Arap Kültürünün Güncellenmesinde
في تحديث الثقافة العربية
Türler
أما الآن فأنظارنا موجهة إلى اللغة «المعبرة» وقدرتها العجيبة التي قد لا يتنبه عليها إلا من تعمد الوقوف عندها متأملا، وإنه ليبدو لي الآن أن الإنسان حين عرفوه (بتشديد الراء) بأنه الناطق، تمييزا له من الحيوان الأبكم، الذي هو حتى إذا صرخ صرخاته المسموعة، أو حتى إذا غرد تغريدا تطرب له آذاننا، كما يفعل الكروان والبلبل؛ فهو يظل إلى البكم أقرب منه إلى حالة الإفصاح، لأن المعول في التفرقة ليس الصوت مجرد الصوت، وإنما هو أن يجيء الصوت «معبرا» عما هو كامن في طوايا النفوس، أقول إنه ليبدو لي الآن أنهم حين عرفوا الإنسان بأنه الحيوان «الناطق» كان المقصود بالنطق قوة «التعبير» بالإضافة إلى غيره من الصفات كالتفكير، أو ما شئت؛ وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى معنى «العبور» المضمر في كلمة «تعبير»؛ فلقد أصبح الإنسان إنسانا بلغته التي اصطنعها ليجعل منها وسيلة «عبور» ينتقل بها مكنون نفسه إلى الآخرين، وإلا فلو أن كل فرد إنساني قد لبث مغلقا على سره، بحيث يصبح أفراد الناس كالجزر الصماء في المحيط العظيم، كل جزيرة منها استقلت عن الأخريات، أقول لو أن مثل هذه العزلة الموحشة كانت هي قدر الإنسان، ثم أضيفت عزلته تلك إلى الصمت الرهيب الذي يلف في عبوسه جسم الكون الهائل الذي يحيط به؛ إذن لأصبحت حياة الإنسان مساوية لموته، أما الذي أجرى فيه الحياة مع غيره فهو لغته «المعبرة».
فنحن - إذن - إنما نوجه اهتمامنا الآن إلى اللغة وهي أداة «تعبير »، مرجئين الحديث عن لغة العلم التي يراد لها - عمدا - أن تشير ولا تعبر؛ فنقول إن أفراد الناس يتفاوتون تفاوتا شديدا في قدراتهم على أن تجيء كلماتهم مجنحة لتستطيع بأجنحتها تلك أن تطير مرتين: إحداهما وهي تطير حاملة مكنون النفس من مخبئه ليظهر إلى الناس، والثانية إذ هي تطير عبر المكان البعيد، وعبر الزمان المديد، لتبلغ مسامع الناس في أوانها وفيما يلي أوانها من عصور تتوالى إلى ما يشاء لها الله أن تتوالى. أقول إن أفراد الناس، رغم اشتراكهم في لغة واحدة، فهم يتفاوتون في القدرة على أن تجيء عبارتهم «ناطقة» حقا، «معبرة» حقا، مفصحة حقا عن حقيقة «الإنسان» كما هو متمثل في الفرد المتكلم. إن كلمات الأفراد قد تتشابه ظاهرا كما يتشابه الطير، ولكن تفاوتها البعيد بعد ذلك يظهر عند الطيران، فكما أن في عالم الطير نسورا وعقبانا تشق الفضاء كأنها الرماح أطلقتها أيدي الفرسان، وبغاثا من الطير لا يكاد يعلو عن سطح الأرض، مكتفيا لقوته بفتات ذابل تناثر هنا وهناك؛ فكذلك في الناطقين باللغة الواحدة من تضمن كلماته بقاء الخلود، ومنهم من تفنى كلماتهم على شفاههم قبل أن يموج بها الهواء.
وموضع العجب الذي لا ينقضي، هو أن كلمات اللغة، وطرائق تركيب تلك الكلمات في جمل، بعد أن صاغتها جماعات الناس، ليستعان بها في الإشارة إلى الأشياء التي قد يدور عنها حديث بين متكلم ومخاطب، أخذت تلك الكلمات نفسها - على امتداد تاريخها - تعبأ بمضمونات تمس مشاعر الإنسان، حتى لقد تضاءلت قيمة الوظيفة الإشارية منها، وارتفعت قيمة ما قد أضيف إليها من مشاعر الإنسان بما كابد وما عانى، وعندئذ أصبحت أداة صالحة «للشعر»، كما أصبحت قادرة، بأجنحتها المكتسبة، على الطيران عبر المكان وعبر الزمان، على النحو الذي ذكرناه. وإذا كنت قد استخدمت كلمة «الشعر» هنا، مشيرا بها إلى اللغة التي اكتسبتها خبرات الحياة أجنحة تمكنها من العبور والطيران، فإنما قصدت بكلمة «الشعر» كل عبارة تجاوزت وظيفة اللغة الأولى والأساسية، وهي «الإشارة» إلى مسميات في دنيا الأشياء، وهي نفسها الوظيفة التي يقف عندها، ويكتفي بها «العلم»؛ فالعلم يقول الكلمة المعينة ليشير بها إلى شيء معين، ويرفض أن يزاد عليها معنى أو ينقص منها معنى؛ حتى يضمن لها دقة الأداء. وأما «الشعر» (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) فيكاد يسقط من حسابه الجانب الإشاري من الكلمات، ليطير بمضمونها الشعوري المضاف إلى حيث تستطيع موهبته أن يطير؛ ومن هنا كان الشعر في لغة ما، هو زهرتها، أو قل هو موضع العبقرية فيها.
ولكي أوضح ما أعنيه؛ افرض أنك وجدت في غرفة مجموعة الأشياء الآتية: سيف، ورمح، وورقة، وقلم، وسئلت: هل تعرف أسماء هذه الأشياء؟ فإنك لا شك مجيب: نعم، إني أعرف أسماءها فهذا سيف وهذا رمح، وهذه ورقة، وقد يسمونها كذلك «قرطاسا»، وهذا قلم، لكن سائلك ربما مضى معك في الحديث، وأخذ يسأل: وهل تعرف ما تسميه «خيلا»؟ وتقول أنت: نعم، أعرف الخيل، وهكذا يسألك عن مسميات «الليل» و«البيداء» وهكذا أيضا يجيء جوابك بأنك تعرف معانيها جميعا، فإلى هنا لا يكون سائلك ولا تكون أنت قد جاوزتما الوظيفة «الإشارية» للكلمات؛ فأنتما تعرفان لكل كلمة من الكلمات المعروضة مسماها، وتلك هي اللغة في أولها وأساسها، لكن اقرأ بعد ذلك قول المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
اقرأ هذا البيت، وكلماته هي نفسها الكلمات التي عرفت مسمياتها في دنيا الأشياء أضيف إليها كلمة واحدة، هي «تعرفني»، وبهذه الإضافة اليسيرة، تنتقل معرفتك بقائمة الأسماء المذكورة إلى فلك آخر من أفلاك السماء؛ فلم يعد يراد بالخيل أن يكون خيلا، ولا بالليل أن يكون ليلا ... إلى آخر الأسماء الواردة في القائمة المذكورة، بل تحولت كل هذه الأشياء من حالة كونها جمادا لا يعقل ولا يشعر ولا يعرف، إلى حالة كونها كائنات عاقلة شاعرة عارفة، تستطيع أن تميز إنسانا يجيد استخدامها من إنسان يجهل طبائعها، وانظر إلى دخيلة نفسك عندئذ؛ تجدها لم تعد تعنى بتلك الأشياء في ذاتها، بل انتقل انتباهها إلى «الرجل» الذي ملك بقدراته زمام تلك الأشياء جميعا. تأمل نفسك جيدا؛ تجدها قد ارتفعت عن دنيا «الأشياء» وأسمائها، إلى عالم آخر، هو عالم «القيم» التي تميز الإنسان من سائر الكائنات، ثم تعود فتميز إنسانا من إنسان، وهي - هنا - قيم الشجاعة، والمغامرة، والفروسية والشعور المرهف، وفوقها جميعا قيمة القدرة على «التعبير» عن هذا كله. ومن أجل تلك القدرة السامية، وهي نفسها التي تميز بها المتنبي شاعرا؛ عرفه القرطاس وعرفه القلم، فإذا أمسك بقلمه عرف القلم أن قد أمسكت به أصابع شاعر، وإذا جرى القلم على القرطاس عرف القرطاس أنه في ذمة من يعرف كيف يكتب اللفظ الشريف، وهكذا ترى أن اللغة لم تعد وظيفتها أن «تشير» إلى مسميات، بل انتقلت إلى فلك أسمى هو فلك الخبرة الإنسانية بكل ما تكابده وتعانيه، وهي نفسها الخبرة التي تجمع في العمل الأدبي الواحد وظيفتين قد تبدوان وكأنهما نقيضتان، وهما: أن يكون في العمل الأدبي خصوصية صاحبه الفرد المفرد الفريد، وأن يكون فيه في الوقت نفسه إنسانية الإنسان أينما كان وأنى كان.
والكاتب كالشاعر، لا يستحق نعته كاتبا، كما لا يستحق الشاعر نعته شاعرا، إلا إذا جاءت الكلمات على قلمه «تعبيرا»؛ وأظننا قد عرفنا الآن أن صميم التعبير هو «العبور» بالسر الإنساني من الخفاء إلى العلن، ولقد كثر الخلط بيننا اليوم؛ فلم نعد نفرق بين العبارة يجري بها قلم «الكاتب»، أو بيت للشعر ينبض به قلم الشاعر، وبين ما يرويه ناقل الخبر، أو ما يعترك به المدافع عن سياسة ضد سياسة، أو من يبين لنا كيف نحول الجنيه إلى دولار .. كل هذه أمور تقع في صميم حياتنا، وإذا لم يكتب عنها خالد، فلا بد أن يتولاها بالكتابة عمرو؛ هذا صحيح، لكنها عندئذ تكون كتابة فيها وظيفة «الإشارة» إلى الأشياء والمواقف، تزول بزوالها وتبقى ببقائها، أما أدب الكاتب وشعر الشاعر فشيء آخر يريد أن يكون في الموسيقى الكونية قيثارة، يريد أن يغوص في خصوصية ذاته ليخرج منها الاسم ومسماه، ليبلغ بها ذلك العالم الكامن وراء الأشياء، من إرادة تريد، وعقل يدبر، وقلب يتعاطف ويرحم.
لكن عصرنا - أقول لك الحق - قد اختار أن يضيف إلى كل حسناته من علم ومغامرة؛ سيئة أخشى أن تذهب حسناته، وأعني بالسيئة ذلك الطوفان من الكلمات التي تهدر بها المطابع، تهدر بها وتصرخ بها وسائل الصوت والصورة، تهدر بها وتصرخ بها، حاملة للناس ما يرتفع بأقدارهم مرة، وما يهبط بتلك الأقدار ألف ألف مرة، وربما كان من أجل هذا الصخب الفارغ، قال «كافكا» يوما ضاقت فيه نفسه: إنني أكثر احتراما لنفسي صامتا مني متكلما.
ولكن ماذا عن «العلم» ولغته أنت يا أيها الداعي إلى العلم في صبحك ومسائك؟ نعم، فلننتقل الآن إلى العلم ولغته، بعد أن قلنا ما قلناه عن شعر «الشاعر» وكتابة «الكاتب»، وقبل أن أنتقل بك إلى تحديد الفارق الأساسي بين المجالين، أريد أن أجنبك خلطا قد تقع فيه، بين ما هو «علم» وما هو «لغو» لا يعني شيئا، ولا ينفع الإنسان في شيء؛ فلا هو من قبيل الشعر والأدب من حيث أنسنة الإنسان، ولا هو علم من حيث الإحاطة بالقوانين التي تجري عليها ظواهر الكون ليستطيع الإنسان أن يلجم تلك الظواهر ليسير بها حيث يشاء؛ فطوفان الكلمات التي أشرت لك إليه منذ بضعة أسطر معظمه لغو فارغ، وأقله «علم» و«أدب» و«شعر»، فبماذا تتميز الصيغة اللفظية عندما يحق لنا أن ندرجها في زمرة الحقائق العلمية؟
Bilinmeyen sayfa