Arap Kültürünün Güncellenmesinde
في تحديث الثقافة العربية
Türler
على أن نقاد الأدب لا يتحركون جميعا في فلك واحد، بل هي أفلاك ثلاثة متدرجة في الصعود، أدناها أن يكون مدار الناقد عملا أدبيا معينا، ديوانا من الشعر أو رواية، أو مسرحية معينة، أو ما شئت مما تخطه الأقلام وتخرجه المطابع. وحتى هذا الفلك الأدنى، فيه فرق شاسع بين ناقد وناقد، فهنالك من لا يزيد جهده على مراجعة الكتاب الذي يقدمه، مراجعة تجيء أقرب إلى إعلان مفصل عن ذلك الكتاب بتعريف القراء عن مضمون مادته مع شيء من التقويم إيجابا أو سلبا، ولكن هناك أيضا من يعلو في تناوله للكتاب الذي ينقده، حتى لكأنه يعرض نظرية نقدية بأسرها مجسدة في تعليق واحد على كتاب واحد. وأما الفلك الذي يتلو ذلك صعودا، فهو الذي لا تجيء معه الأعمال الأدبية المفردة إلا أمثلة يوضح بها فكرة يعرضها، وها هنا يكون محور البحث عند الناقد نوعا أدبيا في جملته: أدب الرواية، أو الشعر، أو المسرح أو غير ذلك؛ لأن لكل مرحلة زمنية ظروفها التي كثيرا ما تنعكس على كل فرع من تلك الفروع، فتوجهها في طريق مختلف عما كانت تسير فيه خلال مرحلة زمنية سابقة، فقد يجعل الناقد حديثه عن «الشعر» المعاصر أو «الرواية خلال السبعينيات» أو ما هو شبيه بذلك، والأغلب في هذه الحالة أن يحتاج الأمر إلى دراسة قد تبلغ أن تكون أكاديمية المستوى، وأن يضطلع بها أساتذة الأدب في الجامعات، أو طلاب الدراسات العليا فيها.
ويبقى الفلك الثالث الذي هو أعلاها، وهنا لا العمل الأدبي الواحد هو مدار الحديث، ولا النوع بأسره من أنواع الأدب، بل يكون المدار هو البحث عن «مبدأ» واحد، تنبثق منه شتى القواعد في مختلف وسائل الإبداع؛ إذ هو مبدأ يراد به أن يبرز الجوهر الذي به يكون الإبداع إبداعا، كائنا ما كان الميدان الذي تحقق فيه هذا الإبداع، وعند هذه المرحلة نكون قد دخلنا فلسفة النقد، أو فلسفة الجمال الفني، وهو فرع من فروع الدراسة الفلسفية.
ذلك كله عن ناقد الأدب، مما قد يعرف القراء المهتمون بالأدب ونقده كثيرا منه؛ لأنه قد صادف أقلاما كثيرة عنيت بعرضه، حتى في الصفحات الأدبية من الصحف اليومية، فماذا عن نقد الفكر؟
أول ما نذكره عن ناقد الفكر، ما يميزه من ناقد الأدب أن هذا الثاني مقيد بميدانه، وميدانه هو «الأدب» وأما الأول فيحمل في يده عدته النقدية ليعملها في أي فكرة يريد نقدها، كائنا ما كان الميدان الذي تنتمي إليه، فقد يقرأ لناقد أدبي كلاما عن «التجديد» في الشعر، فيقف هنا متسائلا: ماذا يراد بكلمة «التجديد»؟ أو قد يقرأ لكاتب سياسي كلاما عن «العدالة الاجتماعية» فيقف متسائلا: ماذا تعني «بالعدالة» أولا؟ ثم ماذا تعني تلك العدالة وهي موصوفة بصفة تقيد مجالها؟! وأعني صفة كونها «اجتماعية»، وهكذا يتخطى ناقد الفكر حدود التقسيم الموضوعي، الذي يجعل لكل موضوع واحد مجالا واحدا. ويقيم على ذلك الميدان علماء متخصصون في موضوعه، إلا أن الباحث المتخصص في موضوع معين لا مفر له من أن يقبل طائفة من المعاني قبول التسليم؛ لكي يجعل من تلك «المسلمات» سقالات يعتمد عليها في إقامة بنائه. والغرض في تلك الأفكار أو المعاني، المقبولة من الباحث قبول التسليم؛ ألا تكون مؤدية به إلى تناقض في آخر المطاف فينهار بناؤه من أساسه. وهنا تجيء الحاسة اللاقطة عند ناقد الفكر، فيتناول ما يتناوله بالتشريح، لعله يلقي الضوء على مكونات فكرة معينة، حتى إذا ما وجدت متسقا بعضها مع بعض قبلت، أو وجدت حاملة في جوفها لعناصر ينقض بعضها بعضا فترفض، وعندئذ يجب أن يعاد التفكير في البناء الذي كان مقاما على أساسها.
ومن أهم الأدوات التحليلية التي يستخدمها ناقد الفكر أداة يبحث بها عما إذا كانت الفكرة المعينة تحمل في جوفها ما يشير إلى «معنى» أو لا تحمل، وإذا كان لها معنى فما هو؟ وذلك لأن هنالك في اللغة التي هي في حقيقة أمرها «فكر» صاحبها متكلما أو كاتبا، أقول إن هناك في اللغة كلمات بغير معنى بعضها يبلغ من الخطورة أن يعيش الناس في عالم من الوهم، ينسجونه بأنفسهم ليصبحوا هم أول ضحاياه، فمن عاش في الوهم عن غير وعي منه بأن ثمة فجوة بين ظنونه من جهة، وبين حقائق الواقع من جهة أخرى، كان فريسة هينة لمن شاء أن يأكل، وأنت إذا بحثت لفكرة معينة عن «معناها» فلا بد أن تتجه ببحثك هذا نحو شيء خارج تلك الفكرة ذاتها؛ لأن معناها هو ذلك الشيء الذي تشير إليه.
ومثل ذلك البحث هو من أهم ما يفعله ناقد الفكرة، إنه يسأل نفسه: ماذا تعني؟ أي إلى أي شيء تشير؟ لكنه قبل أن يهم بالبحث عن ذلك الشيء المشار إليه خارج الفكرة يجب عليه أولا أن يحللها إلى عناصرها، كما يحلل الكيماوي مادة ليرى من أي العناصر تكون، والأرجح جدا أن تكون الفكرة المعروضة للبحث مركبة من عدة عناصر ونحن لا ندري، ونستخدمها في أحاديثنا وكأننا نتحدث عن كائن محدد معلوم، حتى إذا ما اطمأن ناقد الفكرة إلى مكوناتها، بدأ توجيه بصره نحو ما «تعنيه» تلك العناصر، أي نحو ما تشير إليه، وهنا قد ينتهي به الأمر إلى واحدة من حالات أربع: الأولى أن يجد ما يشار إليه بالفكرة: شيئا، أو صورة من صور السلوك، أو أي مشار إليه من أي نوع آخر، وعندئذ تكون الفكرة ذات معنى وأنها فكرة صحيحة بوجود معناها ذاك في دنيا الحقائق، والحالة الثانية، هي أن يتأكد ناقد الفكرة من طبيعة ما تشير إليه، لكنه ينظر إلى ما هو واقع بالفعل فيجده على غير تلك الصورة، وعندئذ تكون الفكرة ذات معنى، إلا أنها خاطئة في تصويرها للواقع : كأن تقول - مثلا - إن عدد الجامعات المصرية أربعون جامعة؛ فهذه فكرة لها معنى، ولكنه يخطئ بالنسبة إلى حقيقة الواقع، وكلتا هاتين الحالتين نراهما في حياة الناس الفكرية حتى وهي حياة سوية؛ لأن الأولى منهما مقبولة منطقا وواقعا معا، والثانية منهما مقبولة منطقا ومرفوضة واقعا، وعندئذ يسهل تصحيح الخطأ بمراجعة ما هو واقع.
أما الحالة الثالثة من تلك الحالات الأربع؛ فهي أن يجد ناقد الفكرة أنها تنطوي على تناقض، لأن العناصر الكامنة فيها يعارض بعضها بعضا، وعندئذ لا ندري أي عنصر من تلك العناصر نريد. مثال ذلك حين قلنا إن رئيس الجمهورية هو في الوقت نفسه في موقع الوالد من الأسرة المصرية، فهذه الصورة تحمل عنصرين متناقضين: أن يكون الرئيس قابلا للعزل ممن انتخبوه إذا هو لم يحقق لهم ما انتخب من أجله، أو أنه غير قابل للعزل شأنه شأن أي والد من أسرته، أو حين قلنا إن الصحافة سلطة رابعة؛ لأنها إذا كانت رابعة كانت الإشارة إلى السلطات الثلاث المعروفة وهي التشريعية والقضائية والتنفيذية، لكن هذه الثلاث تشترك كلها في أن لها سلطة؛ أي قوة تطبق بها ما تريد تطبيقه؛ فواحدة تشرع، وثانية تقضي بناء على تشريعها، وثالثها تنفذ ما قضى به القضاء، فأين تقع الصحافة في هذا المسلسل؟ هنا يقال إن المسلسل الذي تقع فيه هو عناصر الهيئة التشريعية، لكن تلك العناصر بوصفها ناقدة حددناها بخمسة، وإذن تكون الصحافة سلطة سادسة وليست رابعة. ومصدر الخطأ كله هو الجملة الشهيرة التي قالها كارلايل في منتصف القرن الماضي عن الصحافة الإنجليزية بأنها هيئة رابعة (ترجمت الكلمة التي استخدمها في هذا السياق خطا حين ترجمت بكلمة سلطة) وكانت صفة كونها «رابعة» منسوبة إلى العناصر الثلاثة المكونة للبرلمان الإنجليزي: اللوردات، ورجال الكنيسة، وعامة الشعب. وهكذا استخدامنا فكرة فيها لبس لا يمكننا من معرفة الشيء الذي نعنيه. وأما الحالة الرابعة والأخيرة؛ فهي أن يحلل الناقد فكرة، فيجدها بحكم تكوينها اللفظي نفسه لا تحمل معنى على الإطلاق؛ أي أنه يجد استحالة منطقية في أن تشير إلى أي موجود بين الموجودات العقلية، أو بين الموجودات التي يمكن أن يتحقق لها وجود، كأن نقول مثلا إنك وجدت دائرة مربعة، وربما اعترضت على هذا المثل قائلا: وهل يعقل أن يقول قائل قولا كهذا؟ فأجيبك بأن أولئك الذين يتحدثون عن تحضير الأرواح وعن الأشباح يرونها بين القبور أو حيثما يرونها، أو ما يشبه ذلك من ضروب الكلام. إذا أنت حللت ما يقولونه؛ وجدته يضع أضدادا محال عليها أن تتلاقى بحكم تعريفها ذاته، وظني هو أن في حياتنا أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فهذا الصنف من المركبات اللفظية التي تتنافر أجزاؤها، يمكن إدراجه فرعا من فروع الحالة الثالثة التي أسلفناها.
ناقد الأدب يبث في نقده تقويمه الخاص للأثر الأدبي المنقود، وأما ناقد الفكر فلا يزيد عمله النقدي على أن يكون عدسة مكبرة، تكشف دخائل الفكرة وعناصرها، على نحو ما ينظر العالم بمجهره إلى ماء يظن فيه النقاء، وإذا هو يكشف عن حشد من الجراثيم لا ينكشف للعين المجردة، فإذا ما تبينت عناصر «الفكرة» الموضوعة تحت الفحص لناقد الفكر؛ عرف من أي نوع من الأنواع الأربعة هي، أهي من حوامل المعنى وصادقة على عالم الواقع أم هي من حوامل المعنى لكنه مخطئ بالنسبة إلى عالم الواقع أم هي تحمل في جوفها عناصر متناقضة فلا ندري كيف السبيل إلى فهمها حتى تكون ذات نفع لنا؟ أم هي من ذلك الصنف السرطاني الخبيث الذي تساق فيه تركيبات لفظية تشبه حوامل الأفكار ولكنها في حقيقتها خلو من أي معنى فتحدث في الناس أوهاما بأنهم «يعرفون» وهم لم يعرفوا شيئا؟
وناقد الأدب وناقد الفكر كلاهما من أقوى عوامل التحديث في ثقافتنا العربية إذا هما تعقبا نواتج الأدب والفكر بالنقد الموضوعي النزيه والمهتدي بعلم صحيح، ولقد شاء لنا الله أن يكون بيننا نقاد للأدب، مهما يكن بهم من قصور؛ فمنهم جاء بعض الضوء، فاستنارت الحركة الأدبية ولو إلى حد محدود، ولكنه لم يشأ أن يظهر فينا حدا أدنى من نقاد الفكر، فغرقنا في ضباب الغموض يحيط بنا من كل جانب فتدور على ألسنتنا وأقلامنا أسماء التيارات والمذاهب والمعاني، لكننا قلما نعرف لاسم من تلك الأسماء الضخمة حدوده وقيوده وأعماقه ومراميه.
لك الله يا علوم الإنسان!
Bilinmeyen sayfa