السببية والغائية في الفلسفة
هل من فارق حقيقي بين السببية والغائية؟ وهل الغائية قانون عقلي لا غير، أم أنها سنة من سنن الطبيعة؟
قال أحد الفلاسفة المحدثين: «إن كل ما يحدث في هذا الوجود لا بد من أن يكون له مصدر يصدر عنه ومرمى يذهب إليه.» على أن هذه النظرية لا يمكن أن تحيطها ريبة أو شك، ما دامت بعيدة عن الاحتكاك بفكرة الغائية، فإذا احتكت بفكرة القصد والغاية في الطبيعة، أحاطتها الشكوك وتغلغلت فيها الريب الممضة، فإننا نقطع مثلا بأن كل حركة يجب أن تتجه في اتجاه ما، ولكن هل المرمى الذي ترمي إليه هذه الحركة هو بذاته نتيجة لا غير، أم أنه غرض وغاية؟! هذا هو السؤال. هل الأجسام في حركتها مقصورة على الحركة بفعل غائي، أم أنها مجذوبة بغيرها اعتباطا؟ وإذا سلمنا بأنها مقصورة، فهل ذلك يكون بفعل جسم آخر، أم بحكم إرادة ترمي إلى قصد وغاية؟
وقال آخر: «نرى أنه من الضروري أن الفعل الموجد يتضمن مع فكرة السبب الدافع على الابتداء في الحركة، فكرة الغاية التي تتجه نحوها.» وهذه أيضا نظرية لا يمكن نقضها، ولكن مع هذا يمكن أن ينظر فيها من عدة نواح مختلفة. فقد نتساءل: هل تحديد الاتجاه الذي تتجه فيه الحركة أمر يشمله السبب كنتيجة أو كفرض؟ وهل هو تطبيق منطقي أم إنه نتيجة إرادة حددت من قبل كل شيء؟ وكما تستطيع أن تقول بأن الاتجاه ينزع دائما نحو غرض ما، كذلك تستطيع أن تسأل كيف يكون هذا؟
لدينا ثلاثة أقوال، يقول أرسطوطاليس: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» ويقول جوفروي: «لكل موجود غاية.» ويقول دافيسون: «كل حركة تذهب في متجه ما.» غير أن هذه الأقوال ليست بأكثر من حقائق استقرائية، وإن شئت فقل بأنها تعميمات تؤيدها التجربة، ويصدق عليها الاختبار، على أننا إذا بحثنا بعض نواحي الطبيعة ورأينا مشاهدات تدلنا على وجود علاقات وأواصر متينة، تربط بين الوسائط والغايات، أو خيل إلينا على الأقل أن الواقع يلائم هذا الظاهر، فإننا نمضي نطبق هذه القاعدة من طريق التوسع على حقائق أقل التئاما، ومن ثم نطبقها على كل ما في الطبيعة من حقائق، خصوصا لما في منازعنا من حب التعميم.
وعلى هذا وضع أرسطوطاليس قاعدته: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» والسبب في هذا أن أرسطوطاليس قد أكب على درس التاريخ الطبيعي، فوقع من طريق درسه، على حقائق عديدة كان للطبيعة في كل منها قصد وغاية، فأخذ يطبق هذه الحالة على كل ما في الطبيعة، ووضع قاعدته التعميمية اعتمادا على براهين استمدها من ناحية واحدة من نواحي الطبيعة.
لهذا نستطيع أن نقول بأن الغائية ليست في اعتبارنا مبدأ أوليا، بل إنها قانون طبيعي، يثبت وجوده الاختبار والاستقراء. نقول بهذا مجاراة للعلماء؛ إذ يسلمون بوجود نواميس عامة، وهي لدى الحقيقة ليست إلا مجرد ميول لأنها كثيرا ما تتخللها الشواذ والمستثنيات، مثل: قانون الاقتصاد الطبيعي، وقانون اقتسام العمل، وقانون الاتصال، وقانون التبادل النسبي في النماء العضوي. بهذا يتضح أن هنالك قانونا غائيا يلوح كأنه يتضمن كل ما يسبقه من القوانين، أو بالأحرى ميل إلى الغائية، وهو ميل يظهر جليا في تراكيب العضويات، ونواحي تكوينها، وقد نقول بأن هذا القانون يمكن أن يستدل على وجوده في عالم الحياة، إذا قسنا بين ما فيها من نظام وحكمة وبين غيرها مما يعتوره النقص والانشعاب في ناحية أخرى من نواحي الطبيعة.
غير أن العلماء كثيرا ما أظهروا نفرتهم من القول أو التسليم بالأسباب الغائية، فما هو السبب في هذا؟ السبب في هذا أن فكرة السبب الغائي قد اتخذت طوال أزمان مديدة على أنها مبدأ ضروري مسلم به تسليما إيمانيا، وبذلك شعر العلماء بثقل وطأته على العلم، حيث كان لها من التأثير فيه بمثل ما كان للسببية العلمية الصرفة، فكان إذا نظر العالم في حقيقة أي شيء، شعر بأنه مقصور على أن يعرف سبب ذلك الشيء، كما يعرف الغرض منه والغاية التي يرمي إليها، وما دام أنه ملزم بأن يعرف الغايات كان لزاما عليه أن يطرح، ولو إلى حين، البحث وراء الأسباب، وهذا ضرب من الاستبداد الفكري، لا يخضع له رجل العلم لأنه لدى الواقع يفقده حرية البحث. ولكن إذا أخذنا الغائية، لا على أنها قانون أولي من قوانين العقل، بل على أنها مجرد نزعة من منازع الطبيعة، فلست أجد مانعا يحول بين رجال العلم وبين النظر في حقيقة هذه النزعة، ما داموا يسلمون بأن في منازع الطبيعة التي يعكفون على درسها ما هو أعضل منها وأبعد عن متناول الفهم.
العلم والسياسة
كانت سياسة الأمم في الأعصر القديمة من الهنات التي لا تتطلب من الصفات أكثر من عبوسة في الوجه، وصلابة في الإرادة، وقسوة في القلب، أما اليوم فقد انقلبت الآية.
Bilinmeyen sayfa