ولكننا نضحنا القول من وعاء خبرة طويلة بشبابنا في قاعات الدرس، فالتزمنا الوقائع كيف وقعت، وبالطبع لم يكن حديثنا أكثر من حديث بين صديقين حميمين يجري من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا كما اتفق، فلا خطة للسير، كلا، وما كان ينبغي لها أن تكون، لكن ذلك السمر الحر لم يمنع أن تكون مشكلة التعليم موضوعا بيننا يدور حوله الحوار! وجاءت لحظة بدا فيها كأنما طرق الكلام قد سدت في وجوهنا! ومضت بيننا هنيهة صامتة، نقرت بعدها بأطراف أصابعي على ذراع مقعدي، وقلت، وكأني أشد القول من بئر عميقة القرار، قلت هذه الكلمات الثلاث، ولم أدر للوهلة الأولى لماذا قلتها، وهي: اسم، وفعل وحرف! قلتها هامسا.
قال صديقي ضاحكا: ما هذا الذي تحدث به نفسك؟ فأعدت النطق بالكلمات الثلاث، لكنني أحسست بها هذه المرة وكأنها أضاءت بمعناها! فلما عاد إلي صديقي ليسألني: ولماذا ذكرت هذه الكلمات الآن؟ قلت له: ألا تعرفها؟ قال: كيف لا أعرفها وهي أول ما تعلمناه؟! وذلك حين قيل لنا منذ اللحظة الأولى في طريقنا الدراسي: الكلام اسم وفعل وحرف. وهنا استطردت قائلا: تعال معي نتأمل هذا التقسيم جيدا، فيخيل إلي أنني أرى في ثناياه قبسا من نور، لعله يضيء أمامنا وجه النقص في تعليمنا! بل ربما في حياتنا كلها بصفة عامة! إن لغة الناس إنما هي انعكاس لحقائق الأشياء في دنيا الواقع، وذلك من وجهة النظر الخاصة التي تميز قوما تحيط بهم بيئة معينة، من قوم آخرين تحيط بهم بيئة أخرى، إلا أنه على تعدد الأقوام وبيئاتهم ولغاتهم؛ فإن علماءهم جميعا، حين تناولوا جسم اللغة بالتحليل والتشريح، اتفقوا على هذه الأصناف الثلاثة في مفردات اللغة: ففيها أسماء تشير إلى الكائنات، فهذا جبل، وذلك نهر، وتلك شجرة، وهلم جرا، لكن تلك الكائنات لم تخلق لتسكن في مكانها، بل هي في حركة، والحركة فعل، ومن هنا كانت في اللغة مجموعة ضخمة من المفردات جاءت لتشير إلى الكائنات من حيث هي أشياء، لكل شيء منها طبيعته التي تلازمه، سواء أكان ساكنا أم كان متحركا فاعلا، بل جاءت لتشير إليها في حالات نشاطها وحركتها وفعلها، متأثرة بما حولها أو مؤثرة فيه، وذلك هو ما يؤديه الفعل من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها، وأما القسم الثالث، الذي أسميناه «بالحرف» فإنما أريد لمفرداته أن تشير، لا إلى الأشياء التي سميناها بأسمائها، ولا إلى «الأفعال» التي تنشط بها تلك الأشياء في تيارات وجودها، بل أريد لمجموعة المفردات التي ندرجها تحت قسم «الحرف» أن تشير إلى «العلاقات» التي لا بد أن تكون هناك لتصل الأشياء بعضها ببعض، فإذا قلنا: «التفاحة» في «الطبق»، عرفنا العلاقة بين شيئين، هما التفاحة والطبق.
الكلام - إذن - اسم نسمي به الشيء، وفعل نصف به حركته، وحرف ندل به على العلاقة بين شيء وشيء، وتتعدد الأسماء بتعدد الكائنات، وتتعدد الأفعال بتعدد ضروب الحركة، وتتعدد الحروف بتعدد العلاقات بين الأشياء، وهكذا ينتهي بنا الأمر إلى أن يكون حولنا وجود معقد النسج، فقابلناه نحن بلغة تعقد نسجها خيوطا لتجيء صورة تطابق ما تصوره.
قال صديقي وشفتاه منفرجتان عن ابتسامة عرفتها فيه وعرفت ماذا يعني بها، قال: ثم ماذا؟
فأجبته قائلا: صبرا، إنني لم أكمل حديثي؛ وأود أن أضيف إلى ما ذكرته، أنه وإن يكن «الفعل» في الجملة التي يرد فيها يدل على حركة الحدوث فيما يحدث، كأن نقول عن أطفال إنهم «يلعبون» في فناء المدرسة؛ فإن المتأمل لما نعده «اسما» - كائنا ما كان المسمى - مثل: قط، طائر، كتاب، ملعقة، منضدة، وما إليها من أسماء، أقول إن المتأمل لأي اسم من هذه الأسماء يجده منطويا على فعل ما، وفي ظني أن من يعرف اسما من تلك الأسماء؛ فإن معرفته تلك لا تكتمل إلا إذا شملت معرفته بالطريقة أو الطرق التي يدخل بها الشيء المسمى بذلك الاسم في حياة الإنسان، كأن يعرف ماذا عسانا فاعلين بذلك المسمى في حياتنا العملية أو الفكرية، وإذا لم يكن الأمر كذلك؛ فما الذي دعا الإنسان بادئ ذي بدء أن يطلق اسما على شيء لم يدخل في حياته بأي وجه من الوجوه؟ فالذي أريد أن أقوله باختصار، هو أن اللغة بكل جملة يقولها إنسان؛ إنما هي وثيقة الصلة بفعل ما يؤديه إنسان ما من أبناء تلك اللغة، فإذا وجدت في كلام الناس، أو فيما يكتبونه، عبارة أو عبارات، لا تؤدي بطبيعتها إلى عمل يؤدى، أو سيؤدى، أو يمكن عقلا وخيالا أن يؤدى؛ فاعلم أنها لغو فارغ.
فقال صديقي، وشفتاه لم تزالا منفرجتين عن تلك الابتسامة المداعبة: إنني ما زلت أسألك: ثم ماذا؟ لقد كنا نتحدث عن التعليم ومشكلته في بلادنا! فما شأن هذا باللغة وأسمائها وأفعالها وحروفها؟ ما شأن هذا كله بما كنا نتحدث فيه؟!
قلت له: العلاقة وثيقة يا صاحبي؛ فعملية التعليم في بلادنا تملأ رءوس الطلاب بمجموعات من ألفاظ اللغة مفردة ومركبة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المادة العلمية المدروسة ، من الطب أو من الفلسفة أو التاريخ، أو القانون أو ما شئت، وكان المفروض في ذلك المخزون اللفظي الضخم أن يخرج إلى دنيا العمل والتطبيق، والذي يحدث هو أن بعض الدارسين يحققون ذلك، وكثرة غالبة منهم لا تحققه، ومن هنا جاءت مشكلة التعليم في بلادنا؛ إننا نعلم الطلاب مادة علمية صحيحة، لكن معظم الطلاب لا يتعلمون، بمعنى أنهم لا يخرجون مشحونات أدمغتهم إلى دنيا الحياة العملية الجارية، فإما أن تكون علة ذلك في الطريقة التي علمناهم بها، وإما أن تكون في الطريقة التي عالجوا بها ما قد تعلموه.
وهنا حانت مني التفاتة غير مقصودة، إلى ظهر مكتبي، فرأيت عليه أطلسا جغرافيا وفوقه موسوعة. إنه لمن النادر أن أرجع إلى تلك الموسوعة، وأندر منه أن أراجع الأطلس الجغرافي في شيء، لكن هكذا شاءت المصادفات أن يجتمع الاثنان على ظهر مكتبي، فلما رأيتهما لمعت في رأسي فكرة أوضح بها لصديقي ما أردت أن أقوله، فقلت:
انظر يا صديقي إلى هذا الأطلس الجغرافي، وإلى الموسوعة من فوقه، فأما الأطلس ففيه ما يصور لنا الكوكب الأرضي وما عليه، وأما الموسوعة ففيها ما يصور العقل الإنساني وما يحتوي عليه من علوم ومعارف، ولاحظ أن كليهما «صورة» لما يمثله، وليست الصورة هي نفسها الشيء الذي جاءت تلك الصورة لتصوره؛ فليس ما تراه على صفحات الأطلس هو بذاته عالم الأرض التي نعيش عليها، كلا، ولا الذي نراه على صفحات الموسوعة هو نفسه العلوم والمعارف حين تؤدي أدوارها في حياة الإنسان، فانظر - مثلا - إلى خريطة «مصر» في الأطلس؛ تر النيل خطا رفيعا متعرجا، والقاهرة نقطة سوداء صغيرة في موضعها المعروف، لكن النيل الحقيقي ممتلئ بالماء، وعلى سطحه تسير السفن مبحرة ومقبلة، والقاهرة الحقيقية ليست نقطة صغيرة ترسمها سن القلم، إنما هي تزدحم باثني عشر مليونا من البشر، وتنهض فوق أرضها ما لست أحصيه من شوارع وعمارات وجسور ووسائل للمواصلات؛ إنها عالم زاخر بالحياة، ودع عنك الآن ما تضطرب به صدور ساكنيها من مشاعر الفرح والحزن، والرضا والسخط، والانفراج والضيق، فما أبعد الفرق بين نقطة المداد السوداء على الخريطة وذلك البحر الطامي من أمواج البشر! وهكذا الشأن في الموسوعة، فها هنا حروف وكلمات وجمل وفقرات، وكلها ترقيمات سوداء على ورق، لكن هذه النقوش المنقوشة بمداد المطابع، إنما جاءت «لتصور» فكرا وعلما ومعرفة بالكائنات، والفرق بعيد بعد الأرض عن السماء، بين ترقيمات منقوشة تراها العين على صفحات من ورق وما جاءت لتصوره من «فكر»؛ فالفكر الحي ليس شيئا يخزن، بل هو فاعلية تنسكب في فعل يغير الدنيا ويقلقل الجبل من مربضه؛ لتصبح أحجاره مساجد ومعابد ومطارات وعمارات، وغير ذلك من ضروب الفعل الذي هو كامن في تلك الأحرف المرقومة على أوراق تلك الموسوعة.
والآن يا صديقي، تصور مجموعة من الديدان قد تسللت إلى أوراق الأطلس والموسوعة، وأكلتها حتى امتلأت بها بطونها، فهل نقول: إن تلك الديدان ما دامت قد حوت في أجوافها صور الكوكب الأرضي وما ينهض على سطحه من جبال أو يجري من أنهار؛ فقد حوت بذلك كوكب الأرض وما عليه، وما دامت تلك الديدان قد ملأت بطونها بما سطر على صفحات الموسوعة من علوم ومعارف؛ فقد سيطرت بذلك على تلك العلوم والمعارف؟ وعفوا يا صديقي، فما أردت بأبنائنا وشبابنا سخرية، أستغفر الله، فهم هم، أملنا في مستقبل نرجوه، لكن صورة الديدان وهي تأكل الورق وما عليه، على بشاعتها، قريبة الشبه بطلابنا حين يخرجون من جامعاتنا وقد «حفظوا» أو قل «احتفظوا» أو «اختزنوا» في صناديق رءوسهم شيئا مما تلقوه سامعين أو قارئين. وكنت أتمنى أن يقف الخطر عند هذا الحد من سوء الحال، إلا أن الحال أسوأ في حالات كثيرة جدا، وذلك حين يتحول المسموع أو المقروء إلى أخلاط عجيبة من اللفظ، فيفقد اللفظ كل معناه، ومع ذلك فالطالب لا يلحظ أنه قد كتب كلاما بغير معنى، ومن لا يصدق هذا فليراجع أوراق الإجابة عند امتحان الطلاب، ثم نغض النظر عن هذا كله، ولنفرض أن صورة سوية من لفظ مفهوم هي التي خرج بها الطالب من جامعاته؛ فهل تقول عنه إنه قد «تعلم» شيئا، إلا بمقدار ما يكون قادرا على تحويل ذلك المحفوظ إلى «فعل» يجريه في دنيا الناس لتتغير به نحو الأفضل والأنفع والأرقى، وإلا كان كمن سكن في جوف هذا الأطلس الجغرافي، فظن أنه يمرح فوق الكوكب وما يحمل على ظهره، وسكن كذلك في قلب هذه الموسوعة فحسب أنه هو الذي أقام الحضارة بكل ما يتجسد في عمرانها من علم وفكر وفن.
الفرق بعيد بين من يعيش في حصن مغلق الجدران، قوامه مفردات من ألفاظ اللغة، ومركبات من تلك المفردات، وإما أن يبقيها مكتوبة في صحائفها، وإما أن ينقل بعضها ليحفره على ألواح ذاكرته، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون المادة الفكرية المرصودة في تلك القمائم شعرا أو نثرا، فقها أو نحوا وصرفا، من علوم الفلك والجبر والحساب، أو من علوم الكيمياء والضوء والنبات، أقول إن الفرق بعيد بين من يعيش في برج مصمت قوامه مخزونات لغوية في الكتب أو في جماجم الرءوس، وبين إنسان آخر عنده ما عند الأول، لكنه يخترق به جدران الحصن، ليحيا به في دنيا الأشياء، والأحداث والمواقف؛ فالأول يمكن وصفه بأنه أشبه بمن يتمتم بجملة ينقصها «الفعل» بمعنى أنها جملة جمدت على نفسها كقطعة الحجر! لا تحمل صاحبها على سلوك يسلكه في دنيا الواقع؛ ليحقق به لنفسه وللناس نماء وازدهارا، وأما الثاني، الذي يحصل ما يحصله من معارف وعلوم مصوغة في أبدانها اللغوية أو الرقمية أو ما شاءت لها طبيعتها من رموز؛ لا ليقف عندها مكتفيا بها، بل ليخترقها إلى عالم التطبيق، وإني لأزعم - يا صديقي - أن مصدر العجز كله في نظم التعليم في بلادنا، هو أنها تخرج شبابا من نموذج الإنسان الأول، الذي يقضي حياته في محفوظاته، وعلى الآخرين من أبناء النموذج الثاني أن يتولوا عنه شئون الحياة العملية في إطار العصر وحضارته.
وربما احتاج هذا التعميم الذي أطلقناه إلى شيء من القيود؛ إذ ربما كان ما يصدق على الكليات التي يسمونها كليات «نظرية» لا يصدق على الكليات التي يسمونها «عملية»، فقد تكون هذه الكليات العملية قد أعدت إعدادا يتيح للمتخرجين فيها أن يخوضوا ميادين العمل، وألا يقفوا عند مجموعات من محفوظات محنطة، وأن هذه الصفة مقصورة على بعض الكليات «النظرية»؛ لأن بعضها الآخر شأنه شأن الكليات «العملية» من حيث تخريجها شبابا مستعدا بما قد تعلمه أن ينزل به إلى ميادين العمل، رغم أن موادها الدراسية تدور حول محور الإنسان في حياته الاجتماعية. وإذا كان الأمر كذلك، كان العيب الذي ذكرناه مقصورا على قلة قليلة من الدراسات التي لا يعلم دارسوها أنفسهم أين وكيف يكون لها تطبيق أو ما يشبه التطبيق.
ولست أشك في وجوب هذا التحوط؛ حتى لا نندفع وراء تعميمات جوفاء، ومن ذا الذي لا يعلم أن كثيرا جدا من شئون الحياة العملية، من طب وهندسة، واقتصاد وتشريع وتعليم وغير ذلك، من جوانب الحياة، لا في مصر وحدها، بل على امتداد الوطن العربي طولا وعرضا، ثم إلى كثير مما يجاوز حدود الوطن العربي؛ إنما يضطلع به من تخرجوا في نظام التعليم المصري؟ فإذا كان ذلك كذلك فأين يكون موضع القصور؟ ولماذا نقول إن الموقف كله شبيه بمن حفظ جملة ينقصها الفعل أو بمن عاش داخل صفحات الأطلس الجغرافي وفوقه موسوعة، فظن أنه أمسك بزمام الأرض وما عليها والعقل وما حوى؟
وها هنا نشير إلى خيط رفيع يفصل بين حالتين قد تتشابهان في الظاهر، أما في حقيقة الأمر؛ فهما مختلفتان اختلافا بعيدا، خذ مثلا رجلين من رجال الطب، كلاهما تخصص في جراحة القلب، ومهر في استخدام المناظير وغير المناظير، وفي نقل جزء من شريان في موضع آخر من الجسم، ليوضع مكان شريان في القلب أصابه عطب، خذ هذين الرجلين مثلا، وافرض أن أحدهما هو الذي صمم فكرة المنظار، والذي قام بالتجربة الأولى في نقل جزء شرياني من موضعه إلى موضع آخر من الجسم المريض، فلما نجح هذا كله على يديه، جاء الثاني وسار على إثره خطوة خطوة، فكلا الرجلين بعد ذلك يتساويان في إجراء عمليات القلب الناجحة، ولكن هل يتساويان في الجوهر التعليمي، الذي أدى بالأول إلى إبداع طب جديد وجراحة جديدة، والنظام التعليمي الذي أدى بالثاني إلى أن ينتظر حتى يفرغ الأول من إبداعه، لينقله ويدرسه، ويمهر فيه؟ ووسع هذه الصورة حتى تمتد لتشمل أوجه الحياة كلها؛ تجدك أمام مجموعتين مختلفتين من الناس: الأولى ترتفع ببنيان الحضارة، بالجديد الذي تبدعه في شتى ميادين الحياة علما وعملا، في حين تنتظر الثانية بخيرة أبنائها ممن خرجتهم الكليات «العملية» ليكون قصارى جهدها أن تنقل عن الأخرى ما تحاكيه! وبهذا نكون قد عدنا إلى «حفظ» ما أنتجه الآخرون! وكل ما في الأمر هو أن بعضنا يحفظ ويخرج بما حفظه إلى عالم التطبيق، وبعضنا الآخر يحفظ أيضا، ثم يكتفي بذلك المحفوظ دثارا يتلفع به.
كانت أوروبا في عصورها الوسطى يغلب على حياتها الفكرية نموذج التخزين في رءوس «العلماء» بمحفوظات من أقوال ورثوها من أسلافهم، وكانوا يخزنون ما يخزنونه في رءوسهم، لا ليعيشوا به، ولا ليزرعوا به وليصنعوا به ما قد تتطلبه الحياة العملية من صنائع، بل هم يخزنونه لفظا ليدوروا في دوامته، فيولدوا قولا من قول، ويخرجوا جملة من جملة، وكان القادرون على مثل هذا الدوران في عالم اللفظ المحفوظ هم «العلماء»، فلما استيقظت أوروبا من ذلك السبات، سمعت رجلا يصيح بهم قائلا: «العلم قوة» وربما حسبوه قاصدا بعبارته تلك شيئا من بلاغة التعبير، لكن الرجل قد أراد المعنى الحرفي الدقيق بعبارته؛ فالعلم علم بما يستطيع الناس به أن يصنعوه، وليس من العلم في شيء ما لا يعينك على استخراج القوانين التي تجري ظواهر الطبيعة بمقتضاها، لتملك زمامها وتسخرها لصالح الإنسان، وبهذا يصبح للعلماء «قدرة» على إلجام الأشياء وتشكيلها على نحو ما يريدون لها أن تكون؛ العلم «قوة» أين منها قوة الحديد والنار؟! كان الصوت البشري لا يبلغ الأذان إلا بضعة أمتار، فجاءت قوة العلم لتجعله مسموعا في شتى أرجاء الأرض، بل في كواكب السماء، وكانت العين لا ترى إلا ضوءا يجيئها من مجال لا يجاوز بضعة كيلومترات، فجاء العلم بقوته ليمكن العين البشرية من أن تبصر ضوءا يبعد مصدره عنها بما مسافته أربعة عشر ألفا من ملايين الوحدات التي تسمى كل وحدة منها بالسنة الضوئية؛ أي ما يقطعه الضوء في سنة، وكانت ... وكانت ... ثم جاءت قوة العلم فصارت ... وصارت ...
العلم قدرة على فعل ما لا يستطيع غير ذي علم أن يفعله في تسخير القوى الكونية لصالح الإنسان ثم تتلو هذه الدرجة درجة أدنى، يمثلها من ليس في وسعه المبادأة بقوة العلم، فيأخذ تلك القوة نقلا عمن كشف عنها، وهناك في أدنى درجات السلم تجد أولئك الذين ينقلون عن سواهم علما بمجموعة لفظية لا تسخر صوتا ولا ضوءا ولا كهرباء، وتلك هي الحالة التي لخصتها بقولي إنها جملة ينقصها الفعل؛ أي إنها معرفة لا تنفع في أن يفرض الإنسان سلطانه على الأشياء.
قال صاحبي، ولم تكن شفتاه هذه المرة منفرجتين عن ابتسامة المداعب، بل كانتا مزمومتين زمة الجد، قال: ما زلت أسألك يا صديقي: ثم ماذا؟ إن في كلامك ما يفيد ويقنع، ولكننا كنا نتحدث عن مشكلة التعليم في بلادنا، فماذا تريدنا أن نفعل لإنقاذ التعليم من مشكلته التي هي عجزه عن تخريج «المتعلمين» فضلا عن إضافته إلى المتعلم «ثقافة»؟
أجبته قائلا: إن حجر الزاوية فيما يخرج تعليمنا من مشكلته هو أن ندرب المتعلم في كل مراحل تعليمه وفي كل مادة يتعلمها وفي كل يوم وفي كل درس، أن نعلمه كيف يبحث عما وراء الكلمات التي يسمعها من معلمه أو من أستاذه أو الكلمات التي يقرؤها في كراسته أو في مذاكرته أو في كتابه، أن يبحث وراء الكلمات أينما وقعت له، عما وراءها مما جاءت تلك الكلمات لتشير إليه، وأعني ألا يقف عند الكلمات وكأنها محطة الوصول كما هي محطة القيام، فإذا قويت عنده عادة أن يبحث وراء أي لفظ عن معناه شريطة أن يفهم المعنى على أنه حقيقة من حقائق الدنيا؛ جاءت الكلمات لتشير إليها؛ أقول إنه إذا قويت عنده هذه العادة، اعتاد في الوقت نفسه إهمال ما ليس وراءه فعل ، ولتكن المادة المدروسة ما تكون؛ فهي مطالبة بأن ترشد من يتعلمها إلى ما يفعله وكيف يفعله، في عالم الأشياء حتى الدراسات التي قد نتوهم أول الأمر أنها «نظرية» - كما يسمونها - فهي في آخر الأمر لو أحسن تعليمها انتهت بصاحبها إلى «فعل» يغير به وجه الدنيا إذا أراد واستطاع، فإذا هي لم تفعل كانت عبثا في عبث، قد يظن - مثلا - أن موضوعا كمبادئ الأخلاق وما يقام عليها من تحليلات واستدلالات هو مسألة «نظرية» نقرأ عنها ثم نطوي الكتاب وكأن أمرا لم يقع، ولا أمرا يراد له الوقوع؛ لكننا في ذلك لم نكن في حاجة لفيلسوف أخلاقي مثل أرسطو أن ينبهنا منذ الصفحة الأولى من كتابه «الأخلاق» على أن الخلق الفاضل إنما هو سلوك يدرب عليه الإنسان؛ حتى يصبح عادة، وليس مجرد نظرية تقال أو تكتب، فالفضائل «عادات» يربى عليها من يعتادونها؛ أي إنها فعل وليست كلاما في كلام، وإذا أردت مثلا آخر من دنيا الأدب والفن؛ فاعلم أن قصيدة الشعر الجيدة إذا عرفت بعد تدريب كيف تقرؤها بحيث تحس بنفسك وكأنما أنت في جلد الشاعر نفسه ترى بعينيه، وتسمع بأذنيه، وينبض قلبك بما ينبض به قلبه؛ فعندئذ تصبح، على الأقل في أثناء الفترة التي تقضيها مع الشاعر، تصبح وكأنك إنسان آخر هو الشاعر، وبالطبع سترتد إلى نفسك بعدها، ولكن بعد أن تكون قد رسخت فيك لفتة وجدانية لم يكن لك بها عهد من قبل! وتتكرر اللفتات، ويضاف بعضها إلى بعض، فإذا أنت غير ما كنت في رهافة الحس.
قلت لصاحبي: أظنني قد ذكرت لك ما قاله «هيوم» حين أراد أن يؤكد رأيه بأنه لا خير في كلام إذا لم تكن فيه طبيعة المعرفة العلمية؛ إذ قال عبارته المأثورة: خذ كتب المكتبة كتابا كتابا واسأل مع كل كتاب منها: أهو يحتوي على شيء من علوم الطبيعة؟ فإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو يحتوي على شيء من علوم الرياضة؟ فإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى فقل: إذن ألق به في النار.
لكنني ، يا صديقي، لا أريد هذه الصيغة من القول، وأريد تعديلا لها، يصلح أن يكون مفتاحا لنظام تعليمي منتج، وهو هذا: خذ كل ما تسمعه أو تقرؤه في مجال الدرس، واسأل نفسك: هل هو مما ينتهي بالإنسان إلى «فعل» يرتقي به الإنسان؟! فإذا جاءك الجواب بالنفي، فصم عنه أذنيك وأغمض عنه عينيك.
وفيك انطوى العالم الأكبر!
من قرأ شيئا لأبي العلاء المعري في تدبر وتأمل، وارتفع معه إلى حيث يرتفع بنفسه حتى ليوشك أن يجاوز الشمس؛ أدرك كم هو فريد متفرد في تاريخ الثقافة العربية من أقدم قديمها إلى أحدث حديثها! وهو إذ ينفرد وحده في ذروة الذرى، إنما يستقطب في شخصه خصائص العقل العربي والوجدان العربي في آن معا؛ وليس في ذلك تناقض؛ فكثيرا ما يضع النوع الواحد من أنواع الكائنات الحية، بل من صنوف الجماد، يضع خلاصته في صفوة منه؛ ما يذكرنا بقول الشاعر الذي قال عمن أراد مدحه وتمجيده إنه وإن يكن إنسانا من الأناس؛ فإنه يفوقهم، فهو في ذلك شبيه بالمسك يتكون من دم الغزال، لكنه مع ذلك أرفع شأنا من الدم الذي تكون منه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
وهكذا أرى المعري بالقياس إلى سائر النفائس من بدائع الثقافة العربية جميعا؛ ففيه تحققت صفوة الصفوة من ثقافة كان لها مجدها وقوتها، ولكنها رغم هذه القوة وذلك المجد، أو قل إنها بسبب هذه القوة وذلك المجد؛ فتحت ذراعيها إبان القرن الثالث الهجري على وجه الخصوص (التاسع الميلادي) ترحيبا بالضياء يأتيها من شرق ومن غرب، وكان مع الضياء غذاء؛ فاقتات المثقف العربي بذلك كله على درجات تتصاعد ما تصاعدت في الأفراد مواهبهم وقدراتهم، حتى إذا ما انحنى القرن الرابع الهجري بأواخره ليدخل الخامس؛ ظهر ذلك العملاق الجبار أبو العلاء المعري؛ ليبلغ من تلك الدرجات الصاعدة أعلاها؛ ومن تلك القمة السامية أرسل البصيرة - ولا نقول البصر - ليجوب بها أقطار السماء وأرجاء الأرض، ولينفذ بها إلى سر الحياة في الإنسان وما هو أخفى من السر ؛ فمرة يعلو به ومرة يسفل به ، ولا غرابة، ففي الإنسان أحسن تقويم، وفيه ما يهوي به إلى أسفل سافلين؛ وهكذا شاء له ربه، وسبحان الله رب العالمين.
وفي إحدى لحظات تمجيده للإنسان، قال المعري متجها بقوله إلى الإنسان، صائغا كلماته في نبرة العاتب: أتزعم عن نفسك وعن الناس معك، أنك في هذا الكون العظيم هباءة صغيرة أو أقل من الهباءة شأنا، في حين أنك إذا ما وزنت قدرك بميزان صحيح، وجدت ذلك الكون العظيم الذي قرنت نفسك إلى أطرافه المترامية، فرأيت فيها صغرا وضآلة، أقول أنك إذا ما أحسنت الميزان، لوجدت ذلك الكون بكل عظمته إنما هو جزء منك منطو فيك:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر؟
وما أحوج الثقافة العربية في زماننا هذا إلى ألف ألف بوق من أضخم مكبرات الصوت ليقرع الأسماع بهذا السؤال المهذب العاتب؛ لأن زماننا هذا قد نكب في ثقافته بنكبات، كان أنكبها أن توافر عليها نفر من أبنائها، يمسون مع الناس ويصبحون، في إيهامهم بأن الإنسان فوق هذه الأرض، صغير، تافه، عاجز، لا عزم له ولا إرادة! فإذا شذ منا واحد فانطلق مشاركا في فض الأسرار الكونية بالبحوث العلمية، قالوا له: مكانك! فالعلم لله وحده جل وعلا؛ وإذا تحركت فيه العزيمة لينشئ ويبني، صرخوا في وجهه قائلين: الزم حدك يا ابن آدم، فالإرادة في كل ذلك لله وحده، سبحانه وتعالى؛ وبقول من هنا يتبعه قول، وبصرخة من هناك تتلوها صرخة، استطاع هؤلاء السادة أن يشيعوا مناخا كثيف الضباب يكاد يعمي بصر السائر عن رؤية قدميه؛ وكأن ثمة تناقضا أن يريد ربنا - جلت قدرته - أن تكون للإنسان إرادته حتى يقام ميزان العدل لحسابه على ما قدمت يداه من أفعال، يوم أن يكون حساب؛ وكأن هنالك منطقا يمنع أن يكون لله العليم علم سابق بقدرة الإنسان على أن يعلم؛ ونجح السادة إلى حد ملحوظ، في أن يصغر الفرد منا أمام نفسه؛ فقعد متربعا على الأرض، لا حول له في تسيير سفائن العالم، منتظرا حتى يتولى قيادتها سوانا، فمن لنا بمن يعيد فينا صيحة أبي العلاء المريرة في عتابها اللائم: أتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر؟!
وعلينا - حقا - أن نقف هنا وقفة لنسأل: كيف انطوى العالم الأكبر في هذا الجرم الصغير، الذي هو الفرد الواحد من أفراد الناس؟ .. واضح أن «الانطواء» لا يراد به أن يتكور العالم ويتقلص في حبة صغيرة يبتلعها الطاعم مع طعامه؛ وإذن فالأمر في هذا الانطواء، انطواء العالم الأكبر في جرم صغير هو الإنسان، منصرف إلى أحد وجهين: فإما طريق «العقل» وإما طريق «الوجدان»؛ في الحالة الأولى يتحول العالم الأكبر إلى أفكار عنه، والأفكار - بالطبع - دنياها هي عقل الإنسان الذي استخلصها لنفسه مما قد شهده في الكون من حوله؛ وفي الحالة الثانية يتحول العالم الأكبر إلى «مشاعر» استثيرت مما عاناه الإنسان في تعامله مع كائنات العالم، ومما خبره من ممارساته، نفعا وضرا، ولذة وألما. وقد نستطيع رؤية الموضوع من وجه ثالث؛ هو التشابه في التكوين بين الكون من جهة، والإنسان من جهة أخرى؛ تشابها حدا برجال الفكر في تاريخنا الفكري، وفي ذلك التاريخ عند سوانا، أن يستخدموا هاتين العبارتين: «الكون الأكبر» و«الكون الأصغر»، مشيرين بالعبارة الأولى إلى «الكون» الخارجي، وبالعبارة الثانية إلى الإنسان؛ وفيم يتشابهان؟ إنهما يتشابهان في جوانب كثيرة، أهمها أن في كل منها جسدا وعقلا، أو قل: مادة وروحا؛ وأن يكون للعقل وللروح أن يوجها وأن يعقلا ما يتصل بالجسد في ماديته؛ وكذلك هما يتشابهان في واحدية البناء رغم كثرة العناصر المكونة له؛ فألوف الملايين من الأجزاء - في كل منهما - منخرطة كلها في نسق واحد، يتجاوب فيه كل جزء من أجزائه مع كل جزء آخر؛ ولقد اهتدى مبدعو الفن والأدب من هذه النسقية المتساندة المتآزرة بعضها مع بعض؛ في أن جعلوها مبدأ يحتكم إليه في تمييز الجيد من الرديء من مبدعات في ذينك المجالين؛ وهو ما أصبحنا نطلق عليه في عالم النقد اسم «الوحدة العضوية».
على أن الصلة الفريدة التي تجعل للإنسان مكانته الممتازة في هذا الكون العظيم، هي - كما أراها في تواضع شديد - «الوعي» الذي يعي به نفسه، ويعي به من هذا العالم المحيط به، ما يمكنه من أن يحتويه طي نفسه، وكأنه خاطرة من خواطرها؛ وهنا نستطرد في القول قليلا؛ لنلقي الأضواء الشارحة على هذه العبارة المجملة؛ فما من قارئ للقرآن الكريم، أو منصت لآياته، إلا ويحفظ الآية الكريمة:
الله نور السماوات والأرض ... (إلى آخر آية النور)؛ لكن المعنى الذي يسبق إلى ذهن القارئ أو السامع لكلمة «النور» هو - في أغلب الحالات - ذلك المعنى المأخوذ من الخبرة اليومية المباشرة؛ وأعني النور كما نراه في ضوء المصباح، أو القمر، أو الشمس، أو غيرها من مصادر النور التي نعرفها ونألفها؛ ولكن ذلك - في رأي الكاتب - فهم للكلمة يضيق معناها وأبعاد مغزاها؛ ويكفي أن نتذكر حقيقة موضوعية، هي أن الكون «معتم» في عين المسافر الذي يخترقه مسافرا بين أرجائه؛ ذلك على فرض أن مسافرا كهذا أمكن أن يكون له وجود؛ فنحن نرى أشعة الضوء، لا وهي في طريقها آتية من مصدرها إلى حيث تسقط، بل نراها بعد أن تسقط على سطح فتنعكس عليه؛ فالقمر يضيء بسقوط أشعة الشمس على سطحه، وكذلك يضيء سطح الأرض بالطريقة نفسها، ثم تنعكس الأشعة على الأجسام التي حولنا فتضيء فنراها، وأما إذا وجهت النظر إلى تلك الأشعة وهي في طريق انتقالها؛ فلن ترى شيئا، وحتى لو نحينا هذه الحقيقة جانبا؛ تبينت لتا حقيقة أخرى عن الضوء كما هو، وهي أنه ظاهرة طبيعية كسائر الظواهر، فهنالك إلى جانب ظاهرة الضوء، ظاهرة الصوت، وظاهرة الكهرباء، وظاهرة الحرارة، وظاهرة المغناطيس، وظاهرة الجاذبية، وهلم جرا.
لكن انظر إلى كلمة «النور» (في آية النور) من زاوية أخرى، هي نفسها الزاوية التي نظر منها الإمام الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار»؛ تجد أنها إنما تعني «الوعي» المنبث في أرجاء الوجود كله، الذي يتصف به الإنسان كغيره من الأحياء، بل الأشياء كذلك، ثم يتميز دونها جميعا بإضافة بعد آخر، هو أنه واع بوعيه؛ فإذا كانت الشجرة على شيء من الوعي بعناصر التربة التي تحيط بجذورها، فتنتقي منها ما تنتقي، وتهمل منها ما تهمل، وإذا كان الحيوان من أي نوع من أنواعه، على شيء كثير من الوعي بما يحيط به، فينتفع بما ينتفع به طعاما ومأوى، ويتقي ما يتقيه مما توحي إليه طبيعته بأنه مهلك لحياته؛ فلا النبات ولا الحيوان على وعيهما ذاك على علم من درجة أعلى، يعلمان به أنهما على ذلك الوعي؛ وأما الإنسان فهو وحده الذي يعي ما يعيه، ثم يضيف إلى ذلك وعيا أعلى، وهو وعيه بأنه على ذلك الوعي؛ ولماذا أفضنا القول في هذه التفرقة بين الإنسان وغيره؟ إننا قصدنا بذلك إلى شرح يوضح كيف يدرك الإنسان هذا الكون إدراكا واعيا، يصبح به الكون كله في طوية نفسه نبضة من نبضاتها؛ وبهذا المعنى نزداد فهما لقول أبي العلاء: إن العالم الأكبر ينطوي بجميعه في وعي الإنسان؛ ومن هنا نراه في الشطر الأول من البيت الذي أسلفنا ذكره: «أتزعم أنك جرم صغير؟» يدهش أن يرى الإنسان يقلل من قدر نفسه، مع تلك القدرة القادرة التي وهبه إياها من خلقه فسواه فعدله، وسبحانه من خالق؛ فهل يسمع أولئك الذين ما ينفكون يذيعون فينا اليوم دعوة إلى وجوب اصطناع الضآلة والصغر؟
ولا ينبغي لنا أن نترك هذه النقطة إلى سواها، دون أن نعود إلى «النور» في آية النور؛ لنقول إن الله جل وعلا هو «نور السموات والأرض» بمعنى أن علمه شامل لكل ما في جنبات الكون من قدرات عالمة، وإن إدراكه محيط بكل ما في العالم الأكبر من قدرات مدركة؛ وذلك أننا نخطئ مرة أخرى إذا نحن قصرنا القدرة الإدراكية على الكائنات الحية وحدها فوق هذا الكوكب الأرضي، ونخطئ خطأ أفحش إذا نحن قصرنا قدرة الإدراك الواعي على الإنسان وحده، وإلا فانظر إلى ما شئت أن تنظر إليه من أجزاء الوجود وظواهره، ومن أصغر ذرة فصاعدا إلى الشموس والسدم، فماذا ترى؟ ألست ترى أن كل شيء منها يجري على نسق مقنن ومطرد إلى الدرجة التي تمكن الإنسان - إذا واتاه التوفيق - من استخراج القانون أو القوانين التي ينضبط بها أي شيء معين في حركته؟ وكل تنظيم من هذا القبيل، في أي شيء أو مجموعة أشياء، إنما يشير إلى «عقل» فيها ووراءها: وإذا كان هذا هكذا في كل موجود في الوجود، صغر أو كبر، ثم في كل مجموعة من الموجودات، كالمجموعة الشمسية مثلا، ثم في مجموع شامل يضم تلك المجموعات في نسق واحد كبير، أفلا نقول إنه «وعي» إدراكي شامل للكون من جهة، مبثوث في كل وحدة من الوحدات من جهة أخرى؟
الله نور السماوات والأرض (صدق الله العظيم)، ولو كان المقصود «بالنور» هنا، هو ذلك الضوء الذي يأتينا من الشمس والقمر والمصابيح وألسنة النار؛ لما احتاج الأمر إلى شرح المعنى بأمثلة من المشكاة والنبراس والزجاجة والكوكب الدري والزيتونة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
إنه - إذن - هو الإدراك الواعي يملأ الكون، في كل جزء من جزئياته، ويبلغ ذروته في الإنسان بالقياس إلى سائر الكائنات المخلوقة؛ وفي هذا التمييز نجد جانبا من معنى تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان، فإذا كان ذلك الإدراك الواعي في الإنسان هو «النور»؛ عرفنا الأساس الذي تقام عليه حركة «التنوير» إذا أردناها، ولقد كان هو الأساس الذي قامت عليه بالفعل حركات التنوير التي شهدها التاريخ، والتاريخ الحديث بصفة خاصة؛ فالمحور الذي يدور حوله «التنوير» أينما حدث أو يحدث، هو أن تنكشف للإنسان حقيقة نفسه أولا، وعن هذا الطريق تنكشف أمامه حقائق العالم من حوله. ونسوق إليك بعض الأمثلة للتوضيح؛ وأول مثل يفرض نفسه علينا، هو سقراط في اليونان القديمة؛ إذ هو الذي صاغ المبدأ القائل ما معناه على وجه التقريب: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» وكان ما دعاه إلى هذه الصيحة هو أن من سبقوه من فلاسفة اليونان اتجهوا بأنظارهم نحو العالم الخارجي ليردوا ظواهره المتباينة إلى «مبدأ» واحد مشترك؛ فأراد سقراط أن يعكس مسيرة الفكر، فبدل أن تبدأ من خارج الإنسان لتنتهي إلى دخيلة نفسه، أراد لها أن تبدأ من دخيلة النفس متجهة إلى الخارج حيث العالم وظواهره: لماذا؟ لأن أهم ما كان يهتم به - هو وسائر الفلاسفة اليونان تقريبا - هو موضوع «الأخلاق»، فكان الهدف من كل تفكير في رأيه، هو أن يصل إلى أساس «عقلي» لنميز به بين ما هو صواب وما هو خطأ في السلوك البشري؛ فإذا أردنا - مثلا - أن نعرف متى يكون الفعل المعين «عدلا»؛ وجب أولا أن أبحث عن «تعريف» العدل ما هو؟ وهذا التعريف إنما يوصل إليه بالعقل المحض، وهكذا قل في شتى أوضاع الحياة؛ فنقطة البدء الصحيحة «تعريفات» عقلية محددة وواضحة، تقام عليها الحياة الإنسانية في شتى جوانبها. ولاحظ أن الوصول إلى «التعريف» العقلي لأي معنى من المعاني، قد يقتضينا أن نتناول بالتحليل أقوال الناس عن معنى معين، ماذا يفهمون منه؟ ومثل هذا التحليل سينتهي بنا حتما إلى الكشف عن مواضع التناقض والغموض في تلك الأقوال، ومن خلال ذلك نصل إلى التحديد الصحيح الواضح للمعنى المعين الذي نريد تحديده وتوضيحه، ومن هذه النقطة نبدأ بناء حياتنا الفردية والاجتماعية على حد سواء، وإذا تحقق لنا ذلك؛ سرنا في حياتنا على «نور» وكان السعي نحو أن يسلك الناس على نحو ما أردنا لهم أن يسلكوا «تنويرا».
والمثل الثاني الذي أسوقه توضيحا «للتنوير» هو ما صنعه أبو حامد الغزالي بنفسه، ليحاول بعد ذلك أن يحمل الآخرين على صنعه. وفي إيجاز شديد (وإذا أردت تفصيلا فاقرأ للغزالي كتابه الفذ «المنقذ من الضلال») أقول: إن الغزالي، بينما هو يقوم بالتعليم في بغداد، أحس بقلق شديد يأخذه، وذلك حين طرح على نفسه سؤالا، ولم يجد نفسه قادرا على جوابه؛ وكان السؤال هو: إنني في دروسي هذه، أسوق البراهين على وجود الله، من آيات القرآن الكريم، فكأنما أقدم براهيني إلى مؤمنين مقدما بتلك البراهين، لكن كيف بي إذا تقدمت ببراهيني هذه إلى من ليس مؤمنا برسالة الإسلام وكتابه؟ إن البرهان الصحيح يجب أن يقام على أساس من فطرة الإنسان ذاته، مؤمنا بالإسلام أو غير مؤمن؛ ومن هنا أخذته الحيرة، والقلق؛ فخرج من بغداد مرتحلا إلى غير هدف، متنقلا من مكان إلى مكان ، وعقله في خلال ذلك لا يهدأ ولا يفتر بحثا عن الأساس المنشود، فلما أن وجده عاد إلى بغداد مطمئن النفس ليستأنف التدريس؛ وكان الأساس الذي وجده هو أن يلجأ الإنسان إلى دخيلة نفسه، ليرى ما الذي يحدث فيها عندما يهم «بخلق» فعل من أفعاله؛ وعندئذ تكون رؤيته لحقيقة ما يحدث مقامة على إدراك مباشر لا برهان عليه؛ لأنه في غير حاجة إلى برهان، وهكذا أيضا تكون وسيلتنا إلى إدراك وجود الله سبحانه، برؤية صوفية مباشرة وليس بالعقل ومنطقه في إقامة الدليل على ما هو بحاجة إلى دليل، وبهذا أصبح الغزالي في «نور» اليقين، وانفتح أمامه طريق «التنوير» للآخرين.
والمثل الثالث الذي أقدمه توضيحا للنور والتنوير في حياة الناس الفكرية هو «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي المعروف، وأحسب أن أمره معلوم للكثرة الغالبة من القراء؛ إذ هو صاحب المبدأ الشهير: «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود.» فلئن كان الغزالي من قبله قد حيرته الحقيقة «الإيمانية» عن وجود الله تعالى، فإن الذي أدخل الحيرة في نفس ديكارت هو الحقيقة «العلمية»، لكن اختلاف موضوع الحيرة عند الرجلين لم يمنع أن تجيء الوسيلة إلى إزالة الحيرة عندهما متشابهة أشد التشابه؛ حتى لنحسب ديكارت في خطواته المنهجية قد أخذ عن الغزالي خطواته من حيث الأساس، فكلا الرجلين قد داخلته حالة من الشك فيما كان يظن أنه الطريق الصحيح، وكلا الرجلين لم يقصد بذلك الشك المنهجي المتعمد أن يهدم ما يعلم أنه الحق، بل قصد إلى مراجعة الأسس التي بنيت عليها أحقية ذلك الحق، وكل الفرق بينهما - إذن - هو أن صحة وجود الله كانت هدف الغزالي، بينما كانت صحة الحقائق العلمية، كائنا ما كان موضوعها، هدف ديكارت. وكما نعلم جميعا، لجأ ديكارت إلى تفريغ جعبته من كل ما كان يعرفه من قبل؛ لأنها معرفة تلقى أكثرها عندما لم يكن في سن تسمح له بنقد تحليلي لما يتلقاه، وها هو ذا قد أزاح البناء كله؛ ليقيمه من جديد على أساس موثوق بصحته، شريطة أن تكون نقطة البدء صحيحة صحة يقينية مطلقة؛ لنضمن أن ما يستدل منها بعد ذلك استدلالا منطقيا صحيح كذلك؛ وما هو إلا أن أشرقت عليه تلك الحقيقة الأولية البسيطة التي يستحيل استحالة قاطعة أن يأتيها الباطل من أي قطر من أقطارها؛ ألا وهي أنه يحس في دخيلة نفسه إحساسا مباشرا أنه في تلك الحيرة من الشك، وماذا تكون تلك الحالة الشاكة إلا ضربا من «التفكير»؟ ثم هل يمكن منطقيا أن يكون تفكير بغير «أنا» التي تفكر؟ فها هي ذي - إذن - نقطة البدء في طريق اليقين: «أنا أفكر - إذن - أنا موجود.» ومن هذه البداية أخذ يخرج النتائج واحدة في إثر واحدة، حتى تكاملت له القضايا التي تبرهن على وجود العالم، ثم على وجود الله، وهكذا أصبح ديكارت من مشكلته على «نور»، وكان نشره لما ارتآه ضربا من ضروب «التنوير».
ونكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة، التي عرضناها لنوضح بها ما أردناه بقولنا إن جوهر التنوير كامن في أن يكشف الإنسان عن حقيقة نفسه. ولكي لا نقف في هذه النقطة المهمة من موضوع حديثنا، عند عبارات مجردة قد لا يصل مغزاها إلى أفهام الناس؛ يجمل بنا أن نترجمها إلى وقائع يسهل إدراكها؛ فما الذي نريده على وجه الدقة من قولنا إن تنوير الإنسان المصري، أو الإنسان العربي الذي يشمل المصري وغير المصري من أبناء الأمة العربية، أقول: ما الذي نعنيه بقولنا إن تنوير العربي في مرحلته الراهنة معناه أن تنكشف له حقيقة نفسه؟ إننا إذا أردنا فهم عبارة كهذه، يتحتم علينا أن نضع هذا العربي في معمعان مشكلاته الحاضرة؛ لنرى كيف تجيء ردود أفعاله على المثيرات التي تعترضه وتتحداه؛ إذ «النفس» التي نسعى إلى الكشف عن حقيقتها لا ترى إلا وهي مجسدة في صور السلوك الفعلي، الذي يستجيب به العربي لما يحيط به من وقائع وأحداث؛ فهل نجده - مثلا - يدقق في حساب العوامل وتحليلها قبل أن يهم بردود فعله ليضمن أن تجيء نتائج فعله مأمونة العواقب؟ هل نجده على تطابق بين باطنه الذي يضمره من ناحية وظاهر سلوكه من ناحية أخرى ؟ هل نراه حريصا على إثبات وجوده بما ينبغي أن يثبت به وجود أي إنسان؟ ألا وهو أن يلقي بزمام حياته آخر الأمر إلى إحكام عقله، ما دام كان الموضوع المطروح مما يتعلق بالحياة العامة المشتركة بين الناس جميعا، وليس أمره مقصورا على حياته الخاصة وما يكتنفها من عواطف وميول ومن غرائز وشهوات، إلى آخر هذه الصفات، التي من مجموعها تتعين شخصية الإنسان.
إننا بمثل هذا الوصف التحليلي لشخصية العربي في حياته اليوم، وهو وصف يمكن الحصول عليه بدقة علمية، إذا استخلصناه من البحوث العلمية التي يضطلع بها فعلا أبناؤنا من الباحثين في الجامعات ومراكز البحوث، أقول إننا بمثل هذا الوصف التحليلي لشخصية العربي الآن يسهل على أولي الأمر عندئذ أن يتبينوا مواضع القصور التي أدت إلى ما نحن فيه من تخلف، وهزيمة، وضعف، وتمزق، وبالتالي فهم في هذه الحالة المستنيرة أقدر على رسم الطريق نحو النهوض، إن مسالك الناس في الحياة العملية لا تأتي من فراغ، وإنما هو انعكاس لما شحنت به الأدمغة والأفئدة، من أفكار ومن مشاعر تختلف باختلاف المواقف؛ فهذا مرغوب فيه، وذلك مرغوب عنه، لا لشيء في ذاته بقدر ما يكون ذلك الموقف الانفعالي أو العاطفي نتيجة الشحنة الثقافية التي عبأت الرءوس والقلوب، والكشف عن ذلك كله هو «النور»، وهو «التنوير»، وهو الشرط المبدئي الضروري لأي تغيير نريد له أن يتحقق في حياتنا.
وليس من شك في أن ذلك النور قد أبصرته البصائر عند أفراد أعلام من عظمائنا في مجالات الفكر والعمل، لكن الجماهير العريضة في الوطن العربي العريض هي أبعد ما يكون الناس عن ذلك النور؛ إذن فهم أحوج ما يكون الناس إلى التنوير. ولنا أن نسأل: وما الذي وضع الغشاوة على أبصار الجماهير؟ وجوابي في اختصار، هو أن أدمغتهم وقلوبهم معا، قد تولى شحنها من وجد منفعته في أن تعيش تلك الجماهير في أوهامها، وبذلك انسدت أمامهم وسائل الرؤية التي يرون بها واقع الدنيا على حقيقتها؛ فسرعان ما أصبحوا أسهل الفرائس انتهابا لمن هم سادة العصر علما وسلطانا.
وماذا عسانا أن نصنع إزاء ذلك، إذا حسنت نوايانا نحو الإصلاح؟
الإجابة في كلمتين: «تحديث الثقافة» التي تزرع في الرءوس وفي الضمائر؛ بمعنى أن نزود الإنسان العادي بمجموعات الأفكار والقيم، التي تصلح أن تكون له وسائل نجاح في ظروف الحياة الراهنة. ولسنا بذلك نعني، ولا نحن نريد، أن نقحم زرعا غريبا على نفوس تعافه وترفضه؛ بل إن السياسة الثقافية الجديدة من واجبها أن تتلمس في الروح العربية الأصيلة تلك المواضع التي تتقبل الزرع الجديد، ولعل ذلك أن يكون أهم مهمة يضطلع بها، أو يجب أن يضطلع بها، رجال الفكر والفن والأدب جميعا؛ فليكن جمهور الأمة العربية بمنزلة كتلة المرمر حين يتولاها فنان النحت ليخرج منها رأسا بشريا في ملامحه حكمة وهدى وتفاؤل، وكما يصنع النحات، حين يتصور بخياله ذلك الرأس داخل كتلة المرمر، ثم يبدأ بضربات إزميله بناء على ذلك التصور، فيزيل الزوائد من كل الجوانب، حتى يبرز الرأس المنشود وتظهر ملامحه كما أرادها الفنان؛ فالفنان هنا لم يفرض على المرمر ما ليس مرمرا، وإنما ترك المرمر على طبيعته، واستخرج من تلك الطبيعة ذاتها ما أراد، وهكذا علينا أن نفعل، نحن رجال الفكر والفن والأدب في الأمة العربية، نستخرج من جوهر العربي، بكل ما فيه من أصالة، تلك الصورة الثقافية الجديدة، التي تعينه على أن يعيش في عصره هذا، لا تابعا كما هي حاله الآن، بل متبوعا كما كان في عصور مجده الخالد.
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
لقد جاوز الشيخ ثمانين عاما من عمره، ومع ذلك فهو ما يزال يذكر في وضوح، كوضوح النهار المشمس، ما يزال يذكر ذلك الطفل الذي بدأ به حياته هذه، التي طالت حتى شاخت، يذكره في سن الرابعة، أو ربما جاوزت الرابعة بقليل، وهو يختلف كل صباح إلى كتاب الشيخ ربيع في قريته، إذ كان الطفل مع أسرته، التي لم تكن قد غادرت بعد ريفها إلى المدينة، ولم يكن بين الدار والكتاب إلا بضع خطوات، فالحارة واحدة، تنفتح على النيل، ثم تنسد بعد عدد من الأمتار يقع بين العشرين والثلاثين، وعند نهايتها التي تنسد عندها كانت الدار، وعند فتحتها على النيل كان الكتاب.
وفي الكتاب كان يتعلم أحرف الهجاء، وأعداد الحساب، وقبل ذلك، وفوق ذلك، وبعد ذلك؛ كان يحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم، وكان ما يحفظه من القرآن هو أوضح معالم الساعات التي كان الطفل يقضيها في الكتاب كل يوم، ولا عجب أن أرى شيخ الثمانين، إذا ما استعادت له الذاكرة حياته طفلا؛ لا يكاد يذكر من خبرة الكتاب شيئا مما كان يقرؤه أو يكتبه - على لوح الأردواز - من أحرف الهجاء وأعداد الحساب، وأما ما كان يحفظه ويعيده أمام الشيخ ربيع من آيات القرآن الكريم؛ فهو باق في ذاكرته في وضوح ناصع، وكيف ينسى وقع النغم القرآني في مسمعيه وهو في تلك السن الصغيرة وقعا يظل مأخوذا به، فيردد الآيات ما بقي له من صحو النهار؟ ومن يدريني الآن هل كانت تلك الفتنة بإيقاع النغم القرآني تختفي عنده في نعاسه أو كانت تواصل ظهورها في أحلامه؟ لم يكن - بالطبع - يفهم من معاني اللفظ الذي يردده شيئا؛ فلا الشيخ ربيع قال له كثيرا أو قليلا من تلك المعاني، ولا كان في قدرته أن يدرك هو شيئا منها، لا، بل لا أظنه كان يدرك أن للآيات الكريمة التي كان لها في أذنيه ذلك الإيقاع الأخاذ معاني يعرفها أو لا يعرفها.
وكان من أوقع محفوظه يومئذ من القرآن الكريم تأثيرا، ومن أكثره ترديدا منغما، الآيات:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا ...
كان يصعد درج الدار، ثم يهبط الدرج، ثم يصعد، وعند كل درجة منها - صاعدا أو هابطا - يضغط على مقطع من تلك الآيات الكريمة، ويدب بقدمه دبة قوية، وكأن تلك الضربات عنده كانت تفعل فعل الطبلة في المعزوفة الموسيقية، فكان التنغيم يجري معه في أثناء صعوده الدرج واحدة واحدة، هكذا: «والعاديات ضب...حا فالموريات قد...حا فالمغيرات صب...حا» ... إلخ.
وكبر الطفل وأصبح على عتبة الشباب، فشاء له الله أن يلتقي بعض أقرانه في المدرسة، ممن يتبارون في حفظ الشعر، ولست أعني المحفوظات المقررة، بل سمع أقرانه هؤلاء يتبارون فيما سمعهم يقولون إنه «المعلقات» ... ما تلك «المعلقات» يا ترى؟ تساءل الفتى وسأل، حتى انتهى به الأمر إلى أن يحصل على «المعلقات» مشروحة، وشيخنا صاحب الثمانين لم يعد يذكر جيدا، أكانت المعلقات السبع كلها أم كان بعضها فقط هو الذي وقع عليه ليقرأ وليحفظ لعله يتبارى مع الأقران ندا مع أنداد؟ ومرة أخرى فتن الفتى بإيقاع اللفظ، دون أن يفهم من معناه إلا أقل من القليل، رغم أنه قرأ الشروح في هوامش الكتاب.
وبلغ الشاب عامه العشرين وما بعده، وأخذ يتابع أعلام المفكرين والأدباء، في النصف الثاني من عشرينيات هذا القرن وما بعد ذلك، يتابعهم مقالة مقالة، وكتابا كتابا، وإن شيخنا صاحب الثمانين، ليذكر شبابه ذاك، وكيف ظل حريصا أشد الحرص على إيقاع النغم في كلمات الكاتب، يلتمسه أنى وجده، لكنه في تلك السن كان قد تنبه على أن إيقاع اللفظ المقوم لم يعد يكفي، بل لا بد له أن يحمل مضمونا يتناسب وزنا مع حلاوة الإيقاع، حتى لقد أخذ يراجع محفوظه من القرآن الكريم عندما كان طفلا مأخوذا بنغم آيات كريمة لا يفهم لها معنى ومحفوظه من «المعلقات» وهو على عتبة شبابه، أخذ يراجع ذلك كله باحثا عن «المعنى» ليكتمل الكمال، ولقد دهش دهشة ارتج لها فؤاده ارتجاجا، عندما علم أن الآيات الكريمة التي أخذ يتغنى بها مأخوذا بنغمها، ويقسمها تقسيما موسيقيا يصعد به درج الدار ويهبط: «والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا ...» أقول إن دهشته كانت شديدة، حين اطلع في نضج شبابه على معناها، الذي هو تصوير معجز لهجمة الفرسان على العدو، آخذا له على غرة ساعة الفجر، فالجياد تضبح بأنفاسها الحرى بعد طول الطريق، وحوافرها من شدة وقعها على حصباء الطريق تقدح منه الشرر، حتى إذا ما أغارت عند فلق الصبح على مكمن الأعداء، وأثارت نقع الغبار الذي غامت به السماء ، كان فرسانها قد توسطوا جماعة الأعداء .
ومضى الشاب يطوي بساط حياته عاما بعد عام، إذ هو يزداد مع الأعوام تحصيلا وتدبرا لما حصله، فهو لم يرد لنفسه قط أن يكون مجرد وعاء يمتلئ بما قاله فلان وما كتبه علان، ولا يزيد بعد ذلك على أن يعيد على نفسه وعلى الناس ما قالوه وما كتبوه، وإنما أراد لنفسه أن يخرج بوجهة للنظر يبتدعها ابتداعا، أو يتبناها وأن شيخ الثمانين ليظن - مهتديا بذاكرته - أن تلك الوجهة الخاصة للنظر، كانت قد بدت له في أفق الفكر كالشبح الذي ينتظر أن يأتيه الغذاء ليمتلئ ولتجري في عروقه الدماء كي تنشط أجهزته بنبض الحياة، على أن تلك الوجهة من النظر، التي اصطنعها الشاب لنفسه وهو في ثلاثينيات عمره، لم يتفجر بها الهواء كأنها الصاعقة انشقت لها السماء لتظهر فجأة، وكأنها منيرفا - إلهة الحكمة عند اليونان الأقدمين - قد خرجت من صدفتها كاملة التكوين، بل جاءت تلك الوجهة من النظر لصاحبنا الشاب، وكأنها الزهرة تولدت فوق غصنها، بعد أن استعدت لولادتها الشجرة في نموها البطيء على امتداد السنين.
أوتذكر ما حدثتك به عن طفل الرابعة أو نحوها كيف أخذ إيقاع اللفظ القرآني بمسمعيه أخذا حتى ملأ عليه نفسه؟ ثم هل تذكر كيف كان الشاب الذي خرج من جوف ذلك الطفل منشغلا بالمعلقات السبع، يكرر أبياتها مباهيا أقرانه بما يحفظه منها؟ حتى إذا ما تدرجت الأعوام بذلك الشاب الصغير، ليرتفع بتحصيله إلى درجة النضج، فأخذ يبحث فيما يقرؤه عن «المضمون الفكري» في تضاعيف اللفظ، دون أن يفقد اهتمامه لحظة واحدة باللفظ وحسن انتقائه وجمال تركيبه، حتى لقد كان ذلك عنده مقياسا يقيس به الكاتبين في تفاوت درجاتهم ارتفاعا وانخفاضا، فإذا كنت تذكر كل ذلك عن صاحبنا في مراحل عمره طفلا وشابا، فلن يدهشك - إذن - أن نقول عنه، حين انتقل به الشباب إلى مرحلة الرجولة، وحين تكونت له رؤية خاصة في مرحلتها الشبحية الأولى، إنه جعل إدمان النظر في «اللغة» بمنزلة النخاع من الهيكل العظمي لتلك الرؤية، فإن أمر اللغة لمن يتدبرها لعجب من عجب ! إنها ليست «وسيلة» تنقل «الفكر» من إنسان إلى إنسان في عصره، أو يجيء عبر الأجيال، بل هي هي الفكر ذاته، وليست هي عند الشاعر أو الكاتب الأديب بمنزلة «الأدوات» التي تتم بها عملية التعبير، بل هي هي الشعر، وهي هي الأدب؛ لأنها هي مضمونها.
نعم، إن أمر اللغة لمن يتدبرها، عجب من عجب، فهل تعلم أن هذا الكون العظيم يستحيل على خيال البشر أن يلم من عظمته إلا بمقدار خردلة؟ وإلا فكيف لخيال بشري أن يتصور هذا الذي يقوله رجال العلم حين يقولون إن في وسع المناظير الضخمة التي ابتدعها العلم الآن أن تتلقى الضوء الذي انبعث من نجم يبعد عن أرضنا بمسافة قدرها أربعة عشر ألف مليون من السنين الضوئية؟!
تدبر - أيها القارئ - هذا القول ما وسعك التدبر؛ فالضوء ينساب بسرعة قدرها ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، فانظر كم يقطع من الكيلومترات في الدقيقة التي هي ستون ثانية، ثم كم يقطع في الساعة الواحدة التي هي ستون دقيقة، ثم كم يقطع في اليوم الواحد الذي هو أربع وعشرون ساعة، ثم كم في السنة؟ وما يقطعه الضوء من مسافة بتلك السرعة الهائلة خلال سنة كاملة، يسمونه بلغة العلم سنة ضوئية، فكم تكون المسافة التي يقطعها ضوء آت إلى مناظير العلم اليوم من نجم يبعد عنا أربعة عشر ألف مليون سنة ضوئية؟! أفي وسع الخيال البشري أن يتصور تلك الأبعاد؟ ومع ذلك، فما تلك الأبعاد إلا جزء من كل، الله تعالى أعلم بمداه؛ لأن المسافة التي أشرنا إليها في ذهول، إنما هي ما استطاعت مناظيرنا اليوم أن تلتقطه، وستستطيع مناظير الغد أن تلتقط ما هو أبعد، إلا أن الكون سيظل رغم ذلك أوسع وأعظم من أن نحيط علما بأبعاده، وسيبقى علم ذلك عند خالق الكون سبحانه.
ولأعد بك بعد هذه اللمحة الخاطفة عن عظمة الكون؛ لأعيد عليك سؤالي: هل تعلم أن هذا الكون العظيم يسوده صمت لا صوت فيه؟ فللصوت في هذا الكون العظيم - في حدود علم الإنسان - مصدر واحد هو الكوكب الأرضي! لكن الأصوات المنبعثة من هذا الكوكب، إنما هي صنيعة آذان الأحياء ذوات السمع؛ إذ الذي يطرق تلك الآذان إنما هو موجات من هواء صامت، وفي الآذان وأعصاب السمع يتحول ذلك الهواء الصامت إلى «صوت»، ومع ذلك، فهذه الحقيقة - على غرابتها - تستدعي وراءها ما هو أغرب، وأعني به أن تلك الأصوات التي تنشأ عند الحيوان السامع، أو التي تنطق بها صنوف الحيوان، إنما هي - جميعا - أخلاط متقطعة، أين هي من ضرب آخر من مركبات صوتية أخرى تقتصر على الإنسان وحده وهي المركبات التي نجمعها معا لنطلق عليها اسم «اللغة»؟! فحين نطق أول ناطق بشري «بكلمات» و«جمل» أرسلها لتتلقاها أذنان عند إنسان آخر، كان ذلك الصوت الدال المفهوم الدلالة، هو الصوت الوحيد الذي شق أجواز الكون الراقد في صمته الرهيب، فلم يعرف الكون من «الكلام» إلا كلام الله سبحانه وتعالى، أنزله على من اصطفاهم من أنبيائه ورسله، وإلا كلام البشر على هذا الكوكب الأرضي. وربما قال هنا قائل إن لبعض الحيوان لغته الخاصة، كالنمل والطير، لكنني أستخدم لفظ «اللغة» أو لفظ «الكلام» ليدل على هذا الذي نراه مركبا من كلمات ركبت في جمل، يمكن أن تعرض على العقل فيستدل منها نتائج، أو تعرض على الوجدان فيستجيب الإنسان بما يستجيب به من مشاعر وسلوك.
تميز الإنسان عن سائر كائنات الدنيا بأنه «تكلم»، ثم استطاع على مر الزمن أن «يكتب» ما يقوله كلاما، حتى لقد كانت قدرته على «الكلام» هي نفسها التعريف الذي يحدد طبيعة الإنسان دون سائر الأحياء، ولكن عم يتكلم؟ إن كلامه هذا إنما هو مجموعات صوتية، مقطعة حينا، موصولة حينا، ولما عرف كيف يرقم تلك الأصوات كتابة، لم تكن هذه الكتابة في واقعها المادي إلا حفرا بالإزميل على الحجر حينا، وسكبا لخيوط من المداد على ورق حينا آخر، وهكذا أخذت تختلف معه المواد التي يرقم عليها كتابته، كما أخذت تختلف معه المواد التي يستخدمها في ذلك الترقيم، على أن الذي يجب ألا تفلت منا ملاحظته، هو أن اللغة في كلتا الحالتين: منطوقة في مجموعات صوتية مسموعة، أو مرقومة بنوع من المادة على نوع آخر من المادة، أقول إنها في كلتا الحالتين أشياء ترى بالعين أو تسمع بالأذن، شأنها في ذلك شأن سائر الأشياء في هذه الدنيا كالأشجار والقطط والعصافير، لكننا ما إن نسمع وصفا للغة كهذا الوصف الذي يجعلها مجرد مجموعات «أشياء» حتى نفزع، تفزع أنت كما أفزع أنا، قائلين: لا، محال أن تتحول حقيقة اللغة حتى لا يصبح ثمة فرق يميزها من أكوام الرمل والحجارة، وإذا كان ذلك هو شأنها، ففيم جعلناها تعريفا للإنسان، يعلو به على سائر كائنات العالمين؟! أكان كل امتياز الإنسان حين اخترق بصوته الناطق باللغة صمت الكون هو أنه أصدر بحنجرته لغلغات من الصوت التي يلغو بها الرضيع أم كانت كل ثقافاته المدونة بضروب الكتابة المختلفة مجرد تشكيلات من خيوط الحبر سكبتها أقلام على أوراق؟
لا، إن العقل لينفر من قول كهذا؛ لأنه لو صدق وصفا للغة، لانتفى وجود العقل نفسه، لكن ماذا نقول وذلك الوصف حقيقة تشهد بها الأذن فيما تسمع كما تشهد بها العين فيما ترى؟ وهل تسمع الأذن حين تنصت إلى كلمات ينطق بها متكلم إلا صوتا؟ وهل ترى العين على الصحائف المقروءة إلا تشكيلات من خيوط المداد؟ إلا أننا - أنت وأنا - إذا ما سئلنا أسئلة كهذه، أسرعنا بالرد قائلين: نعم لكن تلك الأصوات المنطوقة، وتلك التشكيلات المرقومة على صفحة الكتاب، إن هي إلا «رموز» أردنا بها أن نرمز إلى وقائع وأشياء وحالات وكائنات، بحيث يكون هذا كله هو «معنى» تلك الرموز الصوتية المنطوقة، أو الرموز المرقومة على الورق وغير الورق. فإذا بلغنا بالحديث هذا الحد، كنا قد بلغنا صميم الصميم من حقيقة الإنسان؛ إذ الإنسان في أدق تعريف أتصوره له، هو أنه الحيوان الرامز، فهو حين نطق بالكلمات فشق بصوته صمت الوجود الأبكم، كان قد عرف كيف ينيب عن حقائق ذلك الوجود أصواتا تدل عليها وتغني عن شهودها، وبهذه الوثبة الجبارة فك عن نفسه قيود المكان المعين والزمان المعين، فإذا أراد الحديث عن الشمس - مثلا - لم تعد به حاجة إلى أن ينتظر شروقها؛ إذ يستطيع أن يتحدث عنها وهي غاربة، مستعيضا عنها باسمها، وإذا أراد أن يتحدث عن البحر وهو في قلب اليابس، لم تكن به حاجة إلى الانتقال من مكانه إلى حيث البحر؛ فاسم البحر يغني عنه في كلامه مع الآخرين.
لكن العقل اليقظان قلما يترك نفسه ليستريح؛ فهو أبدا يثير المشكلات ويطرح الأسئلة، وهو أبدا يحاول أن يجد الحلول لمشكلاته، والأجوبة عن أسئلته، فإذا رأيناه في هذا الموضوع الذي نحن الآن بصدد التحدث عنه - وهو اللغة وحقائقها وأسرارها - إذا رأيناه قد انتهى إلى موقف يستريح له، وهو أن اللغة التي كرم الله تعالى بها الإنسان ليست مقصورة على أصوات أي أصوات، وترقيمات أي ترقيمات، بل يشترط فيها أن تكون تلك الأصوات والترقيمات رامزة إلى «حقائق» حتى لو لم تكن تلك الحقائق مرئية في ساعتها للعين، ولا هي مسموعة بالأذن، أقول إن العقل ما يكاد يبلغ هذا الحد الذي يرضيه، حتي يثير سؤالا، هو: وما طبيعة العلاقة - يا ترى - التي تصل الرمز اللغوي بما يرمز إليه من حقائق الوجود؟
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، يحسن بنا أن نلقي بين يدي القارئ بمشكلة لها صلة بهذا السؤال المطروح؛ إذ قد تكون هذه المشكلة الاعتراضية تمهيدا مفيدا يعين على دقة الفهم، عندما نأتي إلى السؤال الأهم الذي طرحه العقل على نفسه، عن العلاقة بين اللغة التي يتداولها الناس كلاما وكتابة، وبين الحقائق التي جاءت تلك اللغة لتشير إليها، وأما المشكلة الاعتراضية التي أشرت إليها؛ فقد تبدو لك غريبة للوهلة الأولى، لكنك لا تلبث أن ترى جديتها وأهميتها، وهي هذه: ترى هل جاءت اللغة في مفرداتها وفي طرائق تركيبها متجانسة في طبيعتها مع الحقائق الموضوعية التي جاءت تلك اللغة لتتحدث عنها أو أن اللغة - مفردات وطرائق تركيب - مجرد اصطلاح اتفق عليه الناس فيما بينهم وكان يمكنهم أن يتفقوا على سواها؟ إنني أعلم أن أي قارئ لهذا السؤال سيرد من فوره متعجبا كيف ألقاه من ألقاه، والأمر واضح بأن الأمر كله مرهون بالاتفاق الصرف بين أصحاب اللغة المعينة على مفرداتها وطرائق تركيبها، وكان ذلك - على الأقل - عند أصحابها الأولين، ثم جاء الخلف فسار على درب السلف، ويكفي أن نعلم بأن اللغات تختلف باختلاف الشعوب والأمم، فللشجرة - مثلا - اسمها عند العربي، واسمها عند الإنجليزي واسمها عند الصيني، وهكذا وكلها أسماء اختلف فيها الصوت عند النطق، كما اختلف فيها الترقيم عند الكتابة؛ ما يدل على أن كل مجموعة من الناس كان لها اتفاقها الخاص، وإلا فلو كان في طبيعة اللفظة اللغوية ما هو مشابه ومتجانس مع الشيء الخارجي الذي جاءت تلك اللفظة اللغوية لتشير إليه؛ لاقتضى ذلك أن يجيء اسم «الشجرة» واحدا عند جميع الشعوب.
ذلك هو الظن عند الوهلة الأولى، وهو عند كاتب هذه السطور ظن صحيح عند الوهلة الأولى وعند الوهلة الأخيرة على السواء، إلا أن المسألة رغم ذلك أعقد من أن تتسرع برأي فيها، وحسبنا أن نذكر القارئ المسلم على وجه الخصوص، أن الله سبحانه «علم آدم الأسماء كلها» وإذا كانت «الأسماء» هنا إشارة إلى اللغة كلها، بما فيها من طرائق تركيب تلك الأسماء في جمل «وليلحظ القارئ أن التفكير يبدأ عندما تتركب الأسماء في جمل»؛ فإن اللغة عندئذ لا تكون اتفاقا بين الناس كما يشاءون، فإذا رأى راء منا أن اللغة اتفاق بشري ولذلك هي تختلف عدة لغات بين مختلف الشعوب؛ فيلزم أن يفهم ذلك الرائي قول القرآن الكريم بأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، على أنه يعني تعليمه طريقة إيجاد اللغة واستخدامها، ولقد شغل المفكرون من أسلافنا العرب بهذه المسألة، وكان الرأي عند الكثرة الغالبة منهم أن اللغة «توقيف» (هذه هي الكلمة التي استعملوها) بمعنى أنها موحى بها من عند الله، على أن أقلية منهم قد رأت الرأي الآخر، الذي يرى اللغة اتفاقا اصطلح عليه أصحابها، ومن أبرز هؤلاء «ابن جني».
وقبل العرب طرحت المشكلة بين فلاسفة اليونان، وخصص لها أفلاطون محاورة بأسرها، هي محاورة أقراطيلوس (وأشار إليها في محاورات أخرى)، وقد ترجم العرب هذه المحاورة فيما ترجموه من الفلسفة اليونانية، وكانت وجهة النظر التي طرحها أفلاطون في تلك المحاورة هي أن اللغة قد اشتقت من حقائق الأشياء، وقد حرص أفلاطون على أن يورد وجهة النظر الأخرى على لسان «هرموجنيس» الذي كان يحاور «إقراطيلوس»، وكانت الحجة القوية التي عرضها إقراطيلوس ليدل بها على أن اللغة ليست مجرد اتفاق حر بين الناس، قوله بأنها لو كانت مجرد اتفاق؛ لجاز للناس أن يغيروا من اتفاقهم مرة بعد مرة هكذا بغير ضابط، وأن يغيروا فيما يغيرونه، ليس المفردات فقط، بل أيضا قواعد تركيبها، وبالتالي تفقد اللغة وجودها من حيث هي حقيقة تدوم كأي حقيقة أخرى تبنى على العقل، الحق أن ما يقال عن مشكلة اللغة: أهي تتغير بتغير الأمزجة عند الأجيال المتعاقبة أم هي حقيقة تستند إلى طبائع الأشياء الثابتة؟ يقال عن شتى ميادين الفكر المتصل بحياة الإنسان، فمثلا، خذ مجال الأخلاق: أنتركها لما يتفق عليه الناس حتى لو تغير جيلا بعد جيل أم لا بد لها من مبادئ ثابتة تدوم عبر الأجيال؟ أو خذ نظام الأسرة: أنتركه للاتفاق العارض أم نقيمه على أسس ثابتة؟ وهكذا، فإذا قلنا في هذه المجالات إنها لا بد أن تقام على أصول قوية وثابتة؛ وجب أن نقول الرأي نفسه بالنسبة إلى اللغة، لكي نضمن رسوخها على قوائم ثابتة ودائمة من قوانين وقواعد تنضبط بها صياغة المفردات وطرائق تركيب تلك المفردات في جمل، وهذا معناه أن اللغة ليست مجرد اتفاق بين أصحابها تتغير مع تغير الزمن والظروف، ولعل الموقف الأصوب - في رأي كاتب هذه السطور - أن نترك مفردات اللغة لتتغير تغيرا بطيئا مع اختلاف الأوضاع الحضارية، وأن يكون الثبات والدوام مقصورين على طرائق التركيب، ما الذي تجيزه قواعد اللغة وقوانينها، وما الذي لا تجيزه، دون أن يكون للناس رأي في ذلك، فمثلا، تقضي قاعدة اللغة العربية أن الجملة المركبة التي يبدأ مقدمها بكلمة «كلما» ألا تتكرر هذه الكلمة في تاليها، فتقول: «كلما ازداد عدد السكان مع ثبات الموارد؛ انخفض مستوى المعيشة.» ولا نقول: «كلما ازداد عدد السكان مع ثبات الموارد؛ كلما انخفض مستوى المعيشة»؛ فها هنا تكون المسألة مسألة تتعلق «بالصورة» التي يجري عليها البيان، بغض النظر عن طبيعة المفردات الواردة في تلك الصورة، هل أصابها تغير في معناها وفي طريقة استعمالها أو بقيت على حالها منذ عرفت في أول مراحل تاريخها؟ وخذ هذا المثل الآتي على سبيل الجد والفكاهة معا: كانت عربات السكة الحديدية في مصر تحمل على ظاهرها هذه العبارة: «سكة حديد الحكومة المصرية» وتحمل إلى جوارها العبارة الإنجليزية الدالة على المعنى نفسه، لكننا إذا تعقبنا ترتيب الكلمات في العبارتين؛ وجدناها في الإنجليزية تجري هكذا: مصرية حكومة حديد سكة، وهكذا اختلفت اللغتان في «الصورة» رغم اتفاقهما في المفردات؛ ما يبين أن روح اللغة إنما تكون في طرائق التركيب، لا في المفردات من حيث هي كذلك.
كنا قد طرحنا على أنفسنا سؤالا عن العلاقة التي تصل رموز اللغة بما ترمز إليه، ثم تركناه معلقا لنستطرد في توضيح مشكلة أخرى رأيناها ضرورية للتمهيد الذي يجب أن يسبق الإجابة عن ذلك السؤال، وكان التمهيد - كما رأيت - خاصا بمنشأ اللغة: فهل فرضت على الإنسان من خارجه أو كان هو الذي اصطلحها لنفسه؟ ثم ما مدى وجوب الثبات في اللغة؟ وإلى أي حد يجوز للأجيال المتعاقبة أن تغير فيها؟ وها نحن أولاء نعود إلى سؤالنا الأول، وله - عندنا - أهمية قصوى، والسؤال هو: إلى أي شيء ترمز اللغة؟ بعبارة أخرى: إذا أردت أن تعرف عن مادة تقرؤها، أو عن كلام تسمعه، أنه ذو «معنى»؟ ولو كان الناس لا يتكلمون ولا يكتبون إلا لفظا دالا على معنى؛ لما كان هنالك إشكال، لكنهم لا يفعلون ذلك في كثير جدا مما يقولونه أو يكتبونه؛ ما يوجب علينا أن نضع الضوابط الضرورية التي تجعل للغة معنى يراد له أن ينتقل إلى من يتلقى تلك اللغة سمعا بأذنيه أو قراءة بعينيه، على أن رموز اللغة في الحالة الأولى تكون موجات من هواء، وتكون في الحالة الثانية ترقيمات بمادة معينة كالحبر أو غيره، على مادة معينة أخرى كالورق أو غيره، والجواب في إيجاز، هو أن علاقة الرمز اللغوي بما يرمز إليه تجيء في مجال التفكير العلمي على صورة، وفي مجال الأدب - شعرا ونثرا - على صورة ثانية، وأما في أحاديث الناس الجارية، أو كتاباتهم غير المتخصصة؛ فالصورتان تتداخلان بحيث يصعب التحليل إلا على من يمعن النظر في أناة وصبر، وفي حديثنا التالي تفصيل لهذا الإيجاز.
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
صنع الإنسان كلماته ليكون سيدها، فلم تلبث أن أمسكت هي بزمامه، حتى صار لها تابعا! فلقد أنشأت كل جماعة من الناس لغتها لتكون وسيلة وصل بين أفرادها، لكن تلك اللغة التي هي صنيعة الناس، سرعان ما جعلت لهم من نفسها سجنا هيهات أن يفلت من جدرانه وقضبانه إلا قلة قليلة شاء لهم ربهم أن يكون لهم هم السلطان على اللغة التي أبدعوها، فإذا سألت عن أحد من عامة الناس: ما حدود علمه؟ وجب أن يكون الجواب: إن حدود علمه هي نفسها حدود كلماته، وأما إذا سألت عن أحد من تلك القلة القليلة التي أنعم الله عليها بمواهب الإبداع - في العلم أو في الأدب شعرا ونثرا - ما حدود علمه؟
كان الجواب هو: أنه هو الذي يضع لنفسه الحدود؛ لأنه إذا لم تسعفه اللغة القائمة بأدوات التعبير عما يريده، أضاف إليها من عنده جديدا يخدم به أغراض نفسه، فتسير بقية الناس بعد ذلك على دربه.
هذه اللغة العجيبة تحمل في جوفها كل ضروب الصيد، ينطق بها الناطق لتكون نارا تشوي الأنفس والأجساد، فإذا هي النار التي أراد لها أن تكون، أو ينطق بها لتكون نورا يهدي إلى سواء السبيل، فإذا هي النور الذي ابتغى لها أن تكون. إن كلمات ينطق بها إنسان قد تجعل منه وليا من أولياء الله الصالحين، وكلمات أخرى ينطق بها إنسان آخر قد تجعل منه زنديقا فاسقا! إن كلماتنا كالبذور نبذرها لتنبت كل كلمة منها نباتا من جنس ما قد انطوت عليه في جوفها : فشهدا بشهد، وحنظلا بحنظل:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين ، وانظر أيها القارئ إلى قول الله تعالى في هذه الآية الكريمة:
أصلها ثابت وفرعها في السماء ؛ لتعلم أن طيب الكلام هو الذي يخدم حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، وذلك هو «الأصل الثابت»، ثم ينفع صاحبه عند إقامة الميزان يوم الحساب، وذلك هو الفرع الذي في السماء.
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، وأريد للقارئ مرة أخرى أن يقف طويلا عند قوله تعالى:
اجتثت من فوق الأرض ؛ ليعلم القارئ أن ما ليس له جذور في حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، لن يكون له أثر في الميزان.
إنك لترى أبناء الشعب الواحد متفرقين أفرادا، تفصل بينهم فواصل المكان وفواصل الزمان؛ فهذا الفرد هنا وذلك الفرد هناك، وفرد كان بالأمس وفرد كائن اليوم؛ فتسأل: أين الروابط التي جعلت من هؤلاء الأفراد - على تفرقهم - شعبا واحدا؟ والجواب هو: اللغة قبل أي شيء آخر؛ فاعجب لخيوط من هواء تشد الناس بعضا إلى بعض، فإذا هي بينهم كروابط الفولاذ! إن هذه الكلمات التي تصل ناطقا بسامع، أو تصل كاتبا بقارئ، ما هي في حقيقة أمرها إلا نفوس طارت من أعشاشها لتبلغ غاياتها، إنها كالحمام الزاجل يعرف إلى أين يطير؛ وذلك لأن كلماتك - منطوقة أو مكتوبة - هي نفسك انطلقت من محبسها بين الضلوع؛ نعم فآلة التصوير تقدم قسماتك في بعدين، في حين أنها في حقيقتها ذات ثلاثة أبعاد! وأما كلماتك - علمت أو لم تعلم - فهي صورة نفسك بكل أبعادها.
إننا إذ نقول هذا عن اللغة في قدرتها على إخراج ما استتر من خفايا النفوس، لتعبر بها عبورا من السر إلى العلن؛ فإنما نغض النظر مؤقتا - عامدين - عن لغة العلم، التي إذا ما بلغت ذروتها من الدقة؛ أفرغت نفسها إفراغا تاما من كل ما هو ذو شأن بالنفوس وما تخفيه ، حتى ليصبح محالا على الفاحص أن يستشف شخصية العالم من رموزه العلمية، وإن شئت فانظر إلى صفحات من كتاب في الرياضة، أو في الكيمياء، أو في أي فرع من فروع الفيزياء، وحاول أن تستنتج من رموزه شيئا عن ملامح الشخصية عند العالم صاحب الكتاب: أهو منقبض النفس أم هو في حالة من المرح والتفاؤل؟ أهو ذو سخاء وعطاء أم هو قابض يده إلى عنقه؟ لكن الحديث عن لغة العلم وضبطها أمر قد نتناوله في موضع آخر من هذا الحديث.
أما الآن فأنظارنا موجهة إلى اللغة «المعبرة» وقدرتها العجيبة التي قد لا يتنبه عليها إلا من تعمد الوقوف عندها متأملا، وإنه ليبدو لي الآن أن الإنسان حين عرفوه (بتشديد الراء) بأنه الناطق، تمييزا له من الحيوان الأبكم، الذي هو حتى إذا صرخ صرخاته المسموعة، أو حتى إذا غرد تغريدا تطرب له آذاننا، كما يفعل الكروان والبلبل؛ فهو يظل إلى البكم أقرب منه إلى حالة الإفصاح، لأن المعول في التفرقة ليس الصوت مجرد الصوت، وإنما هو أن يجيء الصوت «معبرا» عما هو كامن في طوايا النفوس، أقول إنه ليبدو لي الآن أنهم حين عرفوا الإنسان بأنه الحيوان «الناطق» كان المقصود بالنطق قوة «التعبير» بالإضافة إلى غيره من الصفات كالتفكير، أو ما شئت؛ وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى معنى «العبور» المضمر في كلمة «تعبير»؛ فلقد أصبح الإنسان إنسانا بلغته التي اصطنعها ليجعل منها وسيلة «عبور» ينتقل بها مكنون نفسه إلى الآخرين، وإلا فلو أن كل فرد إنساني قد لبث مغلقا على سره، بحيث يصبح أفراد الناس كالجزر الصماء في المحيط العظيم، كل جزيرة منها استقلت عن الأخريات، أقول لو أن مثل هذه العزلة الموحشة كانت هي قدر الإنسان، ثم أضيفت عزلته تلك إلى الصمت الرهيب الذي يلف في عبوسه جسم الكون الهائل الذي يحيط به؛ إذن لأصبحت حياة الإنسان مساوية لموته، أما الذي أجرى فيه الحياة مع غيره فهو لغته «المعبرة».
فنحن - إذن - إنما نوجه اهتمامنا الآن إلى اللغة وهي أداة «تعبير »، مرجئين الحديث عن لغة العلم التي يراد لها - عمدا - أن تشير ولا تعبر؛ فنقول إن أفراد الناس يتفاوتون تفاوتا شديدا في قدراتهم على أن تجيء كلماتهم مجنحة لتستطيع بأجنحتها تلك أن تطير مرتين: إحداهما وهي تطير حاملة مكنون النفس من مخبئه ليظهر إلى الناس، والثانية إذ هي تطير عبر المكان البعيد، وعبر الزمان المديد، لتبلغ مسامع الناس في أوانها وفيما يلي أوانها من عصور تتوالى إلى ما يشاء لها الله أن تتوالى. أقول إن أفراد الناس، رغم اشتراكهم في لغة واحدة، فهم يتفاوتون في القدرة على أن تجيء عبارتهم «ناطقة» حقا، «معبرة» حقا، مفصحة حقا عن حقيقة «الإنسان» كما هو متمثل في الفرد المتكلم. إن كلمات الأفراد قد تتشابه ظاهرا كما يتشابه الطير، ولكن تفاوتها البعيد بعد ذلك يظهر عند الطيران، فكما أن في عالم الطير نسورا وعقبانا تشق الفضاء كأنها الرماح أطلقتها أيدي الفرسان، وبغاثا من الطير لا يكاد يعلو عن سطح الأرض، مكتفيا لقوته بفتات ذابل تناثر هنا وهناك؛ فكذلك في الناطقين باللغة الواحدة من تضمن كلماته بقاء الخلود، ومنهم من تفنى كلماتهم على شفاههم قبل أن يموج بها الهواء.
وموضع العجب الذي لا ينقضي، هو أن كلمات اللغة، وطرائق تركيب تلك الكلمات في جمل، بعد أن صاغتها جماعات الناس، ليستعان بها في الإشارة إلى الأشياء التي قد يدور عنها حديث بين متكلم ومخاطب، أخذت تلك الكلمات نفسها - على امتداد تاريخها - تعبأ بمضمونات تمس مشاعر الإنسان، حتى لقد تضاءلت قيمة الوظيفة الإشارية منها، وارتفعت قيمة ما قد أضيف إليها من مشاعر الإنسان بما كابد وما عانى، وعندئذ أصبحت أداة صالحة «للشعر»، كما أصبحت قادرة، بأجنحتها المكتسبة، على الطيران عبر المكان وعبر الزمان، على النحو الذي ذكرناه. وإذا كنت قد استخدمت كلمة «الشعر» هنا، مشيرا بها إلى اللغة التي اكتسبتها خبرات الحياة أجنحة تمكنها من العبور والطيران، فإنما قصدت بكلمة «الشعر» كل عبارة تجاوزت وظيفة اللغة الأولى والأساسية، وهي «الإشارة» إلى مسميات في دنيا الأشياء، وهي نفسها الوظيفة التي يقف عندها، ويكتفي بها «العلم»؛ فالعلم يقول الكلمة المعينة ليشير بها إلى شيء معين، ويرفض أن يزاد عليها معنى أو ينقص منها معنى؛ حتى يضمن لها دقة الأداء. وأما «الشعر» (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) فيكاد يسقط من حسابه الجانب الإشاري من الكلمات، ليطير بمضمونها الشعوري المضاف إلى حيث تستطيع موهبته أن يطير؛ ومن هنا كان الشعر في لغة ما، هو زهرتها، أو قل هو موضع العبقرية فيها.
ولكي أوضح ما أعنيه؛ افرض أنك وجدت في غرفة مجموعة الأشياء الآتية: سيف، ورمح، وورقة، وقلم، وسئلت: هل تعرف أسماء هذه الأشياء؟ فإنك لا شك مجيب: نعم، إني أعرف أسماءها فهذا سيف وهذا رمح، وهذه ورقة، وقد يسمونها كذلك «قرطاسا»، وهذا قلم، لكن سائلك ربما مضى معك في الحديث، وأخذ يسأل: وهل تعرف ما تسميه «خيلا»؟ وتقول أنت: نعم، أعرف الخيل، وهكذا يسألك عن مسميات «الليل» و«البيداء» وهكذا أيضا يجيء جوابك بأنك تعرف معانيها جميعا، فإلى هنا لا يكون سائلك ولا تكون أنت قد جاوزتما الوظيفة «الإشارية» للكلمات؛ فأنتما تعرفان لكل كلمة من الكلمات المعروضة مسماها، وتلك هي اللغة في أولها وأساسها، لكن اقرأ بعد ذلك قول المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
اقرأ هذا البيت، وكلماته هي نفسها الكلمات التي عرفت مسمياتها في دنيا الأشياء أضيف إليها كلمة واحدة، هي «تعرفني»، وبهذه الإضافة اليسيرة، تنتقل معرفتك بقائمة الأسماء المذكورة إلى فلك آخر من أفلاك السماء؛ فلم يعد يراد بالخيل أن يكون خيلا، ولا بالليل أن يكون ليلا ... إلى آخر الأسماء الواردة في القائمة المذكورة، بل تحولت كل هذه الأشياء من حالة كونها جمادا لا يعقل ولا يشعر ولا يعرف، إلى حالة كونها كائنات عاقلة شاعرة عارفة، تستطيع أن تميز إنسانا يجيد استخدامها من إنسان يجهل طبائعها، وانظر إلى دخيلة نفسك عندئذ؛ تجدها لم تعد تعنى بتلك الأشياء في ذاتها، بل انتقل انتباهها إلى «الرجل» الذي ملك بقدراته زمام تلك الأشياء جميعا. تأمل نفسك جيدا؛ تجدها قد ارتفعت عن دنيا «الأشياء» وأسمائها، إلى عالم آخر، هو عالم «القيم» التي تميز الإنسان من سائر الكائنات، ثم تعود فتميز إنسانا من إنسان، وهي - هنا - قيم الشجاعة، والمغامرة، والفروسية والشعور المرهف، وفوقها جميعا قيمة القدرة على «التعبير» عن هذا كله. ومن أجل تلك القدرة السامية، وهي نفسها التي تميز بها المتنبي شاعرا؛ عرفه القرطاس وعرفه القلم، فإذا أمسك بقلمه عرف القلم أن قد أمسكت به أصابع شاعر، وإذا جرى القلم على القرطاس عرف القرطاس أنه في ذمة من يعرف كيف يكتب اللفظ الشريف، وهكذا ترى أن اللغة لم تعد وظيفتها أن «تشير» إلى مسميات، بل انتقلت إلى فلك أسمى هو فلك الخبرة الإنسانية بكل ما تكابده وتعانيه، وهي نفسها الخبرة التي تجمع في العمل الأدبي الواحد وظيفتين قد تبدوان وكأنهما نقيضتان، وهما: أن يكون في العمل الأدبي خصوصية صاحبه الفرد المفرد الفريد، وأن يكون فيه في الوقت نفسه إنسانية الإنسان أينما كان وأنى كان.
والكاتب كالشاعر، لا يستحق نعته كاتبا، كما لا يستحق الشاعر نعته شاعرا، إلا إذا جاءت الكلمات على قلمه «تعبيرا»؛ وأظننا قد عرفنا الآن أن صميم التعبير هو «العبور» بالسر الإنساني من الخفاء إلى العلن، ولقد كثر الخلط بيننا اليوم؛ فلم نعد نفرق بين العبارة يجري بها قلم «الكاتب»، أو بيت للشعر ينبض به قلم الشاعر، وبين ما يرويه ناقل الخبر، أو ما يعترك به المدافع عن سياسة ضد سياسة، أو من يبين لنا كيف نحول الجنيه إلى دولار .. كل هذه أمور تقع في صميم حياتنا، وإذا لم يكتب عنها خالد، فلا بد أن يتولاها بالكتابة عمرو؛ هذا صحيح، لكنها عندئذ تكون كتابة فيها وظيفة «الإشارة» إلى الأشياء والمواقف، تزول بزوالها وتبقى ببقائها، أما أدب الكاتب وشعر الشاعر فشيء آخر يريد أن يكون في الموسيقى الكونية قيثارة، يريد أن يغوص في خصوصية ذاته ليخرج منها الاسم ومسماه، ليبلغ بها ذلك العالم الكامن وراء الأشياء، من إرادة تريد، وعقل يدبر، وقلب يتعاطف ويرحم.
لكن عصرنا - أقول لك الحق - قد اختار أن يضيف إلى كل حسناته من علم ومغامرة؛ سيئة أخشى أن تذهب حسناته، وأعني بالسيئة ذلك الطوفان من الكلمات التي تهدر بها المطابع، تهدر بها وتصرخ بها وسائل الصوت والصورة، تهدر بها وتصرخ بها، حاملة للناس ما يرتفع بأقدارهم مرة، وما يهبط بتلك الأقدار ألف ألف مرة، وربما كان من أجل هذا الصخب الفارغ، قال «كافكا» يوما ضاقت فيه نفسه: إنني أكثر احتراما لنفسي صامتا مني متكلما.
ولكن ماذا عن «العلم» ولغته أنت يا أيها الداعي إلى العلم في صبحك ومسائك؟ نعم، فلننتقل الآن إلى العلم ولغته، بعد أن قلنا ما قلناه عن شعر «الشاعر» وكتابة «الكاتب»، وقبل أن أنتقل بك إلى تحديد الفارق الأساسي بين المجالين، أريد أن أجنبك خلطا قد تقع فيه، بين ما هو «علم» وما هو «لغو» لا يعني شيئا، ولا ينفع الإنسان في شيء؛ فلا هو من قبيل الشعر والأدب من حيث أنسنة الإنسان، ولا هو علم من حيث الإحاطة بالقوانين التي تجري عليها ظواهر الكون ليستطيع الإنسان أن يلجم تلك الظواهر ليسير بها حيث يشاء؛ فطوفان الكلمات التي أشرت لك إليه منذ بضعة أسطر معظمه لغو فارغ، وأقله «علم» و«أدب» و«شعر»، فبماذا تتميز الصيغة اللفظية عندما يحق لنا أن ندرجها في زمرة الحقائق العلمية؟
الفرق بعيد بين اللغة العلمية من جهة، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية من جهة أخرى؛ وأول فرق أشير إليه، لنفرغ منه فروعه المهمة، هو أنه بينما اللغتان الأخيرتان، وأعني لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية، تستخدمان اللفظ بجانبيه: الإشاري والتعبيري؛ أي إنهما إذ تراعيان - بالطبع - أن يجيء الكلام مشيرا إلى الجانب المقصود من جوانب الواقع، وذلك حين يكون الحديث حديثا عن واقع معين؛ فهما كذلك يستعملان اللفظ بشحنته الشعورية التي يكون ذلك اللفظ قد اكتسبها بالاستعمال على امتداد الزمن. وإن هاتين اللغتين: لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية؛ لتتفاوت عند الناس درجات القوة أو الضعف فيهما بمقدار ما يحملانه من تلك الشحنة الشعورية التي أشرنا إليها. وأما اللغة العلمية، ولا سيما في العلوم التي تقدمت من حيث الدقة، كالفيزياء والكيمياء؛ فالمثل الأعلى عندها هو أن يتجرد الرمز العلمي من كل أثر للشحنة الشعورية، حتى ليفضل رجال العلوم أن يصطنعوا رموزا يجعلونها لغة لهم في المجال العلمي؛ لتجيء تلك الرموز خالية من آثار الاستعمال اليومي في حياة الناس الجارية، وإذا هم لم يستطيعوا ذلك - كما هي الحال غالبا في العلوم الإنسانية، كعلوم الاقتصاد، والاجتماع، والنفس - فلا أقل من تعريف الألفاظ الأساسية الواردة في غضون العلم المعين، تعريفا يحدد المراد منه تحديدا دقيقا؛ والغاية من ذلك التحديد هي أن يخلو اللفظ مما علق به من ميراث الوجدان التي بطبيعتها قد تختلف باختلاف الأفراد؛ كي يكون الباحثون جميعا في مجال علمي معين على اتفاق تام بالمعاني المقصودة من مصطلحات مجالهم.
ويتفرع عن ذلك التحديد لمعاني الرموز أو الألفاظ المستخدمة في العلوم؛ فرق آخر بالغ الأهمية في التمييز بين لغة العلم في ناحية، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معا، في ناحية أخرى؛ وهو أنه بينما الناس في هاتين اللغتين، يأخذون الكلمات بمعانيها الانطباعية، أي إنهم يكتفون بمجمل المعنى كما يبدو في ظاهره؛ ترى العلماء في شتى مجالات العلوم يحللون الأشياء المسماة بتلك الكلمات تحليلا يدعوهم إلى أن يستبدلوا باللفظة المعينة مما يستعمله الناس رموزا أو ألفاظا أخرى تتعدد بتعدد العناصر الجزئية التي انحل إليها الشيء الذي أخضعوه للتحليل، فمثلا: لا بأس في لغة الشعر والأدب، وفي لغة الحياة الجارية على السواء، في أن يسمى الماء باسمه «ماء»، أما في دنيا العلم؛ فإنهم يحللون الماء، فيجدونه مؤلفا في كل ذرة مائية منه، من ذرتين من ذرات الهيدروجين، وذرة واحدة من ذرات الأوكسجين، فيلخصون هذا التركيب ويقولون - بدل كلمة «ماء» - «2 يد أ»، وتكون هذه الصيغة هي ما يستعمله العلماء كلما أرادوا أن يقولوا «ماء».
ولعلك تلحظ أن موضع الاختلاف بين كلمة «ماء» في لغة الشعر والأدب والحياة الجارية، وبين الصيغة: «2 يد أ» في لغة العلم؛ هو أن الاسم في الحالة الأولى يبرز «الكيف»، أي إنه يهتم بوقع الشيء على الحواس، بينما هو في الحالة الثانية يبرز «الكم»؛ أي المقادير المحددة من كل عنصر من عناصر الشيء، وواضح أن من يكفيه أن يقول عن الماء إنه «ماء» لا يهتدي بهذه التسمية إلى الطريقة التي «يصنع» بها ماء، أما الذي يشير إلى الماء يقوله «2 يد أ» فهو في الوقت نفسه يرسم الطريق أمام من يريد صناعة الماء؛ إذ ما عليه إلا أن يحصل على الهيدروجين من مصادره، وعلى الأوكسجين من مصادره وبتجربة علمية يدمج هذا بذاك فإذا بين يديه «ماء» بعد أن لم يكن.
إن لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معا، قد درجتا على أن تضيفا إلى التركيب اللغوي إضافات وزوائد، لها معانيها في مجرى الشعور الباطني عند الإنسان المتكلم، ولكن ليس لها ما يقابلها في وقائع الدنيا الخارجية؛ ولذلك يستغني عنها رجال العلم عندما يصوغون علومهم في لغة علمية؛ فمثلا، لا بأس عند الأديب، وعند الإنسان في حياته الجارية، أن يقول: ألا ما كان أسعدها من لحظة عندما التقيت صديقي! فالحالة الواقعة هنا، التي تكتفي بها الصياغة العلمية هي: «التقيت صديقي»: وأما سائر الكلمات الواردة في الجملة الأولى فلها أهميتها ولها معناها، لكنها أهمية ومعنى يتصلان بدخيلة المتكلم في ذات نفسه، لكنها بغير معنى بالنسبة إلى عالم الواقع الذي حدث في خارج الإنسان، والذي هو مجال النظر العلمي.
ومما يترتب على الفرق بين النوعين: لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية من جهة، ولغة العلم من جهة أخرى؛ أن الكلام في الحالة الأولى يجيء متداخل الأجزاء متشابك الخيوط، حتى لقد ترى كلاما تظنه جملة واحدة، تقبلها معا، أو ترفضها معا، أما في الحالة الثانية فالأغلب أن يجيء الكلام مفصل الأجزاء؛ حتى يمكن الحكم على كل جزء على حدة بالصواب أو بالخطأ، دون أن يمتد ذلك الحكم ليشمل الأجزاء الأخرى. وأسوق لذلك مثلا هذه العبارة: «مات ملك المدينة الفاضلة أمس»؛ فها هنا يغلب على السامع من عامة الناس أن يأخذ الجملة وكأنها خبر واحد أوردته جملة واحدة، يقبلها معا أو يرفضها معا؛ وأما صاحب النظرة العلمية فيحلل - أولا - هذا المركب اللفظي إلى الجمل التي يشتمل عليها، ففيها: (1) هنالك «مدينة فاضلة»، وقد يكون ذلك وحده زعما باطلا، وقد يكون خبرا صحيحا و(2) لهذه المدينة الفاضلة ملك، وقد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون، فربما كان هناك بالفعل «مدينة فاضلة» لكن الذي يحكمها ليس ملكا؛ و(3) وهذا الملك مات، وربما صدق هذا الخبر أو كذب، و(4) وأن موته حدث أمس، وأيضا هنا نقول إنه ربما صح أن ملكا كهذا كان بالفعل موجودا، وإنه حقا قد مات، لكنه موت وقع في تاريخ غير الأمس.
ذلك نموذج مصغر يبين لك كيف يتلقى الخبر المعين من لم يدرب على تحليل علمي للحقائق، وكيف يتلقاه صاحب النظرة العلمية؛ فالأول متأثر بلغة الحياة الجارية والثاني متأثر بلغة العلم.
والكلام في لغة العلم يطول إذا أردنا إحاطة شاملة لكل خصائصه، وأطول منه كلام يطمع صاحبه في إحاطة شاملة لخصائص اللغة عندما تكون شعرا، أو أدبا من أدب النثر، وإحاطة شاملة لكل خصائص اللغة الجارية في حياة الناس اليومية. ولئن كانت «اللغة» - أيا كانت صورتها - في حد ذاتها ظاهرة تدعو إلى العجب إذا ما تأملناها؛ فلعل أعجب ما فيها هو أنها تستعصي على التحليل الكامل الشامل، لأننا إذا ما حاولنا مثل ذلك التحليل، تحللت أنسجة اللغة بين أصابعنا، وفقدت الصفة التي من أجلها كانت لغة. والأمر في هذا يشبه أن تعبر خندقا على ألواح رقيقة من الخشب، فأنت تعبر سالما إذا خطوت على الألواح الخشبية في خفة، كالتي أرادها أبو العلاء المعري حين خاطب السائر على أديم الأرض بقوله: «خفف الوطء ...» وأما إذا ركبت رأسك، وأصررت على أن تخبر طبيعة الألواح الخشبية الرقيقة على حقيقتها، فأخذت تقفز عليها بجميع ثقلك؛ فلا عبرت أنت الخندق، ولا بقيت الألواح.
وصولا إلى حرية وعدالة
لم تكن هذه أول مرة، ولا كانت المرة العاشرة، التي وقفت فيها عند آيات كريمة في «سورة البلد»، مرهفا كل ما أملك من قوة الإدراك والفهم، وفي كل مرة كنت أجدني أمام صورة كاملة متكاملة الأطراف لمجتمع ارتفعت ثقافته فارتفعت حياته، إلا أن الصورة كما وردت في جملة الآيات الكريمة، مكثفة تشد قارئها نحو العمق، أكثر جدا مما تسير به نحو الطول والعرض، ومتروك للقارئ أن يعمق من عمقها؛ ليعود فيتسع بالمعنى، ليرى كيف يمتد فيشمل حياة الإنسان في مجتمع كبير، تتشابك فيه الصلات والمعاملات بين أفراده، نعم، لطالما تأملت المعنى في هذه الآيات الكريمة من سورة «البلد»: ... ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ... .
ولقد كان مما دعاني إلى طول الروية أمام هذه الآيات الكريمة؛ أنني رأيت فيها صورة لم تكن هي التي رآها المفسرون، ورأيت كذلك أن الصورة التي ارتسمت في ذهني من هذه الآيات الكريمة ترسم قواعد البنيان لحياة الإنسان في مجتمع قوي سليم أوضح مما يرسمه تفسيرها الشائع، وأستغفر الله إن كنت على خطأ، وربما كان محور الاختلاف في الفهم والرؤية، هو معنى كلمتي «النجدين» و«العقبة»، على نحو ما سوف أبينه.
وردت إشارة في الآيات الأولى من سورة «البلد» إلى من كثر ماله، ولكنه لم ينفق منه بما كان ينبغي له، ومع ذلك فهو يدعي أنه أهلك مالا كثيرا، حاسبا أن أحدا لم يره على حقيقته، وبعد تلك الإشارة جاءت الآيات الكريمة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، وفيها استنكار لموقف ذلك الثري المغلولة يده إلى عنقه:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة ...
فيقول الطبري في تفسيره: «عينين يبصر بهما حجج الله عليه ...» و«لسانا يعبر به عن نفسه» و«شفتين نعم من الله» و«النجدين أي الطريقين؛ طريق الخير وطريق الشر» و«العقبة قيل إنها جبل في جهنم»، وأما كاتب هذه السطور، العبد الفقير لله سبحانه وتعالى، والعارف بفضل الأئمة العلماء، والطبري أحدهم بلا أدنى شك في ذلك، أقول إن كاتب هذه السطور لم يسعه إلا أن يعاود الوقوف عند هذه الآيات الكريمة؛ لعله يجد في كلماتها مبررا لمثل ما ذهب إليه الطبري، فضلا عن قصور ما ذهب إليه، في أن تتكامل أمام الذهن صورة مترابطة الأطراف، يهتدي بها من يشاء له الله تعالى أن يهتدي؛ فلماذا يشير الطبري إلى «العينين» بأنهما تبصران حجج الله على ذلك الثري المقبوض اليدين؟ وكان الأقرب أن يجعل «العينين» تبصران كما تبصر الأعين؛ فتريان خلق الله ليستمد صاحب العينين علما وعبرة، كما سأبين بعد قليل، ثم لماذا لم يربط «اللسان» ب «الشفتين» في جهاز واحد - كما هما على الحقيقة - وهو جهاز النطق باللغة بكل ما يترتب على هذا المعنى من نتائج بعيدة المدى في هذا السياق الذي نحن الآن بصدده؟ وعلى أي أساس معقول ومقبول - بالنسبة إلى سياق الكلام الذي بين أيدينا - يجعل «النجدين» مجرد طريقين ثم يجعل طريقا منهما يشير إلى الخير وطريقا آخر يشير إلى الشر؟! إن «النجد» هو مرتفع من الأرض وهو ما نسميه بالمصطلح الجغرافي المعروف «هضبة»، ويقابل النجد «الوهد» الذي هو الأرض المنخفضة، فهل هو من حق المفسر أن يحذف من معنى اللفظة المعينة أهم جانب من جوانب معناها ثم يقيم تفسيره بعد ذلك على الجانب المتبقي على نقصانه؟! إن من يفهم كلمة «النجدين» مطروحا من معناها «الارتفاع» مع خشونة الحجر وغلظته؛ يكون قد فوت على نفسه مفتاحا مهما يعينه على فهم السياق كله فهما أصح وأنفع، وأخيرا يجيء أعجب ما نعجب له في تفسير الطبري، وذلك عندما يقول عن «العقبة» قيل إنها جبل في جهنم! كيف ذلك والآيات الكريمة التي تلتها مباشرة قد فسرتها بما يقطع بالمعنى المقصود؛ إذ تقول:
وما أدراك ما العقبة ... ، وهو سؤال يعقبه جوابه، الذي هو أن العقبة (التي لم يستطع ذلك الفتى البخيل اقتحامها) إنما هي أن تفك رقاب العبيد ليصبحوا أحرارا، وأن يقدم العون إلى المعوزين في يوم المجاعة، ولماذا يكون هذان الأمران «عقبة» يصعب اقتحامها على كثيرين؟ ذلك ما أرجئ الجواب عنه لأضعه في مكانه من الصورة المتكاملة المترابطة، التي تصورتها للمجتمع الإنساني الكامل، بناء على مجموعة الآيات التي ذكرناها من سورة «البلد».
والآن فلنعد لنبدأ من البداية، فلقد أشير إلى ذلك الثري القابض يده عن الإنفاق فيما ينفع الناس، بهذه الآيات:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين
فها هنا تستطيع أن تلمح مقدمتين، ونتيجة تنبني على هاتين المقدمتين، وأما المقدمتان فهما أن وهب الإنسان جهازين، بينهما رباط وثيق يجعل الجهاز الأول منهما مؤديا بالضرورة إلى الجهاز الثاني، وهما على التوالي جهاز الإبصار - بالمعنى المباشر للكلمة - وجهاز اللغة؛ فالبصر أداة بين أدوات أخرى، هي أعضاء الحس، ولعل أهمها في الوظيفة التي تؤديها، وما تلك الوظيفة إلا «إدراك» الإنسان لما يحيط به؛ فلم يكن في وسع الإنسان أن يخطو في حياته خطوة واحدة، إلا إذا كان على معرفة ما، بالمحيط الذي يتحرك فيه، وإلى هنا يتساوى إنسان وحيوان، فلكل كائن حي مما له القدرة على الحركة في أرجاء المكان بمختلف اتجاهاتها (ومن هنا نستثني النبات لأنه مقيد الحركة بالنسبة إلى الحيوان والإنسان؛ إذ الغالب فيه أن تمتد جذوره إلى أسفل، وفروعه إلى أعلى، مع التزامه موضعا بذاته)؛ أقول إن لكل كائن حي مما وهب القدرة على الحركة في مختلف الاتجاهات؛ أدوات يدرك بها ما حوله ليعرف كيف يتجه وإلى أين يتجه، وتلك الأدوات الإدراكية هي «الحواس» التي فيها حاسة البصر.
لكن الإنسان والحيوان إذا تساويا إلى هذا الحد؛ فإن الإنسان ينفرد بعد ذلك بدرجات متصاعدة من الإدراك، يقف دونها سائر الحيوان، وتبدأ تلك الدرجات الإدراكية المتصاعدة في حياة الإنسان بالقدرة على «النطق» مستعينا بجهاز عضوي خاص، أهم أجزائه اللسان والشفتان، وليس المراد ب «النطق» هنا مجرد أصوات حيوانية، كالتي يصيح بها الحيوان والإنسان معا في لحظات الذعر أو لحظات الرضا، بل المراد هو النطق الذي صيغت أصواته في «كلمات»، وهنا تتحقق للإنسان المعجزة الإلهية التي صيرته إنسانا، وقد أحسن من أراد تعريف الإنسان تعريفا يبين جوهره المميز، فقال إنه «الحيوان الناطق» بمعنى أن فيه كل ما في الحيوان من صفات أساسية كالاعتدال، والنمو، والتناسل، والحركة، ولكنه أضاف إليها جانبا تميز به وانفرد، وذلك أنه نطق باللغة، واللغة تتعدد إلى لغات، إلا أن اللغات البشرية جميعا تتلاقى في أساس مشترك هو القدرة الفطرية التي تتشكل بعد ذلك أشكالا مختلفة هي اللغات. وقد تسأل: وما هي طبيعة تلك القدرة الفطرية في الإنسان؟ وأجيبك بأنها القدرة على «الرمز»؛ أي أن ينيب المتكلم عن الشيء الغائب «رمزا» يقوم مقامه في تبادل الحديث، وبهذه القدرة الرامزة اتسعت آفاق الحياة الإنسانية؛ فانتقلت من محدودية الحيوان في مكانه وزمانه، وفي الأشياء التي تقع في دائرة إدراكه الحسي، إلى انطلاق لا تحده الحدود؛ إذ أصبح في مستطاع الإنسان أن يستعين برموز اللغة، فيستحضر بين يديه ما ليس حاضرا، مما كان، ومما سوف يكون، ومما هو كائن خارج دائرة إدراكه الحسي.
ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه يجاوزه إلى آماد، الله أعلم بأبعادها، إذا عرفنا عن «اللغة» حقيقة أخرى جوهرية، والعجب أن نجدها إلى يومنا هذا موضع خلاف بين المشتغلين باللغة ومنطقها وطبيعة أدائها لما تؤديه، وتلك الحقيقة هي أن اللغة هي نفسها «الفكر» فإذا تكلم إنسان فقد فكر في حدود ما تكلم، وإذا فكر - حتى وهو صامت فيما يبدو للناس - فقد تكلم بمقدار ما فكر، وحاول أن تستبطن ذاتك وأنت تفكر في «صمت» تحس بحركات في جهاز النطق، هي نفسها الحركات التي لو ارتفعت فيها الدرجة لأصبحت كلاما مسموعا، ولن أطيل الوقوف عند هذه النقطة رغم أهميتها البالغة؛ لأنني على شيء من العلم بما يتفرع عنها من اختلافات في الرأي.
وبعد هذا فلنقرأ معا قول الله عز وجل:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين ...
ومعناه ألم نخلقه إنسانا مزودا بأدوات تكشف له عما حوله ليتدبر أمره معها، كما زودناه فوق ذلك بجهاز كامل، يحول به المادة الخامة التي جاءته عن الأشياء المحيطة به، إلى «فكر» مجسد في لغة؟ لكننا نلحظ في الآية الكريمة أن القول يشير إلى مفرد غائب، يدل على ذلك ضمير الهاء في كلمة «له»؛ فالمقصود - إذن - هو رجل واحد ولننظر خلاله إلى النوع الإنساني كله، وهنا أجد نفسي مضطرا إلى الحديث مرة أخرى عن اللغة وأداتها هنا اللسان والشفتان، وحديثي عن اللغة هذه المرة منصب على خاصة من أعجب خواصها، ولعلها كذلك تكون من أبعدها دلالة ومغزى، وتلك هي أن اللغة المعينة عند شعب معين، وإن تكن لغة واحدة يشترك فيها كل المتكلمين بها؛ فإن الحصيلة اللغوية التي استخدمها فرد معين في حياته يستحيل أن تتكرر كما هي في فرد آخر، وأكرر كلمة «يستحيل»؛ حتى ينتبه القارئ على الفردانية اللغوية، التي كأنما هي إعجاز من الإعجاز. إن الأمر في هذا يشبه أن يقيم ملايين الأفراد حول محيط مائي واسع، وكل فرد من هؤلاء الناس، يملأ إناءه من المحيط، فإن يكن المصدر واحدا؛ فإن لكل صاحب إناء نصيبه من الماء الذي ليس هو بعينه نصيب أحد آخر سواه. وبتشبيه آخر، افرض أننا زودنا كل مولود بشري بشريط للتسجيل الصوتي، ليسجل عليه كل ما ينطق به صاحبه طوال حياته - أو حتى خلال يوم واحد - ثم قمنا بمقارنة نجريها بين أشرطة الأفراد، لنرى كم تتشابه وكم تختلف؛ فإننا عندئذ لواجدون في كل شريط فردانية، بحيث يكون محالا أن نجد شريطين متطابقين؛ فاللغة عند الجميع واحدة وحياتهم مشتركة بينهم، ومع ذلك فالمركب اللغوي الذي عاش به فرد معين يستحيل أن يطابق مركبا لغويا عاش به فرد آخر، لا في عصره فقط، بل في كل العصور التي تكلمت اللغة نفسها في أي مكان على الأرض.
هي فردانية عجيبة، يتميز بها الفرد عمن سواه، ربما أكثر مما يتميز ببصمة إبهامه، ومع ذلك فاللغة المشتركة تظل لغة واحدة وإن تعددت صور تركيباتها بين الأفراد، تعددا يبلغ عدد الأفراد، وإذا كانت لغة الإنسان هي فكره، وفكره هو لغته التي نطق بها أو كتبها؛ فإن ذلك لا ينفي وحدة قاموسها، ووحدة قواعدها في التركيب. وعند هذا التوحد يجتمع أبناؤها لغة وفكرا ، على أن التنوع الشديد في صور التركيبات اللغوية، عند مستعمليها، إنما يبلغ أبعد مداه عند مستوى التعامل بين الناس، حتى إذا ما أخذنا في الصعود باللغة إلى مستويات أعلى، من حيث التعميم والتجريد، كمستويات التفكير العلمي بدرجاتها المتصاعدة؛ أخذ ذلك التنوع تضعف حدته، وتضيق زاويته لنصل إلى درجة نجد عندها علماء الفرع الواحد، على اتفاق في صيغ القول المتصل بمجال فرعهم العلمي.
ولنعد - مرة أخرى - إلى الآية الكريمة:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين
لنعلم منها مقدار ما لا بد أن يكون ذلك الغني المقبوض اليدين على ماله، قد تفرد به قولا وفكرا، ولنعلم كذلك ما لا بد أن يكون بينه وبين غيره من أفراد الناس من نقط التقاء، تجعل منهم قوما، أو قبيلة، أو أمة، وهنا ننتقل بحديثنا إلى الآية الكريمة التالية على ذكر العينين واللسان والشفتين، وهي:
وهديناه النجدين
وتذكر ما قلناه عن «النجد» الذي هو مرتفع من الأرض، قد يصعب الصعود إليه من بطون الوهاد، والنجدان هنا هما هدفان للإنسان إذا أراد لنفسه حياة كريمة رفيعة المقام، فإن يكن في الصعود إلى ذينك الهدفين مشقة؛ فهي مشقة في سبيل الصعود إلى ما هو أعلى، والسعيدة السعيدة من الأمم هي الأمة التي تشق طريقها إلى قمة النجد، والشقي الشقي هو شعب خائر الهمة، يعجز دون اقتحام العقبة، ولست أرى كيف تكون العقبة «جبلا في جهنم» كما ورد في تفسير الطبري، ثم ماذا يفيدنا في حياتنا أن نجعلها كذلك، إنما العقبة هي كما جاء في الآيات التاليات: أن تفك الرقاب المغلولة بأغلال العبودية - بشتى صنوفها وأشكالها - وأن يتعاون الناس، قادرا مع عاجز، وقويا مع ضعيف، وغنيا مع فقير، للتغلب على مشاق الحياة وصعابها، لكن لماذا يكون هذان الهدفان الساميان «عقبة» تستعصي على الاقتحام؟ والجواب هو أن ذلك يكون إذا ما جعل الإنسان السيادة لغرائزه، وللغريزة اندفاعها الذي لا يحده إلا عقل يحكم، وأخلاق تضبط، ومن تلك الغرائز الطاغية، حب التملك، وحب المال، لما يتضمنه من قوة وسيادة، فمن ملك رقيقا، وكانت السيادة في كيانه متروكة للغريزة، صعب عليه أن يحرر عبيده، ومن امتلأت خزائنه بالمال، وأحس به قوة وسيادة، صعب عليه كذلك أن ينفقه في سبيل حياة كريمة بينه وبين آخرين.
تعالوا نستجمع معا عناصر الصورة التي تناثرت بين أيدينا في الفقرات السابقة، لنرى كيف قدمت مجموعة الآيات الكريمة من «سورة البلد» لوحة متماسكة مترابطة الأجزاء واضحة الأصول والفروع لحياة الإنسان في مجتمع سليم، فقد جاءت مقدمة الصورة في إشارة إلى خلل في جسم المجتمع القائم، مما يستوجب التغيير في سبيل الإصلاح، وكان الخلل مجسدا في صورة رجل كثرت أمواله وامتد ثراؤه، ولضعف في تكوينه الخلقي؛ اختار الرجل أن يعيش بين الناس منافقا بوجهين، يقبض يده على ماله بوجه، وبوجه آخر يعلن في الناس أنه أهلك ماله في سبيلهم، ولو أننا حددنا حدود ذلك الرجل الواحد، لنجعل منه أمة بأسرها؛ لوجدناها أمة مفككة العرى متناثرة الأفراد مفرقة القوى.
ذلك - إذن - موضع الداء، ومن هذه النقطة تبدأ خطوط الصورة في التتابع والتكامل، وأول خط فيها وجوب أن يجمع الإنسان من أطراف «المعرفة» بجوانب محيطه الذي يحيا فيه ويعيش فردا من أبنائه، ولقد أمده خالقه سبحانه وتعالى بالوسيلة التي يتوسلها في تحصيله لما يستطيع تحصيله من إحاطة بالكون من حوله، وما ذلك الكون إلا الدار التي خلق الإنسان ليسكنها ما دام حيا، والوسيلة هي الحواس وفي مقدمتها العينان تبصران وتعودان إلى المبصر بهما بأنباء الدار، لكن تلك الأنباء إذ تأتي بها العينان وبقية الحواس، كل حاسة في مجالها؛ فهي تأتي انطباعات على العين المبصرة، وإلى هنا لا تكون «معرفة»؛ فلا فرق في بداية المرحلة بين أن تقع الصورة على عين إنسان، أو عين حيوان، أو على عدسة زجاجية في آلة التصوير، فلكي تصبح الصورة المرئية «معرفة»؛ فلا بد لها أن تتحول إلى «فكرة»، وللفكرة طبيعة تختلف عن طبيعة الانطباع الضوئي على شبكية العين، والجانب الجوهري من طبيعة الأفكار، هو اصطناعها لجسم لغوي؛ أي أن تتجسد في لفظة أو في مجموعة ألفاظ ، ومن هنا تظهر لنا معجزة «اللسان» مستعينا بشفتين، ولكن حذار أن نقع في خطأ شائع عن العلاقة بين الفكرة ولفظها، وذلك أن خيال الإنسان يصور لصاحبه - على سبيل التشبيه، لا على سبيل الأمر الواقع - أن ألفاظ اللغة تشبه الأواني الفارغة، ثم تجيء الأفكار فتصب فيها، وذلك تصوير قد يبسط الأمر ليسهل فهمه، لكنه بعد ذلك يضلل الناس ضلالا بعيدا ... فالفكرة هي لفظها، واللفظ هو فكرته، كالشمس وضوئها، والوردة وأريجها، والزيتونة وزيتها، والسكر وحلاوته، والحنظل ومرارته، وبهذا التصور الصحيح نرى معجزة «اللسان والشفتين»؛ إذ هما ينطقان لفظا فينطقان «فكرا».
خطوط الصورة حتى الآن هي: خلل في البناء الاجتماعي يتطلب الإصلاح، فلو أراد الإنسان لنفسه صلاحا؛ فأولى وسائله إدراك لما حوله «ليعرف»، ولكي يكمل لتلك المعرفة كيانها؛ وجب أن تتجسد في لفظ أعد له جهاز من لسان وشفتين، ثم نستطرد في مجموعة الآيات الكريمة؛ لننتقل إلى الخط التالي من خطوط الصورة، وهو هداية الله للإنسان في استخدامه لأفكاره تلك التي حصلها وعبر عنها بلفظ اللغة. وقبل أن نمضي في سبيلنا أريد التنبيه على نقطة مهمة خاصة بهداية الله، وهي نقطة برزت أهميتها وخطورتها في عصرنا هذا على وجه التحديد، وهي أنه لا جناح على الإنسان في تحصيل ما استطاع من أفكار، توضح له طبائع الأشياء من حوله؛ فالأفكار محايدة لا خير فيها ولا شر، وإنما تبدأ خيريتها أو شريتها عند التطبيق: فماذا يصلح منها للتطبيق الفعلي في حياة الإنسان وماذا لا يصلح؟ وإذا صلحت للتطبيق فكرة ما؛ فكيف يكون تطبيقها وإلى أي مدى؟ هذه أسئلة لا تجيب عنها «المعرفة» التي حصلناها؛ فالإنسان إزاءها بحاجة إلى هداية الله، ومن هنا نجد التسلسل في خطوط الصورة التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد» بعد أن أشارت إلى خط «المعرفة» تحصيلا بالحواس التي في مقدمتها حاسة البصر، عقبت عليها بالخطوة التي لولاها لما كانت المعرفة المحصلة إلا حالة خرساء، وتلك هي مرحلة «النطق» باللغة، وأداة ذلك هي اللسان مستعينا بالشفتين، فها هو ذا الإنسان قد حصل ما حصل من أفكار، ثم ماذا؟ إلى أين يتحرك بتلك الأفكار؟ وكيف؟ إن الأفكار المحصلة في ذاتها لا توجه صاحبها فيما يختص بما «يجوز» فعله وما لا يجوز، ولذلك لا يكون للإنسان في هذا الموقف إلا هداية الله، فجاءت الآية الكريمة في موضعها لتقول:
وهديناه النجدين ؛ فمن حصيلة المعرفة التي جمعها الإنسان على نحو ما أسلفنا، يهديه الله سبحانه إلى فكرتين تستحقان السعي في سبيل أن تتحققا، حتى لو كان ذلك السعي عسيرا وشاقا، والفكرتان هما «الحرية» و«العدل»، نعم، إن دون تحقيقهما وعورة في الطريق؛ فهناك نجاد يصعد إلى أسطحها الصاعدون، وليس الطريق إلى الفكرتين سهلا منبسطا منسابا يسيرا، بل هو هضاب في اجتيازها عناء، فكأنما لكل فكرة من الفكرتين: «الحرية» و«العدل» وعورة طريقها المؤدي إليها: فأما أصحاب النوايا الطيبة الذين آمنوا بآيات الله، فقادرون بإيمانهم ذاك على اجتياز «النجدين»، وأما من ساءت نيته وخبثت طويته، من أمثال ذلك الرجل الغني المنافق، الذي سيق في السورة مثلا لما أصاب المجتمع من خلل وفساد؛ فيصعب عليهم اجتياز «العقبة» فلا هم راغبون في حرية يكون من شأنها أن تفك رقاب من كانت تملكه أيمانهم من عبيد، ولا هم يريدون في الناس عدلا يقتضيهم أن يطعموا «يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة».
هذه - إذن - صورة إسلامية لمجتمع إنساني سليم، لا أظن أن امتداد الدهر يغير منها شيئا، كلا، ولا في وسع العقل أن يتصور ظروفا معيشية يمكن أن تطرأ على بلد ما في ظل حضارة ما، كائنا ما كان البلد، وكائنة ما كانت صورة الحضارة، بحيث يقول الناس إنه لم يعد يصلح لهم مجتمع يشترط على أبنائه «علما» بالدنيا وواقعها، وأن يتجه ذلك العلم بهداية الله نحو إقامة بنيانهم على دعامتي «حرية» الإنسان، و«عدالة» بين الناس؛ ومن ثم كان من حقنا أن نقول إن الإسلام عقيدة تصلح لكل مكان ولكل زمان، على اتساع رقعة المكان، وامتداد طول الزمان.
إلا أن صلاحية «الصورة» لا يلزم عنها بالضرورة أن يسير الناس دائما على نهجها؛ لأن في جوف الإنسان حيوانا كامنا، هو الغرائز، إذا رفعت عنها الشكائم جمحت، وإذا نحن حملنا بيميننا ذلك المعيار الإسلامي في بناء المجتمع، ثم رفعنا بيسارنا صورة المجتمع الراهن الذي نعيش اليوم فيه؛ وجدنا الهوة سحيقة بين المثال والمثل، ففي حياتنا مثل ذلك الخلل الذي تجسد في المنافق الذي أشير إليه في «سورة البلد»، والذي كان هو المناسبة التي استدعت توضيح الخطوط الرئيسية في بناء مجتمع سليم؛ فمهما يكن في مجتمعنا الحاضر من صفات - والحديث هنا منصرف إلى مصر، وإلى الوطن العربي الكبير، على حد سواء - أقول إنه مهما تكن الخصائص الأخرى التي تميز أبناء هذا الوطن في هذا العصر؛ فهنالك صفة عمت وشاعت بحيث لم تعد تخطئها عين، وهي صفة تلتقي فيها الخطوط الرئيسية التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد»؛ فرغم قيام الخلل الذي يوجب التغيير والإصلاح، فلا نحن حريصون على «علم» بالدنيا التي نعيش فيها على حقيقتها، لا تحصيلا بمشاهدات الحواس ولا صياغة بلغة اللسان، ولا نحن على استعداد أو قدرة على تحمل المشاق بالنوايا الطيبة لنجتاز «العقبة» فنحقق في الناس «حرية» صحيحة، و«عدالة» صحيحة، على أن تقام كلتاهما على «معرفة» صحيحة بحقائق العالم.
فأما «المعرفة» الصحيحة بحقائق العالم، فتحتاج إلى نوافذ مفتوحة على الدنيا وما فيها، لكنك إذا طالبت بفتح النوافذ، زعق الزاعقون في فزع: بل أغلقوها حتى لا يكون علينا غزو ثقافي يطيح برءوسنا من فوق أعناقها، وكأننا قطيع من البله نفتح أفواهنا ليسيل لعابها، فيملأها الغزاة ترابا مسموما ونحن لا ندري! وإذا شئت عجبا فاعجب لمن يصيحون صيحات مذعورة كهذه، زاعمين لأنفسهم معرفة بما عند الآخرين من أفكار مسمومة، أليس من حقنا أن نسأل هؤلاء: ومن أدراكم بسمومها إلا إذا كنتم قد طالعتموها؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يكون لغيركم حق المطالعة كما كان لكم؟ فنتجت عن الموقف في مجمله حياة ثقافية منقوصة ومغلوطة ومهوشة، وأصبحت صورة العالم الذي هو منشئ حضارة عصرنا وصانعها وناشرها، تبث في عقول الناس كما كانت الجدات يصورن لأحفادهن الصغار عالم العفاريت!
وأما «الحرية» فقد أشارت الآية الكريمة إلى نوع منها كانت تتطلبه ظروف عصر ساد فيه الرق، إذن تكون «الحرية» المطلوبة في ضرورة ملحة، هي تحرر العبيد من أصفاد الرق التي كانت تغل رقابهم، لكن المطلب يتسع ويتنوع مع اختلاف الظروف في مختلف الظروف؛ فإنه إن لم يكن بيننا رق بذلك المعنى البدني الذي عرفه القدماء فبيننا صور أخرى تحمل جوهره وطابعه؛ إذ ماذا يكون جوهره وطابعه إلا إلغاء إرادة إنسان، ليريد له سواه؟ ومثل هذا الإلغاء لإرادات الناس؛ لتسري عليهم غصبا وقسرا وقهرا إرادة صاحب الإرادة، في حكومة، أو في ميدان من ميادين العمل، أو في مجال من مجالات التفكير. وليس هذا الضرب من الطغيان بالشيء النادر في مجتمعاتنا اليوم، وحتى إذا لم يقترف مثل هذا الإثم أفراد طغاة؛ فما يسمونه «بالرأي العام» كفيل بأن يهوي بضربات سياطه على كل من يخالفه في أمر يعده ذلك الرأي العام أمرا له خطورته في حياته التي ألف العيش في ظلها.
وأما فكرة «العدالة» الاجتماعية؛ فقد ركزت مجموعة الآيات الكريمة على فرع من فروعها، وهو «التعاون بين الأفراد»، تعاونا يضيق الفجوة بين غني وفقير، وإنني لأرجو في هذا الموضع من الحديث أن ألفت النظر إلى جانب القوة من تلك الفكرة كما صورتها الآية الكريمة، وهو أن ذلك التعاون المطلوب والمفروض، بني على أساس حرية الأفراد. والفرق بعيد بين مجتمع يتعاون أبناؤه أحرارا وعن إيمان بما يعملون، ومجتمع آخر - كمجتمعاتنا الحاضرة - إذا ما أراد تعاونا بين الناس صاغ له القوانين الملزمة مهددة بعقاب العصاة، إنه لا ضير في ذلك إذا استعصى على الناس أن يصدروا فيما يفعلونه عن وازع الأخلاق، لكن الكرامة الإنسانية تكون أقرب إلى كمالها حين يجيء التعاون بإرادة حرة من المتعاونين. «يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب أن لم يره أحد»؛ تلك كانت العلة، وموضع من مواضع الخلل، فكان لا بد من إقامة بناء اجتماعي جديد ركائزه : معرفة صحيحة بالعالم، ولغة تصوغ تلك المعرفة علما، ثم هداية من الله توجه الإنسان أن يتخير من ذلك العلم فكرتين، يقيم عليهما بناءه الجديد، هما «الحرية» و«العدالة» متمثلة في تعاون حر، وأما عن العلة فما أشبه الليلة بالبارحة، وأما عن قوائم البناء الجديد فها هي تي تقدم نفسها، فهل من مريد؟!
بلاغة الصمت
من المفارقات العجيبة، التي ليس في وسعنا إلا أن نقف أمامها حائرين، أن نجد في عصرنا هذا، الذي هو - من الناحية العقلية - عصر «التحليل» بلا منازع له من أي عصر آخر في هذه الصفة المميزة، لأنه إذا جاز لنا أن نلخص اتجاهات التفكير العقلي في تاريخه كله، أن نلخصها في صفحتين؛ لجعلنا إحداهما للكون وكائناته، والأخرى للغة التي حدث بها الإنسان نفسه عن تلك الكائنات، ففي صفحة الكائنات، لا أظن أن عصرا مضى ينافس عصرنا فيما بلغه من دقة التحليل لطبيعة تلك الكائنات، وذلك حين ردها إلى ما دون الذرة ودون الخلية، وفي صفحة اللغة، لا أظن كذلك أن عصرا مضى ينافس عصرنا في تحليل اللغة، لا أظن كذلك أن عصرا مضى ينافس عصرنا في تحليل اللغة إلى جذور جذورها، وإلى أصول أصولها، من حيث هي ظاهرة عامة شملت البشر جميعا، ومن حيث هي فروع تفرعت لتصبح لكل جماعة لغتها، حتى لقد بلغت تلك التحليلات من الدقة التفصيلية حدا جعلها تنافس الرياضة العليا، وحتى اضطرت جامعات كثيرة في أنحاء العالم المتقدم أن تجعل محور الارتكاز في دراسة اللغة، ذلك الجانب الذي يسمونه «لغويات»، وذلك بعد أن كان «الأدب» هو محور ارتكاز في الدراسة الجامعية. أقول إنها مفارقة عجيبة؛ أن نجد نفرا من أعلى أعلام الفكر في عصرنا قد رأوا أنفسهم بعد المضي في تحليل الفكر الإنساني متمثلا في لغته، أشواطا بعيدة، رأوا أن النهاية التي لا بد أن يلوذ بها الإنسان ليعرف حقيقة نفسه - وبالتالي حقيقة الإنسان - هي «الصمت» الذي هو في هذه الحالة أبلغ من الكلام.
والحق أنك إذا تأملت الموقف - بعد الدهشة التي أخذتك للوهلة الأولى - وجدت أن الأمر لا جديد فيه من الناحية العملية؛ إذ تجد حالات ليست بالقليلة لعمالقة من أفراد الناس أرادوا أن يتقصوا حقيقة ما يشعرون به، في أنفسهم وفي العالم من حولهم، ثم أرادوا أن يضعوا ما قد رأوه في لغة لينقلوه إلى سائر الناس، فتبينوا كم هو محال من المحال أن توضع تلك الرؤى في أي لفظ، كائنة ما كانت بلاغته؛ فلاذوا بالصمت، وفي مقدمة هؤلاء العمالقة الذين لاذوا بالصمت لعجز اللغة عن أداء ما أرادوا تأديته، جماعة المتصوفة على اختلاف أوطانهم ولغاتهم، وعلة ذلك العجز هي أن الخبرة الصوفية حالة يشعر بها الصوفي، كشعوره بأنه من الله سبحانه وتعالى في حالة شهود، أو في حالة حب، أو حتى في حالة حلول، وأمثال تلك الحالات هي مما يدركه صاحبها إدراكا باطنيا مباشرا، وهي فوق ذلك غير قابلة للتحليل، في حين أن اللغة أقيمت على أساس تحليل الأشياء التي نرمز إليها، وهي لا تستطيع غير ذلك؛ لأنها مجموعة جمل، وكل جملة مجموعة كلمات، وكل كلمة مجموعة حروف؛ فاللغة إذن مؤلفة من صور، كل صورة منها مركبة من أجزاء، فالذي يقابلها ويناسبها في دنيا الواقع، حقائق مركبة بدورها من أجزاء، لتأتي الصورة متقابلة مع الشيء، الذي تصوره، فمثلا إذا أردت أن أصف لك موقفي وأنا أكتب هذه السطور، قلت لك: إنني جالس إلى مكتبي، الورقة أمامي، والقلم في يدي، فإذا أمعنت النظر في هذه العبارة، وجدت فيها عددا من الكلمات يقابل عددا من الكائنات الموجودة في هذه الحالة التي أصفها، ويضاف إلى تلك الكائنات عدد من «العلاقات» التي تصلها بعضا ببعض، فهنالك من أسماء الكائنات: أنا، مكتب، ورقة، قلم، يد، وهنالك من العلاقات الرابطة بينها: إلى، أمام، في، وذلك التقابل بين الواقع من جهة، واللغة التي تصوره من جهة أخرى، هو الذي يجعل للجملة اللغوية معناها.
لكن ماذا أنت صانع في الحالات التي لا تقبل التحليل إلى مفردات وأجزاء؟ كيف يمكن أن تصورها في لغة يستحيل عليها بحكم طبيعتها إلا أن تكون مجزأة؟ فافرض - مثلا - أنك في حالة «حب» وهي حالة تشبه الحالة التي يكون عليها الصوفي بالنسبة إلى الله سبحانه، بدليل أن الصوفي كثيرا ما يلجأ في التعبير عن حالته بشعر يتغزل فيه بمعشوقة بشرية، أقول: افرض أنك في حالة «حب» فكيف تضعه في مجموعة مجزأة من كلمات وحروف في حين أنها «حالة» تسري في كيانك سريانا لا تعرف أين أوله وأين آخره وأين أجزاؤه؟ ومن هنا كان محالا على من «يعاني» حالة كهذه أن يصورها لمن لا يعانيها، وصدق الشاعر العربي الذي قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وهنا يعجز اللسان وتعجز اللغة، وتكون للصمت بلاغته.
تلك - إذن - حالة عرفها الإنسان منذ نطق باللغة، أو منذ كتبها وأدرك قصورها في الحالتين نطقا وكتابة؛ فهي تصلح لمواقف معينة تكون التجزئة فيها أمرا مستطاعا، ولا تصلح لمواقف أخرى، هي الحالات الوجدانية على اختلافها، اللهم إلا على سبيل التقريب، وتضاف إلى الحالات الوجدانية حالات الإدراك المباشر بحاسة من الحواس، وإلا فهل تستطيع - مثلا - أن تصف للآخرين كيف طعم الخبز على لسانك؟ هل تستطيع أن تصف لهم كيف رائحة الوردة في أنفك؟ إنه لا بديل في وسعك، إلا أن تعطي لقمة خبز لمن تريد له أن يعرف طعم الخبز، وأن تعطيه وردة ليشمها، إذا أردت له أن يعرف شذاها، كما أنه لا بديل لمن أراد أن يعرف الحب إلا أن يحب.
لكن الجديد الذي أضافه عصرنا، إلى الحالات التي لا تجدي فيها اللغة، والتي يجب أن نركن فيها إلى الصمت وبلاغته؛ هو أمور تبدو وكأنها من قبيل الأشياء الداخلة في حدود ما تستطيعه اللغة، والتي ليست من قبيل الحب الصوفي، أو الحب البشري، أو حتى من قبيل طعم الخبز ورائحة الوردة، إنما هي أشياء من واقع الحياة العملية التي يتبادل فيها الناس كلمات اللغة مفردة ومركبة ليتم بينهم تفاهم عليها، وإذا هي في حقيقة أمرها مستعصية على اللغة وقدراتها وحدودها ، ومن هنا تجيء دعوة الدعاة في عصرنا إلى وجوب الصمت فيما لا تجدي فيه كلمات، فلا أظن أني بحاجة إلى أن أعيد إلى ذاكرتك تلك الموجة الأدبية التي شغل بها الناس منذ بضع سنوات، والتي أطلق عليها اسم أدب «العبث» حينا، واسم أدب «اللامعقول» حينا آخر، وقد كان الأساس الذي جاءت تلك الموجة لتعبر عنه؛ هو أن قنوات التفاهم بين الناس مسدودة، فالمتكلم يتكلم، ويرد عليه السامع، لكنك تحلل الموقف لترده إلى حقيقته، فإذا بك ترى متكلما في واد من الفكر والمعنى، وسامعا في واد آخر من الفكر والمعنى، إذن فلا المتكلم يخاطب أحدا، ولا السامع منصت إلى أحد، فأهل هذا العصر، في تبادلهم الأفكار بعض مع بعض، محمولة تلك الأفكار في بطون كلمات وجمل، لا يفهم أحد منهم عن أحد شيئا، وإن خيل إليهم غير ذلك، ولماذا؟ وهل هو أمر مقصور على عصرنا أو أنه جزء من طبائع الأمور؟ لست أدري، لكن الأمر في عصرنا أوضح من أن يغض عنه النظر، والنكبات التي تترتب عليه أفدح من أن يسكت عنها، وربما كانت علة ظهور هذه الظاهرة في عصرنا بأوضح مما ظهرت به في العصور السابقة، هي أنه بينما كانت قلة قليلة من الناس مسموعة الكلمة في العصور السابقة، فكانت تقول كلمتها، بأي معنى تريده لتلك الكلمة، وعلى سواد الناس بعد ذلك أن يطيعوا، ترانا في هذا العصر، وقد زعمنا لأنفسنا حق الحرية متساويا بين شعوب الدنيا وأفرادها، ولكن كلما جاء موقف للتطبيق؛ تلاعبنا بمعاني الألفاظ، كل يفسر الكلمة ذات الشأن في الموقف المعين بما يحقق له أغراضه، ومن هنا جاء انعدام التفاهم ظاهرة من ظواهر عصرنا، تضخمت حتى استحقت أن ينشأ لها لون خاص من ألوان الأدب، هو أدب العبث، أو أدب اللامعقول.
ولم يقتصر الأمر على لون خاص من الأدب ينشأ بسبب انعدام التفاهم بين الناس، بل ربما كانت هناك وقفات فكرية أخرى، مما نراه في عصرنا، ذات علاقة بالظاهرة نفسها؛ فهنالك كثيرون من القادرين على تعميق أفكارهم ، والوصول بها إلى درجة من الدقة لا يألفها جمهور القارئين، أرادوا أن يتعقبوا قدرة اللغة على التوصيل، ليحددوا أين يجوز الكلام وأين يجب الصمت، فتناولوا الموقف من أساس أساسه، وهو: ما حقيقة العلاقة بين اللغة من جهة والعالم من جهة أخرى؟ ولعلي أحسن التصوير، إذا زعمت بأن هؤلاء المفكرين، الذين طرحوا على أنفسهم سؤالهم عن العلاقة بين اللغة والعالم، قد عادوا إلى الناس بإجابات ثلاث، هي نفسها التي تتحدد بها الفواصل الحقيقية بين ثلاثة نماذج من تيارات الفكر، في عصرنا وفي غير عصرنا على حد سواء.
كانت الإجابة الأولى هي أن الإنسان في معظم حياته الفكرية أو العقائدية، قد يظن - مخطئا - أنه إنما يواجه عالم الأشياء ذاته مواجهة مباشرة، حين يفكر أو حين يعتقد، وحقيقة الأمر هي أنه لا يتعامل إلا مع كلمات اللغة التي يظن واهما أنه إنما بناها على «وقائع»، في حين أنه سجين تلك الكلمات منذ تعلم كيف ينطقها وكيف يكتبها ويقرؤها، فهو في حياته الفكرية ينقل لفظا من لفظ، ويخرج لفظا من لفظ، وهكذا يظل يدور في دوامة اللغة كلما فكر، ظانا أن تلك الألفاظ التي يدور في دوامتها، إنما هي «الأشياء» أو هي «الوقائع» التي بنى عليها أفكاره وعقائده، وإذا كنت أنا أعيش في برج مغلق قوامه ألفاظ وعبارات، وإذا كان جاري هو الآخر يعيش في برج مغلق من ألفاظ وعبارات، كل منا ينضح من وعائه ليقول أو يكتب، فأين نلتقي؟ إنه لا لقاء، ومن ثم كانت معارك الكلام التي لا تنتهي في الصحف وفي الكتب وفي الإذاعات، والواقع لا يتغير منه شيء، وأعني «الواقع» الذي تدور تلك المعارك الكلامية حوله، وذلك لأن الواقع إذا تغير منه شيء، فإنما يتغير بفأس تشق الأرض فتنزرع قمحا وقطنا، ويتغير بمنشار يقطع الخشب، ومسمار يدق لتوصل قطع الخشب فتصبح مقعدا للجلوس، ومن هنا كان هنالك فرق بعيد بين معرفة نظرية يراد بها أن تطبق على الأشياء بحيث يكون ذلك التطبيق هو معيار صدقها، ومعرفة نظرية تظل طوال عمرها معرفة نظرية، هي التي تقيس صدق نفسها بنفسها، وفي هذه الحالة يصدق قول القائلين بأن الأمر يتحول بأصحاب تلك المعرفة ليكون أبراجا مصمتة جدرانها من ألفاظ وجمل، ولكل برج ساكنه الذي يتوهم أن كلماته هي دنيا الناس ما دامت هي دنياه.
وكانت الإجابة الثانية عن السؤال: ما العلاقة بين اللغة والواقع؟ إجابة أكثر دقة؛ لأنها لم تقدم نفسها إلا بعد أن تحددت بدقة بالغة طبيعة «اللغة» من ناحية، وطبيعة «العالم» من ناحية أخرى، ولم يفتها في ذلك التحديد أن تكون على بينة من نفسها، بأنها إنما توجه اهتمامها إلى مجال «العلوم» دون أي مجال آخر من مجالات الحديث، وذلك لأن المعنى المراد من مفهوم كلمة «العالم» قد يختلف بين أن يكون اهتمامنا موجها نحو الفكر العلمي، وبين أن يكون اهتمامنا موجها نحو مجال آخر مما يصح الحديث عنه أو البحث فيه.
كان أصحاب هذه الإجابة الثانية على إلمام تام بعلوم الطبيعة وعلوم الرياضة؛ ولذلك جاءت كتاباتهم مركزة مكثفة تحللها رموز علمية كثيرة، ولذلك كله جاءت كتاباتهم عصية الفهم على غير الدارسين، وسأحاول هنا أن أقدم صورة مصغرة وواضحة بقدر المستطاع، لما قالوه في موضوع العلاقة بين اللغة والعالم، فأما «العالم» عندهم فهو مجموع ما هو كائن في الواقع؛ أي إنهم يحذفون منه - ما دمنا في مجال التفكير العلمي - كل المعاني والأفكار المجردة التي لا تخضع في مراجعتنا لصدقها، للخبرة التجريبية المشتركة بين الناس، ولما كان ما هو كائن في الواقع لا يكون إلا فردا مفردا، كهذا الرجل، وهذا النهر، وهذا القمر وتلك الشمس. أي إن أي فكرة لها تعميم في معناها، لا تعد من نوع الكائنات الفردة المفردة، بحكم كونها تصدق على أفراد كثيرة في وقت واحد، فإذا صادفتنا فكرة لها مثل ذلك التعميم، كقولنا «كتاب» أو «شاعر» أو «فضيلة» وأردنا البحث عن مدلولها في العالم الواقع؛ وجب علينا أولا أن نذكر فردا واحدا معينا من أفرادها، ليكون هذا الفرد هو الذي نبحث عنه في عالم الواقع؛ لأن هذا العالم - كما أسلفنا - ليس فيه إلا أفراد ومفردات، فإذا قيل لك إن أي كتاب إنما تطبع الكلمات عليه بالحبر، وأردت أنت أن تتثبت من صدق هذا الكلام، فلا سبيل إلا أن تتناول كتابا واحدا معينا ليكون موضعا للفحص، وإذا قيل لك إن الشاعر ينظم كلماته في وزن معين، ولا يجريها سائبة كما يفعل الناثر، فسبيلك إلى التحقق من هذا، هو أن تخرج من خزانة كتبك ديوانا لشاعر واحد معين، فتراجع كلماته كيف نظمت، وهكذا، فالتحقق من صدق المعنى العام المجرد محال إلا عن طريق أفراده، وإذا لم تجد فردا مما يندرج تحت ذلك المعنى العام وجب عليك تعليق الحكم بصدق ذلك المعنى أو بكذبه.
ذلك هو «العالم» عند أصحاب الإجابة الثانية، وأما «الفكر» فليس سوى العبارة اللغوية التي تشير بها إلى واقعة معينة من وقائع العالم، وهذا يقتضي: أولا أنه لا معنى لقول قائل إن لديه فكرة في ذهنه ولكنه عاجز عن التعبير عنها بألفاظ توضحها؛ وذلك لأن ما ليس يخرج للناس في لغة يسقط عندهم من حساب الأفكار، وثانيا أن العبارة اللغوية التي لا تجد لها واقعة من وقائع هذه الدنيا، بحيث يكون هنالك التماثل الكامل بين تركيبها اللفظي من جهة، وبين تركيب الواقعة المشار إليها من جهة أخرى، تعد قولا بغير معنى؛ تانك - إذن - إجابتان مما أجاب به رجال الفكر في عصرنا، حين عرضت لهم مشكلة «اللغة» ومتى تعني شيئا، وكيف تعنيه، كانت الإجابة الأولى تذهب بنا إلى أن الإنسان إنما هو حبيس لغته التي صنعها، فهو يظل يدور في سجنها متوهما بأنه يخترقها إلى حيث حقائق العالم، وكانت الإجابة الثانية على غير ذلك، فهي اعترفت بأن الإنسان على صلة بالعالم عن طريق لغته، شريطة أن يجيء استخدام اللغة مقيدا بقيود، وبعد ذلك تأتي إجابة ثالثة، لعلنا أشرنا إليها عرضا فيما أسلفناه، وهي أن حقيقة الإنسان التي يعتد بها، ألا وهي حياته الوجدانية، بل حياته الإدراكية التي تقع فيها المدركات على حواسه وقوعا مباشرا، كالذوق والشم، لا تستطيع اللغة أن تنقل إلى الآخرين شيئا منها ، إلا على سبيل التقريب والإيحاء.
ونعود بعد هذا العرض لأهم تيارات الفكر المعاصر، عن مدى قدرة اللغة التي يتبادل بها الناس أفكارهم ومشاعرهم، مدى قدرتها على نقل ما يراد منها نقله، من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ، ودع عنك أن يكون الكاتب من أبناء عصر مضى منذ مئات السنين أو آلافها، وأن يكون القارئ من أبناء هذا العصر، أقول: نعود بعد هذا العرض، إلى ما بدأنا به حديثنا هذا، عندما أشرنا إلى مفارقة عجيبة تلفت النظر، وهي أنه بينما هو عصر تتدفق فيه الكلمات كالشلالات الهادرة، من وسائل الإعلام والإعلان، وفي أنهر الصحف، وعلى صفحات الكتب، تتدفق الكلمات ملايين ملايين، من أفواه الخطباء في المحافل الدولية والمحلية، وفي أحاديث الناس التي يلقونها في الهواء، أو يسجلونها على أشرطة. نعم إنه بينما هو عصر لم تشهد الدنيا عصرا قبله يشبهه أو يقترب منه في كثرة مطبوعاته بسبب الأجهزة الكثيرة التي تساعد على الطبع والنشر، نجد من رجال الفكر فيه من يدعو إلى وجوب «الصمت» كلما وجد المتكلم أو الكاتب أن اللغة عاجزة عن التوصيل! وإنها لعاجزة بالفعل عن التوصيل في حالات كثيرة، كما يتضح ذلك من الإجابات الثلاث التي أوردناها فيما أسلفناه، وهي إجابات اختلف بها أصحاب الفكر في عصرنا، عندما طرحوا على أنفسهم سؤالا عن العلاقة بين اللغة ودنيا الأحياء والأشياء، ولم تقتصر الدعوة إلى وجوب الصمت كلما عجزت اللغة، على المتصوفة كما كانت الحال في العصور الماضية، بل امتدت فشملت بعض فلاسفة العلم، فعندهم أنه إما قول علمي نقوله فيعلم الناس به ماذا يفعلون بناء عليه، وإما الصمت عن الكلام، وهو قول قريب المعنى مما كان «هيوم» في القرن الثامن عشر قد قاله ليميز به ماله معنى مما ليس له معنى من الكلام؛ إذ قال ما معناه: خذ الكتب الموجودة كتابا كتابا، واسأل نفسك عن كل كتاب: أهو في شيء من علوم الطبيعة؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو في شيء من علوم الرياضة؟ وإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى، فألق به في النار. وفي عصرنا أصدر فتجنشتين كتابه المركز العسير، «رسالة منطقية فلسفية» وترجمه إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عزمي إسلام، يحدد فيه تحديدا قاطعا متى يكون للكلام معنى، وليعلم القارئ أن الرأي يكاد يجمع على أن فتجنشتين هذا قد جاء في عصرنا فاتحة لفكر جديد يلائم عصر العلم، ولقد جعل آخر سطر في كتابه ذاك يقول ما معناه: «حيثما عجزت عن الكلام، وجب عليك الصمت.» مريدا بذلك أن يقول: إنه إذا لم تكن عبارتك مشيرة إلى شيء من واقع العالم الخارجي؛ فخير لك وللناس أن تسكت، لأن ما تقوله في مثل هذه الحالة، هو خال من «المعنى» (إذ معنى الجملة المعينة هو الواقعة التي تشير إليها تلك الجملة)، بل لا ينتهي الضرر عند خلو كلامك من المعنى، وإنما يجاوزه ليصبح مصدر تضليل للناس، حين يظنون قيام المعاني وهي غير قائمة.
وإذا نحن نظرنا إلى الحياة الفكرية في الوطن العربي اليوم، باحثين فيه عن علة تخلفه؛ فربما وجدنا تلك العلة في حقيقة أن الفكر العربي كما نراه الآن، إنما يندرج معظمه - وأوشكت أن أقول يندرج جميعه - تحت وجهة النظر الأولى بين وجهات النظر الثلاث التي أوردناها، فوجهة النظر الأولى عندما أراد أصحابها أن يحللوا العلاقة بين «اللغة» التي تجري بها أقلام المفكرين، وبين عالم «الواقع» تقول إن تلك العلاقة مبتورة أو تكاد، لأن هؤلاء المفكرين يدورون في دوامة الكلمات، لا يخترقونها إلى مواقف الحياة الفعلية كما هي واقعة في الشارع والبيت والمصنع والحقل ودواوين الحكومة، فهم يعارضون فكرة بفكرة، أو يردون فكرة إلى فكرة، أو يرجعون بفكرة إلى مصدرها من الكتاب أو الكتب التي وردت فيها، وهكذا وهكذا؛ ما يجعل رجل الفكر يعطي حياته متنقلا من ورقة إلى كتاب، ثم إلى شيء يكتبه أو يذيعه في الناس، فهو كمن يحيا في بيت من ورق، ولذلك فهو لا يحس الحياة الخارجية، أو ظواهر الكون، إلا عن طريق كلمات مسطورة ، فإذا كانت تلك الكلمات قد كتبها في الأصل من عركوا الحياة وتأملوا ظواهر الكون؛ كان الفكر العربي اليوم يقتات من موائد من حملوا عنه مشقة الخوض في عباب الأحداث والظواهر، فلا هو مبدع فيما يكتبه، مقيما إياه على أساس الخبرة الحية، ولا هو أخلص لنفسه بحيث أرغم نفسه على الصمت حين لم يجد في خبرته المباشرة ما يقوله للناس.
ومأساة المآسي في حياتنا الفكرية، أننا نتصدى لمن يدعو إلى وجوب أن يكون لكلامنا «معنى» حين يجيء هذا الكلام في دائرة عن واقع الحياة والعالم. وقد أشرنا إلى أن المعنى يتحقق للكلام حين يشير إلى وقائع قائمة أو ممكنة الوقوع، ولست أريد بهذا أن أقول إن «كل» كلام ذي قيمة يجب أن يكون من هذا الطراز، كلا، وألف مرة كلا، فلا يقول قولا كهذا إلا مجنون، بل إن ذلك الشرط مشروط فقط، عندما يكون زعم القائل، وتوقع المتلقي لقوله، مؤسسين على أن القول يتصل بما هو واقع، ولكن هنالك إلى جانب هذا الضرب من الكلام العلمي، أو ما هو جار مجرى الكلام العلمي؛ ضروبا أخرى من القول لها طبائعها المختلفة ومعاييرها المختلفة. ويكفي أن أسوق الشعر مثلا، علما بأن الشعر الجيد، بطريقته الخاصة في استخدام اللغة، إنما هو الذي يرتفع باللغة إلى ذروة عبقريتها - كما شرحنا ذلك في موضع سابق - لأن الاستخدام «العلمي للفظ» يجرده من كل شحنته حتى لا يبقى منه إلا «رمز» يشير إلى معنى مقصود، في حين أن الشعر يفعل نقيض ذلك، فهو بغض النظر عن الوظيفة الإشارية، فقد تقوم أو لا تقوم، ولكنه يحيي من اللفظ مكنوناته الوجدانية التي حصلتها خبرات الإنسان من معاناته الحية على امتداد السنين ... نريد أن نقول: إنه إذا عجز المتحدث عن حياة الناس الواقعة أن يقول كلاما ذا معنى؛ فللصمت بلاغته.
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
أبدأ الطريق من بدايتها، وأسأل: متى يكون الفكر فكرا أصيلا؟ ثم متى يكون هذا الفكر فكرا إسلاميا؟ وأجيب في إيجاز فأقول: إنه لا «فكر» إلا أن تكون هناك «مشكلة» حقيقية اعترضت السائر في سبيله، فأوجبت عليه أن يجد لها حلا، ليتسنى له استئناف السير؛ فليس «الفكر» الأصيل، إذا استحق هذا الاسم، ترفا يلهو به الإنسان تسرية عن همومه العابرة، أو إزجاء لفراغ ثقل على نفسه؛ كلا، ولا هو فاعلية يبعثرها مع الهباء لا يبالي أن تجيء له تلك الفاعلية بحاصل نافع أو لا تجيء بشيء؛ فما أكثر الذين يحيون حياة شبيهة بالحياة الفكرية في ظاهرها؛ لأنها حياة تنقضي بين الكتب والدفاتر، وتمتلئ بأفكار تحفظ لتروى كلما حانت لهم فرصة لروايتها، لكن حياة كهذه إن تكن في أغلب حالاتها وسيلة شريفة من وسائل كسب الرزق، أو المنصب، أو الشهرة وقوة الجاه؛ إلا أنها حياة قلما يفتح لها التاريخ صفحاته، لأنها - في الأغلب - تمضي وكأنها لم تكن؛ لأن الإنسان لا يتقدم بها وقد يتأخر.
وفوق هذه الدرجة تأتي درجة أعلى منها، لكنها - مع ذلك - لا تعلو حتى تبلغ أن تكون «فكرا أصيلا»، وتلك هي المرحلة التي تنصب فيها فاعلية العقل بفكر على فكر؛ بمعنى أن يقف المفكر من مفكر آخر موقف الشارح، أو المؤرخ، أو المؤيد، أو المعارض، أو غير ذلك من سائر الحالات، التي ينحصر فيها الفكر في حدود فكر قائم. نعم، إنها ضرب من النشاط العقلي الذي قد لا يكون لنا عنه غنى؛ إذ هو المجال الذي يجول فيه «العلماء» و«المعلمون» و«المتعلمون»، لكنه رغم ضرورته العلمية والتعليمية؛ لا يرقى إلى منزلة الفكر الأصيل، الذي يتصدى «للمشكلات» التي تنشأ على أرض الواقع الفعلي في حياة الناس، عصرا بعد عصر، وكدت أقول يوما بعد يوم. وإن هذه المشكلات الحية التي تلح على من استشكلت عليه أن يجد لها حلا؛ لتتعدد بتعدد المواقف وأصحابها من أفراد الناس، وهي من صنوف تكاد تستعصي على الحصر والعدد، ومع ذلك فيمكن - بل لا بد لنا - أن نصنفها في مجموعات متجانسة، هي التي تكون عندئذ «قضايا» العصر المعين، التي تتحدى العقل، فيظهر لها من القادرين رجال يتناولونها بفكر يذيب عقدتها، وينتهي بها إلى حلول تفض عنها مواضع إشكالها . ومن تلك المشكلات ما يغلب عليه الجانب العملي، ومنها ما يغلب عليه الجانب النظري، إلا أن الصنفين معا يجتمعان في حياة الناس الفعلية على المدى القريب أو المدى البعيد.
وواضح أن مثل هذا الفكر يكون «إسلاميا» أو لا يكون، بمقدار ما تكون المشكلة المعروضة موصولة «بالإسلام» عقيدة وشريعة، ولا أقول موصولة «بالمسلمين»؛ لأن حياة الإنسان كائنة ما كانت ديانته أوسع من تلك الديانة، فله معدة تهضم الطعام، ورئتان تتنفسان، وله بيوت يبنيها وشوارع يرصفها، وجسور يقيمها، وغير ذلك من جوانب حياته، التي هي جوانب «محايدة» بالنسبة إلى المعتقدات الدينية، اللهم إلا في بعض تفصيلاتها: كأن يحرم على الإنسان وضع طعام محظور في معدته، لكن ذلك لا ينفي القول في جملته أن الفكر الإسلامي إذا وجدناه يستمد إسلاميته من كونه يعالج مشكلات تبعث من أصول العقيدة وتشريعها؛ فإن التفرقة تظل قائمة، بين مفكر «أصيل» يتصدى للمشكلات الحية ذاتها، ومفكر «تابع» يجري فكره على فكر أصيل، حافظا نصوصا، أو شارحا لها، أو باحثا في محتواها، أو معلما لها في عملية من عمليات التعليم.
ونسوق أمثلة نوضح بها طبيعة الفكر الإسلامي الأصيل؛ وهي أمثلة نستمدها من الحياة الفكرية عند المسلمين الأوائل، في أول خطوة لتلك الحياة على طريقها الطويل: ومن تلك الأمثلة يتبين لنا، كيف ينبع الفكر الأصيل من مشكلات حقيقية تنبض بالحياة، فلا هي متكلفة ولا متصنعة، ولا هي منقولة عن آخرين، بحيث نرى عقدتها قد استعصت على أصحابها الأصليين، فنقلها بعد ذلك من نقلها؛ لا لأنها متصلة بمواقف أشكلت عليه، بل لأنه يدرس جانبا من «تاريخ» السابقين، وهي دراسة لا نشك في ضرورتها وأهميتها، لكنها ليست من جنس الموقف الأصيل، الذي تصدى فيها الفكر لمشكلة حية تخز جلود الناس بشوكها؛ فعندما نشب قتال حول الخلافة، بين «علي» - كرم الله وجهه - و«معاوية» - رضي الله عنه - ووقعت في سبيل ذلك موقعة «الجمل» وموقعة «صفين»؛ سفكت دماء غزيرة من دماء المسلمين من الجانبين، فمن هذا الموقف النابض بالحياة، تحركت الضمائر لتسأل سؤالا نابعا من صميم ذلك الواقع، ومتصلا بأوثق صلة بالعقيدة وشريعتها؛ وذلك السؤال هو: على من تقع التبعة في تلك الدماء الطاهرة التي سفحتها سيوف المتقاتلين وقسيهم ورماحهم؟ وإذا استطعنا تحديد التبعة ومن يحمل عبئها، فماذا يكون حكم الإسلام فيه؟ لقد كان الناس أمام فريقين من المسلمين يتقاتلان؛ ومحال أن يكون كلاهما على صواب، وإلا لما تقاتلا، فلا بد أن يكون أحد الفريقين - على الأقل - على خطأ في هذا القتال، وإذا عرفناه فقد عرفنا من كان سببا في قتل المسلمين؛ فماذا يكون حكم الإسلام في مثل هذا الذنب الذي هو من كبائر الذنوب؟ وهنا ذهب بعضهم بهذا السؤال إلى الحسن البصري وهو في حلقة الدرس مع الدارسين، وألقوا بسؤالهم، فما هو إلا أن نطق «واصل بن عطاء» بالجواب الذي ارتآه، وهو أن من تقع عليه التبعة في ذلك القتال، لا هو مسلم خالص، ولا هو كافر خالص، وإنما هو مسلم عاص وهي منزلة تقع بين المنزلتين، فلما لم يقع هذا الرأي موقع الرضا من الحسن البصري ونفر من الحاضرين؛ انتحى واصل بن عطاء ناحية أخرى من المسجد، وتبعه بعض الدارسين، فقال الحسن البصري قولته المعروفة: «قد اعتزل عنا واصل.» وبهذا أطلق اسم «المعتزلة» على تيار فكري إسلامي كان له قدره العظيم في تاريخ الفكر الإسلامي، فانظر إلى «الفكر الأصيل» كيف ينشأ؛ فهنالك المشكلة الحقيقية الني نبتت من أرض الواقع الفعلي، وهنالك القلق الذي تتأرق به الضمائر حتى تجد الحل الذي يزيح العبء عن الصدور، وهنالك الفكر ينفذ بشعاعه في قلب المشكلة؛ ليجد الحل الذي يعيد الطمأنينة إلى النفوس القلقة، ولكي يزداد الوضوح وضوحا؛ فلنقارن وقفة واصل بن عطاء، وهو يعمل الفكر ليجد الحل في مشكلة قائمة وحادة وشائكة، بنا نحن اليوم، حين ندرس ما قاله واصل؛ فنحن في هذه الحالة لا نفكر، بل نقتات على فكر وجدناه ودرسناه.
وإذا قرأت عن الحياة الفكرية في البصرة إبان القرن الثاني الهجري؛ لرأيت صورة رائعة للفكر الإسلامي الأصيل، بالمعنى الذي حددناه لهذه العبارة فيما أسلفنا ، ولست أريد بهذا أن أصفه بالصواب أو بالخطأ؛ إذ هو صراع بين وجهات نظر متضادة، فإذا صدقت واحدة منها؛ كان لا بد لضدها أن يكون على غير الصواب، وإنما أردت القول بأن الصورة التي تشهدها توضح لك كيف ومتى نقول عن فكر إنه أصيل، ونقول عنه فوق ذلك إنه فكر إسلامي، لارتباطه بالعقيدة وشريعتها، رغم ما تصطرع به الآراء في ذلك؛ ففي مدينة البصرة إبان القرن الثاني، نرى كيف يتشعب الفكر أحزابا حول الموضوع الواحد، وكانت خلافة علي لم تزل هي رأس الموضوع. ثم كان الرأي الذي أدلى به واصل بن عطاء في من تقع عليه تبعة الدماء التي أهدرت في موقعتي «الجمل» و«صفين» ماثلا أمام الأذهان، بين القبول والرفض؛ فهنالك حزب أطلقوا عليه اسم «العثمانية» انتسابا للخليفة عثمان بن عفان، وتأييدا لوجهة النظر التي تدين عليا - كرم الله وجهه - في أنه تساهل عامدا في البحث عن قتلة عثمان، وقام ضد ذلك الحزب العثماني حزب آخر، يشايع عليا ويؤيده، ثم إلى جانب هذا وذاك، قام حزب ثالث محايد تميز أفراده بالزهد، وهو حزب الخوارج، الذي خرج على الناس برأي سياسي في شروط الصلاحية للخلافة، وفي حق المسلم في أن يخرج على الحاكم إذا أخطأ. وإلى جانب تلك الأحزاب الثلاثة، التي يمكن اعتبارها سياسية فيما أثار همها واهتمامها، رأينا فرقة «المعتزلة» تعلن عن رأيها في حرية الإرادة التي على أساسها يصبح الإنسان مسئولا عما يفعل؛ فتقاومها فرقة «الجهمية» (سميت باسم زعيمها جهم بن صفوان) وهي جماعة أنكرت على الإنسان تلك الحرية في إرادته إنكارا تاما؛ لأنه مجبر بمشيئة الله في كل ما يفعل، ولا اختيار له في شيء.
فإذا وضعنا هذا النموذج أمام أبصارنا، ولم يفتنا منه جوهره، الذي هو تسليط الفكر في حرية كاملة على المشكلات التي تفرزها الحياة الواقعة، والتي تتأرق لها الضمائر التماسا عند أصحاب الفكر لحل أو حلول تزيح عبئها عن ضمائرهم، أقول؛ إذا وضعنا هذا النموذج أمام أبصارنا، وسألنا : ماذا ينبغي أن يكون عليه الفكر الإسلامي في عصرنا هذا؟ أفيكون جوابنا عن هذا السؤال هو أن نبدي ونعيد في تلك المسائل ذاتها التي اصطرعت حولها الآراء والمذاهب في البصرة خلال القرن الثاني الهجري؟ أم الصواب هو أن نقول: إن ما ينبغي لنا أن نفعله بفكرنا الإسلامي اليوم هو أن نصنع بمشكلات حياتنا مثل الذي صنعه الأوائل في مشكلات حياتهم فلا نتكلف المسائل ولا نتصنع الصعوبات ولا نعيد مشكلات السلف وندعي أنها هي هي مشكلاتنا؟ إذن فالخطوة الصحيحة الأولى، على الطريق الصحيح، هي أن نسأل أنفسنا صادقين مخلصين: ما معوقات السير التي تقيد خطانا في عصرنا؟ وماذا تكون حلولها من منظور إسلامي؟ بمعنى أن تجيء تلك الحلول غير متعارضة ولا متناقضة مع العقيدة وشريعتها، وهنالك فرق بين أن نبحث عن تلك الحلول فيما بين أيدينا من كتب السلف، وبين أن نصب فاعليتنا العقلية الخاصة على المشكلات التي تعترضنا، مراعين ألا تجيء نتائجها الفكرية غير متعارضة مع أصول العقيدة والشريعة، وبمثل هذه الوقفة وحدها يمكن القول بأن لنا ما يصح أن يطلق عليه اسم «الفكر الإسلامي»؛ لأن الفكر في هذه الحالة هو فكرنا، والمشكلة مشكلتنا، وليس للسلف علينا درجة تبيح أن تنقل عنهم المسائل وحلولها؛ لأن لنا مسائلنا وينبغي أن تكون لنا حلولها. إنه لمن الخير أن نرسم خطا فاصلا نفرق به بين ما نصفه بأنه «فكر إسلامي» من جهة، وبين ما يصح وصفه بأنه فكر «المسلمين»؛ فالدائرتان متداخلتان إلى حد قد يؤدي بنا إلى شيء من الغموض، فعلى الرغم من أن الفكر الإسلامي قد اضطلع بمعظمه مسلمون؛ إلا أن المسلمين قد كان منهم إلى جانب ذلك علماء ذوو فكر إنساني عام لا يتقيد بصفة تقصره على ديانة دون ديانة أخرى؛ فبينما الفكر الإسلامي، كما أسلفنا، هو الفكر المتعلق بالعقيدة الإسلامية وشريعتها، نرى للمسلمين فكرا في شتى نواحي العلم والمعرفة، مما لا يختص بالعقيدة والشريعة، وليس فيه من الإسلامية إلا إسلام صاحبه؛ فعالم الرياضة، وعالم الفلك، وعالم الكيمياء، وعالم البصريات، بل نستطيع أن نضيف أنواعا أخرى من ضروب الكتاب، كالرحلات، ونقد الأدب، وعلم الحيوان وعلم النبات، وغيرها، كل ذلك ضروب من العلم وضروب من المعرفة قام بها مسلمون، حتى لقد أصبحت جزءا مهما فيما نسميه بالتراث العربي، إلا أنه لا يندرج فيما نسميه بالفكر الإسلامي، أو قل إنه لا ينبغي له أن يندرج، حتى لا نتعرض بعد ذلك للخلط بين مجال ومجال، وهو خلط يحدث فعلا، ويسوقنا إلى مطالبة المفكر المسلم، الذي يجول بفكره في مجال علمي محايد، بأن يلتزم بما لا يلزم في منهجه العلمي.
فما الموضوعات التي تناولها السلف مما نعده فكرا إسلاميا؟ لعلنا نستضيء بهم فيما يجب علينا فعله اليوم إذا ما أردنا فتح آفاق جديدة لفكرنا الإسلامي تتناسب مع حياتنا في هذا العصر الذي نعيش فيه. سنضرب أمثلة لما تناوله السلف من مسائل كونت ما نسميه بالفكر الإسلامي عندهم، وأول ما نذكره من تلك الأمثلة، طائفة كبيرة من المفاهيم التي وردت في القرآن الكريم، فكانت بمنزلة عمد يقوم عليها البناء الديني؛ فرأى مفكرو السلف أن يتناولوا تلك المفاهيم بالتحليل، ليبرزوا منها جوهر المعنى، وبالطبع لا نتوقع أن يتفقوا جميعا على نتائج بعينها؛ إذ الأمر موكول إلى قدرة الباحث الفاحص على تحليل ما أراد تحليله من تلك المعاني، ومن هنا تفرقوا شيعا ومذاهب في الموضوع الواحد: فهنالك - على سبيل المثال - من فرق «المتكلمين»: المعتزلة، والأشعرية، وأهل السنة، وهنالك الظاهريون والباطنية، وهنالك فروع وفروع للفروع؛ حتى لقد اقتضى الأمر من مؤرخي الفكر أن يؤلفوا كتبا توضح الفوارق الدقيقة بين فرقة وفرقة في فهم كل منهما للمعنى المعين الذي تناولته بالشرح والتحليل.
وفي مقدمة تلك المبادئ الأولية في الإسلام، التي وقع عليها اهتمام الفكر الإسلامي؛ «وجود الله» عز وجل، وإقامة البراهين على ذلك الوجود، والمعنى المقصود «بالوجود». ويتبع ذلك صفة «الواحدية» و«الأحدية»؛ فالله سبحانه وتعالى «واحد» «أحد» فماذا نفهم من كل من هاتين الصفتين؟ فبينما «الواحدية» تتجه إلى الجانب العددي من حيث إن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له؛ نجد «الأحدية» تتجه إلى ائتلاف الصفات في الذات الإلهية؛ فلله سبحانه وتعالى صفات يذكرها لنا الكتاب الكريم، منها أسماء الله الحسنى، لكن «أحدية» الله تقتضي ألا يكون بين تلك الصفات تناقض ولا تضاد ولا إلى نوع من أنواع التعارض، ولنلحظ في هذا الصدد أن بعض تلك الصفات، التي هي مطلقة لا تحدها حدود؛ حين تنسب إلى الله جل وعلا تكون في البشر في صور مقيدة بحدود. ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أنها قد يتعارض بعضها مع بعض في الذات الإنسانية الواحدة؛ كأن تتعارض الإرادة - مثلا - مع القدرة، فيريد الفرد الإنساني أكثر مما هو قادر عليه، أو يكون في قدرته ما هو أكثر مما يريده، وهكذا، وبمقدار هذا التنافر بين الصفات في الإنسان تتعرض أحدية التكامل في كيانه. ولقد كانت صفات الله سبحانه وتعالى، وعلاقتها بذاته الإلهية؛ موضوعا من أهم ما شغل به الفكر الإسلامي عند القدماء، وكان محور الإشكال في ذلك هو صعوبة التوفيق بين واحدية الذات وتعدد الصفات؛ فكيف تفهم تلك الصفات في تعددها بحيث تظل «الوحدانية» على كمالها المطلق؟
ومن الصفات التي احتلت في الفكر الإسلامي مكانة متميزة صفة «العدل»، وهي منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنها صفة وثيقة الصلة بحرية الإرادة عند الإنسان أو جبرها. ولقد تميز «المعتزلة» بالإصرار على أن يكون الإنسان حر الاختيار فيما يفعله أو ما ينصرف عن فعله؛ لأنه إذا لم يكن كذلك تعذر علينا تصور «العدل» في محاسبته على فعل كان مجبرا بمشيئة إلهية سابقة على فعله، وهو موقف عارضته «الجهمية»، الجهم بن صفوان وأتباعه، إذ الإنسان في رؤيتهم مسير في كل دقيقة وجليلة مما يقول أو يفعل، حتى إذا ما أشير إلى «العدل» ماذا يكون معناه عندئذ، من حيث هو صفة لله عز وجل؛ قالت الجهمية بوجوب الفصل بين معنى العدل منسوبا إلى الله سبحانه وتعالى، والعدل منسوبا إلى الإنسان. وكانت صفتا «التوحيد» و«العدل» من أهم ما تميز المعتزلة بوقفة خاصة إزاءهما، مختلفين في تلك الوقفة عن سائر الفرق، حتى لقد كانوا يقولون عن أنفسهم: «نحن أهل توحيد وعدل.»
وتعرض الفكر الإسلامي عند الأقدمين لمسائل أخرى كانت في تقديرهم من كبريات المسائل؛ من أهمها فكرة «الإمامة» ومسألة «خلق القرآن»؛ فأما «الإمامة» فقد نشأت فكرتها نابعة من ضرورات الحياة التي عاشها الأولون بالنسبة إلى دينهم، وخلاصتها هي أنهم تساءلوا، بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، من ذا يكون المرجع الحاسم الذي يرجع إليه إذا ما استشكل عليهم أمر في فهم الكتاب الكريم؟ إنهم إذا تركوا ذلك لاجتهاد العلماء؛ جاز أن تتعدد وجهات النظر، فلا يدري أحد عندئذ من الذي وفق إلى الصواب، ومن الذي فاته التوفيق؛ إذن، فلا بد أن يكون للمسلمين «إمام» معصوم، يوحى إليه بالمعنى الصحيح، ولا بد كذلك أن تتسلسل هذه المنحة الإلهية في إمام جديد كلما مات إمام. ولقد تعلق شيعة «علي» - كرم الله وجهه - بفكرة الإمامة هذه؛ فوصلوها بالإمام علي وبنيه من بعده، مع اختلافهم بعد ذلك في تخصيص الفرع المعين من أولئك البنين، الذي يختص بالإمامة.
تلك مسألة، ومسألة أخرى رجت الفكر الإسلامي رجا عنيفا عند السلف، وأعني بها مسألة «خلق القرآن»؛ وشرح ذلك في إيجاز هو أن تساءل من تساءل عن القرآن الكريم قائلا ما معناه في إيجاز: إن القرآن كلام الله، ولا يعقل أن يخلو وجود الله سبحانه من كلامه إلى أن حان وقت نزوله على محمد عليه الصلاة والسلام؛ إذن تنتج لنا نتيجة ضرورية، وهي أن كلام الله أزلي مع أزلية الله سبحانه وتعالى، أو بتعبيرهم: هو «قديم» بقدم الله سبحانه وتعالى. وأخذ بهذا الرأي من أخذ، لكن كان هنالك من رجال الفكر الإسلامي من عارضه، وخصوصا من فرقة «المعتزلة»؛ إذ رأوا قدم القرآن، أو أزليته؛ إنما تنصرف إلى «الفكرة»، ولا تنصرف إلى الحروف والكلمات والجمل التي نزلت بها آيات الكتاب الكريم، بل إن هذه «حادثة» - وهذه هي الكلمة التي استخدموها - أي إن اللغة المعينة التي تجسدت فيها «الفكرة» إنما خلقت خلقا عند نزول الوحي بها إلى النبي الكريم . ولقد كانت ترجح هذه الكفة مرة ، وتلك الكفة مرة، مع اختلاف الرأي عند الخلفاء؛ فإذا كان الخليفة من أنصار «قدم» القرآن أراد لهذا الرأي أن يكون له الرجحان، وكذلك إذا كان الخليفة مؤيدا للمذهب الثاني، وهو أن القرآن مخلوق وحادث، أراد لمذهبه أن تكون له الصدارة.
بتلك المسائل وأمثالها نسج مناخ الفكر الإسلامي عند الأوائل، وهنا أود أن أعود بالقارئ إلى «التعريف» الذي أسلفت ذكره في أول هذا الحديث، وأعني تعريف المعنى المقصود بكلمة «فكر»، وكذلك تعريف المعنى المقصود بكلمة «إسلامي» حين نصف بها ذلك الفكر، ولم يكن الأمر في هذين التعريفين اعتسافا، مما يسهل علينا رفضه لنحل محله تعريفين آخرين؛ بل هما تعريفان مأخوذان من المادة اللفظية ذاتها التي صيغت بها لفظة «فكر» ولفظة «إسلامي» صفة لذلك الفكر؛ فلا بد أن يكون «الفكر» بمعناه الأوفى، إيجادا لحل تنفك به عقدة استعصت بادئ ذي بدء، ثم لا بد كذلك، لكي يكون ذلك الفكر «إسلاميا»؛ أن يكون منصبا على مسائل متصلة بعقيدة الإسلام وشريعته، فماذا نقول لزاعم منا إذا زعم أن المشكلات التي تعرض لها الفكر الإسلامي عند أسلافنا ما تزال هي هي المشكلات التي بقيت لتتحدى رجال الفكر الإسلامي في عصرنا وفيما يلي عصرنا إلى أبد الآبدين؟ وإذا كان أمرها كذلك، فما الذي أنجزه الأولون إذن؟ أليست المسألة المعينة إذا وجد حلها أو حتى إذا تعددت منها الحلول الممكنة تكون قد انتقلت بذلك من دائرة المجهول إلى دائرة المعلوم؟ فإلا تكن قد بلغت الحد الحاسم من الحل؛ فلا أقل من أن تكون قد خف عنها بعض إشكالها، ما يستدعي أن يتجه الفكر الإسلامي في عصر جديد إلى الانتقال نحو أفق جديد من المشكلات والرؤى، ربما يكون ذلك العصر الجديد قد استحدثها للمسلم، استحداثا يقتضيه أن يقوم بالمهمة نفسها التي اضطلع بمثلها أسلافنا الأولون في عصرهم أو عصورهم.
وتلك هي حقيقة الواقع التاريخي كما وقع؛ فقد جاءنا عصرنا بجديد يحتم على القادرين من أبناء الأمة الإسلامية أن يواجهوه، وماذا صنع الفلاسفة المسلمون الأولون غير هذا؟ لقد وجدوا بين أيديهم «حكمة» نقلها الناقلون إلى اللغة العربية عن اليونان الأقدمين فدفعتهم طبيعة العقل دفعا، إلى النظر فيما كان لديهم من «شريعة» وهذا الذي نقل إليهم من «حكمة»؛ ليروا أين يكون اللقاء أو لا يكون؟ وحسبنا أن نقرأ هذا العنوان لكتاب من مؤلفات «ابن رشد» وهو: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال»؛ لنعرف في أي اتجاه اتجهت به اهتماماته وهمومه، فما الجديد الذي جاءنا به هذا العصر؟ أو ما هي أمثلة منه مما لا بد لنا إزاءه أن يكون لنا فكر إسلامي في موضوعه؟
نستطيع في جملة واحدة قصيرة أن نوجز الجديد الذي جاء به هذا العصر، أو قل الجديد الذي جاء له هذا العصر؛ بحيث أصبح قطبا تدور حوله الرحى، مهما اختلف نوع الغلال التي توضع فيها لتخرج طحنها، وتلك الجملة الواحدة القصيرة الشاملة، هي أن عصرنا هذا قد جاء ليقرأ كتاب الكون على نطاق أوسع جدا وأعمق جدا مما فعل ذلك في كل ما عرفه التاريخ البشري قبل هذا مما يتجه به في هذا الاتجاه؛ وقراءة كتاب الكون مؤداها أن يكشف القارئون عن قوانين الظواهر الكونية التي تتبدى في كل أرجائه، وهي بالطبع لا تتبدى للإنسان دفعة واحدة وفي واحد، كلا، ولا هو بقادر على أن يكشف عن القوانين التي تطرد عليها تلك الظواهر التي يكون على وعي بوجودها؛ فالطريق إلى الغاية القصوى في هذا السبيل طريق طويل، يقترب الإنسان من غايته خطوة قصيرة بعد خطوة قصيرة، لكنه لن يبلغ آخر المدى ما بقي في الكون إنسان باحث، إلا أن في هذا السير الوئيد على طريق المعرفة بقوانين الظواهر الكونية؛ ما يكفي ليجعل عصرنا متميزا عن كل ما سبقه من عصور. نعم، كان للإنسان «علم» بالأشياء، يقل هنا ويكثر هناك، منذ أن نشأ وعرفت له الدنيا سعيه الحثيث في سبيل معرفته لدنياه، إلا أن ذلك العلم السابق كله - ربما نستثني أمثلة لا تبلغ أصابع اليد الواحدة عددا - قد وضع ثقله على غير الكون وقوانينه التي تسير ظواهره على مقتضاها، وكان الجانب العلمي الذي مهر فيه السابقون هو العلوم الرياضية بشتى فروعها؛ وذلك لأن الفكر الرياضي لا يتطلب من صاحبه نظرا إلى الكون وما فيه؛ إذ يقام على فروض يفرضها الرياضي وهو جالس في داره.
فلسنا نبعد عن الصواب مقدار إصبع واحدة إذا قلنا إن العلم الطبيعي بكل فروعه - وإذا قلنا العلم الطبيعي فقد قلنا محاولة الكشف عن قوانين الظواهر الكونية - قد ولد منذ أربعة قرون أو ما يزيد قليلا، وجاءت له حصيلة في تلك الفترة الوجيزة غيرت حياة الإنسان على الأرض تغيرات لا حدود لأعماقها، ولم يكن لعلماء المسلمين - بصفة عامة - مشاركة في هذه اللفتة العلمية الجديدة من تاريخ الإنسان، لماذا؟ لأن قراءة الظواهر الكونية لاستخراج قوانينها، ثم استخدام تلك القوانين في حياة الإنسان، تحتاج إلى منهج بحثي غير المنهج الذي كان قبل ذلك في النظر العلمي، عندما كان ذلك النظر مؤسسا على الفكر الرياضي، الذي هو فكر يبدأ مما هو مسلم به، ليستولد النتائج التي كمنت فيه، وتلك صفة لا تقتصر على علوم الرياضة وحدها - من حساب وهندسة وجبر - بل تمتد لتشمل ضروبا أخرى من المعرفة العلمية التي إن لم تكن من تلك العلوم الرياضية في موضوعها ورموزها؛ فهي قائمة على منهج واحد معها. وأما العلوم الطبيعية فشيء آخر موضوعا ومنهجا، ولقد كان لعلماء المسلمين الصدارة عندما كان النهج الاستنباطي لم يزل قائما، لا ينافسه منهج آخر، ومن ثم رأينا بينهم من نوابغ العلم نفرا لمعت نجومه وما تزال تلمع على صفحات التاريخ، سواء أكان ذلك في العلوم الرياضية بمعناها المباشر أم في العلوم الأخرى التي تصطنع المنهج الرياضي في طرائق استدلالها، كالفقه الإسلامي وغيره، فلما أن ولد العلم الطبيعي الجديد، ليقرأ به العلماء كتاب العالم بمنهج جديد؛ قصر المسلمون دون اللحاق بالركب في عهده الجديد، فلم يشاركوا فيه إبداعا وكشفا وإنتاجا، واكتفوا - على أحسن الفروض - بالنقل عن أصحاب العلم الجديد نتائجهم التي يصلون إليها ويثبتونها في مؤلفاتهم، ثم يجسدونها في صناعاتهم؛ وربما كان هذا القصور من جانب المسلمين، ليكون غير ذي وزن، لولا أن نتائج العلم الجديد أصبحت هي المصدر الأساسي للقوة والثراء والمعرفة؛ فلم يلبث تاريخ الإنسان طويلا حتى سجل في كتابه أن العالم الإسلامي كله تقريبا قد وقع في قبضة أصحاب العلم الجديد بمنهجه البحثي الجديد.
فماذا نريد للفكر الإسلامي أن يصنع إزاء هذا الموقف المرفوض؟ إننا نريد شيئين: أولهما أن ينصت جيدا لصوت القرآن الكريم وهو يحث المسلم على معرفة الكون، وماذا تكون تلك المعرفة في اكتمالها إلا أن تكون هي المعرفة العلمية بظواهر الكون - التي منها تولد العلوم التي نسمع عنها - ويدرسها أبناؤنا في الجامعات، لكننا لا نشارك في صنعها، كعلوم الفيزياء من علم للضوء وعلم للصوت وعلم للكهرباء وهكذا، كل ما يحتاجه العالم الإسلامي من علماء الفكر الإسلامي - في هذا الصدد - هو البيان بأن كتاب الله يأمر المسلمين القادرين على العلم بالكون وظواهره، وأن طاعة المؤمن لما قد أمر به الله هو عبادة. وأما الشيء الثاني الذي نتطلبه من علماء الفكر الإسلامي في هذا السبيل، فهو أن تتجه دعوتهم نحو أن يدخل المسلم عصره هذا، مقبلا عليه بعقله وقلبه، لا رافضا أو نافرا، لكنه في الوقت نفسه، إذا ما دخل عصره مشاركا في بنائه ونشاطه، سيجد ما يكمن في أصلابه من عوامل الضعف التي تنعكس آثارها فيما نراه من ألوان الشقاء في حياة الإنسان النفسية والعملية على حد سواء؛ ما أدى إلى علل يعرف بوجودها وبضراوتها رجال الفكر المعاصر جميعا، ويذكرون منها: القلق، والتمزق، واليأس، والعنف، والاغتراب، وما إلى ذلك من قائمة طويلة. وها هنا سيجد المسلم في أجلى وضوح كيف يمكن أن يكون علاج ذلك كله في جوهر العقيدة الإسلامية، ولكن كيف؟
إن رسالة الإسلام الأولى هي «التوحيد»؛ التوحيد بجانبيه «الواحدي» و«الأحدي» معا؛ فأول شروط الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، فليس لله سبحانه وتعالى شريك في ملكه.
إذن، فهذا جانب من التوحيد يشير إلى الناحية العددية منه، وأما الجانب الآخر ، الذي يتجلى في قوله تعالى:
قل هو الله أحد ؛ فيشير إلى أحدية تظهر في اتساق الوجود الإلهي، وعدم انقسامه على نفسه، ومن ثم كان سبحانه وتعالى هو «الله الصمد» الذي يصمد وجوده الواحدي من الأزل إلى الأبد، ذلك هو الأساس الأول في عقيدة المسلم، وهو أساس إن لم يتناوله الفكر الإسلامي بالشرح الطويل الواسع العميق، ظل عقيدة في قلب المؤمن، لا يكاد يطير لها أثر في صور الحياة العلمية التي يحياها. وأما إذا استخرجت أعماقها ليراها من آمن بها، اختلف معه الشأن اختلافا جوهريا؛ ومن تلك الأعماق، أن يشعر المسلم المؤمن حقا برسالة دينه، بأن وحدانية الله وأحديته تتجلى في الكون العظيم بأجزائه وظواهره، كما تتجلى في الفرد الواحد من الناس إذا جاء سويا في تكوينه، وتتجلى - نتيجة لتكامل الأفراد إذا تحقق - في المجتمع الذي هم أعضاؤه، أسرة كان أم شعبا أم أمة بأسرها، فأما واحدية الكون العظيم وأحديته، اللتين هما انعكاس لصفات خالقه بديع السماوات والأرض؛ فلن يراهما إلا العلماء الدارسون؛ وإن هؤلاء ليرونها بمقدار ما علموا ودرسوا؛ وذلك أن العين المجردة في براءتها وسذاجتها، إذ ترى فيما حولها تلك الكثرة الهائلة من الأشياء وعناصرها، تحسب أن تلك الكثرة تعدم ما يوحدها، حتى إذا ما أخذت العين تبصر الأمر وتعلمه على حقيقته؛ وجدت كل شيء مرتبطا بكل شيء، ولا يتسع مجال القول هنا لتفصيل ذلك، وهو موضوع يقع في صميم الفكر الإسلامي في آفاقه الجديدة. ولما كانت تلك الوحدة الضامة للكائنات جميعا في كون واحد، إنما هي وحدة توصف على سبيل التقريب والتشبيه، بأنها وحدة «عضوية» بين الأجزاء؛ أي إنها وحدة تشبه الوحدة في الكائن الحي، ثم هي وحدة تبلغ ذروة تساميها في الإنسان، رغم أنه أشد الكائنات تركيبا لعناصر وجوده، وقل هذا - بالتالي - على صور المجتمعات التي يكون فيها الإنسان الفرد عضوا من أعضائها.
فإذا عرفنا أن الكثرة الغالبة من علل العصر ومواضع قصوره، ترجع آخر أمرها إلى تفسخ في «وحدة» الإنسان فردا ومجتمعا، بحيث لم يعد الفرد الواحد متكامل الرؤية؛ لأنه لم يعد قادرا على جمع المختلفات في كيان واحد، فهو في دخيلة نفسه منقسم على نفسه، يعمل ما ليس يدري له أولا من آخر، فلماذا يعمل ما يعمله؟ وإلى أي نتيجة ينتهي؟ إنه يعجز عن الجواب، وهو موقف إذا اتسع؛ أصبح موقفا يشمل الحياة بأسرها: فلماذا هو يسعى؟ وإلى أي شيء يسعى؟ إنه يعجز عن الجواب، إلا الذين آمنوا إيمانا بصيرا؛ فهم الذين يوحدون الأطراف التي تبدو متباعدة متنافرة، وإذا هي توحدت أمامهم؛ ظهر معناها، فمن ذا الذي يستطيع الوصول إلى أعماق هذه الفكرة، أكثر مما يستطيعه مفكر إسلامي بنيت عقيدته الدينية أساسا على مبدأ التوحيد؟ على أن الأمر في ذلك، إذا ما جعله الفكر الإسلامي الجديد هدفا من أهدافه؛ فلا يقتصر على مؤلفات تؤلف لتوضع في خزائن الكتاب، بل لا بد أن يتسرب مضمونها قطرة قطرة إلى «التربية» في الأسرة، وفي المدرسة، وأن يسمع ويشاهد مجسدا فيما يذاع في الناس من عوامل التثقيف.
لقد أدار عصرنا حياته الفكرية على محور مشترك بين مختلف التيارات الثقافية في العالم، وأعني في أقطار العالم التي هي مسئولة قبل غيرها عن توجيه العصر في مساره الذي يسير فيه؛ وذلك المحور المشترك، الذي يظهر لنا واضحا من شتى المذاهب الفكرية، حتى وإن بدت في ظاهرها مختلفة بعضها عن بعض، هو أن «الإنسان» يجب أن يكون هدفا أسمى، بإنسانيته التي هي ما هي كما يعرفها كل فرد منا في ذاته؛ ومن هذا المدخل يمكن للفكر الإسلامي أن يدخل رائدا وهاديا، بادئا بسؤال عن حقيقة هذا الإنسان ما هي؟ فإذا استلهم المفكر المسلم أصول عقيدته، وجد للإنسان صورة ينبغي أن يعرفها العصر، كلما جعل «الإنسان» هدفا للبنيان الحضاري كله، وللأنشطة الثقافية بأسرها. ومرة أخرى نكرر الشرط الموجب لأن يعمل الفكر الإسلامي على التسلل بنتائج فكره هذا، في مجالات التربية والتثقيف؛ ليتحول الفكر المجرد إلى عادات سلوكية في حياة الجيل الناشئ.
لقد كان محمد إقبال، بكتابه «تجديد الإسلام» نجما من ألمع النجوم بريقا في سماء الفكر الإسلامي الحديث؛ ولعل أبرز حقيقة مما أورده في ذلك الكتاب هي دور «العقل» في حياة المسلم، كما أرادها له القرآن الكريم؛ فلقد كان الإسلام هو الديانة الوحيدة التي أحالت الإنسان إلى «عقله» فيما تستحدثه له الحياة من مشكلات، ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات الدينية؛ لأن الرسالة بعد ذلك أصبحت المنوط بها عقل الإنسان، وإذا أخذنا باحتكام الإنسان إلى عقله، فقد اعترفنا ضمنا بضرورة احتكامه إلى «العلم» بما يكشفه عن حقائق العالم بمنهجه في البحث، وهو منهج فصلت القول فيه الكتب المختصة بهذا الجانب من الفكر العلمي، وحسبنا هذه اللفتة «الإقبالية»؛ لنتجه بالفكر الإسلامي نحو آفاقه الجديدة.
تخليص وتلخيص (1)
ثقافة الفرد الواحد، وثقافة الشعب الواحد، وثقافة العصر الواحد؛ ليست بالكائن البسيط الذي تستطيع أن تشير إليه بإصبعك لمن تحدثه، قائلا له: تلك هي ثقافة هذا الفرد من الناس، أو ثقافة هذا الشعب، أو ثقافة هذا العصر، بل هي أشبه بنسيج تشابكت خيوطه وتقاطعت وتلاحمت، حتى ليتعذر على من اضطلع بتحليلها إلى عناصرها أن يميز بين خيوطها خيطا خيطا، وإذا فرضنا أن مثل ذلك التحليل قد وجد من القادرين قادرا قد استطاعه؛ فإنه بقدر ما استطاع أن يحققه من فك الخيوط ليميزها خيطا من خيط، يكون قد بعد ما أصبح بين يديه من أجزاء عن «الثقافة» التي لا يتوافر لها كيانها إلا وهي منسوجة الخيوط في حياة موحدة، كما تتوحد الخيوط في الثوب! فإذا كنا قد جعلنا الثقافة العربية موضوعا لأحاديثنا المتفرقة، وتناولناها من أطراف متعددة، فما كان ذلك إلا كما يكون الأمر في كل بحث عن حقائق الأشياء؛ إذ لا بد في كل حالة من تلك الحالات أن يحلل الشيء المدروس إلى عناصره التي يتألف منها، ما استطاع الباحث أن يبلغ من هذا التحليل، حتى إذا ما عاد إلى تركيب العناصر ليعود الشيء المدروس إلى تركيبته التي كان عليها، كان ضوء العلم قد أضاء دخيلته وحقيقته أمام كل ذي بصر أراد أن يرى ليعلم، فنحن إذ نشرب الماء لا نبالي أبسيط ذلك الماء أم مركب؟ إلى أن يهم رجل من رجال العلم، فيسلط عليه أشعة البحث، فإذا الماء مركب من عنصرين تفاعلا واندمجا فأصبحا قطرة ماء، فتسألني: وماذا كسبناه من ذلك التحليل ما دام الماء في أفواهنا هو الماء قبل التحليل وبعده؟! والجواب هو أن ذلك الماء الذي تشربه، لو كان ملوثا بما ليس من طبيعته؛ لما أدركت تلوثه حق الإدراك، إلا بعد أن تكون قد تحققت من العناصر التي يتركب منها الماء الخالص، وعندئذ يصبح في مستطاعك أن تحدد الشوائب التي أضيفت فتزيلها.
وهكذا قل في الحياة الثقافية للفرد، أو للشعب، أو للعصر، فإذا ظل الناس يتنفسون تلك الحياة شهيقا وزفيرا، دون أن يكونوا على علم بحقيقة ما يتنفسونه من حيث عناصره التي دخلت في تركيبه؛ لما استطاعوا قط أن يعرفوا مواضع الضعف من تلك الحياة ليعالجوها أو ليبتروها، وهنا يلزم التنبيه على أن ما قد أصبح موضع ضعف في ثقافة ما، ربما كان هو هو نفسه الذي كان يوما مصدر قوة، ثم تغيرت عليه الظروف فأصبح مرضا بعد أن كان عافية، إنك لا تؤاخذ الطفل على قضاء يومه في اللعب، بل إنك لتحضه عليه إذا تراخى فيه وأهمله؛ لأنك تعلم أن اللعب للطفل وسيلة تنمو بها قدراته، حتى إذا ما كبر طفلك وبات شابا، ثم رأيته يواصل حياة الطفولة، بأن يجعل من اللعب مشغلته طول يومه، أخذك القلق وعملت على تقويمه وعلاجه.
وماذا يكون المعيار الذي نعلم به أن ثقافة ما قد دب فيها خلل في موضع من نسيجها أو في أكثر من موضع؟ إن هذا المعيار المنشود بسيط وواضح، أشد ما تكون معايير الظواهر بساطة ووضوحا، ألا وهو مدى لياقته لظروف الحياة القائمة! ومعنى «اللياقة» هنا هو القدرة على تسخير الأشياء والمواقف والأحداث، تسخيرا يجعلها مطية لنا، نبلغ بها منازل العلم، والقوة، والثراء والكرامة، والحرية ... إلى آخر تلك الغايات التي ينشدها كل إنسان معافى، ولا يغفل عن طلبها إلا إنسان مريض؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب، أو العصر من العصور، إنما يراد لها أن تكون أداة لبلوغ ما كان في المستطاع بلوغه من درجات الصعود، فإذا وجدت إنسانا تتعثر خطاه، ويأخذه اضطراب وربكة، إذ هو في موقف معين؛ فاعلم أن «ثقافته» التي تراكمت فيه قطراتها قطرة قطرة من حيث يدري ولا يدري لم تكن هي الثقافة التي تعد صاحبها لمثل ذلك الموقف؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب. هي كالدفة من السفينة، إذا غابت فقد تسبح السفينة على سطح الماء كما يشاء لها تيار الماء واتجاه الريح، وليس كما يشاء لها صاحبها وراكبها، وإنها لصورة مألوفة لنا، نتفكه بها في أحاديثنا، ونمثلها على مسارحنا، وهي أن نضع إنسانا في غير مألوفه لنرى ربكته، كأن نضع ريفيا في مدينة، بل نتخير له من المدينة أسرة مرهفة التحضر في مسالكها، وعندئذ نرى كيف يتخبط الريفي في معالجته للأشياء من حوله، وفي ردود أفعاله للمواقف التي تنشأ له وهو لم يألف أشباها لها، فنراه عندئذ لا يتحرك حركة، ولا ينطق بكلمة، إلا وجد الحركة في غير سبيلها، والكلمة في غير سياقها؛ وإذا هو بهذا كله قد أصبح هدفا للنكات الساخرة، وباعثا على الضحك.
وليس الفارق بعيدا بين ذلك الريفي البريء وهو في محيط لم يعد بثقافة تهيئه للعيش فيه عيش صاحب الدار في داره، يعرف كيف يتحرك في غرفها وأبهائها، وكيف يستخدم كل ما فيها من الأدوات وقطع الأثاث، أقول إن الفارق ليس بعيدا بين ذلك الريفي وهو في غير محيطه، وبين شعب أهمل نفسه حتى تخلف عن ركب الحياة، فإذا اضطرته ظروف حياته أن يوضع في المواضع التي تقدمت من ركب الحضارة، أدرك كم هو أعزل من «ثقافة» تمكنه من مواجهة محيطه مواجهة القوى القادر، وإن المسافة الحضارية بينه وبين طليعة الركب؛ لتتبين له ليعرف كم هي بعيدة، كلما نشأ بينهما موقف للتصادم، كحرب تشتعل فلا تكاد تقوم أول شرارة منها حتى يظفر بالنصر ذلك الذي وجه دراسته نحو العلم الصحيح ، الذي يخرج به أسلحة الحرب جنبا إلى جنب مع ما يخرجه من آلات المصانع، أو أن ينشأ بينهما تنافس اقتصادي في أي صورة من صوره فإذا بذلك الذي أهمل نفسه حتى تخلف عن الركب؛ يرى بعينيه كم يجهل هو وكم يعلم منافسوه!
واضح لنا - إذن - أن علامة «الثقافة» الصحيحة هي قدرتها على أن تكون أداة لحياة قوية مزدهرة قادرة على أن تكون لها الهيمنة في الظروف المحيطة بها. وبهذه الدرجة نفسها من الوضوح نقول عن «الثقافة» المعافاة، إنها هي التي لا تتجمد عروقها حتى يشل حاملها أو يموت بتصلب الشرايين؛ ففي الثقافة الصحيحة مرونة تتكيف بها كلما تغيرت من حولها ظروف الحياة، ولو كانت تلك الظروف المستحدثة هي مما ينحدر بالإنسان إلى مهاوي الضعف والجهل والفقر؛ لقلنا عن الثقافة الصحيحة إنها هي التي تقاوم تلك الظروف المستحدثة، ولكن ماذا لو كان المستحدث عاملا على زيادة في العلم وفي القدرة وفي الارتفاع بمنزلة الإنسان ارتفاعا يقربه مما أراده له خالقه سبحانه وتعالى من كرامة وتكريم؟ من هنا وجب على الثقافة الصحيحة أن تجيء وفي أصلابها دوافع تدفع حامليها على تقبل التغيير، كلما ضاقت أثوابهم الحضارية عن أبدانهم؛ فليس يراد لصاحب ثقافة ما أن يكون عبدا لثقافته تلك، يحرسها لتدوم على حالها حتى إن دب فيها الضعف والمرض، بل يراد للمثقف ثقافة معينة أن يكون منها ما يكون الإنسان من أدوات عيشه، يبدلها بما هو أصلح، إذا تغيرت الظروف وظهر فيها ذلك الأصلح.
وما التغيير الذي نطلبه؟ ما البوصلة التي تبين لنا الاتجاه الصحيح حتى لا نضل الطريق ونحن في محيط الماء أو في فلاة من الصحراء؟ إننا إذا تأملنا حياة الإنسان الثقافية بصفة عامة، وعلى امتداد تاريخها وعريناها عن تفصيلاتها الكثيرة لنخلص إلى هيكلها المجرد؛ وجدنا ذلك الهيكل وكأنه مؤلف أساسا من سماء وأرض وبينهما إنسان، والسماء هنا رمز نرمز به للدين، والأرض رمز نرمز به للكون الطبيعي الذي في رحابه يقضي الإنسان حياته منذ يولد إلى أن يموت، وأما الإنسان ففي فطرته ما يتجانس به مع مادة هذا الكون؛ لأن له جسدا خلق من طينة الأرض! وكذلك في فطرته ما يسمو به إلى شفافية الملائكة؛ لأن له روحا إذا آمنت بالله حق الإيمان كانت كمن نفض عن نفسه ثقل المادة وكثافتها وظلامها، وعلى هذا الهيكل جاءت العصور الثقافية؛ فعصرا يكون المثل الأعلى للإنسان في حياته هو أن يزدري الأرض ويعف عنها؛ أملا في حياة آخرة فيها نعيم الخلد مرضيا عنه عند ربه، لكنه إذا ازدرى الأرض فقد ضاعت من يديه العلوم ومعها معرفته بأسرار الكون، وضاعت الدوافع الحضارية كلها؛ إذ لا يكون ارتقاء الإنسان عندئذ مرهونا بارتقاء حضارته، بل يكون الارتقاء معتمدا على العبادة والزهد في الحياة الدنيا بكل ما فيها، لكن عصرا آخر قد يجيء وإذا بالمثل الأعلى يتغير محوره؛ فبعد أن كان تطلعا من الإنسان إلى السماء عابدا وزاهدا، يصبح وعيناه مع قدميه على هذه الأرض، يحرثها ويزرعها، ويستخرج معادنها من بطنها، ويقيم المدن وتعج به الحياة حركة وصناعة وحروبا وسعيا إلى القوة بشتى صورها.
ولقد خيل للإنسان أن المناخ الثقافي الذي يسود هذا العصر أو ذاك لا يخلو أن يكون على إحدى الصورتين: فإما هو مناخ صلح بالتقوى وبالتجرد من شواغل الدنيا، وإما هو مناخ تشغله الدنيا عن الآخرة. واصطلح الناس على أن يصفوا الصورة الأولى ب «الروحانية»، وأن يصفوا الصورة الثانية ب «المادية»، والسعيد من الناس هو من وفقه الله إلى رؤية أخرى تكاد تفرض نفسها فرضا لبداهتها، وهي أن يجمع الإنسان بين دين ودنيا، وليس هذا الجمع - بالنسبة للمسلم على الأقل - جمعا بين ضدين لا يلتقيان بحكم طبعهما، إلا كما يتجاوز ضد مع ضده دون أن يندمج فيه، بل هو جمع يجعل أحد الجانبين سبيلا للوصول إلى الجانب الآخر، وصولا يحقق الصورة الأفضل والأمثل، فعن طريق هذه الدنيا، والعلم بكائناتها وظواهرها؛ يزداد الإيمان بالله جل وعلا، غزارة وعمقا، فإحساسك بعظمة الله إذا رأيت الضوء، أو نظام الأجرام السماوية، أو أدركت قوة الكهرباء؛ يزداد إذا عرفت من هذه المخلوقات كلها تفصيلات وجودها ، وقوانين سلوكها حين يتفاعل بعضها مع بعض، إن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأحديته؛ يقوى ويبصر إذا عرف الدارس عن طريق «العلوم» كيف تتألف كائنات هذا الكون، فيكمل بعضها بعضا، حتى لكأن الكون على سعته الواسعة وكثرة كائناته وتعدد قواه؛ كائن واحد موحد الأعضاء متكامل الوظائف، وحتى لكأنه كذلك بمنزلة مخلوق عاقل، جسده هو مادته التي نراها، وعقله هو نظامه في كل جزئية منه، ثم في مجموعه نظام مكننا عن طريق «العلوم» أن نستخرج «القوانين» العلمية التي على سننها تسلك العناصر وتتفاعل. وماذا يكون هذا الموقف الثقافي من الدنيا والدين الذي يجعل العلم بالدنيا سبيلا إلى عمق الإيمان الديني؟ إذا لم يكن هو الموقف الذي ينبغي لنا بأن نجعل منه مثلنا الأعلى في حياتنا الثقافية حين ننشط فيها أفرادا وشعبا، وحين نخطط لها، وحين نبثها بثا في نفوس الناشئة ونحن نتولاهم بالتربية وبالتعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا!
وقريب جدا من الهيكل الذي صورنا به أنماط الحياة الثقافية، في مختلف الشعوب ومختلف العصور، تصوير آخر ربما ازددنا به فهما للمعنى المقصود؛ فمن ينظر إلى التاريخ الثقافي بمختلف مراحله نظرة يغوص بها تحت السطح وصولا إلى أعمق الجذور؛ وجد ثلاثة محاور قوامها أفكار كبرى ثلاث، هي التي كانت في جميع الثقافات، بمنزلة الأنوال التي تنسج عليها حياة الناس الثقافية بكل تفصيلاتها، لم يختلف في ذلك شعب عن شعب، أو عصر عن عصر، وتلك المحاور الثلاثة، هي: الله، والكون، والإنسان، وفيها ينشأ الدين والعلم ونوازع الإنسان التي تدفعه هنا تارة وهناك طورا، فإذا كنا نتعقب ثقافات الشعوب وثقافات العصور، فنلحظ بينها اختلافات تميز بعضها من بعض؛ فإنما ذلك يرجع إلى اختلاف الترتيب الذي تجيء به تلك المحاور في فعلها وتأثيرها، فقد يكون الدين تارة هو نقطة البدء، وعليه يترتب النشاط العلمي، وما يتصل به من اهتمامات عملية، وكان هذا الترتيب هو الذي يخلع على حياة الإنسان صورتها العامة، فإذا كان الترتيب على عكس ذلك، بأن تكون الأولوية في اهتمامات الناس إلى العلم بالكون وظواهره وإلى شئون الحياة العملية بناء على ذلك العلم؛ جاء الدين وقد ازداد في نفوس الناس نورا على نور، ففرق بين من يأخذ عقيدته الدينية إيمانا لا يصحبه فهم لحقيقة ما آمن به، وبين أن يستعين المؤمن بعلمه بسر الكون وعظمته، في إدراكه لعظمة الخالق جلت قدرته، وربما كان ذلك جانبا من جوانب المعنى في قول الله سبحانه وتعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فمن يعلم عظمة الكون، عن طريق دراساته العلمية لظواهر هذا الكون وقوانينها، هو أعرف بجلال الله وعلمه وقدرته، ممن لا يعلم.
فالشعوب تختلف في مناخها الثقافي، والعصور تختلف في ذلك المناخ، باختلافها في تحديدها للفكرة التي توضع موضع الأساس من البناء، بحيث تجيء الأفكار الأخرى فروعا تستمد منها القوة والثراء، وذلك رغم اتفاق الجميع على المحاور الأساسية التي عليها يقام البناء، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي توجبه ثقافة عصرنا في هذا الصدد؛ هو أن نجعل الدراسة الدينية تبنى، في بعض وجوهها، على العلوم الكاشفة عن قوانين الكون ونظامه، وذلك لا ينفي أن تبدأ مع الطفل بتلقينه العقيدة وأركان العبادة، إيمانا لا يشترط فيه السؤال: لماذا؟ وكيف؟ حتى إذا ما شب ذلك الطفل، مراهقا، فشابا، وحصل ما حصله من علوم؛ عدنا به إلى إيمانه بما كان قد آمن به، ليعيد فيه النظر مستعينا بما قد حصله من علوم.
وانظر في ضوء ما ذكرناه، إلى الواقع الفعلي في حياتنا الثقافية، تلحظ ثلاثة أنماط أساسية، يختلف بعضها عن بعض، ثم تجيء بينها درجات متدرجة، تأخذ من هذا النمط شيئا، فهناك جماعة حصلت علوم الدين من كتب الدين، ولا شيء أكثر من ذلك؛ فألمت بمحتوى تلك الكتب إلماما لا يترك كبيرة ولا صغيرة مما ذكر فيها، بل إنها لتسوي بين الكبيرة والصغيرة؛ فيختلط عندها ما هو أهم بما هو مهم وبما هو قليل الأهمية، وهنالك جماعة أخرى تقع من الجماعة الأولى موقع الضد من ضده، وهي جماعة درست العلوم الدارسة لظواهر الكون، ولم تقرأ شيئا، ولم تسمع شيئا عما ورد في كتب الدين، فإذا كانت الجماعة الأولى قد حفظت الدين نصوصا وردت في كتب، ولم تتزود بعلوم العالم لتضيف إلى تلك النصوص المحفوظة أبعادا وأعماقا؛ فإن الجماعة الثانية قد اقتصرت على علوم العالم، لتطبقها على هذا العالم في ظواهره، دون أن تنقل ضوءها إلى نصوص الدين، وبين الجماعتين جماعة ثالثة، قليلة العدد، استطاعت أن تقف الوقفة الصحيحة؛ فنظرت إلى نصوص الدين من مناظير العلوم، ففتح الله عليها برؤية مضيئة بعيدة الآماد، واسعة الآفاق، فلو أن رؤيتها تلك، قد أتيح لها أن تتسع لتكون هي طابعنا الثقافي العام؛ لجاءت حياتنا اليوم على خير ما نتمنى، لكن الله لم يرد لنا مثل هذا التوفيق.
وإن هذا لينقلنا إلى ما كان ينبغي لنا أن نستهدفه بجدية وعزيمة مصممة على بلوغ الهدف المنشود، منذ بزغت شمس نهضتنا الحديثة في أوائل القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، وهو أن نعمل على نسج حياة ثقافية جديدة، فيها من هويتنا القومية التاريخية معالمها الجوهرية، التي هي روح التدين أولا، والتكافل الأسري على نطاق الأسرة الصغيرة، وعلى نطاق الأسرة الكبيرة، التي هي الأمة بأسرها، في آن واحد، ثم حرارة الانتماء إلى الوطن، أرضا وشعبا وثقافة، ومع تلك المعالم الرئيسية تندمج صفات أخرى نستمدها من عصرنا، وأهمها علوم هذا العالم، وهي العلوم التي أشرنا إليها، وقلنا باكتسابها، يمكن النظر إلى نصوص الدين، فإذا هذه النصوص تضاء بضوء جديد، ويظهر من مضامينها ما لم يكن قد ظهر، وتلك هي الدعوة إلى الأصالة والمعاصرة معا، وهي دعوة ما فتئت تتردد إلى أقلام الرواد، منذ الطهطاوي وحتى يومنا الراهن، لكننا نظلم أنفسنا لو زعمنا بأن الدعوة إلى الأصالة والمعاصرة لبثت ما يزيد على مائة وخمسين عاما محدودة بالحدود التي بدأت بها؛ لأنها - كأي فكرة أخرى تسري في تيار الحياة الثقافية - تنمو مع الزمن، فكل جيل يعاود عرضها بصورة جديدة، فيها مزيد من تفصيل، ومزيد من وسائل التطبيق، وأقول ذلك تعليقا على ما قرأته منذ قريب، لبعض أئمة حياتنا الفكرية، متعجبين كيف نظل ندعو مثل هذه الدعوة وقد سبقتنا إليها أقلام في الجيل الماضي وما قبله، بل إنها دعوة - كما قالوا - ورد ذكرها في بعض آيات الكتاب الكريم، وإننا لنسأل هؤلاء الأفاضل: وهل أفلحنا في تحقيق ما قاله السابقون علينا ولذلك يكون قد وجب علينا السكوت؟ أترون أن المسألة مجرد تأدية واجب، وأن ذلك الواجب هو «فرض كفاية»، بمعنى أنه ما دام قد اضطلع به فرد، سقط عن بقية الأفراد؟ والحق أنه لا هذا ولا ذاك، وما يزال مجال القول واسعا أمام القادرين.
على أن الذي هو جدير بالنظر حقا في هذا المجال، هو التأكيد بأن الدعوة في حياتنا الثقافية إلى أصالة ومعاصرة معا، هي ألا يكون المعنى المقصود مجرد الجمع بين هذين الجانبين في رأس واحد، فإذا فتح باب التراث وجد ذلك الرأس ما يصدمه، وإذا فتح باب المعاصرة كان عنده ما يحكيه، كلا، بل المراد إيجاد صيغة عربية موحدة، تغطي مجال الحياة الجديدة، التي هي - أو يجب أن تكون - حياة عربية وحياة مهمومة بهموم عصرها في آن واحد، وهي صيغة تحققت بالفعل في أفراد، لكنها لم تصبح بعد رؤية شعبية، بحيث تتمثل في كل فرد من أفراد الشعب، مع تفاوت الدرجات بين الأفراد، كما هي متفاوتة بالفعل في نواح أخرى كثيرة. ولا أريد لهذا السياق من الحديث أن ينتهي قبل أن أثبت دهشتي من رأي نشره واحد من أصحاب الرأي فينا، يقول به عن الدعوة إلى صيغة تجمع الأصالة مع المعاصرة، إنما هي دعوة رجعية؛ لأن الذي نريده هو معاصرة فقط. سبحان الله! وما شاء الله! يا أخانا: ولماذا لم يقل هذا القول فرنسي أو بريطاني أو روسي أو ما شئت من بلاد الله التي هي في مقدمة العصر؟ لماذا حرص كل واحد من هؤلاء على أن يكون هو العصر مع بقائه على هويته المتميزة؟ فالفرنسي يظل فرنسيا بما يميزه والبريطاني يظل بريطانيا بما يميزه وهكذا؟
وإن هذا ليفتح أمامنا بابا واسعا يدخلنا إلى موضوع لم يتنبه العالم على أهمية النظر فيه، بمثل ما تنبه على ذلك بعد الحرب العالمية الثانية حين ظفرت الشعوب بحريتها واستقلالها، في إفريقيا وفي آسيا بصفة خاصة، وهو موضوع تعدد الثقافات؛ فبعد أن كان الرأي قبل ذلك، هو أن الدنيا ليس فيها ما يستحق البقاء إلا ثقافة واحدة، هي ثقافة أوربا في مجمل صورتها المشتركة بين مختلف البلاد الأوروبية، وعلى بقية العالم أن تحاول النقل منها، فيصبح الفرد أو الشعب المعين مثقفا بمقدار ما اقترب من النموذج الأوروبي، فلما انتهت الحرب العالمية الثانية ودخلت الشعوب المغلوبة على أمرها، في حياة جديدة من استقلال وما يتبعه من حقوق الإنسان؛ سرعان ما شاع في الناس مبدأ جديد، هو أن لكل ثقافة الحق في الوجود، مساوية في ذلك أي ثقافة أخرى، إلا أن هذا التعدد الثقافي لا يغلق الأبواب دون التفاعل بين الثقافات، وهي أبواب لبثت مفتوحة أمام الجميع في كل مراحل التاريخ، فما الذي يوصدها اليوم في وجوه الناس؟ وبهذا التفاعل، وما يشتمل عليه من أخذ وعطاء، يمكن لأي ثقافة أن تضيف إلى جسدها عروقا جديدة بمحض اختيارها، بحيث لا يكون في الأمر غزو ثقافي ولا غزاة.
إنه لا وضع لشاك ليشك في أن الحياة الثقافية لشعب من الشعوب، تعلو وتهبط مع سائر جوانب الحياة لذلك الشعب علوا وهبوطا، تلك حقيقة تلزم لزوما مباشرا، من قولنا إن ثقافة الإنسان هي محصلة نشأته وتربيته، بحيث تصبح له وكأنها هي دفة السفينة في مسالك حياته العملية؛ فإذا اختلف الأفراد، أو اختلفت الشعوب في ردود أفعالها إزاء الحادثة المعينة الواحدة، فذلك لأن كلا منهم أو منها، موجه بثقافته، ولا أظننا نخطئ إذا قلنا إن تلك المحصلة الثقافية الموجهة لصاحبها، إنما هي جزء من الضمير؛ إذ الضمير ما هو إلا الرواسب المضمرات في النفس، نتيجة لخبرات الإنسان التي يجمعها منذ طفولته الباكرة عما هو صواب فيثاب أو خطأ فيعاقب.
وإذا كان ذلك كذلك؛ كان من حقنا أن نستخلص نتيجة عن الثقافة العربية، لماذا كانت حافزة إلى قوة الإيمان، وقوة العلم ، وقوة السيطرة وغيرها من ضروب القوة، حين كانت الأمة العربية قوية بالنسبة إلى غيرها من الأمم، ولقد دامت لها تلك القوة - بصفة عامة - حتى القرن الخامس عشر الميلادي (التاسع الهجري)، ثم لماذا ضعفت تلك الثقافة من حيث ارتفاعها بحامليها، منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، وهي نفسها الفترة التي شهدت انحدار الأمة العربية في مكانتها بالنسبة إلى غيرها، وإلى شعوب أوربا بصفة خاصة؟ أليست العلاقة السببية واضحة في كلتا الحالتين، بين الشعب وثقافته قوة وضعفا؟ وإننا لنسأل هنا سؤالا ينبعث من هذا الذي نقوله عن ضعف الثقافة العربية في تاريخها الحديث، وهو: ما الذي تكسبه تلك الثقافة من تفاعلها مع ثقافة عصرها تفاعلا حيا؟ وجواب ذلك يتضمن في ما يتضمنه نقطة نراها ثورية وجوهرية، وهي أن علة كبرى من العلل التي أضعفت الأمة العربية وثقافتها معا، هي أنه أحدثت لنفسها عزلة عن دنيا الواقع، وتقوقعت في ماضيها الثقافي الموروث، مكتفية به، فأدخلت نفسها بهذا في عالم من صفحات مرقومة بكلمات، والعلماء في هذه الحالة هم من حفظوا ذلك المرقوم على الورق. ولما كان الواقع الصلب العنيد لا ينتمي أمام كلمات كتبها كاتبوها في كتب، بل سيحتاج إلى من يتصل به اتصالا مباشرا يعالجه بما تقتضيه صلابة الحجر والحديد؛ فقد أصبحت الثقافة العربية وحاملوها غير ذوي أثر في مجرى الأحداث، وركبت الجواد وأمسكت بعنانه أمم أخرى تقيم حياتها وعلمها وعملها على أساس الوقائع المرئية المسموعة والملموسة، فكان لها العلم وكانت لها الصناعة، والقوة في الحرب، والسيادة في السلام، فإذا نحن تفاعلت ثقافتنا بثقافتهم؛ فالأرجح أن ينتقل إلينا شيء من تلك النظرة الواقعية، التي تخرجنا من صوامع الحروف والكلمات، فنستعيد شعاعا من مجدنا الماضي، نستعيده علما وعملا، وريادة ومكانة، وليس جعجعة وصخبا يثيران الضحك عند من أراد أن يضحك، والبكاء عند من تضطره حسرته على نفسه أن يبكي.
إنه لا خوف على هويتنا من مثل هذا التفاعل الإيجابي الحي؛ فالورد يظل وردا رغم ما يدخل عليه علماء النبات من عوامل تحدث فيه خصائص جديدة لم تكن فيه، والجياد الكريمة تظل جيادا كريمة إذا ما أدخل علماء الحيوان تحسينات في نسلها، وقد يعجب منا قارئ، متسائلا: أليس لدينا علماء يتابعون العلم الجديد خطوة خطوة؟ أليس فينا الأطباء البارعون والمهندسون المهرة؟ أليس منا كذا؟ وأليس منا كيت؟ مما يقرب الشبه بيننا وبين رواد الحضارة العصرية؟ نعم لنا كل ذلك، ولكنه كله يدور بنا في وعاء من ثقافة مريضة، فينتج عن هذه الازدواجية الغريبة أن تكون لنا واجهة لا تخلو من ملامح العصر، ووراء الواجهة عقول ما زالت تقتات جميع زادها بين صفحات القدماء، فأما الواجهة فنحن فيها مقلدون تقليدا ظاهرا بغير قلب، وأما فيما وراء الواجهة فنحن فيه مقلدون للسلف بكل قلوبنا، ومن هذا كله نشأت ثقافة عربية شائهة الملامح، بردت حرارة الحياة في عروقها.
تخليص وتلخيص (2)
الفرق واضح بين مجموعة الناس في مطار، ومجموعتهم في مسرح؛ فالمجموعة الأولى، وإن تكن فكرة السفر تربطهم، فإن أهداف السفر عندهم متفرقة؛ فلا يدري أحد منهم عن أحد إلى أين وجهته، وأما المجموعة الثانية، فهي وإن يكن أفرادها قد جاءوا من مصادر متفرقة، لا يعرف جار عن جاره شيئا، فإنهم يتجهون جميعا بأبصارهم، وعقولهم وقلوبهم إلى هدف واحد، وهو تتابع الأحداث على خشبة المسرح؛ في المجموعة الأولى كثرة من أفراد لا يتكون منهم كيان عضوي، وتعريف الكيان العضوي الذي يضم عدة أعضاء مختلفة الوظائف هو أن تلك الأعضاء تتكامل بعضها مع بعض؛ كي تحقق معا وجودا واحدا، كما هي الحال في أعضاء الكائن الحي. ولأن صفة «العضوية» غائبة في المجموعة الأولى؛ فالهدف عند أحد المسافرين لا يرتبط بالضرورة بالهدف عند مسافر آخر. وأما في المجموعة الثانية؛ فالمشاركة بينها في هدف واحد يصبغ عليها صفة من صفات الكائن العضوي، وإن يكن لا يزال تنقصها صفات أخرى مما هو قائم في الكائن العضوي الذي هو في مرتبة من «العضوية» أعلى، كالإنسان مثلا في مجموعة أعضائه؛ وذلك لأن الكائن العضوي الأعلى يتميز بأن وجود عضو من أعضائه معتمد في أدائه لوظيفته، على وجود الأعضاء الأخرى. وأما رواد المسرح؛ فهم رغم اتفاقهم في الهدف وفي التوجه نحو ذلك الهدف، فوجود أي منهم ليس متوقفا على وجود الآخر.
وهذه المقارنة بين المجموعتين تصور لنا فرقا من الفروق التي تختلف بها ثقافة قد اكتملت في بنائها، والاكتمال هنا درجاته نسبية بالطبع، بالنسبة إلى ثقافة أخرى لشعب آخر، انعدم فيها التوحد الذي يكفل لها شيئا من صفات التكامل العضوي، أو أن ذلك التوحد قد ضؤل حجمه حتى كاد ينعدم، ففي الحالة الأولى - حيث يتكامل البناء - تجد القنوات الثقافية على كثرتها وتنوعها قد استهدفت كلها هدفا واحدا مضمرا في حياة الناس، وفي أفكارهم ومشاعرهم. وأما في الحالة الثانية - حيث التشتت والتنافر - تتقاطع الأهداف، حتى ليتعذر على من أراد أن يعرف عن الشعب أين يتجه أن يتبين صفة تحقق له ما أراد؛ لأن الحياة الثقافية في هذه الحالة تكون أقرب شيء إلى برج بابل كثرت فيه الألسنة فاستحال التفاهم.
فأول شرط يفرضه العقل لصحة الحياة الثقافية في شعب معين، أو في عصر من عصور التاريخ؛ هو أن نجد في تلك الحياة الثقافية السليمة نقطة التقاء تكون هي الهدف المشترك الذي يسعى إليه مبدعو الثقافة على اختلاف قنواتهم؛ إنه هدف توحي به آمال الشعب والأمة. ولما كان مبدع الثقافة في لون من ألوانها هو أحد أفراد ذلك الشعب، تميز بموهبة تعينه على الملاحظة النافذة إلى صميم الحقائق والطبائع؛ فإنه كغيره من المواطنين يحس تلك الآلام والآمال، ثم يزيد على غيره من المواطنين بالقدرة على الرؤية ثم على صياغة ما قد رآه، بالوسيط الذي هو موهوب فيه، فالألحان للموسيقى، والكلمات للشاعر، والألوان للمصور، وهكذا، إنه هدف لا تصدر به الأوامر السلطانية، كلا، ولا هو مما يقحم على الناس إقحاما؛ ولو أن قوة خارجية أرغمت جماعة من الناس على التزام غاية بعينها، ليست هي الغاية التي تحقق آمالها وتعالج لها آلامها؛ لكان ذلك هو الغزو الثقافي الذي يتحدثون عنه، وموضع «الغزو» هنا هو «الإلزام» بشيء مقحم على ما تضطرم به صدور الناس، أما أن يتولى المبدعون في أمة إبداع الأشكال التي يطالعها الناس فيطالعون أمانيهم ومخاوفهم وجوانب النقص فيهم وجوانب النضج والكمال؛ فذلك هو الإبداع الصحيح كثقافة جيدة وسليمة، حتى لو حدث أن تأثر المبدع بتيارات في الفكر أو في الفن والأدب ظهرت عند شعوب أخرى، وصح لها أن تتفاعل مع جذور الثقافة المحلية؛ لينتج ذلك التفاعل بنيانا أقوى وأعتى مما كان معهودا للناس من قبل.
ثقافة الشعب المعين، في العصر المعين، لا يستقيم لها بناء إلا إذا أضمرت في ثناياها هدفا مشتركا يستهدفه كل مبدع في أي مجال من عالم الفن والأدب، والفلسفة والفكر، وغير ذلك مما ينتجه المبدعون، فيتلقاه من يتلقاه؛ ليشعر بالطمأنينة والرضا إن رأى مكنون نفسه قد وجد طريقه إلى الظهور، أو يتلقاه في شيء من القلق؛ إذ يرى بين يديه ناتجا غريبا عنه. ووحدانية الهدف - إن وجدت - تخلع طابعها على عصرها؛ حتى ليطلق على ذلك العصر اسمه ليتميز به دون سوابقه ولواحقه؛ فطابع القرن الرابع الهجري في الثقافة العربية الإسلامية كان هو النزعة الإنسانية التي عنيت بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن عرقه وعقيدته؛ فلم يكن ثمة من بأس على كاتب أو شاعر أن يأخذ بعض أفكاره من اليونان أو من الهند أو من غيرهما، ليسلك تلك الأفكار في عمله وكأنه هو منشئها وصاحبها، ولولا هذا الأفق الرحب؛ لما رأينا إخوان الصفا يجمعون في رسائلهم ما يصور الثقافة الإنسانية بكل جوانبها، كما عرفتها الإنسانية حتى ذلك التاريخ، ثم لما رأيناهم في مستهل تلك الرسائل يقدمون رأيهم بوحدة الديانات. وانتقل معي بذاكرتك إلى أوربا في القرن السابع عشر، وهو ما يسمونه بعصر العقل؛ لترى كيف علت ضوابط العقل على كل ناحية من الحياة الثقافية، ففي الفلسفة كان ديكارت، وفي العلم كان نيوتن، وفي المسرحية الشعرية كان راسين الذي يلتزم دقة البناء الشعري وكأنه يعالج نظرية هندسية، وفي العمارة كانت استقامة الخطوط، وهكذا. ولماذا بلغت مراعاة المبدعين لضوابط العقل إبان ذلك القرن؟ كان ذلك ليجيء الرد على العصور الوسطى حاسما؛ إذ كان لإيمان القلب في تلك العصور طغيان واضح على العقل وضوابط منطقه.
بل إن الشعب المعين كثيرا ما تتميز ثقافته بطابع يميزه عبر العصور غير مقتصر على عصر واحد وظروفه الخاصة، إلا بجانب من جوانبه، يتركه ليتغير مع تغير الأيام؛ وأما الجانب الآخر، الذي هو محصلة للسمات الثابتة، فجعله قائما وثابتا، ومن ذلك الجانب الثابت تستمد الشعوب سحنتها الثقافية التي يعرفها بها الآخرون؛ فقط ننظر - نحن العرب - إلى أوربا، فنظن أنها كتلة واحدة متجانسة في ثقافتها؛ وإنها لكذلك بالفعل في أسس من أسسها، وأما فيما عداها؛ فلكل شعب من الشعوب الأوروبية مميزه الخاص في طريقة التفكير، خذ مثلا: فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وانظر إلى الفرق بينها في رؤاها الفلسفية، فإذا جعلنا ديكارت ممثلا لفرنسا، وهيوم ممثلا لبريطانيا (فهو أسكتلندي) وكانط ممثلا لألمانيا؛ لوجدنا العقل الرياضي في دقة استنباطه للنتائج اليقينية من مقدماتها اليقينية، طابع الفكر الفرنسي؛ ووجدنا الركون إلى الحواس في اكتساب المعرفة ركونا مطلقا، طابع الفكر البريطاني، ووجدنا الجمع بين المعطيات الحسية ومبادئ العقل ومقولاته، ثم الغوص في تلك المبادئ والمقولات غوصا نادر المثال في تاريخ الفلسفة كله، طابع الفكر الألماني؛ فالفرنسي تهمه سلامة العملية الاستدلالية العقلية، حتى لو توافرت له وهو بين جدران بيته، والبريطاني لا يقنع إلا إذا أحس الطبيعة ذاتها إحساسا مباشرا ببصره وسمعه وسائر حواسه، والألماني لا يريحه إزاء المفاهيم التي قد تؤخذ بغير تحليل، كمفهوم «العقل» مثلا، إلا أن يطحن دقائقها طحنا ليردها إلى أصولها فتفهم فهما صحيحا. وكانت تروى عن تلك الشعوب الثلاثة «نكتة» توضح اختلاف طبائعها بعضها عن بعض؛ فقيل: إن الفرنسي إذا أراد أن يعرف الفيل رآه في حديقة الحيوان من وراء القضبان، والألماني إذا أراد أن يعرف الفيل لجأ إلى المراجع في المكتبة ليقرأ ما قاله عنه العلماء، وأما البريطاني فإذا أراد أن يعرف الفيل ذهب إلى الغابات ليصيده.
فليس عنتا أن نطالب لثقافتنا العربية اليوم بهدف مضمر مشترك، يكون هو في الوقت نفسه مؤشرا دالا على الطابع العام الذي تتميز به هذه الثقافة؛ فإذا بحثنا عن ذلك الهدف المشترك ولم نجده؛ كان ذلك دليلا على أن جهودنا الثقافية مبعثرة، لا تنتهي بنا إلى بناء متكامل، أو بحثنا فوجدنا هدفا غالبا على معظم المنتجين للثقافة، لكنه قد استمد من الماضي أصوله وفروعه، مسقطا من حسابه هذا العصر الذي نعيش فيه؛ أدركنا كم ضل بنا الطريق، حتى أصبحنا في زماننا غرباء، والأرجح أننا واجدون - بعد البحث وإمعان النظر - أننا في هذه المرحلة التي نجتازها اليوم ممزقون؛ فبعضنا يلوي عنقه إلى الماضي وكأنه لا حاضر، وبعضنا يركز بصره على موطئ قدميه، وكأنه لم يكن لنا تاريخ، وبعضنا الثالث يحاول أن يكون ماضيا حاضرا معا، ولعل هذه الفئة الثالثة أن تكون معقد الأمل في مستقبل الثقافة العربية.
على أن الهدف الواحد المضمر، الذي هو عندنا شرط إذا أريد لثقافة شعب أن تكون صحيحة البناء، لا ينبغي له أن يكون أي هدف كما اتفق؛ بل يجب أن يضاف إلى شرط وجوده شرط آخر يحدد نوعه، وذلك أن مستقبلية الهدف تكاد تكون جزءا من تعريفه، فإذا قال لنا قائل إن هدف حياتنا الثقافية هو أن نعود بتلك الحياة إلى الوراء؛ استنكرنا قوله هذا، لشعورنا بالتناقض الداخلي في استخدام الألفاظ استخداما يعكس معناها؛ فليس هدفا ما يرد صاحبه إلى ماضيه، لأن اتجاه السير عندئذ يكون مضادا لطبائع الأشياء وطبائع الأشياء توجب أن تكون دائبة التغير، كما توجب ألا يكون تغيرها ذاك مطلقا أيا ما كانت وجهته؛ بل لا بد أن يتجه تغيرها نحو أن يكون تطويرا لها، بحيث تعلو طورا بعد طور، ومقياس العلو هو أن يكون الانتقال من البساطة إلى التركيب، وهذا التركيب معناه «تعدد الوظائف» التي يؤديها الكائن في سيره المتعالي؛ فيكون الكائن وهو في درجته الأعلى أكثر قدرة على مواجهة ما يصادفه من مشكلات، أو بعبارة أخرى أن يكون أقدر على التحكم في طبيعة بيئته، وهذا معناه - بالنسبة للإنسان - أن يكون الإنسان أوسع علما بظواهر الكون، وأدق معرفة بقوانينها، وأن يكون - بالتالي - أقدر على إلجام تلك الظواهر إلجاما بقسرها على التشكل فيما يخدم مصالح الإنسان.
كل هذا يحتم ألا يكون هدف السير بالحياة الثقافية نحو ما هو أقل علما، وأقل قوة؛ بل أن يكون الهدف نحو مستقبل تزيد فيه حرية الإنسان، ومن أهم صور هذه الحرية تحرره من قيود الطبيعة، وهو ما يتحقق بالتقدم العلمي، وأن تزيد فيه كذلك معرفة الإنسان لنفسه، وللآخرين، إلى جانب معرفته بظواهر الكون، ومن هذه المعرفة المتعددة الأطراف يكون «الوعي»، وإن إيجاد مثل هذا الوعي في أفئدة الناس لهو دائما الغاية المنشودة من حركات «التنوير» حيثما كانت.
وهنا سؤال يطرح نفسه علينا، وهو: كيف يتوحد الهدف الثقافي على هذا النحو ومعلوم أن للثقافة قنوات شديدة الاختلاف بعضها عن بعض؟ فأين ألحان الموسيقى من العمارة؟ أين كلمات الشاعر من حجر النحات؟ أين العلوم الطبيعية من أنظمة الحكم؟ فما الذي يمكن أن يوحد بين تلك القنوات على اختلافها؟ وجواب هذا يكمن فيما يكون من تشابه وظيفي بين النظائر؛ فما الذي يجعل الخريطة الجغرافية متقابلة مع رقعة الأرض التي تصورها؟ إنهما من حيث المادة مختلفان.
فالخريطة ورق والأرض المصورة بها جبال وسهول ووديان، لكنهما رغم هذا الاختلاف وغيره، متناظرتان، بمعنى أن طريقة التركيب، والنسب بين العناصر في ذلك التركيب؛ يجعل كل نقطة، أو خط، أو لون، في الخريطة، مقابلا لشيء مشار إليه في رقعة الأرض المصورة بها، مثل هذا التناظر يمكن قيامه بين قنوات الثقافة على اختلافها، وعندئذ يكون مدار ذلك التناظر، هو نفسه الهدف المقصود، فافرض - مثلا - أن هدفنا الثقافي هو إيجاد مواطن عربي جديد يجمع في تكوينه أن يكون عربيا في هويته، بمعنى أن تجيء هويته حاملة لأهم ما تميزت به هوية العربي في تاريخه؛ وأن يجيء في الوقت نفسه مسلحا بما تتطلبه الحياة المتفوقة في عصرنا! عصر العلوم والتقنية؛ فها هنا يجب أن يخرج المتلقي للنواتج الثقافية المختلفة بمؤثرات تعده لأن يعتز بعروبته، وبأن يتزود في الوقت نفسه بزاد العصر؛ فالإنسان محصلة ما ينطبع به من مؤثرات، في الأسرة، وفي المدرسة وفي الحقل والمصنع وغيرهما من ميادين العمل؛ إنه يظل يتلقى اللمعات من هنا وهناك، حتى يجد نفسه آخر الأمر هو من هو، فإذا كانت الصورة المستهدفة هي أن يكون المواطن العربي إنسانا حرا، محكوما بعقله، واعيا لما يدور حوله، وجب أن تتجه به القنوات الثقافية المختلفة نحو هذه الغاية.
وينشأ لنا سؤال آخر، ربما كان أكثر الأسئلة إلحاحا على ضمائرنا اليوم؛ وهو سؤال يثير مشكلة العلاقة بين حاضرنا وماضينا، فإذا كان مما يقطع العقل بصوابه أن تتكيف الشعوب لضرورات الأوضاع الحضارية المستحدثة، كلما أفلت الشمس عن إحدى الحضارات؛ لتشرق ومعها بوادر حضارة جديدة، ثم إذا كان مثل هذا التكيف يقتضي - بالضرورة - تغيرات وتحويلات فيما يفكر فيه الناس وفيما يستجيبون به من صور السلوك، لما يصادفهم من أحداث يوما بعد يوم؛ حتى لكأنه يصيح في وجوههم مهددا: إما الاستجابة وإما الفناء؟ أقول: إذا كان هذا التغير المستمر حتما محتوما على الأحياء، أفرادا وجماعات؛ فما الذي يبقى من الماضي ليضمن للناس استمرارية حاضرهم بسالفهم؟ وربما سألتني: أهو قدر مكتوب على الإنسان أن يربط حاضره بماضيه؟ فيكون الجواب على سؤالك هو: إنه ليس قدرا محتوما، بل هو طبائع الأحياء، وإذا أنت أنكرت على شيء طبيعته فقد أنكرت وجوده؛ أفيسأل سائل: أهو قدر كتب على السماء أن تكون زرقاء؟ أهو قدر على ماء المحيطات أن يكون ملحا أجاجا وعلى ماء الأنهار أن يكون عذبا فراتا؟ إن أمثال هذه الأسئلة - في حكم العقل - إنما تتخذ صيغة السؤال فيظنها الغافل أسئلة بالمعنى المنطقي للسؤال، وحقيقة الأمر في حاضر الإنسان وماضيه هي أن مجرد التصور بأن لحظة الحاضر الراهن يمكن أن تكون مبتورة الصلة بما سبقها، هو ضرب من المحال؛ فالإنسان لا يولد ولادة جديدة في كل لحظة من تيار الزمن؛ إنه يولد مرة واحدة، ليحيا ما يحياه ويموت، ولا تمضي بعد مولده بضعة أشهر، حتى يلثغ بكلمات يسمعها ممن حوله؛ فهل يقال له عندئذ: لا، لا، لا تردد ما تسمعه من كلمات، واخلق لنفسك بنفسك رموزا صوتية تتعامل بها مع الآخرين؟! فإذا فرضنا إمكان أن تتحقق له هذه المعجزة، فكيف يتم التفاهم بينه وبين الآخرين إذا كانت الرموز التي أبدعها لنفسه مقصورة عليه لا يعرفها الآخرون؟ إذن فاللغة أمرها محتوم بحكم طبائع الأمور، وليس بحكم أوامر تصدر لها من آمر، أن يتناقلها جيل عن جيل، ورغم ما يطرأ عليها من إضافات وحذوف؛ فإنها تبقى في مجملها هي لغة السالفين، وإذا قلنا اللغة فقد قلنا كذلك شيئا كثيرا عن طرائق التفكير، وما نقوله عن استمرارية اللغة نقوله عن استمرارية كثير جدا من قواعد السلوك، ونظم الحياة الاجتماعية، فضلا عن تفصيلات أخرى كثيرة عن الطعام، والثياب، وغيرها، ولك أن توسع الدائرة شيئا فشيئا؛ لتشمل العقائد، والفن، والأدب، وسائر أركان الحياة الثقافية، وهكذا تتحتم استمرارية على مدى الأجيال؛ فلا يكون سؤالنا - إذن - هل نبقى على تلك الصلة بيننا وبين أسلافنا؟ بل يكون: ما الجوانب التي تبقى على شيء من الثبات النسبي بيننا وبين أسلافنا تضمن لنا أن نكون شعبا واحدا ممتدا مع الزمن؟ ثم ما الجوانب القابلة للتغير التي لا ضير على شعب أن يغير منها كلما تغيرت عليه الحضارات؟
لكننا بعد أن قررنا حتمية الاستمرارية بين حاضر وماض في حياة الناس، لا نكون بذلك قد حللنا شيئا من المشكلة العصية التي تواجهنا، كلما وجدنا في مواقف حياتنا العملية، تلك الازدواجية الحضارية الثقافية؛ وهي أن نجد لكل موقف مشكل، أسلوبين في معالجته؛ ففريق منا يصر على أن ننقل من تراثنا أسلوب أسلافنا فيما يشبه موقفنا الراهن، وفريق آخر تملي عليه بدهية تفكيره أن يكون أسلوب الحل من وحي الظروف المستحدثة، ومثل هذا التنازع بين الفريقين يمتد حتى يشمل الحياة برمتها أو يكاد، ومن هنا ترانا ننشق على أنفسنا جماعتين - على الأقل - نطلق عليهما صفات تحدد طبيعة الاختلاف بينهما، كأن نقابل بين السلفيين والمجددين، أو بين الرجعيين والتقدميين، أو غير ذلك من ثنائيات.
فإذا جاز لفريق ثالث أن يتدخل وسطا بين الضدين، قائلا بالإبقاء على الثوابت وتطوير المتغيرات - وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء - وجب على هذا الفريق الثالث أن يبين لنا ماذا يكون «الثابت» من جسم الثقافة العربية، وماذا يكون «المتغير»، والإجابة التي يتقدم بها عن هذا السؤال تدور حول التفرقة بين شيئين، هما: «المبادي» و«الحشو» أو «المضمون الخبري» (من كلمة «خبرة») الذي يجيء محمولا مع مجريات الأحداث في تيار الزمن؛ فهذه الأحداث الطافية، لا تترك متناثرة فرادى، تجتمع وتفترق بحسب دفعات التيار في نهر الحياة الجارية؛ بل إن الإنسان عندما يتلقاها ويدمجها في حياته العملية يدرجها تحت «مبادئ» قبلها قبولا مضمرا حينا، وقبولا واعيا وصريحا حينا آخر، وهو إذ يدرج تلك الأحداث تحت المبادئ يتاح له عندئذ أن يدرك إن كان الحدث المعروض متفقا مع روح ثقافته أو متنافرا مع تلك الروح؛ فالثابت في التاريخ الثقافي لشعب ما (والثبات هنا ثبات نسبي، وإلا فلا دوام في هذا الكون إلا لوجه ربك) أقول إن الثابت هو «المبادئ»، وأما ما عساه يندرج أو لا يندرج تحت تلك المبادئ؛ فأحداث متغيرة، فإذا قلنا - مثلا - إن مبدأ من مبادئ الثقافة العربية الإسلامية أن يتكافل أفراد المجتمع، بحيث يعين القادرون من بهم مسغبة وعوز، بسبب عجز في أبدانهم، أو بسبب قحط عام أعقبته مجاعة؛ فمبدأ «التكافل» لا بد أن يبقى قائما عبر العصور، لأنه ملمح مهم من ملامح الثقافة العربية الإسلامية. أما كيف يكون عون القادرين للعاجزين؛ فأمر يتغير بتغير أشكال الحياة؛ فإذا رأى السابقون من أبناء الصحراء أن يكون العون في صورة مكيال معين من الغلال، فقد تتخذ المشكلة في عصور تالية، وفي بلاد غير صحراوية، شكلا آخر، كأن تكون توفير الدفء في شتاء البلاد القارسة ببرودتها، أو تيسير المواصلات لعامل لا يملك وسيلة الانتقال من مسكنه إلى مكان عمله، وهكذا، مما يستحيل أن ينحصر في قائمة محددة معلومة مسبقا، تبين ما سوف يكون العاجزون بحاجة إليه، بعد كذا ألف من السنين، تظهر فيها حضارات، وتختفي حضارات؛ لكن «المبادئ» قد تظل ثابتة في إطارها العام المجرد، القابل لأن يمتلئ بما يصلح له من مضمون الأحداث.
فالأمر في «المبادئ» و«مضموناتها» قريب الشبه جدا بالأمر في الصيغ الرياضية وما يلائمها من ضروب التطبيق على مادة الأشياء في عالم الطبيعة، خذ مثلا بسيطا، العدد 4 فأنت بغير شك تحمل في ذهنك صورة لهذا العدد، ومتى تصدق هذه الصورة الرياضية المفرغة على الأشياء ومتى تستعصي؟ وهذه الصورة الرياضية لا تشترط نوعا خاصا من المعدودات لتصدق عليه، ولكن الذي تشترطه هو أن تكون المعدودات ملائمة لإطارها الرباعي؛ فليكن المعدود أربع برتقالات، أو أربعة كتب، أو أربعة رجال، أو ما شئت من أربعات الأشياء، وهكذا ترى ثباتا في الصورة الرياضية، وتغيرا في معدوداتها، وهكذا أيضا تكون الحال بين «مبدأ» معين، وحالات الواقع، التي يصدق عليها ذلك المبدأ.
أما أولئك الذين يوهمهم حبهم وإخلاصهم للسلف، بأن إعادة حياتهم إلى عصرنا لنعيش على نهجها، لا من حيث «المبادئ» فقط، بل كذلك من حيث المضمون الكيفي لتلك المبادئ؛ فهم إنما يتطلبون محالا، وهو محال بحكم منطق العقل ذاته، فضلا عن مجافاته لمجرى التغيرات الحضارية، ولماذا هو محال من جهة المنطق العقلي؟ هاك جواب ذلك مشروحا في إيجاز:
اللغة هي أهم وسيلة للتواصل بين أفراد الشعب المتعاصرين؛ كما أنها أيضا أهم وسائل التواصل بين الأجيال المتعاقبة في ذلك الشعب الواحد؛ فالمتعاصرون من أبناء الشعب المعين مشتركون جميعا في واقع معين؛ فإذا ما أرادوا التفاهم حول ذلك الواقع المشترك، تبادلوا وسائل اللغة التي يشيرون بمفرداتها ومركباتها، إلى أجزاء الواقع الذي يعيشونه؛ فهم يعرفون - مثلا - معنى كلمة «طعام» وكلمة «إفطار» وكلمة «ساعة» وكلمة «سيارة»؛ فإذا قال عامل لزميله «ركبت السيارة العامة بعد تناولي طعام الإفطار؛ لأكون في مكان العمل الساعة الثامنة.» فهم السامع على وجه الدقة ما أراد أن ينقله إليه المتحدث، وأعني «بالدقة» هنا أن عملية الفهم لم تقتصر على مجمل المعنى، بل تتسع لتشمل تفصيلاته؛ فهو يعرف ماذا تكون أنواع الطعام التي تكون منها عادة وجبة الإفطار، وماذا تعني كلمة سيارة عندما تكون سيارة عامة للجمهور، وماذا يعني تحديد الزمن بأنه الساعة الثامنة، هل هو شديد التبكير في الصباح، أو هو وقت يتسع للفراغ من أعمال الصباح قبل مغادرة العامل منزله إلى مكان عمله، لكن هذه العبارة نفسها إذا وجدناها في أثر قديم من آثار التراث؛ لاستحال على القارئ أن يكون صورة دقيقة عما حدث لقائلها، إذ لا ندري على وجه قريب من الدقة ماذا كان يعني أهل القرن العاشر الميلادي مثلا في مصر، بكلمة «إفطار» وبكلمة «سيارة» وماذا كان الشكل العام للأعمال وأمكنتها ... إلخ ... إلخ.
فمفردات اللغة وإن تكن ثابتة على صورتها؛ فإنها اكتسبت معانيها من الحالات الواقعية التي يعيشها الناس، فلا «مصباح» أهل القرن العاشر الميلادي هو مصباحنا اليوم، ولا «القلم» هو على صورة القلم الذي نكتب به اليوم، ولا بنيان المنزل هو كالبنيان الذي نتخذ منه مساكن اليوم، ولا أي شيء مما تتحدث عنه اللغة، هو اليوم على صورة ما كان بالأمس، مع بقاء اللغة، من حيث مفرداتها وطرائق تركيبها ثابتة أو فيما يقرب من الثبات؛ فمن أين - إذن - يستمدون معرفتهم عن حياة الأسلاف ليحاكوها - أولئك الذين يجعلون من تلك المحاكاة مثلهم الأعلى؟ أليس مصدرهم هو ما يقرءونه في مراجع التراث؟ فهل في مستطاعهم أن يترجموا تلك المادة المقروءة إلى كائنات الواقع المعاش، في العصر الذي كتبت فيه العبارات المقروءة؟ وإذا كان ذلك مستحيلا عليهم، بحكم ثبات اللفظة المعينة مع تغير مدلولها في تفصيلاته، فمن أين تأتيهم النماذج التي يحاكونها؟ لا، إنه لا مفر من أن تكون الصور المجردة والمفرغة من مضامينها، كالمبادئ، والأسماء الكلية في اللغة، هي محاور الثبات، في استمرارية التيار التاريخي بين الماضي والحاضر، مع تغير المضمونات الكيفية عصرا بعد عصر، وإني لأدعوك - أيها القارئ - إلى التأمل في كثير مما يدور عليه اختلاف الرأي بين سلفي ومجدد؛ لترى إلى أي حد يقوم اختلافهما على الخلط بين المبادئ المجردة التي يجوز عليها الثبات، ومضموناتها التي لا بد لها أن تتغير.
تخليص وتلخيص (3)
ترى هل نصيب إذا زعمنا أن أعمق أساس مما أقمنا عليه بناءنا الثقافي هو تلك الزاوية التي انفرجت بين تصوراتنا الداخلية من جهة وواقع الدنيا وأحداثها من جهة أخرى؟ إننا إذا أردنا أن نلخص العلة التي تفسر عددا كبيرا من ظواهر حياتنا الفكرية والأدبية؛ لما وجدنا ما هو أصدق من القول بأن ثمة فاصلا بين ما نتوهمه في أنفسنا وبين حقائق الأشياء والحوادث التي نظن أننا نتعامل بها ومعها في حياتنا العملية.
فالكاتب في كثير جدا من الحالات التي يزعم فيها لنفسه وللناس أنه إنما يصور حقائق الناس الأشياء، بل حقائق التاريخ، يكتب عما ينبغي أن يكون من وجهة نظره متوهما أنه بذلك إنما يكتب عن الحقيقة الواقعة أو التي يظن لها أن تقع في ميقاتها المحتوم، وإن هذا الخلط بين وهم وحقيقة ليحدث معنا في كل ميدان نتعرض للحديث عنه. فأذكر أني ذات يوم كنت أراجع تفسير المفسرين لقول الله تعالى:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون ؛ فأول ما صدمني أن أجد مفسرا من أعظم المفسرين مكانة قد أخذ يروي عن معنى الويل فيقول إنه كذا وكذا من الأهوال التي أخذ يصفها بالتفصيل مما هو مقدر في جهنم لذلك الآثم الذي تتحدث عنه الآيات الكريمة، فدار سؤال في نفسي من أين أتى هذا المفسر بذلك المعنى لكلمة ويل؟ ما مصدره في كل هذه التفصيلات التي جعل يرسم بها الصورة التي رسمها؟ وعن لي عندئذ أن أراجع هذا المعنى نفسه في مواضع أخرى من الكتاب الكريم ورد فيها كلمة ويل، وإذا به يتخيل صورة مختلفة في كل موضع من مواضع الكلمة مما ازددت به إلحاحا على سؤالي الأول: من أين أتى المفسر بتلك المعاني التصويرية؟ ولماذا لم يلتزم معنى الويل كما تحدده معاجم اللغة؟ أفليس من حقنا في هذه الحالة أن نقول إن المفسر قد وضع خياله فيما يود للآثم أن يعاقب به في كل حالة على حدة؟!
ومثل هذا يقع إذا كتب كاتب عن السلف في أي مجال من جوانب حياتهم؛ فهو يكتب وفي ذهنه فرض مسبق بأن حياة السلف صواب كلها فضيلة كلها؛ فلا خطأ فيهم ولا انحراف، ولو أن الكاتب الذي يروي عن الأسلاف أدرك منذ البداية أنه ما دام يتحدث عن بشر - إذن - فلا بد أن تكون الصورة مزيجا من قوة وضعف ومن صواب وخطأ، على أن الرجل العظيم ترجح فيه القوة والصواب، ثم تتغير النسبة بين الجانبين، كلما هبطنا في أقدار الرجال، حتى نصل إلى من ترجح فيه كفة الضعف والخطأ، فتخرجه من زمرة العظماء، وبهذا التصوير الحي الأمين نلتزم جانب الحق من جهة ونؤثر في القارئ أثرا أعمق وأصدق. وانظر كم كتب الكاتبون عن أعلام السلف وكم بقي القارئ على حالة لم تغير الصور التي عرضت عليه منه شيئا! وذلك لأنه - دون أن يعي - أحس بأنه يقرأ وعظا ولا يقرأ تاريخا ولا أدبا، والوعظ لا يغير من سامعه أو قارئه لا كثيرا ولا قليلا.
بل انظر إلى ما يكتبه كتابنا اليوم كلما أرادوا تصوير حياتنا متمثلة في أفرادها؛ تجد هؤلاء الكتاب وكأنما هم قد أخذوا على أنفسهم عهودا بألا يذكروا الريفي إلا بالخير الذي لا تشوبه ذرة من الشر وخبثه؛ لأن الشر وخبثه - في معاجمهم الحديثة - مكانه أبناء المدن! وفيم العجب؟ أليس التعليم قد ارتفعت نسبته في المدينة عنه في القرية؟ ثم أليس التعليم ومعه النظافة والتمدن مصدر البلاء؟ ولعل سر هذه النظرة الغريبة هو تفسير خاطئ للثورة الاجتماعية الأخيرة، وهي ثورة أرادت - بحق وعدل - أن تضيق الفجوة بين فئات الشعب فاقتضى ذلك - بالضرورة - أن تأخذ بأيدي العاملين الكادحين فترفع عنهم بعض الظلم الذي أحاق بهم. ولما كان هؤلاء العاملون الكادحون في الأعم الأغلب على درجات متواضعة من العلم ومن الثراء؛ وقعنا في خلط عجيب حين أخذ كتابنا يصورون من هم أجهل على أنهم أنقى سريرة ممن هم أعلم! ومن هم أفقر وأضعف على أنهم أعرف بواجبات الشهامة والشجاعة وواجبات الوطنية الصادقة والأريحية الخالصة من أولئك الذين سكنوا المدينة ونالوا حظا من التعليم ونصيبا من الثراء! وتتبع - إذا شئت - أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون، كلما نشأت مواقف منها مقارنة بين من يمثل البساطة والسذاجة والجهل، ومن يمثل تهذيب الحضارة وسعة المعرفة وطموح الارتقاء.
على أن الفجوة بين الوهم والحقيقة، في حياتنا الفكرية والثقافية، إنما تبلغ أوسع حالاتها كلما تعرض متحدث أو كاتب لحضارة هذا العصر، الذي كان ينبغي أن يكون عصرنا من الناحية الفكرية والثقافية كما هو عصرنا بالفعل من حيث موقعه وموقعنا من التاريخ الزمني، فما أسرع ما نكيل على الغرب وأهله كل ما وسعته اللغة من صفات التحلل والتهتك والرجس والفسق والدنس، وكأن الناس هناك يعيشون في مواخير الدعارة، وليسوا هم الذين بلغوا من آفاق العلم ما بلغوه وأبدعوا في الفن والأدب ما أبدعوه، وأقاموا من النظم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها ما أقاموه! إننا بالطبع لا نريد أن نجعل منهم ملائكة، ولكننا في الوقت نفسه لا يحق لنا أن نجعلهم من زمر الأبالسة والشياطين، على أن ما يكشف افتراءنا هو أن من يهاجمون حضارة الغرب وأهلها تراهم في اللحظة ذاتها التي يوجهون فيها ذلك الهجوم يحيطون أنفسهم من ألف حياتهم العملية إلى يائها بما أمدتهم به تلك الحضارة مما صنعه أهلها هؤلاء الذين نرميهم بما نرميهم من لعنات! ولو قال الكاتب لقارئه كلمة صدق لكان له عند ربه ثواب من توخي الحق؛ حتى لا يضل قارئه سواء السبيل.
لقد كان من حقنا - بداهة - أن نحصن هويتنا تحصينا يصونها؛ حتى لا تنجرف فيما يشوه قسماتها، فلا تصبح هي ما هي؛ لأنه لو حدث ذلك لشقينا بنقمتين نقمة من فقد نفسه، ونقمة من انقطعت الصلة بينه وبين ماضيه، فليس العيب - إذن - هو في الحفاظ على جوهر ذواتنا، بل العيب هو في أننا أخطأنا الطريق المؤدي إلى تحقيق ما أردناه؛ فحسبنا أن سبيلنا إلى ما نبتغيه، وهو أن نظل على قوميتنا وعلى عقيدتنا وما تمليه علينا من مبادئ نقيم عليها صور الحياة، أقول إننا حسبنا أن سبيلنا إلى ذلك هو أن نكيل السباب إلى بناة الحضارة العصرية، بدل أن نلتمس لأنفسنا بكل ما يميزنا من خصائص مكانا في حضارة عصرنا ودورا نؤديه في بنائها، وفي التصدي لمعالجة أوجه النقص في تلك الحضارة.
كان للوقفة المغلوطة التي وقفناها من حضارة العصر وثقافته عندما أردنا أن نأخذ الحيطة صونا لذواتنا من الضياع، أقول إن تلك الوقفة المغلوطة قد ترتبت عليها نتائج خطيرة تهدد حياتنا بالضعف والانهيار، وأسوق لك مثلا واحدا، ولكنه مثل جسيم في خطورته؛ إذ هو يشبه أن يكون مثلا لمن أخذته عزة بإثمه فألقى بنفسه في مهلكة، والمثل الذي أسوقه هو تلك الدعوة التي تزداد كل يوم تضخما واتساعا وارتفاع صوت، حتى ليوشك باطلها أن يقع موقع الحق في نفوس سامعيها، وهي الدعوة إلى أسلمة العلوم الإنسانية التي فيها - وفي مقدمتها - علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد؛ فأصحاب الدعوة - بكل نية حسنة - يقولون للناس: لماذا نأخذ هذه العلوم التي تدور موضوعات بحثها حول الإنسان في طرائق حياته عن علماء الغرب في تلك الميادين مع أن لنا نحن - عن الإنسان وحياته ومبادئه وقيمه - مصادرنا الدينية والعلمية، فأما المصادر الدينية فهي ملزمة لنا بحكم العقيدة الدينية، وأما المصادر العلمية التي ورثناها عن أسلافنا فهي أعظم قدرا وألصق بنا مما كتبه علماء الغرب والمعاصرون منهم بوجه خاص، شيء كهذا يقوله أصحاب الدعوة إلى أن تكون علومنا الإنسانية علوما إسلامية! وفي هذا القول خطأ منطقي يظهر من مجرد النظر بدقة في عبارة علوم إسلامية وتبين ما تنطوي عليه من تناقض بحيث يرفضها العقل حتى قبل أن يجاوزها إلى مجالات العلوم التي تعنيها، والتي منها علوم النفس والاجتماع والاقتصاد، وأول ما نذكره على سبيل التوضيح هو هذه البديهة الآتية: إن العلوم الإنسانية «علوم» أفرأيتم ما هو أيقن يقينا من هذه الجملة؟ ويقينها مستمد من ذاتها على نحو ما يكون الأمر في أية جملة رياضية؛ ففي الجملة المذكورة - كما في أي جملة رياضية - نوع من تكرار المبتدأ في الخبر، فإذا كان قولك عن المثلث إنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع يفرض نفسه على العقل فرضا لأنه تحصيل حاصل - كما يقولون - فكذلك يكون موقفنا بالنسبة إلى قولنا العلوم الإنسانية علوم هو شبيه بقولنا أشجار الزيتون أشجار، أو قولنا أسماك البحر أسماك، فإذا اتفقنا على أن العلوم الإنسانية «علوم»؛ انتقل بنا الحديث على الفور إلى البحث عن الخصائص الضرورية التي لا بد من توافرها في أي علم يريد أن يسلك في زمرة العلوم، وليس هنا موضع الإفاضة في تلك الخصائص، لكن يكفينا منها واحدة، وهي المحايدة بالنسبة إلى الجوانب الذاتية من حياة الإنسان؛ أي إن الحقيقة العلمية تظل هي هي الحقيقة العلمية بغض النظر عما قد يختلف فيه الأفراد، أو تختلف فيه الشعوب؛ إذ لا تتغير الحقيقة العلمية بتغيير الأجناس والألوان والديانات والأعراف والتقاليد، والأذواق؛ فهذه كلها أمور بالغة الأهمية لحياة الإنسان إلا أنها رغم ذلك ليست مما يرد في مجال العلوم، على أن ذلك لا ينفي أن اختلاف الثقافات بين الأفراد والشعوب قد يؤدي إلى اختلاف في تطبيق تلك العلوم؛ فالعلم النووي - مثلا - قد خلص إلى القوانين الطبيعية التي على أساسها يمكن استخراج القوة الذرية، لكن ذلك العلم إذ يعرض نتائجه على الناس لا يكون من شأنه أن يملي عليهم مجالات خاصة لاستعمالها، والذي يحدد هذه المجالات للناس هو ثقافتهم، أو قل هي أخلاقهم؛ فلقد رأت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945م أن تنهي حربها مع اليابان بإسقاط قنبلة ذرية على هيروشيما وأخرى على ناجازاكي، فوقفت الحرب، ومن الجائز جدا ألا ترى هذا الرأي دولة أخرى في حربها مع عدوها، محرجة من أن تنزل هذا الدمار كله على سكان المدن، وذلك هو معنى قولنا إن العلم موضوعي؛ أي إن الذي يجعله علما هو منهج خاص ينصب على موضوع البحث دون أن يتدخل الإنسان بميوله وعقائده، وأما في أي مجال يجوز تطبيق نتائج العلم، وفي أيها لا يجوز ذلك؛ فليس ذلك من شأن العلم ذاته، وإنما هو أمر موكول لضوابط أخرى في حياة الإنسان.
تلك - إذن - واحدة في فهمنا لعبارة علوم إنسانية ، وأما النقطة الثانية؛ فهي أن هنالك فرقا بعيدا بين ما نتوقع أن يؤديه طالب العلوم الإنسانية وبين ما نتوقع أن يؤديه العالم من علماء العلوم الإنسانية، فبينما نحتم على الطالب أن يراجع الكتب الأساسية القائمة بالفعل في الموضوع الذي يدرسه من موضوعات العلوم الإنسانية بما في ذلك - بالطبع - ما هو موجود في المكتبة من مؤلفات أسلافنا؛ فليس ذلك بالضبط هو ما يضطلع به العالم الباحث في موضوع مما يندرج في أحد العلوم الإنسانية، فقد يرى ضرورة ذلك وقد لا يرى؛ لأن تلك العلوم قد أصبحت اليوم تقيم بحوثها على الواقع الطبيعي للظاهرة التي هي موضوع البحث، فعلماء النفس - وأعني العلماء الذين يضيفون إلى العلم جديدا - لا يستخرجون القوانين العلمية الجديدة الخاصة بسلوك الإنسان من بطون كتب، سواء أكان مؤلفوها من أسلافنا أم كانوا من الغرباء وأسلافهم، وإنما تستخرج الإضافة العلمية الجديدة من التجارب العلمية التي تجرى على عينات بشرية يختارها الباحث العلمي بناء على ما تقتضيه ضرورات بحثه؛ فواضح - إذن - أن سؤال السائل عما يقوم به عالم النفس من تجارب علمية، وإحصاءات ... إلخ؛ ليس هو: هل قدم لنا ذلك العالم نتائج إسلامية؟ بل السؤال هو: هل قدم نتائج عملية قائمة على منهج علمي سليم؟
وأما النقطة الثالثة التي أذكرها تعليقا على دعوة الدعاة بأن نجعل العلوم الإنسانية علوما إسلامية؛ فهي أن العلوم الإسلامية هي علوم وليست إسلاما، من حيث إن الإسلام دين، إنني لأرجو القارئ أصدق رجاء وأخلصه؛ أن يركز انتباهه فيما نعرضه عليه إنقاذا له من خلط فكري غرقنا فيه حتى رءوسنا أشكالا وألوانا. مرة أخرى أقول: إن العلوم الإسلامية ليست إسلاما، بل هي علوم، والفرق بعيد بين الحالتين؛ فالإسلام دين يقع منا موقع الإيمان، وما دمنا نظل بالنسبة للدين في دائرة الإيمان؛ فليس ثمة مجال للتصويب والتخطيء، وليس ثمة موضع للنقد أو لتعدد الآراء.
فكل مسلم يؤمن بأن الله واحد أحد، وفي حدود هذه الصيغة الإسلامية - أو ما شئت من العقائد الإيمانية عند المسلم - يتساوى جميع المؤمنين؛ فلا يصحح أحد منهم لأحد شيئا، ولكننا في حدود الصيغة الإيمانية لا نكون قد جاوزناها إلى علم يقام عليها، فإذا فعلنا ذلك، فأولا قد تتعدد ميادين العلوم التي تقام عليها، فربما اختار باحث أن يبحث في المفردات اللغوية وطريقة تركيبها في الصيغة المعينة، وقد يختار باحث آخر أن يستخلص من منطوق الصيغة الإيمانية ما يجب على المؤمن بها من سلوك يسلكه في حياته العملية، وقد يختار باحث ثالث أن يجري مقارنة تحليلية بين وحدانية المسلم وبين وحدانيات أخرى كفكرة الخير عند أفلاطون أو فكرة الصورة الخالصة عند أرسطو، وأمثال هذه المقارنات قام بها الفلاسفة المسلمون الأوائل، وهكذا، وهكذا.
وواضح أنه وإن يكن كل مسلم يؤمن بوحدانية الله وأحديته؛ فليس كل مسلم بقادر على أن يجاوز الصيغة الإيمانية إلى النظر فيها نظرا عقليا علميا تحليليا، بل ليس كل مسلم قادر على مثل ذلك النظر العقلي العلمي فيما قد آمن به براغب فيه، على أن الراغبين القادرين على النظر العلمي الذين يجاوزون الصيغ الإيمانية إلى تحليلها على منهج التحليل العلمي قد يتفقون في النتائج التي توصلهم إليها عقولهم وعلومهم، وقد يختلفون، وعندئذ لا ضير في اختلافهم؛ لأنهم لم يعودوا وهم في مجال علم ملزمين بالاتفاق كما كانوا ملزمين وهم في دائرة الإيمان؛ فالإسلام عند المسلم هو الإسلام من حيث هو دين لا يختلف فيه مؤمن عن مؤمن، أما صيغ الإيمان الإسلامي حين ينتقل بها العلماء إلى مجال البحث العلمي، فهي في هذا الوضع الجديد موضوع للبحث العلمي، ومن ثم يجوز للباحثين أن يختلفوا في النتائج والأحكام، كالفقهاء وهم يستدلون الأحكام الشرعية من النص القرآني الكريم، أو علماء اللغة حين يدرسون ويستدلون أسرار بلاغة القرآن الكريم، لا بل في الأمر ما هو أكثر من اختلاف الباحثين، وهو أنه من الممكن أن يكون الباحث العلمي في نص إيماني من غير المسلمين؛ لأن البحث العلمي في نص إسلامي ليس هو نفسه الإسلام من حيث هو دين.
فماذا يريد الدعاة إلى أسلمة العلوم الإنسانية أن يقولوا؟
إنه إذا كان المراد هو أن نختار من الكتاب الكريم آيات ينظر إلى نصوصها نظرة التحليل العلمي لاستخراج الأحكام المستنبطة فيها والخاصة بميدان معين من ميادين العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد؛ فذلك جهد علمي مشكور على أن يكون واضحا أن العلم الإسلامي الذي يخرجه مثل ذلك البحث هو علم يجوز لأصحابه الاختلاف فيما بينهم حول نتائجه وأحكامه، ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أن يكون كأي علم آخر يقبل أن يضاف إليه ما قد استحدث من نتائج علمية عبر الزمن؛ فلقد أوضحنا للقارئ أن العلوم الإسلامية كلها هي علوم يقبل الاختلاف على نتائجها، وليست هي إسلاما لا يقبل فيه من الناحية الإيمانية اختلاف المؤمنين.
إن حياتنا الثقافية كانت لتحيا في صورة أقوى نبضا وأفعل أثرا، لو أتيح لها نقاد الفكر كما قد أتيح لها نقاد الأدب، وليس الناقد في الحالة الأولى مرادفا في الوظيفة مع الناقد في الحالة الثانية؛ فنقاد الأدب، رغم اختلاف مدارسهم بحيث كان منهم من جعل هدفه هو اختراق النص الأدبي إلى ما وراءه، والذي وراءه هو إما نفسية مبدع القطعة الأدبية المنقودة، وإما الحياة الاجتماعية التي أحاطت بذلك المبدع، وكان منهم كذلك من يجعل هدفه النص الأدبي ذاته يحلله ليرى كيف ركبت أجزاؤه وتسلسلت لكي تكون مؤثرة على نحو ما تؤثر. أقول إن نقاد الأدب على اختلاف مدارسهم قد اضطلعوا بواجبهم - قديما وحديثا - على نحو ربما كان عاملا فعالا في ترشيد الإبداع الأدبي، وأما الفكر العربي الحديث؛ فقلما وجد نقدا فكريا رشيدا، بل إن نقد الفكرة عملية غير معلومة ولا مفهومة للكثرة الغالبة منا؛ إذ قد يظن أن المقصود بنقد الفكر أن يبين صحة الفكرة المعينة أو خطأها، وإذا كان ذلك هو ما يؤديه ناقد الفكر فهو موجود في حياتنا بكثرة لا نريد لها مزيدا؛ فنحن - ما شاء الله - لا نوصى لهجوم بعضنا على بعض بالتصويب والتخطيء، لكننا إذ نفعل ذلك لا نفعله على أساس التحليل الذي يبين كيف ركبت جملة معينة تركيبا يجعلها مستوفية لشروط المعرفة العلمية أو غير مستوفية لها ، فإن كانت الثانية رفضت الجملة من الأساس دون حاجة منا إلى الدخول في مضمونها لنتفق عليه أو نختلف، ولن أدخل في نفسك الفزع بأن أحدثك عن مقدار ما تجري به أحلامنا من أقوال لو حللنا تركيبها قبل أن نلتفت إلى معناها لسقطت ميتة عند أول ضربة من مشرط التحليل. ولما غاب نقد الفكر من حياتنا تقريبا؛ غابت بغيابه حساسية القارئ التي تميز له معقول الكلام من غير المعقول، حتى جاز أن تشيع فينا بكل اليسر دعوة لأن نجعل العلوم الإنسانية علوما إسلامية على أن تفهم عبارة العلوم الإسلامية على أنها هي نفسها دين الإسلام.
إننا حتى ونحن نقسم أنفسنا - وكثيرا جدا ما نفعل - إلى من نطلق عليهم أنصار القديم، ومن نطلق عليهم أنصار الجديد، لا نقف لحظة واحدة متأنية متروية لنسأل أنفسنا ما الذي نعنيه بهذه اللافتات التي نرفعها إيذانا بحرب فكرية بين الفريقين؟ فماذا فعل نصير القديم وماذا فعل نصير الجديد مما استحقا به أن يقفا في معسكرين متقاتلين؟ ألا يجوز أن نجد أن الخلاف بينهما هو في الحقيقة لا خلاف وإن كلا منهما قد اكتفى بنصف الطريق دون نصفه الثاني؟ وإذا كان هذا هو هكذا؛ علمنا أن الرجلين متكاملان؛ أي أنك لو جمعت واحدا من أنصار القديم إلى آخر من أنصار الجديد، لوجدت حاصل الجمع هو الحياة الثقافية التي نسعى إلى استحداثها، ولم يعد منها ناقص إلا ضرورة أن يجتمع النصفان في كل فرد على حدة؛ ليتفاعلا ولينتجا بالتفاعل حاصلا ثقافيا جديدا، فالمسألة كلها بين الرجلين هي خلط منهما معا بين الوسيلة والغاية؛ فالأول منهما إذا اكتفى بدراسة التراث ووقف عنده يجب أن يعلم أنه قد اكتفى بالوسيلة ووقف عندها، لأن التراث ضروري من حيث هو مصدر إلهام نستوحيه إبداعا غير مسبوقين فيه من حيث هو نهايات يوقف عندها، وكذلك الثاني منهما إذا اكتفى بلحظته الحاضرة يجب أن يعلم بأنه كمن أراد أن يستغني بالغاية عن وسيلتها؛ فهذه اللحظة الحاضرة لا تقف وحدها في خلاء الزمن، بل هي حلقة من سلسلة، ولا بد أن تكون كذلك تأخذ عما قبلها لتضيف، ثم تخلي الطريق لما بعدها. والعجيبة في نصير اللحظة الحاضرة أنه يثور على قديمه معبرا عن ثورية باللغة العربية، واللغة العربية لم يصنعها هو في لحظتها الراهنة، بل تلقاها ثمرة جاهزة من سالفيه؛ لتضيف قوة إلى قوتها، ويتركها لمن يجيء بعده أكثر نبضا بالحياة - ذلك لو استقامت لنا حياة ولغة.
أما وقد وردت الإشارة إلى اللغة في سياق الحديث؛ فالكلام عنها في حياتنا الثقافية الراهنة - إذا أردنا أن نتقصى أوضاعها من جميع أطرافها - هو كلام يطول حتى لتضيق صفحاتنا هذه عن استيعابه، فحسبنا بضع إشارات موجزة سريعة؛ فاللغة العربية قد تتطلب حراستها إلى جماعة قد تكون لها من الفضيلة أقصى حدودها، لكن إدراكهم لما تحيا به اللغة إدراك محدود، فقصروا اهتمامهم على مفردات اللغة فهذه الكلمة صحيحة وتلك الكلمة مغلوطة، وفاتهم أن اللغة لغة بمركباتها وأساليبها أكثر جدا مما هي لغة بمفرداتها، فهذه - إذن - واحدة!
والثانية أنه بينما يعلمنا التاريخ أن ازدهار اللغة في جميع الأمم والشعوب من ذوات التاريخ الأدبي قد كان صنيعة أدبائها؛ فالأديب شاعرا أو ناثرا يتميز فيما يتميز به بحس مرهف تجاه اللفظ حتى لتراه يبدع بموهبته لفظا لم يكن قائما فيصبح بفضله لفظا صحيحا إضافة إلى اللغة، أقول إنه بينما كان الأديب - والشاعر بصفة خاصة - هو الوصي المؤتمن على لغته، أصبحنا في هذه الفترة الحاضرة من حياتنا، وإذا بالأديب فينا داعية إلى تحطيم اللغة! موهما الناس بأنه إنما يحطم ما يحطمه منها تجديدا وثورة على الركود، والله يعلم إنما عبثت أصابعه بتلك الجوهرة لجهله بنفائسها.
والعبث هنا أنواع؛ فتارة تقام الضجة حول قضية المفاضلة بين العامية والفصحى وكأنهما ندان في الأدب، وتارة يكون العبث في أقلام تستعين بالله وتكتب فيما تظنه فصحى، وتقرأ فتقرأ ركاكة في اللفظ يصرخ منها الذوق وأغلاطا فواحش تصطك لها الأسنان! ومع ذلك فالأقلام الكاتبة كان يحملها أدباء، وإذن فتلك هي الثانية .
والثالثة هي أنه بينما علماء اللغة في كل أقطار الأرض التي تقدمت العلوم بها وفيها قد أخذوا يصبون على لغاتهم أضواء تحليلية كاشفة من صنوف لم تعهدها علوم اللغة من قبل، وجاءت الملاءمة بين تلك التحليلات اللغوية الجديدة وبين عصرنا العلمي بأجهزته الحاسبة في أن تلك التحليلات قد هيأت اللغة - ولكل لسان لغته - وتحليلاتها لكي تصبح صالحة للدخول في الأجهزة الحاسبة (الكمبيوتر) على صورة جعلت الترجمة من لغة إلى أخرى في تلك الأجهزة ممكنة بدرجة مذهلة من الدقة؛ ففي بضع ثوان تخرج لك عدة صفحات مترجمة من الروسية إلى الإنجليزية مثلا! وذلك بفضل تحليل اللغة المترجمة إلى اللغة المترجم إليها! واستعمالات لغوية أخرى كثيرة باتت في حدود المستطاع بفضل العلوم اللغوية في صورتها الجديدة. ويكفيك في ذلك أن تلم بشيء مما فعله رجل واحد في هذا السبيل هو نوام تشومسكي! فكم من علماء اللغة العربية قد دفعه حبه للغة إلى إضافة علمية كهذه تدخل لغتنا في عصرنا، ولو من بعض الوجوه وإلى حد محدود، وتلك - إذن - هي الثالثة.
وأما الرابعة فهي أن اللغة العربية - ككل اللغات الغنية الأخرى - فيها الطاقة لأن تكتب بها العلوم كأدق ما تكون الكتابة العلمية، وفيها الطاقة كذلك لأن يكتب بها الأدب في كل مستوياته حتى يبلغ ذروة الشعر! والفرق الجوهري بين الحالتين هو أن اللغة في الحالة الأولى تشير إلى موضوعات التفكير إشارة محددة ومباشرة دون أن يكون فيها أقل قدر من الإيحاء، في حين أن اللغة في الحالة الثانية إيحائية إلى آخر حد مستطاع، وليس من أهدافها عندئذ أن تشير إلى الهدف المقصود إشارة مباشرة. والتمرس باللغة واستعمالها الصحيح يعين من يستخدمها على التفرقة بين طريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال تفكير علمي، وطريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال الأدب شعرا أو نثرا! لكن المتعقب للغة العربية اليوم لا يخطئ أن يرى الخلط والتخليط والقصور والعجز حتى لتبدو لغتنا الغنية القادرة وكأنها فقدت قدرتها على دقة العلم ونحن في مجال العلم، كما فقدت قدرتها الإيحائية في التعبير الأدبي ومنه في مجال الأدب!
وأما الخامسة؛ فهي أن اللغة خلقت في الأصل إما لكي تشير، وإما لكي تعبر: فهي تشير عندما يكون الموضوع في الخارج، وهي تعبر عندما يكون الموضوع حالة من حالات الباطن، فإذا وجدت جملة لا هي استطاعت أن تشير لقارئها إلى شيء ظاهر، ولا هي استطاعت أن توحي لقارئها بالحالة النفسية المراد إثارتها فيه؛ حق لك أن تسقطها من الحساب، لأنها وإن تكن اصطنعت شكل اللغة؛ فإنها في واقع الأمر ليست من اللغة في شيء. وأترك للقارئ أن يدقق النظر في كثير جدا مما أصبحت تجري به الأقلام ليرى كم فيها محسوب على اللغة بالحق! وكم منها محسوب عليها بالباطل! وسأكتفي بتلك النقاط الخمس فقد ذكرتها على سبيل التمثيل مما تشقى به لغتنا اليوم على أيدينا ولو كان المراد حصرا علميا لأطراف المأساة؛ لمضيت أذكر السادسة والسابعة والثامنة وما شاءت لي الحقيقة من عدد.
Bilinmeyen sayfa