والطرق كلها غير مرصوفة؛ ولذلك يشتد أذى الرمل والتراب صيفا، كما يشتد أذى الوحل في الفصل المطير؛ إذ يتعذر المرور بها بعد نزول المطر، ويبقى ذلك شأنها حتى يجف الماء منها، وربما عزي إقفار مكة من المباني القديمة إلى انهمار السيول المخربة؛ فهي تنهمر بقوة وغزارة، وإن كانت أقصر أمدا من مثلها في البلاد الحارة الأخرى، وقد أصاب المسجد نفسه من هذه الأمطار ما قضى بإصلاحه غير مرة على عهود سلاطين مختلفين، حتى ليسمى لذلك بناء حديثا، أما المنازل فلا أحسب أقدمها ترجع عمارته إلى أكثر من أربعة قرون، من ثم لن تكن مكة موضع بحث السائح عن ألوان العمارة القديمة التي تسترعي النظر، أو عن بقايا المباني العربية الجميلة مما يثير الإعجاب في سوريا ومصر وبلاد المغرب وأسبانيا، وإن أصغر مدن سوريا ومصر لتستبق في هذا المضمار مكة القديمة الذائعة الصيت.
ومكة متأخرة من حيث نظام الشرطة المعروف في مدن الشرق: طرقها حالكة الظلام في الليل لا يضاء بها مصباح، وأحياؤها لا أبواب لها، فهي بذلك تختلف عن أكثر بلاد الشرق؛ إذ يقفل كل حي فيها بعناية تامة كل ليلة عقب الصلاة الأخيرة، وتلقى بقايا منازلها في الطرقات لتصير ترابا أو وحلا يختلط بما فيها على اختلاف فصول السنة.
والماء - وهو أهم ما يطلب الآسيويون وموضع سؤالهم الأول - ليس خيرا في مكة منه في جدة، فالصهاريج التي تجمع مياه المطر قليلة جدا، ومياه الآبار غير صالحة للشرب - وإن شربتها في موسم الحج طبقات الحجاج الدنيا - وبئر زمزم المشهور بالمسجد الحرام تكفي بالفعل حاجات البلد، لكن مياهها عسيرة الهضم غير مقبولة الطعم على قداستها، مع ذلك تمنع الطبقات الفقيرة من أن تنال منها بغيتها، وخير ماء بمكة هو المجلوب من عرفات على ست ساعات أو سبع من البلد الحرام، وهو مجلوب في مجار مبنية بالحجر لا تنظف، ولقد سمعت أن لها اليوم خمسين سنة لم تمسها يد التطهير؛ وهذا ماء عين زبيدة.
هذا الوصف يرسم أمام الذهن صورة بلد شرقي في أوائل هذا القرن، ويدل بذلك على أن مكة كانت دائمة التطور في حياتها إلى ما تتطور إليه المدن الإسلامية الأخرى، وما يذكره الشيخ حافظ وهبة من تفشي الجهل بها، وما يصوره «بورخارت» منها منذ قرن وربع قرن ، لا يردها عن مصاف البلاد الشرقية المتقدمة، على أن طابعها الخاص يجعل تطورها غير متأثر بعقلية أهلها أو خاضع لتفكير ذاتي نستطيع أن نسميه التفكير العربي أو التفكير المكي.
فمكة اليوم ليست بلدا عربيا، ولم تكن بلدا عربيا منذ زمان طويل مضى، إنما هي كعبة المسلمين، فهي بلد الإسلام على اختلاف أجناس أهله ولغاتهم، وأنت تراها كذلك اليوم، وكذلك رآها «البتانوني» ورآها «بورخارت» قبله، كما رآها كذلك كل الذين زاروها في حقب الزمن المختلفة، وأنت إذا ذكرت أن الملك لم يبق عربيا صرفا بعد الأمويين، بل دخلت العجمة بطانته منذ العباسيين، وتقلبت عليه من هذه العجمة الأشكال والألوان، أدركت السر في أن يستدرج بلد المسلمين جميعا هذه الأشكال والألوان إليه، فإذا علمت أن أغنياء المسلمين من مختلف الأصقاع يجرون الصدقات والأعطيات على كثيرين ممن يقيمون بمكة، وأن منهم من يجريها على قوم بالذات من المغرب أو من الجاوة أو من الهند أو الأتراك أو الأفغان أو التكارنة، لم يبق لديك موضع لعجب أن تجمع مكة شتيتا من هؤلاء جميعا، ترفع الأقدار بعضهم إلى مكان الرياسة، وتمسك آخرين عن مجرى الأرزاق ليعيشوا من حسنات المسلمين.
خرج الملك من مكة منذ فتحها النبي العربي، ولم يعد بعد ذلك إليها، وإن بقيت عاصمة الحجاز من عهد الأمويين، فقد استأثرت المدينة بالسلطان من يوم فتح الرسول مكة إلى أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انتقل الملك من بعد ذلك إلى دمشق وإلى بغداد وإلى القاهرة وإلى الآستانة، واتصلت الخلافة بالملك في هذه البلاد جميعا، أما البلد الأمين فقد انحلت عنه السلطة الزمنية، وإن بقي له بالبيت الحرام كل الجلال الروحي، ولما قام الحسين بن علي الهاشمي فأعلن الثورة على الأتراك وانضم إلى الحلفاء في سنة 1915، حاول أن يجعل من مكة عاصمة العرب لا عاصمة الحجاز وحده، فكان هذا بدء الخلاف بينه وبين ابن السعود في نجد، وكان المقدمة التي انتهت إلى جلاء الحسين وأبنائه عن الحجاز، واستئثار آل سعود بأمره، وكذلك عادت مكة عاصمة الحجاز وحده كما كانت منذ زمن الأمويين.
وكانت مكة على حقب العصور ميدان صدام بين المذاهب الإسلامية التي تنازعت الملك، وهي اليوم ميدان صدام بين المذهب الوهابي وسائر السنيين من المسلمين، فالنجديون الحاكمون يتبعون مذهب ابن عبد الوهاب، وهو مذهب أحمد بن حنبل؛ وهم يتبعونه في شدة وغلو كانا أوضح أثرا أول تسلطهم على الحجاز في سنة 1926، ويقر كثيرون بأن الوهابية طهرت البلد الحرام من مفاسد كثيرة كانت تجري فيه.
يذكر «بورخارت» أنه رأى حوانيت قائمة بالمسعى بين الصفا والمروة تبيع الخمر، وإن كانت لا تعرضها للبيع إلا ليلا، وكانت زمر المسلمين من أخلاط الأمم ترخي لشهواتها أعنتها، فتشهد مكة من مختلف ألوانها ما لا يجتمع في بلد واحد، أما اليوم فلا شيء من ذلك فيها، وإذا بلي أحدهم بشيء منه استتر، وإنما يشكو الناس من الإغراق في المنع، وإن كانوا يعترفون بأنه خف اليوم، فلم يعد شيئا إلى جانب ما كان منذ سنوات، إذ كانت جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النجديين تطوف بأنحاء مكة فتردع وتزجر وتوقع العقاب بالناس لما تراه هي منكرا، وإن لم يكن منكرا في رأي أكثر المسلمين، كان الرجل الذي لا يرخي لحيته عرضة للأذى، وكان من يدخن معرضا من صرامة هذه الجماعات لما لا يحب ولا يرضى، أما اليوم فقد بطل عمل هذه الجماعات وإن بقي أثره، وإن بقي من هذا الأثر أن صار الناس يرون الكبيرة كبيرة حقا، تستحق الازدراء والتعزير لا التسامح والإغضاء.
على أية صورة تكون صبوة شباب مكة إلى الحياة الحديثة في هذه البيئة المحيطة بهم؟ وما هي هذه الحياة الحديثة في نظرهم؟ أهي حياة الفكر الحر كما يصور الغرب الفكر الحر؟ أهي حياة العلم والبحث العلمي كما نراها نحن في مصر أو كما يراها أهل أوروبا؟ أهي حياة الصناعة وتسلطها على قوى الطبيعة وإخضاعها إياها لإرادة الإنسان؟ أم أنها ليست هذا كله؛ لأن هذا كله لا يتفق وحياة مكة وتفكير أهلها وقدسية ما فيها، وإنما هي نوع آخر أدنى إلى ما يسمونه أدب القوة وأكثر إيمانا بأن الأمم الأخلاق؟ الحقيقة أنك لا تستطيع أن تعرف، وشباب مكة أنفسهم لا يعرفون أية ناحية من هذه الحياة الحديثة يأخذون؟ وأية ناحية منها يدعون؟
هم يرون بلادهم ضعيفة، ويرون لغيرهم السلطان عليها، ويرون من آثار مصر وما تنقله من ثمرات الغرب الأدبية والعلمية ما يعجبهم؛ فهم يريدون أن تكون لهم مثل هذه الآثار؛ ليكون لهم من الحياة حظ كهذا الحظ الذي يتصورونه منها لأهل مصر ولأهل الغرب، دون أن يكون لذلك أثر لا تحمد مغبته في حياة مدينتهم، ومنهم من يتصور في محاكاة حياة الغرب الوسيلة لذلك، ومنهم من يرى العلم وحده الوسيلة إليه، وهم بين هذا وذاك يعملون تاركين للزمن أن ينضج من ثمرات عملهم ما يرجون أن تطمئن به نفوسهم، وأن يصل بهم إلى هذه الحياة الحديثة التي يصبون إليها بوجدانهم.
Bilinmeyen sayfa