تفضل غير واحد من رجال الحكم في مكة فدعانا إلى تناول الطعام عنده، وأفضل الطعام عند أهل مكة اللحم والثريد، وهم يتناولونه عادة كما كان يتناوله أجدادنا، يسلق الضأن أو يشوى ويثرد الثريد ويوضع في قصعة على خوان من تحته السماط، ثم يتناول كل من الثريد واللحم بيده إلى شبعه، ولقد تناولت الطعام وإياهم على هذا النحو بعرفات ومكة وحيثما ذهبت من بلاد العرب، وكنت أجد في ذلك من ذكر أيام الصبا الأول ما أسعد به، لكن أولئك الذين تفضلوا بدعوتي مع من جاءوا مكة من المسلمين أولي المكانة لم يروا أن نأكل وإياهم على طريقتهم، بل آثروا الطريقة الحديثة، طريقة الغرب، وما ألفه من ألوان الطعام العديدة والصحاف التي يدور بها الخدم لينال كل منها لنفسه في صحنه، وليأكل بالشوكة والسكين بدل أن يأكل بيده، وإنهم ليؤثرون اليوم أن يجلسوا على الكراسي بدل الجلوس على المصاطب أو على السجادة فوق الأرض، وهم يرون في هذا من محاكاة المدنية ما يسر ضيوفهم من ناحية، وما يقربهم من الحضارة الحديثة من ناحية أخرى.
كان ذلك شأننا حين تناولنا طعام العشاء عند الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية، وعند السيد محمد سرور الصبان وكيل المواصلات والمشرف على حركة النقل بالسيارات، على أنا كنا نعود بعد تناول الطعام إلى غرف الاستقبال الوثيرة وكلنا مرتدون الملابس العربية، فننتقل بذلك من جو لا تتلاءم فيه هذه الملابس مع أدوات الطعام إلى جو آخر أكثر انسجاما مع حياة العروبة، فغرف الاستقبال على ما بها من مقاعد وثيرة تحتفظ بالطابع الشرقي القديم، ما خلا إضاءتها بالكهرباء المجلوبة إلى هذه المنازل دون سواها من منازل مكة، ثم إنهم ليحرصون على عادة انتقلت إليهم مع النجديين هي التبخر والاجتمار بالعود، فما تكاد غرفة الاستقبال تحتوي الناس حتى يدور عليهم الخدم بالشاي وبالقهوة وبمجامر يحرق فيها عود ذكي الرائحة يستنشق كل عبقه ويحتبسه في أردانه تحت المشلح وبينه وبين الصمادة، وأدوار القهوة والشاي والعود لا تكاد تنقطع ما بقي الناس في سمرهم.
وقد دعينا إلى عشاء من هذا النوع بدار مضيفي أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، وعلى أنه كان عشاء على الطريقة الغربية في تقديم الألوان في الصحون، لقد رأينا يومئذ ما أعاد إلى الذاكرة صورة ليلة من ليالي كتاب ألف ليلة وليلة، كمل عقد اجتماعنا قبل تناول الطعام في بهو فسيح بالطابق الأعلى فوق البهو المجاور لغرفة نومي، والذي كنت أقضي به الكثير من وقتي، وكان البهو مفروشا كله بالسجاد العجمي، وثير المقاعد، تضيئه ثريات من الكهرباء ساطعة النور، فلما آن لنا أن ننتقل إلى الموائد ألفيناها مدت في هواء الأسطح الطلق وقد أنارتها ثريات الكهرباء القائمة بين الفاكهة وصحاف الحلوى، ولما طعمنا هبطنا إلى الإيوان الذي أويت إليه أتقي المطر يوم أزمعت الصعود إلى عرفات، لكنه أضيء ليلة هذا العشاء على طريقة جعلته جديرا ببعض ليالي هارون الرشيد، لولا أننا لم تغننا القيان، ولم يدر علينا فيه غير الشاي والقهوة ومباخر العود، ولقد قرأ القرآن حجازي بإيقاع غير مألوف في مصر، غير أن الإيقاع المصري في القراءة قد طغى حتى على أهل الحجاز ، فصار قارئوهم يتأثرونه وينحون نحوه.
هذا الجمع بين طريقة الطعام في الغرب وبين الحياة الشرقية الأصيلة هي صورة هذه الصبوة في نفس الشباب المكي إلى الحياة الحديثة، فهم يرغبون في اجتناء ثمراتها، لكنهم يرغبون في ذلك على استحياء، ومع الحرص أشد الحرص على طابع البلد الأمين وتقاليده، وهم يعجبون بالأدب الحديث ويأخذون بحظ منه في صحافتهم، لكنهم يقفون منه عند بعض الصور، فأما الروح في أعماقها فعربية أدنى إلى البداوة المحيطة بهم؛ ولذلك تذر أعمق الأثر حتى في نفوس من نزحوا إلى مكة من غير العرب الذين أقاموا بها وأصبحوا فيها بعيدين كل البعد عن موطنهم الأصلي، وهم يفكرون في نظام سياسي كهذه النظم الديمقراطية التي نقلها الشرق عن الغرب ولما «تتأقلم» فيه، لكن تفكيرهم لا يخرج بهم عن حدود أهل الرأي ومن تكون منهم الشورى - كما كانت في العهد الأول للمسلمين - وهم يودون لو تكون لهم حياة اقتصادية كحياة غيرهم من الأمم، لكنهم لا يتصورون هذه المذاهب الاقتصادية السائدة في الغرب، التي تتنافى في جوهرها مع الفكرة الإسلامية الاقتصادية؛ وهم لذلك ما يزالون يقفون من تعلقهم بالحياة الحديثة عند نقد ما هم عليه في بلادهم، دون أن يتصوروا اللون الجديد للحياة التي توائم مزاجهم والتي لا ينكرها تفكيرهم.
ذلك ما بدا لي واضحا أثناء الأحاديث الكثيرة التي دارت بيني وبين شبان مكة الذين شرفوني بزيارتهم منذ اليوم الأول لنزولي بينهم، والذين ما فتئوا يزورونني طول إقامتي ببلدهم، إنهم جميعا يشعرون بحاجة بلادهم إلى التعليم، وهم يتحدثون في ذلك بلهجة صادقة، ويصلون منه في بعض الأحايين إلى عيب الحكومة بأنها تنفق الطائل من الأموال على السيارات واقتنائها وإصلاحها في حين تضن بالتعليم وما يجب أن ينفق عليه، لكنك إذ تسألهم عن نوع التعليم الذي يرونه صالحا لذويهم وأبنائهم وعن الفكرة التي يجب أن يقوم هذا التعليم على أساسها، تراهم يضطربون ولا يكادون يحيرون جوابا، قد يكون ذلك راجعا إلى تأخر العلم عندهم، وإلى أن الحظ الذي نالوه منه لا يكفي لإبداء الرأي في مثل هذه المسألة العويصة، لكن ثمة أمرا آخر يزيد في حيرتهم، ذلك تعلقهم بمكانة مكة المقدسة وحرصهم عليها، فكل علم يزيد هذه المكانة سموا محبب إليهم، وكل علم لا يجعل منها موضع عنايته كلها، أو لا يضعها في المكان السامي، أو يراها أمرا لا يدخل في نطاق العلم، مزهود فيه مرغوب عنه، فإذا حدثتهم في حرية العلم وفي حرية الأدب رأوا ذلك أدخل في باب الجدل النظري ورأوه لذلك لا غناء فيه.
قد يكون غلوا مطالبة شباب مكة بتصوير الحياة الجديدة التي يصبون إليها صورة واضحة الحدود، وحظ بلادهم من العلم ما رأيت، بل إننا في مصر وفي بلاد الشرق العربي المختلفة ما نزال في دور النقد لم نتعده إلى دور التصوير والتصميم، على ما اتصلنا بالغرب وما وقفنا على علمه وأدبه، لكننا خطونا بحكم الحوادث خطوات إيجابية لا تعاون أحوال مكة، ولا أحوال الحجاز على مثلها، ومما دفعنا إلى هذه الخطوات وجود الأجانب بيننا وتمتعهم مدى أزمان طويلة بامتيازات طوعت لهم أن يعيشوا كما يعيشون في بلادهم، لا يغير أحدهم زيه ولا طريقة طعامه أو حياته في شيء، كما طوعت لهم إنشاء مدارس تنشر بيننا ثقافتهم وتعليمهم، ومن ذلك نفوذ الدول الأجنبية الذي تغلغل في الولايات العثمانية المختلفة - خلا البلاد المقدسة - منذ زمان بعيد، فقد ظلت مكة وداخلية بلاد العرب - وما تزال - حراما على غير المسلمين، والأجانب الذين يريدون دخولها يضطرون قبل حضورهم إلى معقل الإسلام أن يظهروا إسلامهم وأن يدرسوا العربية، وأن يتقنوا التزيي بلباس العرب والعيش على مثالهم، فإن لم يفعلوا لم يكن اجتيازهم الساحل إلى داخل البلاد ميسورا، وإن فعلوا حرصوا على إخفاء طواياهم ومظاهرهم ما استطاعوا؛ ومن ثم لم يكن لوجودهم بين العرب أثر المثل الذي يحتذى، فيحدث احتذاؤه النتائج الإيجابية التي حدثت في مصر والشرق.
وقد صدت هذه الأسباب عن هجرة الأجانب إلى شبه الجزيرة، كما صد عنها قلة الأمل في الربح المادي بسبب شدة الأحوال الاقتصادية بمكة والحجاز كله، والذين غامروا في اجتياز هذه البلاد من أبناء الغرب قليل عددهم حتى ليحصون فردا فردا، وينظر إليهم نظرة إعجاب لمغامرتهم، ولقد رأيت بضعة رجال منهم أثناء مقامي بمكة.
وأكثر هؤلاء ذيوع صوت بين الناس الحاج عبد الله «فلبي» كما يعرفه المسلمون، أو «سنت جون فلبي» كما يعرفه الإنكليز، وقد سعيت إلى معرفته ولقيته غير مرة، لقيته مرتين أو ثلاثا في التكية المصرية، وزرته مرة في بيته، وهناك أهدى إلي خرائط من صنعه عن الطريق من مكة إلى الطائف وإلى المدينة.
وهو رجل عجيب على ما يصفه أبناء وطنه، فهو يعيش عيش البدو من النجديين ويحتمل احتمالهم، طعامه كطعامهم، وسكنه كسكنهم، وهو موضع الثقة عند الملك ابن السعود، كما أنه شديد الملازمة لمجلسه، ولقد جاس خلال شبه الجزيرة من كل أطرافها ونواحيها، ووضع لها الخرائط ووصفها أدق الوصف، وكتابه «الربع الخالي» يصف شيئا من مجهوده الشاق في ارتياد الصحاري، ومن عمله الدقيق في وضع الخرائط المفصلة التي تطبعها له وزارة الحربية البريطانية، لكن حياته العلمية حياة عزلة تامة، فالبدو الذين يصحبونه في رحلاته لا يفهمون من أعماله شيئا، وهو لا يطالعهم بشيء من هذه الأعمال التي لا يفهمونها وإن اهتدى بهم في كل ما يحققه منها؛ لهذا، ولأنه يعيش عيش البدو، لا يوحي وجوده في بلاد العرب إلى أهلها جديدا في تصورهم للحياة الجديدة التي يصبون إليها، ذلك شأنه وشأن غيره من الأجانب الذين تثير بلاد البداوة خيالهم وتدعوهم للإقامة بها ما أطاقوا هذه الأقامة.
هذه كانت حالة الرحالين الغربيين في بلاد العرب منذ قرون مضت، وإن بعضهم ليظن أنها وشيكة أن تتغير فيما سوى المدينتين المقدستين مكة والمدينة، بعد أن أعطت الحكومة العربية السعودية امتياز استخراج الذهب إلى شركة «توتشل» الإنكليزية الأمريكية، وامتياز استخراج البترول من الأحساء إلى شركة أجنبية أخرى، فإذا تغيرت أسرعت الحياة الغربية إلى البلاد العربية، ويذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن غزو الحضارة الأوروبية الشرق إنما تم عن طريق الصناعة والتجارة، وعن طريق التدخل السلمي أكثر مما تم عن طريق الفتح الحربي والغزو بقوة السلاح، والهند التي تحرص بريطانيا اليوم أشد الحرص عليها باعتبارها أكبر مستعمرة للتاج البريطاني، إنما بدأ غزو بريطانيا إياها من هذا الطريق حين تألفت بها شركة الهند الشرقية، وقد اهتدت شركة «توتشل» إلى مهد الذهب في بلاد العرب على ثماني ساعات من المدينة المنورة، وهي تمهد الآن طرق تصديره إلى الخارج.
Bilinmeyen sayfa