في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
تأليف
إسماعيل مظهر
في الأدب والحياة
الخطيئة الأولى
قابيل : «أهذه هي الحياة، كد ونصب، كدح وتعب؟ ولماذا أكدح وأنصب؟ ألأن أبي لم يستطع أن يحتفظ بمقامه في جنة عدن؟ ما هو ذنبي في هذا؟ لم أكن قد ولدت، ولم أشأ أن أولد، ولم أحب أن أكون في هذا المحيط الذي قذف بي فيه ميلادي. لماذا أطاع أبي الحية والمرأة؟ وإذا كان قد أطاعهما فلم يتعذب؟ وأي ضرر جرته طاعته هذه؟ غرست الشجرة فلماذا لا تكون له؟ وإذا لم تكن قد غرست من أجله، فلماذا وضع بالقرب منها، حيث أينعت وزهت، بهجة للنظر في وسط الجنة؟ ليس لديهم من جواب على هذه الأسئلة سوى القول بأنه هكذا شاءت إرادته، وأنه رحيم ودود، فكيف أعرف هذا؟ أمن أجل أنه أقدر القادرين، كذلك يكون أرحم الراحمين؟ إني أحكم بما أنتج العمل من ثمرات، وإنها لمريرة، بل إني مقسور على أن أجني هذه الثمار، وأن أستمرئها تكفيرا عن خطيئة ما أنا بمرتكبها.»
هذه الكلمات نطق بها اللورد بيرون، الشاعر الإنكليزي المشهور، عن لسان قابيل، بعد أن طرد أبوه من الجنة واضطر إلى الكدح هو ونسله في سبيل العيش. على أن رواية آدم قد وجدت في كل العصور متسعا من عقول النابهين، ليترسلوا فيها بتأملات ترضي نزعاتهم، فقد روي عن المتنبي قوله:
Bilinmeyen sayfa
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
ويقول ابن الراوندي المتشكك المعروف:
أبي آدم باع الجنان بحنطة
فلست ابنه إن لم أبع بشعير
والناس أمام هذا الأمر، من مؤمنين ومتشككين، إنما يساقون في هذه التأملات بعامل الحيرة، وبحكم وجودهم في هذه الحياة. فإذا أردنا مثلا أن نتأمل في أمر هذه الحياة، أفليس أول ما يتوارد على أذهاننا أن نتساءل ما هذه الحياة؟ ولماذا وجدنا؟ وأي قصد أو غاية تختفي وراء هذا الوجود الذي يعقبه خلود على قول البعض، وفناء على قول البعض الآخر؟
ولست أرى أنه من المستطاع أن نختم هذه الحيرة إلا بالرجوع إلى تساؤل ديدرو: «هل في قدرة بشر فان أن يحدث من خطيئة يستحق عليها عقابا أبديا؟»
وبعد فهذه هي الحياة، كد ونصب، كدح وتعب، وليس لنا يد في دفع شيء من هذا كله، ولكن حسبنا أن نقول بأنه إذا كانت السعادة والشقاء شيئين يوزنان بالكم ولا يقدران بالكيف، ووضع كل مخلوق فوق هذه البسيطة كمية سعادته في كفة وكمية شقائه في كفة، لاتضح له أن خسرانه كبير، وإلا فأي شيء اضطر ذلك الشاعر على أن يقول:
Bilinmeyen sayfa
صرف الزمان يفرق الإلفين
فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا
وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا
ما كان أغناها عن الحالين
على أن في اليقين راحة، وفي الشك حيرة وتعب، ألم يقل أبو العلاء:
جنت الغوارس واستقل أخو الغنى
وسعى المؤمل واستراح اليائس
غير أني أستطيع أن أقول إن اليأس لا وجود له في قلب الإنسان. إن الإنسان ملؤ قلبه الأمل، وهذا هو السبب في شقائه وكده ونصبه، فلنكد وننصب على الرغم منا وعلى مقتضى حاجات الحياة.
Bilinmeyen sayfa
إذا لم يكن بد من أن نلقى بنظرات التأمل في الأدب والحياة، فأي شيء أجدر من هذا بأن نرسل إليه بتأملاتنا ونخصه بتفكيرنا؟
طه حسين والشعر الجاهلي
كان مثل صاحب الشعر الجاهلي في كتابه الأدبي كمثل ابن خلدون في كتابه التاريخي، فإن بين مقدمة ابن خلدون وتاريخه فارقا بعيدا، كما أن بين منهج البحث في كتاب الشعر الجاهلي والبحث نفسه صدعا متنائيا.
أراد الدكتور طه حسين أن ينهج في البحث منهج ديكارت في أن يجرد نفسه من كل التقاليد الوراثية، من دين ولغة وقومية وميول نفسية ... إلى غير ذلك، وأن يدخل البحث بكرا صافيا، ولكنه لم يلبث أن أذعن لموحيات من الشك هي في ذاتها نزعة وتقليد، فهل يحق له بعد أن يعترف بأنه يشك بأنه خلو من كل تقليد؟ أو أنه صفى نفسه من كل النزعات؟ وإلا فإنا نسأله ما هو الشك، إن لم يكن نزعة وتقليدا؟
ألح على الدكتور طه الشك في حقيقة الشعر الجاهلي، وهو يعترف بهذا ولا يخفيه، إذن فقد بدأ بحثه شاكا خاضعا لنزعة الشك، مقنعا رأسه لتقاليدها، كذلك ألحت على ديكارت فكرة أنه «كائن»؛ إذ يقول في أول تأملاته: «أنا أفكر، أنا إذن كائن.» أي موجود في الحياة الدنيا، إذن فهو بحكم أنه مفكر وبحكم أنه كائن، لا بد من أن يكون خاضعا لتقاليد الحياة بأكملها، وهو إن استطاع أن يقول بأنه جرد نفسه من التقاليد نظريا، فإنه لم يستطع أن يخلص بنفسه من براثن الوراثة عمليا.
وما أظن أن أسلوب ديكارت إلا أسلوبا نظريا لا يمكن تطبيقه تطبيقا عمليا، أو يتبدل الإنسان من طبيعته طبيعة أخرى. لقد سد أسلوب ديكارت من العقول فراغا كبيرا في تلك الأزمان، التي لم تكن المعارف الإنسانية قد وثقت فيها بعد لعلمي البيولوجيا والوراثة. أما اليوم فالاعتقاد العملي الصحيح هو أن الإنسان مجموعة صفات وراثية وتقاليد لا يستطيع أن ينفك عنها أو ينفك عن طبيعته ذاتها، فهل يصح بعد هذا أن نقول بأن في مستطاعنا أن نبدأ بحثا من الأبحاث، وملء أنفسنا شك قاتل، ثم ندعي بعد ذلك أننا خلصنا من الوراثة والتقاليد؟ ألم يقل أناتول فرانس: «قل للذي يدعي بأنه خال من الأوهام، هذا أول أوهامك.»
الله والزمان والمكان
يقول المعري:
قلتم لنا إله قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
Bilinmeyen sayfa
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لنا عقول
ولست أدري لماذا لا تكون لنا عقول إذا اعتقدنا بأن الله بلا زمان ولا مكان؟
يقول ابن سينا في رسالة «الحدود»: إن الزمان عبارة عن مقياس الحركة من جهة المتقدم والمتأخر. وعرف المكان بأنه عبارة عن السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر، من الجرم المحوي، فهل في هذه التعاريف شيء من الحق؟
تصور كرة من المادة تسبح في فضاء أو في خلاء صرف لا يوجد فيه أي جرم آخر ، فكيف يمكن لشخص على هذه الكرة أن يعرف إن كانت ثابتة أم متحركة بسرعة ألف ميل في الساعة؟ إنه لا يستطيع ذلك بأية طريقة من طرق الامتحان أو التجربة؛ لأن كل شيء فوق هذه الكرة يظل سائرا في اتجاه واحد، سواء أكانت ساكنة أم متحركة بأقصى سرعة؛ لهذا نعتقد بأن السبيل الوحيد الذي نستطيع أن نحكم به على أي جرم بأنه متحرك أم ساكن، هو أن نلاحظ إن كان يغير موضعه بالنسبة لأجرام أو أجسام أخرى، فإذا وجد جرم آخر، فوجود هذا الجرم يوجد للكرة الأولى مكانا، ومن غير هذا يكون بلا مكان، ومن طريق وجود المكان يبدأ وجود الزمان الذي هو عبارة عن قياس الحركة.
ارجع بعد هذا إلى الكرة الأولى السابحة في الخلاء الصرف، وتخيل أنه لم يحط بها من مشابهاتها المادية شيء، أفلا تكون في اعتبارنا بلا مكان ولا زمان؟ وإذا كانت عقولنا تسلم بهذا عن طريق التجربة، فكيف أنها لا تسلم بأن الله بلا زمان أو مكان، وهو بالقياس إلى العالم أشبه بالكرة السابحة في الخلاء، لأنه منزه عن الشبائه، على اعتقاد علماء التوحيد؟
حول نقاء السلالة
هوستون ستيوارت تشامبرلين، مؤلف إنجليزي الدم تيوتوني التفكير، كتب مؤلفا أسماه «أساس القرن التاسع عشر»، والمؤلف في معتقدي عبارة عن مذهب جديد في العوامل التي كونت التاريخ الإنساني، يقوم على نظرية السلالات، فهو يعتقد بأن نقاء السلالات الإنسانية عامل من أكبر العوامل على بقائها؛ بل إن نقاءها ضروري لبقائها ذاته. وضرب لذلك مثلا باليهود من بين كل الأمم السامية الأصل، فاليهود من بين الساميين، من أضعف الأمم سياسيا، وأقلهم عددا، ولكنهم استطاعوا أن يحتفظوا بوحدتهم القومية. والحقيقة أن هذه السلالة قد استطاعت أن تقاوم كل العواصف التي تناوحت من حولها خلال كل عصور التاريخ، وما زالت تنتقل في منازل البقاء، حتى أسلمت بها الأقدار إلى القرن التاسع عشر، بل وإلى القرن العشرين، حقيقة ثابتة راسخة بين أمم الأرض.
Bilinmeyen sayfa
عاش اليهود بلا دولة ولا أرض ولا رئيس سياسي، مشتتين في أطراف الدنيا، مندمجين في أمم هي أبعد الأمم عن بعضها تجانسا وأقلها ترابطا، ومع كل ذلك عاشوا متحدين شاعرين بحقيقة هذا الاتحاد كقوة سياسية عظمى، ويعتقد تشامبرلين أن السبب في هذه المعجزة هو ذيوع كتاب واحد بين اليهود؛ هذا الكتاب هو التوراة، مع كل ما زيد إليه من الإضافات حتى يومنا هذا. يقول إن هذا الكتاب يجب أن ينظر فيه باعتباره صورة منعكسة عن روح قومية خاصة، عملت - كلما دقت ساعات الخطر الداهم والكوارث المجتاحة - على توثيق الوحدة والألفة الوطنية، بعناية رجال خصوا بأوسع المدارك ووهبوا قوة الفراسة.
غير أن تشامبرلين لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول أن ينتزع من التوراة دليلا يؤيد نظريته، فيقول بأن ما بث في تضاعيف التوراة من الروح الدينية لم يكن في الحقيقة إلا عنصرا من عناصر الرواية التاريخية التي انطوت عليها دفتا التوراة، وأن عكس ذلك غير صحيح. ولقد مضى في تدليله طويلا حتى إنه لم يترك شاردة ولا واردة إلا أثبتها انتصارا لمذهبه هذا، وليثبت أن الشعب اليهودي قد أدمج دينه في تاريخه، وأنه صب الدين في معين التاريخ شعورا منه بقوة ترابطه القومي، وأن ليس لسبب في هذا إلا نقاء هذه السلالة البشرية وعدم تلاقحها مع غيرها من السلالات، وأن هذا هو السر الأوحد في قوتها الاجتماعية، وما فيها من صفات المقاومة والمناعة ضد الاندماج في غيرها من الأمم.
هذا ملخص مذهب تشامبرلين في السلالات البشرية، وعليه يبني مذهبه في المؤثرات التي كونت التاريخ الإنساني، غير أننا ننظر بجانب هذا من الناحية البيولوجية الصرفة، فنجد أن علماء الحياة قد أثبتوا بالدليل أن تلاقح السلالات عامل على زيادة خصبها وقوتها الحيوية، فهل يمكن أن يكون هذا المبدأ مناقضا لمذهب تشامبرلين؟
أما إذا نظرنا من ناحية أثنولوجية صرفة، لما وسعنا إلا الاعتقاد بأن مذهب تشامبرلين صحيح من كل الوجوه، والأمثال عليه في علمي الأثنولوجيا والاجتماع كثيرة لا تحصى، فكيف يمكن التوفيق بين مذهب تشامبرلين القائم على حقائق الأثنولوجيا والاجتماع، وبين مذهب البيولوجيين القائم على الاختبار وصدق المشاهدة؟ الحقيقة أن لا تناقض بين المذهبين إلا في الظاهر؛ فإن تلاقح السلالات إن صح بيولوجيا أنه من مهيئات الخصب والقوة الحيوية، فإنه لم يثبت أنه ضروري للاحتفاظ بالقوميات اجتماعيا، والفرق بين الخصب في الإنتاج والقوة الحيوية للانتصار في التناحر على البقاء شيء، والاحتفاظ بالوحدة القومية في الاجتماع شيء آخر.
إذن يتضح من هذا أن نقاء السلالات البشرية أثنولوجيا مفيد من الناحية الاجتماعية، كما أن تلاقحها وتدامجها بالدم مفيد بيولوجيا، إذا ما اعترى السلالة ضعف حيوي كاد يقرضها من الوجود، كما هو حادث اليوم في بعض بقاع فرنسا وبين كثير من السلالات اللاتينية.
حالات العقل
تقوم فلسفة كونت على قانون وضعه وسماه قانون الدرجات أو الحالات الثلاث، فقال بأن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا، لا بد أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية أو الغيبية المجردة، والثالثة اليقينية الواقعة.
هذا هو قانون الحالات الثلاث، ويمكن أن يحصر القول في هذا القانون العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي بثلاث طرق للتأمل في حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنها تتناقض، ومن هنا تنتج ثلاثة ضروب من الفلسفة، أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير، في اكتناه حقيقة الظاهرات، كل منها تنافر الأخرى. أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق، والبحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية بين الأسلوبين الأولين.
ففي الحالة اللاهوتية، يبحث العقل في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكامنة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في المعرفة المطلقة، وهنالك يضطر إلى التسليم بأن كل الظاهرات إنما ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تقع وراء عالم الطبيعة المنظور.
وفي الحالة الثانية وهي حالة محورة عن الحالة الأولى، يتبدل العقل من فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود، يكون في استطاعتها إحداث مختلف الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الظاهرة من تفسير الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظاهرات؛ إلا عبارة عن نسبة كل منها إلى مصدرها الأول.
Bilinmeyen sayfa
وفي الحالة الثالثة يطرح العقل طريقة البحث الضائع وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظاهرات، ويلقي بكل جهده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها؛ أي صلاتها المتشابكة وتلاحقها ومشابهاتها، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة. فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة ما بين ظاهرة من الظاهرات وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجا بنسبة تقدم العلم اليقيني.
هذا هو مذهب كونت، ولكنك إذا فكرت قليلا في الأصل الذي نبع منه ذلك الشيء المبهم الغامض الذي نسميه «العقل الإنساني»، وجدت أن هنالك حالة مر بها العقل يمكن أن تكون بمثابة قاسم مشترك أعظم يضرب في مجموع هذه الحالات التي بنى عليها كونت فلسفته. على أنك لا تستطيع بجانب هذا أن تدرك حقيقة هذه الحالة، أو أنها ذات أثر خالد باق في مجموع الحالات الثلاث التي عمد إليها كونت في تكوين مذهبه الفلسفي، إلا إذا رجعت إلى تحليل نفسي تاريخي تتناول فيه نشوء الإنسان.
فإن كثيرا من الفلاسفة قد أظهروا جهلا كبيرا بحياة الإنسان وتاريخه، فبنوا قواعد ووضعوا مذاهب، على الرغم مما فيها من الروعة وأثر الجهد فإنها بعيدة جهد البعد عن الحقائق الواقعة التي ينطق بها تاريخ الإنسان، فبينما تجد أن البعض منهم قد اطرح البحث في طريقة التفكير التي ينتحيها العقل وصولا إلى حقائق الأشياء، تقع على غيرهم وقد حاولوا أن يفصلوا العقل عن الإنسان ليجعلوه موضع درس خاص، يرجعون إليه بعد أن يفرغوا من تاريخه الطويل، في حين أن تاريخ الإنسان وتاريخ العقل شيء واحد، وما فصلهما إلى شيئين إلا عبث كبير بالعلم وأساليبه.
كذلك تجد أن كثيرا من الفلاسفة، سواء في العصور الحديثة أم القديمة، قد زعموا بأن العقل ليس بشيء سوى مجموعة ما يصدر عن الفكر والإدراك الشامل، لحصروا العقل في مجموعة ما يدرك، ويتصور ويحكم به ويتعقل فيه ويفهم ويعتقد به ويراد فعله. ولكن قليلا من البحوث الفذة التي قام بها علماء عمدوا إلى النظر في الإنسان باعتباره كلا واحدا، قد أثبتت أن الإنسان لدى الواقع لا يستطيع أن ينتبه انتباها عقليا كاملا لحقيقة ما يدرك أو يتذكر أو يريد أو يحكم فيه، بل برهنوا على أن جزءا عظيما من تفكير الإنسان في كليات المسائل أو جزئياتها إنما يقع تحت آثار وراثة طويلة ثابتة تجعله خاضعا لقبول أشياء ومبادئ وحقائق من غير أن يشعر كيف أنه قبلها أو سلم بها.
وعلى هذا تجد أن حالة الحياة النفسية اللاشعورية قد تستقوي في أغلب الأحيان على الحالة الشعورية الراجعة إلى إحكام العقل على ما يدركه أصحاب الفلسفة اليقينية. وهذه المسألة تظهر كأنها أمر طبيعي واقع لكل من يمعن النظر في الحقائق الآتية:
يدلنا التاريخ الطبيعي على أن هنالك أربع حالات يثبتها البحث في تاريخ الإنسان:
الأولى:
حالة العقل الحيواني، وهذه ندعوها بالحالة الغريزية.
والثانية:
حالة العقل الطفلي، وهذه ندعوها بالحالة اللاهوتية.
Bilinmeyen sayfa
والثالثة:
حالة العقل الوحشي، وهذه ندعوها بالحالة الغيبية أو الميتافيزيقية.
والرابعة:
حالة العقل المتمدين، وهذه ندعوها بالحالة الإثباتية أو اليقينية.
أما الأولى، فبحثها مقصور على علم النفس المقارن.
وأما الثانية، فبحثها مقصور على علم النفس التحليلي.
وأما الثالثة، فبحثها مقصور على علم الإنسان والشعوب.
وأما الرابعة، فبحثها مقصور على علوم التاريخ والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.
ومن مجموع هذا ننتهي بالنتيجة الآتية:
الحالة الأولى:
Bilinmeyen sayfa
العقل الغريزي أو الحيواني.
الحالة الثانية:
العقل اللاهوتي أو الطفلي.
الحالة الثالثة:
العقل الغيبي أو الوحشي.
الحالة الرابعة:
العقل اليقيني أو المتمدين.
أما وقد ثبت أن الأصل في العقل للغريزة، وثبت بجانب هذا أن الإنسان مجموعة صفات وراثية قديمة العهد، فإنا لا يمكننا أن نسلم بأن الحالات الثلاث الأخيرة، قد تخلصت تخلصا تاما من قواسر الحالة الغريزية الأولى. وعلم النفس الحديث يدلنا على أن الإدراك اللاشعوري لا يزال ذا صفة غالبة في كل ما يصل إليه العقل الإنساني من نتائج البحث في حقائق الأشياء.
الفرق بين الشرق والغرب
يقولون إن بين الشرق والغرب فارقا بعيدا وصدعا متنائيا، والحقيقة أننا نرى هذا الفرق ظاهرا، أجل الظهور، كلما قلبنا أوجه النظر في حالات اختص بها الغرب والشرق؛ ففي الشرق علم وفي الغرب علم، ولكن في الشرق علما قام على الأساطير والخرافات، وفي الغرب علما قام على الاختبار والمشاهدة؛ وفي الشرق فلسفة وكذلك في الغرب فلسفة، غير أن في الغرب فلسفة قامت على مذاهب وضعها الفلاسفة، أو أساليب غيرت من نماذج الفكر، أما الشرق ففيه فلاسفة انبتت الصلة بينهم وبين أهل زمانهم؛ لأنهم نظروا في الفلسفة نظر المعتقد بأنها البحث في الغيبيات لا في الواقع، في حين أن الفلسفة ليست إلا البحث وراء وجهة من النظر تنظم سبل الحياة. وعلى هذا فقس إذا نظرت في الموسيقى والشعر والأدب وكل ما تبقى بعد ذلك من مظاهر الحياة العقلية والاجتماعية.
Bilinmeyen sayfa
على أني لا أعتقد أن السبب في ذلك راجع إلى أن حجم الجماجم في الغرب أكبر منه في الشرق، أو إلى أن المادة السنجابية في مخ الأوروبي أكثر كمية أو أرقى صفة منها في مخ الإفريقي أو الآسيوي، كما يزعم البعض، ولسنا بأقل منهم قدرة على فهم الحقائق والأشياء، ليس شيء من هذا بواقع، ولكن الواقع أن في الشرق حضارة قامت على الدين، وفي الغرب دين قام على الحضارة.
معتقد داروين الديني
يقول داروين:
إن في النظر إلى الحياة بما يحوطها من مختلف المؤثرات والقوى، نظرة الاعتقاد بأن الله قد نفخها في بضع صور، أو صورة واحدة بداءة ذي بدء، لعظمه وجلاله، وأن هذا السيار إذا ظل مدفوعا بالجاذبية دائرا حول فلكه المرسوم، قد هيئ بقوى أنشأت ولا تزال جادة في إنشاء تلك الصور غير المتناهية، بما فيها من مواضع الجمال وبواعث الروعة والإعجاب. (أصل الأنواع، ف15)
ويقول:
ليس هذا الزعم - زعم القائلين بالخلق المستقل - إلا تبديل غير ثابت بثابت، أو على الأقل غير معروف بمعروف، فهم يشوهون صبغة الله وخلقه، وما قول الكونيين القدماء بأن صور الحيوانات المستحجرة في بعض الصخور، لم تخلق إلا عبثا لمحاولة تشبيه باطن الأرض بأحياء البحار، بأبعد من قول القائلين بالخلق المستقل في الزمان الحاضر منزلة من السقوط والاتضاع. (أصل الأنواع، ف5)
ويقول:
إني إن كنت على تمام الاقتناع بما في المبادئ التي بثثتها في هذا الكتاب - أصل الأنواع - من الحق الثابت، فإني لا أتوقع مطلقا أن أقنع بها رجالا من المشتغلين بالعلم الطبيعي قد شحنت أفكارهم بفكرات متكاثرة تخالف وجهة نظري، وظلت ثابتة في عقليتهم زمانا طويلا، وإن من الهين أن نخفي جهلنا وراء ستار من المصطلحات، مثل «فكرة الخلق» و«وحدة القصد والنظام»، ظانين أننا بهذا قد نفصح عن المغمضات، في حين أننا لا نصل من هذه الطريق إلا إلى إعادة الاعتراف بالجهل بتعبيرات أخرى. (أصل الأنواع، ف15)
ويقول:
هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة، أما عقليتي فأكثر التئاما مع المضي مع ما نعرف من القوانين التي بثها الخالق في المادة، والاعتقاد بأن نشوء سكان هذه الأرض وانقراضهم في الحاضر والماضي، يرجع إلى نواميس جزئية مثل النواميس التي تحكم في تولد الأفراد وموتهم، وإني كلما نظرت في الأحياء نظرة القانع بأنها أعقاب متسلسلة عن بضعة عضويات عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكمبرية، شعرت بأن نظرتي هذه أكثر إجلالا، وأبعث على التأمل، وأدل على العظمة. (أصل الأنواع، ف15)
Bilinmeyen sayfa
فهل يمكن أن يقول هذا القول ملحد كافر بالله؟
قرأت في أحد خطابات داروين إلى طالب ألماني، على ما أذكر، أنه كثير الشك فيما يمكن أن يكون وراء هذه الحياة، من النعائم التي بشرت لنا بها الأديان، بانيا حكمه، وإن شئت فقل شكه، على كثرة ما يرى في هذه الحياة، من ضروب التعاسة والشقاء، غير أنه على الرغم مما في هذه المقابلة من الفوارق البعيدة، فإنها تدل على نزعة الرجل الاعتقادية، فهو في الواقع رجل مؤمن بالله ولكنه إزاء الإيمان «لا أدري» صميم، ولو أنه زادنا في خطاباته شيئا، ولو ضئيلا، يدل على متجهه الاعتقادي، لقلنا بأنه شكي صرف إزاء الأديان، وإن كان ثابت الاعتقاد بوجود مدبر يدبر هذا الكون، ولا جرم أن هذا هو معتقد كثير من المؤمنين، الذين لم يستطيعوا أن يلغوا العقل، كما أنه معتقد كثير من العقلاء الذين لم يستطيعوا أن يلغوا الإيمان جملة.
الشخصية
لما أدركت جالينوس الوفاة استلقى على فراشه وقال: «إن المدبر الذي يدبر الجسم قد عجز عن تدبيره.» وأوصى أفلاطون أن يكتب على قبره هذه الكلمات: «أيتها الأرض، إن كنت مخفية جسد أفلاطون، فإنك لا تستطيعين الدنو من نفسه التي لا تموت.»
فأي التصورات قامت في ذهنيهما وهما على باب الأبد السحيق؟ أيدل ظاهر هذه الكلمات على حقيقة ما قام في وجدانهما؟ لا أظن ذلك؛ بل أتخيل أن ما قام لديهما من التصورات مختلف تمام الاختلاف عما يدل عليه ظاهر هذه الكلمات، فإن شهوة التأليف مثلا قد تقوم في ذهن عدد عديد من الناس، ولكن منهم من يطلب المال، ومنهم من يسعى وراء الشهرة، وقليل منهم من يبغي نفع الناس، فالدافع واحد، ولكن التصورات التي تختفي وراء الدوافع النفسية مختلفة، وفي تضاعيف هذه التصورات تكمن حقيقة الشخصيات.
كلمات لطاغور الشاعر الإلهي «هل الشفقة شيء خصت به الذوات الفانية الضعيفة وحدها، ولم تخص به الآلهة؟ إن الغوث يجب أن يبذله الإنسان إذا ضنت به السماء.» «لا يمكن أن تمتع الخطيئة بعمر مديد كهذا، هل يمكن أن تكون تلك المراسم التعبدية التي نشأت وأرباها تطاول الزمان حتى أعتقت تحت أقدام الآلهة من الخطيئات.» «لقد بدأ الليل يرخي ظلامه، وتشتد حلكته، إنه يتربع على هام الوجود، إنه امرأة مهجورة، أما هذه النجوم، فدموعها استحالت نارا.» «كم هي صغيرة هذه الأرض، وكم هي محصورة الجوانب، حيث تقوم الآفاق الدائمة من حولها ، ترمقها وتتبعها أينما سارت . إن الأشجار والمنازل ومجموع الأشياء القائمة من حولي تغشي على باصرتي، والضوء كقفص يحول بيني وبين ظلام اللانهاية، والساعات تصيح داخل حدودها كأطيار مأسورة، ولكن، لأي شيء يتدفق هذا الجمع في هذه الجلبة، ولأي غرض؟ إنهم ليلوحون لي كأنهم في خوف مستمر من فقدان شيء لن تناله أيديهم.»
فازانتي (للناسك) : «لست أفهم ما تقوله يا أبتاه، خبرني، ألا يوجد في هذه الدنيا الفسيحة من حمى.»
الناسك : «حمى؟ ألا تعرفين أن هذه الدنيا عبارة عن هوة لا قرار لها؟ فجموع هذه الخلائق إنما تخرج من ثقب العدم باحثة عن حمى يحميها، ومن ثم تدخل ثانية في فوهة الفراغ اللامتناهي، وهنالك تفقد آثارها، ها هي أشباح الكذب والرياء تتخايل من حولنا، رواحا وجيئة في سوق الأوهام والخيالات، ولا تبيعنا من غذاء، اللهم إلا عدما باطلا، إنها إنما تحرك فينا نهمة الجوع ثم لا تكفينا، ابتعدي من ثم يا بنيتي ابتعدي.»
فازانتي (للناسك) : «ولكن يلوح لي أنهم سعداء جد السعادة في هذه الدنيا يا أبتاه، ألا نستطيع أن نلحظهم من جانب الطريق.»
الناسك : «وا أسفاه! إنهم لا يفقهون شيئا، إنهم لا يرون أن هذه الدنيا موت ممتد إلى اللانهاية، إنها تموت كل برهة، ومع ذلك فإنها لا تصل إلى غاية، ونحن مخلوقات هذه الدنيا إنما نعيش ونتغذى على الموت.»
Bilinmeyen sayfa
السائح (للناسك) : «هل أجد من حمى بجانب هذا المكان؟»
الناسك : «ليس من حمى في أي مكان يا بني، اللهم إلا في قرارة نفسك، فابحث عن هذا وتشبث به إن أردت النجاة.
هل تظنون أنكم بحكم الكثرة وقوتها الغاشمة تحتكمون في الحقيقة، وأنكم سوف تغرقون العقل وقوة البرهان في جوف تلك الهزات الأثيرية، التي تنبعث مع صياحكم المتعالي؟!
إني لا أسلم مطلقا بأن الحق يكون دائما في جانب أشد الأصوات خشونة، وإني لأخجل من أن أعتنق معتقدا لا يقوم على غير القوة ولا بقاء له بغيرها.
الدين واحد في جوهره، ولكنه يختلف في كثرة صوره، فالماء واحد ولكن باختلاف الشواطئ التي يغشاها، يكون الحق فيه لأمم مختلفة، أما إذا كان في صميم قلبك نبع يروي ظمأك، ويطفئ عطشك، فلا تلومن جيرانك الذين هم مقسورون على أن يستسقوا بجرعات من الماء، يأخذونها من بركهم القديمة التي غشاها من قبل أسلافهم، مع ما يحيط بها من المروج المخضوضرة الخصيبة التي غذاها الزمان، وأشجارها التي تحمل أثمارها الأبدية.
الحقيقة والحب هما روح الدين وجثمانه، أليس على هذا تنطوي كل المعتقدات وفيه تنحصر ماهيتها؟
لقد أسفر القمر، هذه الآونة، من بين السحب، وروح السلام يرف على صفحة الماء، كأنه يحتضن الدنيا بين ذراعيه، تحت ضوء القمر العظيم، من هنا تذهب الطريق وتمتد إلى حيث تفقد آثارها بين الأشجار الشيقة بظلالها الصامتة، وهنا تقوم البيوت، وهنالك في النهاية يقوم المعبد، وشاطئ النهر يلوح عن بعد صامتا موحشا، فالظاهر أني هبطت كهاطل ينقض فجأة من سحب كلها أحلام إلى عالم الإنسانية، فكنت على جانب الطريق.
وا أسفا يا صديق! إنها لأسوأ اللحظات تلك التي يخدع الإنسان فيها قلبه، فإن الشهوة العمياء تصبح كتاب صلواته، وتتربع الأوهام على عرش آلهته. أمن وراء هذا القمر، الذي يستلقي نائما بين السحب السارية انسيابا يكون عالم الحقيقة الخالدة؟ الصبح السافر سوف يغشانا في الغداة، وستبدأ الجماهير الجائعة تجوب أنحاء بحر الوجود بآلاف من الشباك، وسوف لا يتذكرون هذا الليل الهادئ بأضوائه القمرية، إلا كما يتذكرون غشاء رقيقا من الباطل تنسجه سنات النوم أو الأشباح، أو الأوهام، إن تلك الشبكة السحرية التي تنسج عادة من مفاتن خادعة تختص بها امرأة، لهذا مثلها، وهل يمكن أن تشغل محل الحقيقة العظمى؟ هل لعقيدة يخلقها وهمك أن تطفئ عطش الهاجرة إذ تتلظى نيرانها وتشتد حرارتها.
في أيام المحن تنحل أقدس الروابط، فالأخ يحطم أخاه، والصديق يخون الصديق. سأخرج في الظلام، وفي ظلام الليل سوف أعود لأقرع الباب، فهل سأجد صديقي واقفا يلحظني وفي يده مصباح مضيء؟ سأحمل هذا الأمل بين جوانحي.»
ماليني : «إني أحلم بينما أنا مستيقظة، بأن الرياح كواسر، وأن المياه مضطربة دوافق، الليل مشتد الحلك، والسفين قد أوثقت إلى جدران المرفأ، أين الربان الذي سوف يهدي الضالين التائهين إلى مآويهم؟ إني أشعر بأني أعرف الطريق، وأن السفين سوف يهتز بالحياة حين ألمسه، ويسرع الخطو إلى الأمام.
Bilinmeyen sayfa
إن دم المخلوقات ليس وقفا على الآلهة، وإنه من حق الملك، كما أنه من حق أحقر فلاح، أن يحافظ على الحق، وأن يدفع عن الاستقامة ما يهوش سبيلها.
ألست تدري أن ثرى هذه الأرض إنما يتكون من عدد غير محدود من وقائع القتل والتفظيع؟ إن الزمن القديم ما ينفك يخط حوادث الحياة المنحدرة في جوف العدم مع مخلوقاتها بمداد من دم. يقع القتل أينما تتصور، في القفر المجدب وفي حظائر الإنسانية، وفي عشوش الطير، وفي حفر الحشرات، وفي البحر، وفي السماء، وهنالك قتل من أجل الحياة، وقتل من أجل التسلية، وقتل للاشيء أصلا. إن الدنيا تقتل من غير أن تهدأ نوبتها.
إن شرائع القلب ليست بذاتها شرائع الكتب المقدسة.»
جاسنج : «الطريق ممهود أمامي، سأسلكه وبيدي جرة الصدقات ومعي البنت المستجدية أتخذها رفيقة، من ذا الذي يقول بأن طرق هذه الدنيا ملتوية متعسرة على أية حال. سوف نبلغ بها النهاية، النهاية التي تنتهي معها خطيئات الحياة وآلامها، حيث الراحة الأبدية، ماذا تجدي عنا الكتب المقدسة والمعلمون وتعاليمهم؟!
لا تحدثني عن الحب، فلأفكر دائما في الواجب. إنما الحب كالحشيش الأخضر وكالأشجار وكموسيقى الحياة، كلها أشياء ينعم بها سطح الأرض. إنها تأتي وتفنى كالأحلام، ولكن من وراء هذه الأشياء يكون الواجب، كطبقات الصخور العاتية، أو كحمل ثقيل لا يمكن أن تزحزحه القوات.
إن الضعفاء في هذه الدنيا قليلو الحيلة، أما الأقوياء فقساة غلاظ الأكباد. إن الطمع بلا شفقة، والجهل أعمى، والكبرياء لا تبالي عندما تحطم الأضعفين تحت أقدامها.»
وبعد، فهل هذه فلسفة أم حكمة؟ أم مزيج من كليهما؟ كلا، إن هذا لوحيا، وأي شيء يكون الوحي إن لم يكن هذا؟
الشعراء والناثرون
أصدر الصديق هيكل بك حكمه بأن النثر في تقدم والشعر في جمود، وعلل الأستاذ طه حسين هذه الظاهرة بأن الناثرين يقرءون ويحاولون الفهم والتثبت مما يقع بين أيديهم من أدب وعلم وحكمة، في حين أن الشعراء لا يقرءون ولا يحاولون أن يفهموا إذا قرءوا، ولا أظن أن هذا التعليل كاف وحده، بل أعتقد بأن كل من لم يستطع أن يفكر قد أصبح في مصر شاعرا، على أن الخيال إذا لم يتقيد بالفكر، أصبح وهما باطلا، وشعراؤنا في خيالهم لا يخرجون عن هذا.
على أن هنالك فئة من الشعراء لم يفت الأستاذ طه حسين أن يذكر أنها تقرأ وتفكر، بل قل بأنها تحاول أن تغير من أساليب الشعر وقوالبه العتيقة، ولكن أولى بهذه الفئة ألا تفكر ليصفها الناس بالشاعرية، إذا أراد أفرادها أن يندمجوا في زمرة الشعراء.
Bilinmeyen sayfa
السببية والغائية في الفلسفة
هل من فارق حقيقي بين السببية والغائية؟ وهل الغائية قانون عقلي لا غير، أم أنها سنة من سنن الطبيعة؟
قال أحد الفلاسفة المحدثين: «إن كل ما يحدث في هذا الوجود لا بد من أن يكون له مصدر يصدر عنه ومرمى يذهب إليه.» على أن هذه النظرية لا يمكن أن تحيطها ريبة أو شك، ما دامت بعيدة عن الاحتكاك بفكرة الغائية، فإذا احتكت بفكرة القصد والغاية في الطبيعة، أحاطتها الشكوك وتغلغلت فيها الريب الممضة، فإننا نقطع مثلا بأن كل حركة يجب أن تتجه في اتجاه ما، ولكن هل المرمى الذي ترمي إليه هذه الحركة هو بذاته نتيجة لا غير، أم أنه غرض وغاية؟! هذا هو السؤال. هل الأجسام في حركتها مقصورة على الحركة بفعل غائي، أم أنها مجذوبة بغيرها اعتباطا؟ وإذا سلمنا بأنها مقصورة، فهل ذلك يكون بفعل جسم آخر، أم بحكم إرادة ترمي إلى قصد وغاية؟
وقال آخر: «نرى أنه من الضروري أن الفعل الموجد يتضمن مع فكرة السبب الدافع على الابتداء في الحركة، فكرة الغاية التي تتجه نحوها.» وهذه أيضا نظرية لا يمكن نقضها، ولكن مع هذا يمكن أن ينظر فيها من عدة نواح مختلفة. فقد نتساءل: هل تحديد الاتجاه الذي تتجه فيه الحركة أمر يشمله السبب كنتيجة أو كفرض؟ وهل هو تطبيق منطقي أم إنه نتيجة إرادة حددت من قبل كل شيء؟ وكما تستطيع أن تقول بأن الاتجاه ينزع دائما نحو غرض ما، كذلك تستطيع أن تسأل كيف يكون هذا؟
لدينا ثلاثة أقوال، يقول أرسطوطاليس: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» ويقول جوفروي: «لكل موجود غاية.» ويقول دافيسون: «كل حركة تذهب في متجه ما.» غير أن هذه الأقوال ليست بأكثر من حقائق استقرائية، وإن شئت فقل بأنها تعميمات تؤيدها التجربة، ويصدق عليها الاختبار، على أننا إذا بحثنا بعض نواحي الطبيعة ورأينا مشاهدات تدلنا على وجود علاقات وأواصر متينة، تربط بين الوسائط والغايات، أو خيل إلينا على الأقل أن الواقع يلائم هذا الظاهر، فإننا نمضي نطبق هذه القاعدة من طريق التوسع على حقائق أقل التئاما، ومن ثم نطبقها على كل ما في الطبيعة من حقائق، خصوصا لما في منازعنا من حب التعميم.
وعلى هذا وضع أرسطوطاليس قاعدته: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» والسبب في هذا أن أرسطوطاليس قد أكب على درس التاريخ الطبيعي، فوقع من طريق درسه، على حقائق عديدة كان للطبيعة في كل منها قصد وغاية، فأخذ يطبق هذه الحالة على كل ما في الطبيعة، ووضع قاعدته التعميمية اعتمادا على براهين استمدها من ناحية واحدة من نواحي الطبيعة.
لهذا نستطيع أن نقول بأن الغائية ليست في اعتبارنا مبدأ أوليا، بل إنها قانون طبيعي، يثبت وجوده الاختبار والاستقراء. نقول بهذا مجاراة للعلماء؛ إذ يسلمون بوجود نواميس عامة، وهي لدى الحقيقة ليست إلا مجرد ميول لأنها كثيرا ما تتخللها الشواذ والمستثنيات، مثل: قانون الاقتصاد الطبيعي، وقانون اقتسام العمل، وقانون الاتصال، وقانون التبادل النسبي في النماء العضوي. بهذا يتضح أن هنالك قانونا غائيا يلوح كأنه يتضمن كل ما يسبقه من القوانين، أو بالأحرى ميل إلى الغائية، وهو ميل يظهر جليا في تراكيب العضويات، ونواحي تكوينها، وقد نقول بأن هذا القانون يمكن أن يستدل على وجوده في عالم الحياة، إذا قسنا بين ما فيها من نظام وحكمة وبين غيرها مما يعتوره النقص والانشعاب في ناحية أخرى من نواحي الطبيعة.
غير أن العلماء كثيرا ما أظهروا نفرتهم من القول أو التسليم بالأسباب الغائية، فما هو السبب في هذا؟ السبب في هذا أن فكرة السبب الغائي قد اتخذت طوال أزمان مديدة على أنها مبدأ ضروري مسلم به تسليما إيمانيا، وبذلك شعر العلماء بثقل وطأته على العلم، حيث كان لها من التأثير فيه بمثل ما كان للسببية العلمية الصرفة، فكان إذا نظر العالم في حقيقة أي شيء، شعر بأنه مقصور على أن يعرف سبب ذلك الشيء، كما يعرف الغرض منه والغاية التي يرمي إليها، وما دام أنه ملزم بأن يعرف الغايات كان لزاما عليه أن يطرح، ولو إلى حين، البحث وراء الأسباب، وهذا ضرب من الاستبداد الفكري، لا يخضع له رجل العلم لأنه لدى الواقع يفقده حرية البحث. ولكن إذا أخذنا الغائية، لا على أنها قانون أولي من قوانين العقل، بل على أنها مجرد نزعة من منازع الطبيعة، فلست أجد مانعا يحول بين رجال العلم وبين النظر في حقيقة هذه النزعة، ما داموا يسلمون بأن في منازع الطبيعة التي يعكفون على درسها ما هو أعضل منها وأبعد عن متناول الفهم.
العلم والسياسة
كانت سياسة الأمم في الأعصر القديمة من الهنات التي لا تتطلب من الصفات أكثر من عبوسة في الوجه، وصلابة في الإرادة، وقسوة في القلب، أما اليوم فقد انقلبت الآية.
Bilinmeyen sayfa
لما عرفت الشعوب حقوقها المدنية، وتغيرت قواعد الحكم في هذه الدنيا، وأصبحت الشعوب مصدر السلطات، وقضي على سلطة المستبدين بأمرهم، وتقررت مبادئ الحرية السياسية والفكرية؛ قضى هذا التطور الكبير على تسلط الصفات القديمة التي كان يجب أن يمتاز بها السياسيون. أما اليوم، فالسلطة لأشد السياسيين ليونة وأكثرهم أخذا بالواقع المحسوس، وأشدهم سيرا مع ما تتجه فيه الجماهير.
وأما في الغد، فإن العلم سوف يتسلط على العالم كله، وحتى على السياسة، ولست أدري كيف أن سياسيا أو زعيما يجهل مبادئ علم البيولوجيا والاجتماع، يكون في مستطاعه الحكم على حقائق الأشياء أو على ظواهرها حكما بعيدا عن مواقع الزلل.
معنى الحرية
جاهد الناس في سبيل الحرية، والحقيقة أن جهادهم واستماتتهم في سبيلها لم يكن عن اقتناع بأنها مفيدة أو أنها ضرورية أو أنها ستبلغ بهم - إذا ما استحوذوا عليها - إلى أقصى قمة من المجد أو السعادة في الحياة، لم تكن استماتة الناس في القتال من أجل الحرية لشيء من هذا، بل كان قتالهم في سبيلها آتيا عن طريق الوهم والتخيل، أكثر من أي شيء آخر.
خيل إلى الناس أن الحرية هي الإباحة، وتحت هذا العنوان عملوا، وانقيادا لهذه الأخيلة، قاتلوا واستماتوا في سبيل الحرية. لم يدرك معنى الحرية إلا نفر قليل عديدهم من زعماء الشعوب، بل أدركوا الحرية محدودة بحدود ضيقة، مقيدة بقيود ثقيلة. ولعمري كيف يمكن أن تقاتل الجماهير في سبيل الحرية إذا هم أدركوها على ما أدركها «ميل» أو «بنتام» أو غيرهما من رجالات الأمم؟
خيل إلى الناس في عصر من العصور، أن الحرية هي إطلاق الشهوات والانفعالات وكل النزعات والصفات الإنسانية التي هي أدنى إلى أفق الحيوان من بقية الصفات؛ لهذا قاتلوا واستماتوا في سبيلها؛ لأنها كانت إليهم محببة مرغوبا فيها، على هذا التصور الغريب.
أما اليوم، فإن العلامة جوليان هكسلي، وهو من أكبر الباحثين في التناسليات، يقول على ملأ من العالم: «متى يقلع الناس عن خرافة الاستمساك بما يسمونه الحرية الشخصية؟» وما من فرد واحد يرفع في وجهه عقيرة أو يجابهه بقول. أليس في هذه الظاهرة دليل واضح على أن الإنسانية ارتقت أدبيا من طريق الوهم أكثر من ارتقائها من طريق الحقائق الواقعة؟ أوليس في هذا دليل على أن المستحيلات الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة، كانت على استحالتها دافعا للإنسانية على التقدم والارتقاء؟
قد يتساءل البعض: كيف أن الحرية والإخاء والمساواة مستحيلات ثلاثة دفعت الإنسانية على التقدم والارتقاء، وكيف يمكن أن يكون المستحيل عاملا مؤثرا في الحياة الاجتماعية يبعث الناس على الضرب في سبيل التقدم.
أما السؤال الأول فجوابه بين سهل: لأن الحرية تنافي المساواة، بدليل أن ليس من شيء هو أقتل للحرية من العمل على التسوية بين غير المساويين. والناس لا يتساوون، اللهم إلا في المجاز، وهو ولله الحمد ليس بذي أثر في الحياة العملية. كذلك تتنافى فكرة الإخاء مع الحرية؛ لأن الحرية تعطي لكل فرد الحق في أن ينافس غيره وأن يجاهده الحياة ويناحره فيها من أجل البقاء، فإذا منعت على الناس حق المنافسة والتناحر، جردتهم من أول ما تتطلب الحرية من صفات.
أما كيف تؤثر هذه المستحيلات في الجماعات بما يبعثها على الرقي، فسبيل سهل؛ لأن الناس لم يفهموا هذه المستحيلات على حقيقتها، بل بموحياتها النفسية لا غير، فهموها على مقتضى ما أوحت إليهم نفسياتهم من مدلولات؛ لهذا سعوا إليها، وعملوا تحت رايتها، فبلغوا شأوا من الرقي مهما قيل فيه، فإنه شأو لا يغبطون عليه.
Bilinmeyen sayfa
مدنية العقل ومدنية الروح
المدنية الحديثة مدنية العقل، لا مدنية الروح، والظاهر أن مدنية الروح قد قضي عليها، ولكن إلى وقت موقوت وأجل مسمى.
سيشعر الإنسان عما قريب أن ارتقاءه المادي ليس وحده السبيل إلى السعادة، بل سوف يشعر أن الماديات لا تسلم إلى السعادة. ومن الجائز أن يرجع إلى الروحانيات يستدر وحيها، ولكن بطريقة مخالفة تماما للطريقة التي اتبعها حكماء الهند بين غياضها القديمة، وزهاد مصر في صحرائها الشاسعة.
حول وظيفة الدين
جمعني مجلس يوما فيه ملحد ومتدين، أو بلغة الفلسفة مؤمن وشكي. ودار بينهما الحديث على الدين ووظيفته في هذه الحياة، فكان من رأي المؤمن أن الدين إنما شرع لهداية الناس أفرادا وجماعات. أما الشكي فقد قال له: إذا سلمنا بهذا لزمنا أحد فرضين: فإذا قلنا بأن الدين قد هدى الناس إلى السبيل السوي، إذن لم يصبح له من وظيفة يؤديها؛ لأنه يكون قد أدى وظيفته بالفعل، وإذا قلنا بأن الناس لم يهتدوا رغم الأديان، كان هذا دليلا على إفلاس الأديان عن هداية العالم.
وهكذا دواليك على مر الأزمان.
في الوطنية
وما قولك في الوطنية: أرجع بك إلى كتاب حياة صموئيل جونسون، تأليف بوزويل، ففي الصفحة 115 من طبعة مكملان سنة 1922، مجلد ثان، تقع على هذه المحاورة:
جونسون : «إن الوطنية هي آخر ملجأ يلجأ إليه المنافقون.»
وهنا يعلق بوزويل على قول جونسون بقوله: «غير أنك لا تنس أنه لم يقصد بها حب الإنسان لوطنه، حبا صحيحا صادقا، بل قصد تلك الوطنية التي اتخذها الكثيرون في مختلف الأمم والعصور كساء يلتحفون به قضاء لأغراضهم، وحاجاتهم الشخصية.» أما أنا فقد استمسكت بفكرة أن كل الوطنيين لم يكونوا منافقين ولا خونة، ولما اضطررت إلى ذكر رجل من الوطنيين الذين نحبهم ونمجدهم (وهو بلا شك بيرك معاصرهم)، أجاب جونسون بما يأتي: «سيدي، إني لم أقل بأنه غير أمين، إنه ليس لدينا من حق في أن نستنتج من أخلاقه السياسية أنه كان أمينا حقا، فإنه إذا قبل مركزا في الوزارة الحالية، فإنه بذلك يفقد تلك الصفة التي اشتهر بها؛ صفة الصلابة في الحق وضبط النفس، وربما فقد مركزه فيها في خلال سنة واحدة؛ فإن هذه الوزارة ليست ثابتة، كما أنها ليست متفانية في الدفاع عن أصدقائها، كما كان سير روبر والبول من قبل، وعلى هذا يترتب أن يعتقد أن انضمامه للوزارة الآتية أبقى على فائدته من انضمامه إلى الوزارة الحالية.»
Bilinmeyen sayfa
وهكذا تكون الوطنية حتى في إنجلترا سيدة العالم، وفي عصر صموئيل جونسون وبوزويل وأدموند بيرك.
الوصول إلى الحقيقة
لما بدأ ديكارت يفكر في الفلسفة وفي العالم، وداخله الشك في التقاليد القديمة، لم يستطع أن يترك نفسه وعقله نهبا للشك وحده، بل وضع لنفسه قواعد أدبية سماها «أحكاما وقتية لضبط النفس»، اتبع محوياتها طوال أعوام تفكيره التي أنفقها سعيا وراء الحصول على الحقيقة، بل إنه جعل الوصول إلى الحقيقة مشروطا على اتباع هذه الأحكام الاختيارية، وحصر هذه الأحكام في أربعة أشياء:
الأول:
أن يخضع المفكر لقوانينه وشرائع دينه التي ولد وربي تحت ظلالها.
الثاني:
أن يعمل ما سنحت الفرص التي تدعوه إلى العمل، ومن غير تلكؤ، وعلى مقتضى ما تصل إليه قوة أحكامه العقلية، وأن يسكن إلى النتيجة راضيا من غير تذمر أو ضجر.
الثالث:
أن يسعى وراء السعادة بأن يعمل على الإقلال من رغباته وشهواته أكثر مما يعمل على تلبية ندائها وسد مطالبها.
الرابع:
Bilinmeyen sayfa
أن يكون البحث وراء الحقيقة غرضه في الحياة.
وكثيرا ما شك منا المفكرون، وكثيرا ما عمد المؤلفون إلى اتباع خطى ديكارت، ولكنهم ظلموه ظلما كبيرا، فهل منهم من اتبع هذه القواعد خلال شكه قبل أن يصل إلى الحقيقة؟ ومن الذي وصل إلى الحقيقة منهم؟ بل من ذا الذي يدعي أنه عرف شيئا من أطراف الحق، ليكون سلمه إلى الحقيقة.
حقا لقد ظلم ديكارت، وفي سبيل الحق ما حاق به من ظلم حيا وميتا.
الحظ والعبقرية
من الأشياء التي لا أومن بها حكم المصادفة في تسيير أعمال النوع الإنساني، والمصادفة يدعوها الناس حظا، فهل يمكن أن يكون للحظ كما يفهمه الناس أثر في تحديد الحالات التي تقع في الحياة، ويكون لها أثر في إسعاد الجماعات والأفراد، أو في بؤسهم وشقائهم؟ من الجائز أن يكون لاتفاق وظروف الحياة وتوافق الأعمال الإنسانية أثر في خلق ظروف تجعلنا ننظر في بعض الأحيان إلى الحياة نظرة القانع بأن ظروفها مجموعة من المصادفات التي ليس لنا من قدرة على الاحتكام فيها، أو تصريف وجوهها. غير أن في الحياة أشياء أخرى غير هذه من الممكن أن ننظر فيها هذه النظرة ذاتها، وهي مع ذلك ليست نتاجا لمجموعة من الظروف التي تخلفها الأعمال الإنسانية، بل تلوح لنا في صورة تجعلنا نوقن بأن لنظام الطبيعة الأبدي ضلعا كبيرا في إحداثها.
أحاطت مثل هذه الظروف بالعديد الأورفي من أبناء آدم، منذ أن أشع في العقل الإنساني أول شعاع من أشعة الفكر الخالد، غير أن الحظ لم يخدم إلا بضعة أفراد من أبناء آدم، ليكونوا أول من يجني ثمار الحظ الذي انطوت عليه أسرار الطبيعة الأبدية. ولا حاجة بنا لأن نذكر أسماء يغيب عن أذهان القراء ذواتها، بل نعمد إلى أكبر من أبرزت البشرية من أصحاب العقول الفذة، فلديك أولا أرسطوطاليس، فإن وضعه لعلم المنطق فيه من الحظ بقدر ما فيه من النبوغ والمهارة؛ لأنه لا يتكرر في التاريخ مطلقا أن يجد شخص غير أرسطوطاليس عقلا إنسانيا يحتاج إلى قانون يحكمه. وكذلك غاليليو، لأنه لا يتكرر على الإطلاق أن يجد غيره نظاما فلكيا معكوسا فيقومه. ثم نيوتن، فإنه لا يتكرر في التاريخ أن يجد شخصا غيره سيارات تدور حول الشمس محتاجة إلى تعليل يعلل دورتها. ثم داروين؛ لأنه لا يتكرر أن يجد شخص غيره أنواعا حية يحتاج العقل إلى معرفة كيفية نشوئها.
أما أمثال هؤلاء فقلائل في التاريخ البشري، وهم لا شك أكبر الناس حظا، كما أنهم أكثرهم عبقرية ونبوغا.
قيام المدنيات وسقوطها
للأستاذ الكبير مستر «فلندرز بتري» المؤرخ الإنجليزي المعروف، نظرية في قيام المدنيات وسقوطها، أطلق عليها اسم «نظرية الدورات المدنية». والحقيقة أن الناظر في قيام المدنيات وسقوطها على مر العصور القديمة يلحظ دائما أن المدنية كانت ذات دورات كاملة، وأنها كانت متنقلة غير مستقرة، فمن مصر إلى روما إلى الكلدان إلى آشور إلى الهند إلى اليونان إلى الصين. وكانت كل مدنية من هذه المدنيات، تدور دورتها الكاملة ثم تسقط سقوطا فجائيا لا تستطيع أن تتلمس له من سبب أو تقع له على مصدر يقنع به العقل أو يرضى به المنطق.
ومن غريب الأمر أن سقوط المدنية في تلك الأزمان كان يعقبه إحدى حالتين، فإما أن يبيد الشعب الذي تسقط مدنيته وتضمحل، وإما أن يصيبه الجمود الشديد، فتتحجر ملكاته ومواهبه، ويظل واقفا حيث هو، فلا يتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا يفيد الإنسانية بفائدة ما ماديا أو أدبيا. ومثال الحالة الأولى الشعب اليوناني والشعب الفينيقي القديم، فكلاهما باد تماما ولم يتركا من خلف يرث عنهما ميراثهما العظيم، الذي اقتسمته عنهما الإنسانية. ومثال الحالة الثانية الشعب الهندي والشعب الصيني، وهما شعبان يمثلان حقيقة أن من السلالات البشرية فئة تفقد مواهبها، إذا اضمحلت مدنياتها، وتتحجر مواهبها لأسباب غير معروفة، وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل يكون نصيب المدنية الحديثة كنصيب المدنيات التي تقدمتها على مر العصور، أم إن الأسباب التي كانت تفسد المدنيات قد فنت مع تقدم العلوم والمعارف واتساع مناطق الاستكشاف في كل فروع المرافق الإنسانية.
Bilinmeyen sayfa
الحقيقة أن المنطق لا يحبونا إلا بأضعف أنواع القياس، يزودنا بما يدعوه المناطقة قياس التمثيل، ومحصله تطبيق الحالات السابقة على حالات واقعة، وهو أضعف أنواع القياس المنطقي، على أنه يوهمنا على أية حال بأن نصيب المدنية الحديثة سيكون كنصيب غيرها من المدنيات القديمة.
ولقد مثل الأستاذ «مكدوغل» الإنجليزي لدورات المدنية بخط منحن يأخذ في الارتفاع من نقطة ليبلغ إلى أقصى القمة التي يمكن أن تبلغ إليها المدنية، وهنالك يشتد انحناؤه، فإذا بلغ الانحناء أشده، انحط مرة أخرى انحطاطا فجائيا يمثل سقوط المدنيات.
وأغلب ظني أن تمثيل الأستاذ «مكدوغل» غير صحيح؛ فإن «دورات المدنية» يصح لدى الواقع أن يمثل لها بخطوط منحنية تتسلقها الشعوب شعبا بعد آخر خلال الأزمان، غير أنه لا يصح مطلقا أن يمثل لسقوط المدنيات بخطوط شديدة الانحدار تبلغ من انحدارها حدا يصل إلى حيث بدأ خط الدورة في الارتفاع؛ لأن هذا إنما يدل على أن المدنيات كانت تبيد تماما ولا تخلف وراءها من أثر ترثه عنها المدنيات التي تتلقح بها وتأخذ عنها. والمعروف أن كل مدنية حديثة إنما هي مجموعة صور تستخلص من مدنيات قديمة بحيث تحدث ألفة جديدة. إذن فدورات المدنية يمكن أن يمثل لها بخطوط منحنية تأخذ في الارتفاع رويدا رويدا لتبلغ إلى قمة الدورة، غير أنها لا تسقط فجأة بل تبقى حيث تصل ليبدأ خط منحن آخر في الارتفاع من نهاية القمة التي بلغ إليها الخط الأول، فالدورات المدنية على هذا عبارة عن خطوط ارتقائية يعلو أحدها الآخر إلى ما لا نهاية.
والدليل على هذا أن التاريخ لا يثبت مطلقا أن شعبا تسلق خط المدنية مرة ثم رجع إلى حالة من الهمجية، كانت هي بعينها الحالة التي بدأ من عندها تسلق خط الدورة، التي مثلت مدنيته. والحقيقة أن السلالات عندما تبلغ حدا من المدنية، تتحجر مواهبها وصفاتها، فيتعذر عليها التقدم وتقف عن السير إلى الأمام. وهنا تبرز سلالة أخرى، تأخذ بيد المدنية الإنسانية إلى قمة أعلى من القمة التي بلغت إليها الأولى، وعلى هذا لا يكون من تقهقر مدني، بل استحجار وجمود، ينتاب سلالة من السلالات، فيلوح لنا كأنه انحدار وفساد.
ولا شبهة مطلقا في أن هذه القاعدة سوف تسري على المدنيات الحديثة، غير أنها ستكون أقل ظهورا؛ لأن حركة التسلق كانت في الأزمان القديمة سريعة، ولأن ميراث المدنية لم يثقل كاهل الشعوب بما يثقله به ميراثها الحديث، وكذلك كانت نسبة السرعة في الاستحجار والوقوف. أما في عصرنا هذا فسيكون التسلق بطيئا، وكذلك ستكون نسبة السرعة في الاستحجار؛ ولهذا ستلوح خطوط الدورات المدنية أقل انحناء ولكن أعلى قمما، وكذلك سيكون تعاون الأمم على حمل بعضها البعض في مدرج الارتقاء أكبر آصرة؛ لأنه من المستحيل عندي أن تستطيع سلالة بمفردها أن تتسلق خط الدورة المدنية وحدها في الزمن الحاضر. ومما هو أشد استحالة عندي هو أن تستمر سلالة وحدها في التقدم على بقية السلالات في التسلق إلى القمة من غير أن يحل بها النصب وينتابها الكلال.
حول علم الأخلاق والعلوم الأخرى
يقول بارتلمي سانتهيلير في مقدمته لكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس ما يلي: «فليس على علم الأخلاق إذن إلا أن يستمر في عمله واثقا من أنه سوف يجني ثماره حتى في أشد البقاع محلا، بشرط أن يستكشف الحق أو يزيد في قدره.» ونحن نتساءل: هل يمكن لعلم الأخلاق أن يستكشف الحق؟ بل هل يمكن لفرع من فروع المعرفة الإنسانية أن يطمع في استكشاف الحق. إن في ذلك لتقييدا للنظرية الأخلاقية، يخرجها من الحيز العملي إلى حيز الغيبيات، وإذا لم نستكشف الحق فكيف نستطيع أن نزيد من قدره في جهة ما من جهات المعرفة الإنسانية، لا جرم أن هذا يكون غير مستطاع؛ لأن العلم بازدياد قدر شيء من الأشياء يستلزم أولا معرفة طبيعة الشيء في ذاته.
ثم نقتطع من تلك المقدمة عبارات أخرى فيها ما يدعو إلى إنعام النظر والتأمل، فهو يقول مثلا: «لا شك في أنه لا يلزم البتة الحط من صحة العلوم الطبيعية، ولا من صحة العلوم الرياضية، على الأخص، ولكنها لا تزال بعيدة عن صحة علم الأخلاق، فإن القضايا التي تعلمنا إياها هذه العلوم، والحقائق التي تكشفها لنا، هي إما منازع فيها وإما يقتضي تفهمها ملكات ليست لجميع العقول، فأما أولاها (العلوم الطبيعية) فإنها خارجة عن الإنسان، فتقتضي مشاهدات خارجية صعبة ومحوطة بالشكوك غالبا، بل مستحيلة أحيانا، والأخرى (العلوم الرياضية) إنما هي سلاسل طويلات من الاستدلالات، لا يكاد يكون التمشي معها ميسورا.»
وهنا نسائله: أليس هذا هو الحال بعينه في علم الأخلاق؟ ثم يقول: «وأما في علم الأخلاق فالأمر على ضد ذلك، كل منا يحمل في نفسه جميع ما يشتغل به هذا العلم من الموضوعات التي - لأنها كلها حقيقية - لا تنفك ماثلة تحت أعيننا، فليس علينا أن نخرج عن أنفسنا لنتعرفها، بل حسبنا أن نسأل أنفسنا بانتباه وإخلاص، لنظفر بأجوبة لا يتطرق إليها الخطأ، وما هذه الأجوبة من قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة إلا كأجوبة الوحي حقيقة بالتصديق لأنها لا تخدع البتة. ومع التسليم بأن هذه الأجوبة كان يمكن أن تختلف في العصور القليلة الرقي، وأنها لا تزال يختلف بعضها عن بعض، عند الشعوب القليلة المواهب، فإنها عندنا الآن أجوبة متماثلة ثابتة.
لندع جانبا تلك الخلافات، التي لم تكن فاسدة بالمرة، فهي على الأقل غير ثابتة، ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن لما أن سلوك الناس الأخيار، هو في الواقع واحد، أيلزم حتما أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه؟ ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه، مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس، وبين أن هذا الإقرار العام سببه، أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع وتقع على مقتضاها، من حيث لا يشعر الفاعل في غالب الأحيان.»
Bilinmeyen sayfa
وهنا نسائله: ألا يحتاج البحث وراء تلك الموضوعات التي يشتغل بها علم الأخلاق، وهي كائنة في تضاعيف النفس الإنسانية، إلى ملكات ومشاعر ومؤهلات تجعل فهم هذه الأشياء على حقيقتها غير ميسور إلا لفئة قليلة من الطبقة المنتقاة من الناس، شأن العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: هل وجود «قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة» كاف وحده لأن يكون ميزانا لقياس نظريات علم الأخلاق، ومعرفة أصولها؟ وما هو القلب الشريف العدل؟ وهل يمكننا قبل أن نحدد هذه المعقولات أن نقول إن علم الأخلاق أثبت أركانا من العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: إذا كان من الممكن أن تختلف أجوبة القلب «الشريف العدل» باختلاف الشعوب وباختلاف الأزمان، أفلا يكون من الألزم لمن يقول هذا القول بأن يعتقد بأن قواعد علم الأخلاق نسبية غير مطلقة؟ وعلى الأخص إذا تذكرنا أنه إنما يتخذ أجوبة أهل المدنية الحاضرة مقياسا لأقصى ما يصل إليه علم الأخلاق من رقي في المعقول والتطبيق، وماذا تكون قيمة قواعده هذه عند شعوب أرقى نفوسا وأكرم طبيعة من شعوب المدنية الحديثة؟
إن الإنسانية لا تزال كما كانت منذ أقدم العصور، لا فرق بين متمدينها ومنحطها، من حيث التواضع الأخلاقي، وعلى الأخص في الاتباع العملي للفضائل. وما المدنية الحديثة لدى الواقع إلا مدنية علوم لا مدنية أخلاق. والمثل القديمة تكاد تكون بعينها المثل الحديثة بلا فرق بينها على وجه التقريب، وما عدم لحاق الفضائل بالعقل من حيث الابتكار والتطبيق إلا دليل على ما نذهب إليه.
ثم نسائله: هل حدد معقول الفضيلة لنعرف ما هي النفوس الفاضلة؟ ونسائله: هل وقوع «الجدال في النظريات» غير كاف لأن يستتبعه وقوع الجدال في العمليات؟ وأين هم «الأخيار» الذين اتبعوا في الحياة طريقا بعينها؟ فإن توحيد سلوك الناس الأخيار يقتضي أن يتناول ذلك حتى خطرات نفوسهم وجرائمهم الفكرية، فهل معرفة هذا الأمر مستطاعة في الحقيقة، وإن دل الظاهر على وحدة السلوك عند الأخيار كما يقول سانتهيلير، ما دام يعتقد أن علم الأخلاق كائن في تضاعيف الفطرة؛ أي أنه عبارة عن درس الطبيعة الكامنة للنفس، وأن هذا الدرس لن يتيسر إلا بدرس ظواهر السلوك؟
اللهم إن كان علم الأخلاق هو أثبت العلوم الإنسانية وأشدها وضوحا، وهو بعد على ما يصفه هذا الكتاب، فإنا ولا شك نقول على العلوم الإنسانية السلام.
القرآن وحكومة الإسلام
يحاول أحد أساتذة الجامعة المصرية، وهو أستاذ اللغة العربية والآداب، أن يقول، بل هو يعتقد بأن القرآن ليس بكتاب منزل، وأنه من وضع محمد بن عبد الله، بز به العرب بلاغة تعبير وقوة بيان وحسن سبك وفصاحة أسلوب، فغلبت عليهم فكرة أنه معجز وصحت لديهم من هذا الطريق نبوته، فكان واضع الدين الإسلامي الذي لا يكمل الإسلام من غير أن يذكر اسمه بجانب اسم الله، فيقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
يعتقد الشيخ طه حسين، هذا الاعتقاد، ويحاول أن يبلغ إلى بث فكرته، بمحاولات عديدة، منها محاضراته، التي يلقيها في القرآن يوري فيه تورية، ومنها أحاديثه الخاصة يبوح فيها بما يعتقد. غير أنه لا يجرؤ على أن يجهر برأيه هذا بين الناس ويذيعه على رءوس الأشهاد، فيدور في محاضراته تلك الدورات الغريبة، ويلف تلك اللفات البعيدة التي لا تنتهي إلى غاية ولا تصل إلى قصد معين.
ولست أدري لماذا لا يجاهر الأستاذ برأيه؟ أظن أن السبب في هذا قلة إيمانه، بصحة ما يرى وضعف عقيدته بصلاحية النظرية التي يعتقد بها، وإلا لكان من الواجب عليه أن يذيع رأيه بشجاعة ويدافع عنه بصلابة، إذا كان تام الاعتقاد بصحته.
تقوم في ناحية أخرى فكرة مشابهة لفكرة الأستاذ؛ هي فكرة الشيخ علي عبد الرازق في أصول الحكم في الإسلام، هو في الواقع يريد أن يقول إن حكومة الإسلام لم تقم على قواعد اجتماعية صحيحة، وإنها كانت حكومة مستبدة اجتمعت فيها السلطة الدينية والزمانية في شخص واحد، وإن هذه القاعدة لا يصح أن تكون أساسا لقيام حكومة فيها من النظام الديمقراطي قسط يضمن صلاحية الحكم وقيام العدل بين الناس.
يريد هذا فيلف ذلك اللف البعيد، ويدخل بنا في مناقشات شبيهة بالمناقشات التي دارت في مجمع أفسوس وخلقيدونية ونيقية، ويقذف بنا في بحث مسألة الحكم في الإسلام من ناحية التوكيل الإلهي لشخص محمد عليه السلام، ولماذا لا يقول بأن أصول الحكم في الإسلام بائرة، وأن القاعدة الديمقراطية أصح منها؟ السبب في هذا أن الشجاعة في إبداء الرأي تنقصه، والإيمان بصحة نظريته ناقص غير كامل. قال الأستاذ بيكر بعد بحث طويل في مدلول لفظة «الإسلام» ما يلي:
Bilinmeyen sayfa