Arap Kültürünün Güncellenmesinde
في تحديث الثقافة العربية
Türler
ولم يعد لدينا الكثير نقوله في العلمين الآخرين: علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، ويكفي أن نشير إلى بدهيات في غنى عن أن يشار إليها، ومنها أن مشكلات الحياة الإنسانية تتجدد عصرا بعد عصر؛ فالذي كان يتحدى الباحث العلمي كابن خلدون فيما يختص بالتفاعل الاجتماعي، ليس هو ما يتحدى الباحث العلمي اليوم، فقد كان من أبرز ما عرض لابن خلدون - مثلا - ذلك الصدام الذي لم ينقطع بين بداوة تنبثق من الصحراء وحضارة زراعية فيما يحيط بتلك الصحراء، فهل لا تزال مسألة كهذه تتطلب كل الجهد من علماء الاجتماع اليوم؟ أو أن موضوعات أخرى قد استحدثت ليست أقل أهمية منها كالتناقض الكامن بين النزعات الوطنية الإقليمية وطموح الإنسانية إلى «أمم متحدة» يتكون من اتحادها أسرة بشرية واحدة؟ ومثل ذلك يقال عن ميادين البحث في علم الاقتصاد، فلو تبينت طبيعة «العلم» على حقيقتها لأصحاب الدعوة إلى «الأسلمة» لسلموا هم، وسلمت معهم علوم الإنسان.
الأفكار كالأشجار تنمو
صدر لي سنة 1960م كتاب صغير بعنوان «الشرق الفنان»، كان حلقة من سلسلة ثقافية أخرجتها وزارة الثقافة يومئذ، ولقد عرضت في ذلك الكتاب صورة لجوهر الثقافة العربية، بمقارنتها بكبرى الثقافات التي شهدها التاريخ، وكان تصوري للأمر هو أن التاريخ قد شهد ثقافتين عظيمتين، إلى جانبي الرقعة العربية التي تميزت دونهما بخصائص انفردت بها، أما تانك الثقافتان؛ فكانت إحداهما هي ثقافة الشرق الأقصى من جهة الشرق، وكانت الأخرى هي ثقافة اليونان القديمة من جهة الغرب، وهذه هي نفسها التي أصبحت فيما بعد بمنزلة الجذور التي انبثقت منها ثقافة الغرب، في أوربا أولا، ثم في أمريكا الشمالية بعد ذلك، وكان الأساس الذي اتخذته لهذا التقسيم، هو وسيلة الإدراك الأساسية في كل من الثقافات الثلاث: الشرق الأقصوية، واليونانية، والعربية، كما تجلت تلك الوسيلة الإدراكية في الناتج الثقافي المتوارث في كل منها، فواضح أن المأثور الثقافي في الشرق الأقصى، كان أهم ما فيه كتب الديانات في ذلك الجزء الفسيح من العالم، وهي كتب تقرؤها فتقرأ ما يشبه الأدب، شعرا ونثرا؛ فهو كلام ينبع من صميم القلب، وينضح من خبرات إنسانية دافئة وأصيلة، وموجه مباشرة نحو الإنسان في حياته الأخلاقية، وكيف ينبغي له أن يقطع رحلة الحياة في دنياه، وإذن فقد كانت الوسيلة الإدراكية الأولى عند أصحاب تلك الثقافة هي نفسها وسيلة الشاعر، والأديب، والصوفي، والفنان. وواضح كذلك أن ثقافة اليونان القديمة - إذا أخذنا جانب الفكر الفلسفي والعلمي من تراثها - كانت مؤسسة على منطق العقل، كما يتجلى ذلك المنطق العقلي في عمليات استدلالية، توضح فيها فروض لتستخرج منها نتائجها، عن طريق المنهج القياسي الذي صاغ أرسطو نظريته بكل تفصيلاتها، وهو المنهج الذي نقله العرب عن اليونان، فيما نقلوه من تراث اليونان القديمة، وأصبح ذلك المنطق من أبرز الملامح التي كان يتميز بها المثقف العربي، أيا كان ميدان تخصصه فوق ذلك، وجاءت الثقافة العربية وسطا بين ذينك الطرفين، لا بالمعنى الذي يجعلها تأخذ قبضة من تلك وقبضة من هذه، لتؤلف بينهما، فإذا هذا الذي ألفته هو ثقافتها العربية، بل بالمعنى الذي يجعل لها بادئ ذي بدء وقفتها الخاصة، استخلصتها من موقعها ومن طبيعة إقليمها، فمكنتها تلك الوقفة الخاصة من أن تستخدم وسيلتي الإدراك السالف ذكرهما - إحداهما عند شعوب الشرق الأقصى والأخرى عند الإغريق - كما مكنتها من أن تضفر تينك الوسيلتين في جديلة واحدة، بحيث أصبح كل عربي ذا رؤية يكون بها صوفي الاتجاه آنا، وعقلي الاتجاه آنا آخر، فإذا نظرت إلى الموقف كله في جملته، بنظرة ترسلها من عل، وجدت الشاعر وصاحب النزعة العقلية، قد اجتمعا في العربي، ووجدت كذلك أن كلا من الاتجاهين، قد امتد وارتفع إلى ذروته في شامخ بعد شامخ؛ فهنا المتصوف، أو الشاعر العملاق، وهناك الفقيه أو العالم في مجال من مجالات العلم، ولولا أن معدة العربي قادرة على هضم الناتج الصوفي، وقادرة في الوقت نفسه على هضم الناتج العقلي؛ لما استطاع العرب وهم في مجدهم أن ينقلوا عن الهند تصوفها، وعن اليونان فلسفتهم وعلومهم؛ ليمزجوا هذه الحصيلة كلها، مضافة إلى ما عندهم من دين وشعر، فإذا كل هذا يتمثل في كتابات الكتاب، وفي نقد النقاد، وفي فقه الفقهاء (من حيث منطق القياس)، بل في شعر الشعراء كذلك، وحسبك أن تقف عند رجل واحد كأبي العلاء المعري؛ لترى صورة تلك المحصلة الثقافية في أوجها.
هذه خلاصة ما عرضته سنة 1960م في كتاب «الشرق الفنان». والحق أني لم أكن يوم أن عرضت ما عرضته في ذلك الكتاب الصغير؛ أفكر، بل لا أحلم بألا تمضي بعد ذلك التاريخ بضع سنوات لم تزد على عدد الأصابع في يد واحدة حتى رأيتني في شغل شاغل لتنمية ما بدأته موجزا ومكثفا، بالنسبة إلى الثقافة العربية وخصائصها، فأخذت أقلب الموضوع باطنا لظاهر، وظاهرا لباطن؛ كي أستوعب من تفصيلاته ما وسعني ذلك، إذ رأيت في تلك الخاصة الفريدة التي تميزت بها الثقافة العربية خير أساس يصلح لأن يقام عليه تصور كامل وشامل لما يجب أن تكون عليه الثقافة العربية في عصرنا هذا، فكما جمعت تلك الثقافة في تاريخها الماضي ما عند الشعوب التي إلى يمينها والتي إلى يسارها على حد سواء؛ تستطيع أن تفعل ذلك اليوم، وإلا فما الفرق بين أن يأخذ العرب الأولون عن اليونان علومهم وفلسفتهم ليهضموها ثم لينشئوها بعد ذلك نتاجا جديدا يقدمونه إلى العالم وبين أن ننقل نحن اليوم ما عند أوربا وأمريكا من علوم وفلسفات لنهضمها ثم لننشئ مبدعات في ميادينها نسهم بها مع سائر العالم المتقدم في بناء الصرح الحضاري والثقافي؟! إن اليونان القديمة كانت للعرب الأولين هي «الغرب»، وإن بلاد الغرب في عصرنا هي لنا بمنزلة اليونان عند أسلافنا، لكن أسلافنا كانوا أصحاء أقوياء، لم يخافوا على رئاتهم من تيار الهواء يأتي من النوافذ المفتوحة، وأما نحن اليوم فبنا ضعف وهزال، نخشى عواقب الهواء والنور، فنغلق دوننا الأبواب والنوافذ، لنجتر ظلاما نزداد به ضعفا على ضعف، وهزالا فوق هزال، وناشدتك الله لا تقل: لكننا يا أخي ننقل عن الغرب في يومنا علومه وفلسفته، على نحو ما صنع قدماؤنا مع قدمائه ، وإلا فماذا ترانا نقدمه لطلابنا في الجامعات إذا لم يكن هو ذلك الذي نقلناه كل منا في ميدانه؟ ناشدتك الله لا تقل هذا؛ لأنك ربما علمت أنت أكثر مما أعلمه من أن المعول آخر الأمر إنما هو على قبول ما قد نقلناه قبولا مخلصا من أعماقنا، ثم هضمه هضما يسمح له بالسريان في عروقنا ليكون جزءا منا، ثم الإبداع على أساسه إبداعا نشارك به في بناء عصرنا، وأنت تعلم أكثر مما أعلم أننا نقلنا لطلابنا ما نقلناه ليحفظوه في الذاكرة حفظا أصم، كما حفظناه نحن من قبلهم؛ ليعدوا أنفسهم فيما بعد «علماء» بالذي حفظوا، كما عددنا أنفسنا «علماء» بالذي حفظنا، «وكان الله غفورا رحيما».
أعيد القول بأنني حين وضعت تصوري لجوهر الثقافة العربية في ذلك الكتاب الصغير، لم أكن أعلم أنني عندئذ إنما وضعت لنفسي خطة سير في رحلة بدأتها بعد ذلك التاريخ بسنوات قلائل، وهي رحلة بذلت فيها كل ما استطعت من جهد في سبيل أن أصور لنفسي وللناس صورة لحياة ثقافية جديدة، ينسج فيها جديد مع قديم نسجا لا يشوبه تنافر أو نشاز.
وفي هذا الجو الفكري الذي أعيشه مع نفسي - على الأقل - جاءني كتاب عنوانه «الوسطية العربية - منهج وتطبيق» للأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم، على أن الذي بين يدي هو الجزء الأول الخاص «بالمذهب»، ولو كنت ذا بصر قارئ لانكببت عليه؛ لأرى ماذا يقول المؤلف الفاضل في موضوعه هذا، ترى أيكون موضوعه هو نفسه الموضوع الذي يشغلني التفكير فيه والكتابة عنه مدة تقرب من عشرين عاما؟ ولا يزال في نفسي شيء من «حتى» كما قال العالم العربي القديم، الذي بذل ما بذله من جهود كان يتعقب بها كلمة «حتى» في شتى معانيها وأوضاعها، ومع ذلك لم يبلغ منها ما يحقق رجاءه، فقال قولته المذكورة، إذ هو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «أموت وفي نفسي شيء من «حتى».» أم كان للأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم هدف آخر ووسائل أخرى؟ ولما عز على نفسي أن أضع الكتاب مع أسرته في خزائن كتبي، يأسا من قراءته استعنت بمناظيري لأقرأ من الكتاب صفحة أو صفحتين؛ أذوق بهذا القليل حسوة من البحر لعلي أعلم كيف موقعه على اللسان، فكان مما وجدته في تلك الحسوة الخاطفة عتاب غاضب يوجهه إلي من لست أدري من، فيقول ما معناه: إن بعض الكتاب يصرخ بأن يكون لنا فكر مستقل، ثم يقف عند حد الصراخ، وعلة موقفهم هذا فيما يرى صاحب «الوسطية العربية» هي أنهم يناقشون الفكر العربي من خلال القوالب الغربية؛ لكي يثبتوا أن لنا - كما للغرب - «وجودية» و«اشتراكية»، وما إلى ذلك من مذاهب وأفكار، ثم يقول المؤلف الفاضل عن كتابه هذا: إنه لأول مرة يتقدم مؤلف إلى الناس بمذهب متكامل لفكر عربي، منتزع من البيئة العربية، وتطبيقات على الممارسة اليومية، وفي مجالات الفن، والأدب، والمنهج، ثم ينبئنا المؤلف عن أولئك الذين يتوجه إليهم بالعتاب؛ إن منهم من يتعجب لما نستعمله من مصطلحات جديدة لم يألفها، ويضرب لنا أمثلة لتلك المصطلحات الجديدة فيقول: إنه يقول «الحكمة» فيما يقولون عنه «الفلسفة»، ويقول: «الوحدة التركيبية» عما يقولون عنه «الوحدة العضوية»، ويقول «مدارس الخط العربي» بدل قولهم «مدارس الفنون التشكيلية» وإنه يستخدم مصطلح «الغربة» بمفهومه الإسلامي، بدل مفهومه وهو يشير إلى غربة الآلة، ويستعمل عبارة «الدفع بين الناس» بدل عبارة «الصراع الطبقي» ... إلخ. وبعد أن ساق لنا المؤلف هذه الأمثلة لما بينه وبين ناقديه من اختلاف، يختتم الفقرة التي جاهدت حتى أتممت قراءتها، بقوله: «وقد يثير هذا المنهج ريبة البعض، وكأنه مكتوب علينا أن تكون لنا فلسفة مثل فلسفتهم، وفكر مثل فكرهم.»
اكتفيت بهذه الأسطر القليلة من مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الوسطية العربية»، ولقد اكتفيت بها مجبرا لا مختارا، وهي بالطبع بضعة أسطر لا تجيز لأحد أن يصدر حكما على كتاب، ودع عنك أن يكون للكتاب قيمته بين الكتب، وأن تكون لمؤلفه مكانته بين المؤلفين، لكنها مع ذلك أسطر أمدتني بشعاع من الضوء كشف لي عما يصح أن يكون وجهة نظر المؤلف، ووجهة نظر جماعة ممن خاصموه، فيما يقال عن الثقافة العربية وخصائصها، إذا ما تناولناها بالمقارنة مع ثقافة عصرنا، وهي وجهة نظر تبعد عما أراه في هذا الموضوع، بزاوية تنفرج إلى مائة وثمانين درجة، فيكون معنى ذلك ألا لقاء في الرأي بيني وبين صاحب «الوسطية العربية» ولا بيني وبين خصومه، إذا كان الرأي عند هؤلاء الخصوم هو ما أشار إليه المؤلف في الأسطر القليلة التي طالعتها من مقدمة كتابه.
فماذا يقول المؤلف عن نفسه وعن خصومه؟ إنه ليبدو لي أنه وخصومه جميعا قد تصوروا مجموعة الأفكار التي تتألف منها ثقافة أمة معينة، وكأنها مجموعة من قطع «الزلط» وضعت في صندوق، يمر عليها الزمن كما يمر، وتبقى كل قطعة منها بعد ألف عام كما كانت قبل ألف عام، غير مدركين أن كل فكرة لها أهميتها في بناء ثقافي معين، إنما هي بمنزلة خطة سلوكية كثفت في كلمة واحدة، أو في جملة واحدة. ومعنى ذلك هو أن الفكرة وإن احتفظت باسمها؛ فإن مضمونها يتغير لينمو مع نمو الحياة الاجتماعية التي من أجلها كانت تلك الفكرة قد أنشئت بادئ ذي بدء. ومهما يكن من أمر فلنعد إلى الأسطر القليلة التي نقلتها عن مقدمة «الوسطية العربية» محاولين أن نستخرج منها صورة حية لما يقول المؤلف عنه إنه منهجه في النظر إلى موضوع الثقافة العربية، وكذلك لما يظنه منهج من خاصموه الرأي، فأتخيل كما لو كان المؤلف قد وضع أمامه صندوقا امتلأ بقطع «الزلط» كل قطعة منها تشير إلى فكرة من بناء الثقافة العربية، وكذلك فعل خصومه، وأمامهما على الجانب الآخر من منضدة الحوار، جلس من يمثل الغرب المعاصر وثقافته، وقد وضع هو الآخر صندوقه المليء بأحجار الزلط، التي هي أفكار ثقافة قومه، ويبدأ الحوار: فيقول ممثل الخصوم لصاحب الثقافة الغربية المعاصرة: هات ما عندك، فيجيبه: عندي في النقد الأدبي شيء اسمه «الوحدة العضوية» فيرد عليه العربي من فئة الخصوم: «الوحدة العضوية» عندنا، وقد سبقناكم إليها بثمانية قرون، وإنه إذ يقول ذلك، يرفع بيده «زلطة» يخرجها مما في صندوقه، وهنا يسرع صاحب «الوسطية العربية » فيقول مصححا: لا، بل إنها في صندوقي تسمى «الوحدة التركيبية»، وينتهي بذلك الشوط الأول من المباراة، ويبدأ الشوط الثاني: يقول العربي من جماعة الخصوم لمن جاء يمثل الغرب المعاصر: هات ما عندك، ويجيب هذا بقوله: عندي شيء اسمه «الفن التشكيلي» ويؤكد له العربي أن الفن التشكيلي موجود كذلك في الثقافة العربية، وهنا يسرع صاحب «الوسطية العربية» مصححا مرة أخرى قائلا: نعم هو عندنا، لكننا لا نعترف لكم باسمكم هذا، ونسميه «مدارس الخط العربي». وهكذا تمضي أحداث اللقاء الثقافي بين تراثنا العربي وثقافة الغرب المعاصر؛ فالمسألة إذن - عند صاحب «الوسطية العربية» - هي مسألة حرب بين الفريقين حول أسماء، ثم يعود الفريق العربي فينقسم على نفسه مجموعتين: المؤلف في ناحية وجعبته مليئة بأسماء عربية وردت في مراجعنا، وخصوم المؤلف في ناحية ثانية يأخذون الأسماء نقلا عن الغرب بعد تعريبها، وكأنه لا اختلاف قط في «المضمون» الثقافي ذاته بين ما هو سائد في عصرنا، وما كان سائدا في عصور التراث العربي، وكأنه كذلك لا تغير ينمو به ذلك المضمون، كلما تغيرت صور الحضارة وألوان نشاطها.
ولنضرب أمثلة توضح كيف تصمد الفكرة المعينة «بعنوانها»، وأما مضمونها فما ينفك متغيرا متحولا عصرا بعد عصر، على أن يبقى خيط رابط، يصل تلك المضمونات المتغيرة في عقد واحد، ما دام كان للفكرة المعينة جوهر واحد، خذ - مثلا - فكرة «المسرحية» في صور الإبداع الأدبي، إنها نشأت بصورتها المعهودة لنا، عند اليونان الأقدمين، ثم دام لها البقاء إلى يومنا هذا، لكنها وإن بقيت بجوهرها - وجوهرها هو أن تتجسد فكرة معينة في عدة أشخاص يتفاعلون معا في حوار وحركة من خلاله تتجلى الفكرة أمام المشاهدين - أقول إنها وإن بقيت بجوهرها؛ فقد تغير مضمونها من حيث «المبدأ» فبينما المبدأ الكامن وراء تصاريف الزمن مع الناس هو «القدر» من وجهة نظر العصر اليوناني، فقد أصبح «المبدأ» في عصر النهضة الأوروبية هو أن ما يصيب الإنسان في حياته، إنما هو نتيجة مباشرة لتركيبته النفسية؛ أي إن قدر الإنسان نابع من داخله، وليس هابطا عليه من خارج، ثم تغير «المبدأ » مرة أخرى في عصرنا هذا وأصبح الإنسان فيما يصيبه من نجاح أو فشل، لا هو من تدبير القدر، ولا هو نابع من نفسية الفرد وحدها، بل هو مرهون في المقام الأول بالظروف الاجتماعية وضغوطها؛ «فالمسرحية» على إطلاقها قائمة عبر العصور، إلا أنها تتغير من حيث مبادئ تركيبها بتغير العصور.
خذ مثلا آخر: فكرة «الصناعة»، فقد كان الإنسان صانعا منذ كان إنسانا، يقد السكين من الحجر، ويقيم مأواه من أغصان الشجر، ويغطي جسده بجلود الحيوان؛ فالصناعة من حيث هي تشكيل الإنسان للمادة التي حوله .. تشكيلا يسد به حاجاته الطبيعية، ودامت الصناعة من فجر الوجود الإنساني إلى يومنا هذا، ولكن انظر كيف تغير مضمون المعنى عصرا بعد عصر، فهل يجوز في هذه الحالة أن نجادل عصرنا، وكأننا لسنا جزءا منه قائلين لأهله: لئن كانت عندكم صناعة فقد سبقناكم إليها منذ عشرات القرون؟
Bilinmeyen sayfa