في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
في الأدب والحياة
تأليف
إسماعيل مظهر
في الأدب والحياة
الخطيئة الأولى
قابيل : «أهذه هي الحياة، كد ونصب، كدح وتعب؟ ولماذا أكدح وأنصب؟ ألأن أبي لم يستطع أن يحتفظ بمقامه في جنة عدن؟ ما هو ذنبي في هذا؟ لم أكن قد ولدت، ولم أشأ أن أولد، ولم أحب أن أكون في هذا المحيط الذي قذف بي فيه ميلادي. لماذا أطاع أبي الحية والمرأة؟ وإذا كان قد أطاعهما فلم يتعذب؟ وأي ضرر جرته طاعته هذه؟ غرست الشجرة فلماذا لا تكون له؟ وإذا لم تكن قد غرست من أجله، فلماذا وضع بالقرب منها، حيث أينعت وزهت، بهجة للنظر في وسط الجنة؟ ليس لديهم من جواب على هذه الأسئلة سوى القول بأنه هكذا شاءت إرادته، وأنه رحيم ودود، فكيف أعرف هذا؟ أمن أجل أنه أقدر القادرين، كذلك يكون أرحم الراحمين؟ إني أحكم بما أنتج العمل من ثمرات، وإنها لمريرة، بل إني مقسور على أن أجني هذه الثمار، وأن أستمرئها تكفيرا عن خطيئة ما أنا بمرتكبها.»
هذه الكلمات نطق بها اللورد بيرون، الشاعر الإنكليزي المشهور، عن لسان قابيل، بعد أن طرد أبوه من الجنة واضطر إلى الكدح هو ونسله في سبيل العيش. على أن رواية آدم قد وجدت في كل العصور متسعا من عقول النابهين، ليترسلوا فيها بتأملات ترضي نزعاتهم، فقد روي عن المتنبي قوله:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
ويقول ابن الراوندي المتشكك المعروف:
أبي آدم باع الجنان بحنطة
فلست ابنه إن لم أبع بشعير
والناس أمام هذا الأمر، من مؤمنين ومتشككين، إنما يساقون في هذه التأملات بعامل الحيرة، وبحكم وجودهم في هذه الحياة. فإذا أردنا مثلا أن نتأمل في أمر هذه الحياة، أفليس أول ما يتوارد على أذهاننا أن نتساءل ما هذه الحياة؟ ولماذا وجدنا؟ وأي قصد أو غاية تختفي وراء هذا الوجود الذي يعقبه خلود على قول البعض، وفناء على قول البعض الآخر؟
ولست أرى أنه من المستطاع أن نختم هذه الحيرة إلا بالرجوع إلى تساؤل ديدرو: «هل في قدرة بشر فان أن يحدث من خطيئة يستحق عليها عقابا أبديا؟»
وبعد فهذه هي الحياة، كد ونصب، كدح وتعب، وليس لنا يد في دفع شيء من هذا كله، ولكن حسبنا أن نقول بأنه إذا كانت السعادة والشقاء شيئين يوزنان بالكم ولا يقدران بالكيف، ووضع كل مخلوق فوق هذه البسيطة كمية سعادته في كفة وكمية شقائه في كفة، لاتضح له أن خسرانه كبير، وإلا فأي شيء اضطر ذلك الشاعر على أن يقول:
صرف الزمان يفرق الإلفين
فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا
وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا
ما كان أغناها عن الحالين
على أن في اليقين راحة، وفي الشك حيرة وتعب، ألم يقل أبو العلاء:
جنت الغوارس واستقل أخو الغنى
وسعى المؤمل واستراح اليائس
غير أني أستطيع أن أقول إن اليأس لا وجود له في قلب الإنسان. إن الإنسان ملؤ قلبه الأمل، وهذا هو السبب في شقائه وكده ونصبه، فلنكد وننصب على الرغم منا وعلى مقتضى حاجات الحياة.
إذا لم يكن بد من أن نلقى بنظرات التأمل في الأدب والحياة، فأي شيء أجدر من هذا بأن نرسل إليه بتأملاتنا ونخصه بتفكيرنا؟
طه حسين والشعر الجاهلي
كان مثل صاحب الشعر الجاهلي في كتابه الأدبي كمثل ابن خلدون في كتابه التاريخي، فإن بين مقدمة ابن خلدون وتاريخه فارقا بعيدا، كما أن بين منهج البحث في كتاب الشعر الجاهلي والبحث نفسه صدعا متنائيا.
أراد الدكتور طه حسين أن ينهج في البحث منهج ديكارت في أن يجرد نفسه من كل التقاليد الوراثية، من دين ولغة وقومية وميول نفسية ... إلى غير ذلك، وأن يدخل البحث بكرا صافيا، ولكنه لم يلبث أن أذعن لموحيات من الشك هي في ذاتها نزعة وتقليد، فهل يحق له بعد أن يعترف بأنه يشك بأنه خلو من كل تقليد؟ أو أنه صفى نفسه من كل النزعات؟ وإلا فإنا نسأله ما هو الشك، إن لم يكن نزعة وتقليدا؟
ألح على الدكتور طه الشك في حقيقة الشعر الجاهلي، وهو يعترف بهذا ولا يخفيه، إذن فقد بدأ بحثه شاكا خاضعا لنزعة الشك، مقنعا رأسه لتقاليدها، كذلك ألحت على ديكارت فكرة أنه «كائن»؛ إذ يقول في أول تأملاته: «أنا أفكر، أنا إذن كائن.» أي موجود في الحياة الدنيا، إذن فهو بحكم أنه مفكر وبحكم أنه كائن، لا بد من أن يكون خاضعا لتقاليد الحياة بأكملها، وهو إن استطاع أن يقول بأنه جرد نفسه من التقاليد نظريا، فإنه لم يستطع أن يخلص بنفسه من براثن الوراثة عمليا.
وما أظن أن أسلوب ديكارت إلا أسلوبا نظريا لا يمكن تطبيقه تطبيقا عمليا، أو يتبدل الإنسان من طبيعته طبيعة أخرى. لقد سد أسلوب ديكارت من العقول فراغا كبيرا في تلك الأزمان، التي لم تكن المعارف الإنسانية قد وثقت فيها بعد لعلمي البيولوجيا والوراثة. أما اليوم فالاعتقاد العملي الصحيح هو أن الإنسان مجموعة صفات وراثية وتقاليد لا يستطيع أن ينفك عنها أو ينفك عن طبيعته ذاتها، فهل يصح بعد هذا أن نقول بأن في مستطاعنا أن نبدأ بحثا من الأبحاث، وملء أنفسنا شك قاتل، ثم ندعي بعد ذلك أننا خلصنا من الوراثة والتقاليد؟ ألم يقل أناتول فرانس: «قل للذي يدعي بأنه خال من الأوهام، هذا أول أوهامك.»
الله والزمان والمكان
يقول المعري:
قلتم لنا إله قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لنا عقول
ولست أدري لماذا لا تكون لنا عقول إذا اعتقدنا بأن الله بلا زمان ولا مكان؟
يقول ابن سينا في رسالة «الحدود»: إن الزمان عبارة عن مقياس الحركة من جهة المتقدم والمتأخر. وعرف المكان بأنه عبارة عن السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر، من الجرم المحوي، فهل في هذه التعاريف شيء من الحق؟
تصور كرة من المادة تسبح في فضاء أو في خلاء صرف لا يوجد فيه أي جرم آخر ، فكيف يمكن لشخص على هذه الكرة أن يعرف إن كانت ثابتة أم متحركة بسرعة ألف ميل في الساعة؟ إنه لا يستطيع ذلك بأية طريقة من طرق الامتحان أو التجربة؛ لأن كل شيء فوق هذه الكرة يظل سائرا في اتجاه واحد، سواء أكانت ساكنة أم متحركة بأقصى سرعة؛ لهذا نعتقد بأن السبيل الوحيد الذي نستطيع أن نحكم به على أي جرم بأنه متحرك أم ساكن، هو أن نلاحظ إن كان يغير موضعه بالنسبة لأجرام أو أجسام أخرى، فإذا وجد جرم آخر، فوجود هذا الجرم يوجد للكرة الأولى مكانا، ومن غير هذا يكون بلا مكان، ومن طريق وجود المكان يبدأ وجود الزمان الذي هو عبارة عن قياس الحركة.
ارجع بعد هذا إلى الكرة الأولى السابحة في الخلاء الصرف، وتخيل أنه لم يحط بها من مشابهاتها المادية شيء، أفلا تكون في اعتبارنا بلا مكان ولا زمان؟ وإذا كانت عقولنا تسلم بهذا عن طريق التجربة، فكيف أنها لا تسلم بأن الله بلا زمان أو مكان، وهو بالقياس إلى العالم أشبه بالكرة السابحة في الخلاء، لأنه منزه عن الشبائه، على اعتقاد علماء التوحيد؟
حول نقاء السلالة
هوستون ستيوارت تشامبرلين، مؤلف إنجليزي الدم تيوتوني التفكير، كتب مؤلفا أسماه «أساس القرن التاسع عشر»، والمؤلف في معتقدي عبارة عن مذهب جديد في العوامل التي كونت التاريخ الإنساني، يقوم على نظرية السلالات، فهو يعتقد بأن نقاء السلالات الإنسانية عامل من أكبر العوامل على بقائها؛ بل إن نقاءها ضروري لبقائها ذاته. وضرب لذلك مثلا باليهود من بين كل الأمم السامية الأصل، فاليهود من بين الساميين، من أضعف الأمم سياسيا، وأقلهم عددا، ولكنهم استطاعوا أن يحتفظوا بوحدتهم القومية. والحقيقة أن هذه السلالة قد استطاعت أن تقاوم كل العواصف التي تناوحت من حولها خلال كل عصور التاريخ، وما زالت تنتقل في منازل البقاء، حتى أسلمت بها الأقدار إلى القرن التاسع عشر، بل وإلى القرن العشرين، حقيقة ثابتة راسخة بين أمم الأرض.
عاش اليهود بلا دولة ولا أرض ولا رئيس سياسي، مشتتين في أطراف الدنيا، مندمجين في أمم هي أبعد الأمم عن بعضها تجانسا وأقلها ترابطا، ومع كل ذلك عاشوا متحدين شاعرين بحقيقة هذا الاتحاد كقوة سياسية عظمى، ويعتقد تشامبرلين أن السبب في هذه المعجزة هو ذيوع كتاب واحد بين اليهود؛ هذا الكتاب هو التوراة، مع كل ما زيد إليه من الإضافات حتى يومنا هذا. يقول إن هذا الكتاب يجب أن ينظر فيه باعتباره صورة منعكسة عن روح قومية خاصة، عملت - كلما دقت ساعات الخطر الداهم والكوارث المجتاحة - على توثيق الوحدة والألفة الوطنية، بعناية رجال خصوا بأوسع المدارك ووهبوا قوة الفراسة.
غير أن تشامبرلين لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول أن ينتزع من التوراة دليلا يؤيد نظريته، فيقول بأن ما بث في تضاعيف التوراة من الروح الدينية لم يكن في الحقيقة إلا عنصرا من عناصر الرواية التاريخية التي انطوت عليها دفتا التوراة، وأن عكس ذلك غير صحيح. ولقد مضى في تدليله طويلا حتى إنه لم يترك شاردة ولا واردة إلا أثبتها انتصارا لمذهبه هذا، وليثبت أن الشعب اليهودي قد أدمج دينه في تاريخه، وأنه صب الدين في معين التاريخ شعورا منه بقوة ترابطه القومي، وأن ليس لسبب في هذا إلا نقاء هذه السلالة البشرية وعدم تلاقحها مع غيرها من السلالات، وأن هذا هو السر الأوحد في قوتها الاجتماعية، وما فيها من صفات المقاومة والمناعة ضد الاندماج في غيرها من الأمم.
هذا ملخص مذهب تشامبرلين في السلالات البشرية، وعليه يبني مذهبه في المؤثرات التي كونت التاريخ الإنساني، غير أننا ننظر بجانب هذا من الناحية البيولوجية الصرفة، فنجد أن علماء الحياة قد أثبتوا بالدليل أن تلاقح السلالات عامل على زيادة خصبها وقوتها الحيوية، فهل يمكن أن يكون هذا المبدأ مناقضا لمذهب تشامبرلين؟
أما إذا نظرنا من ناحية أثنولوجية صرفة، لما وسعنا إلا الاعتقاد بأن مذهب تشامبرلين صحيح من كل الوجوه، والأمثال عليه في علمي الأثنولوجيا والاجتماع كثيرة لا تحصى، فكيف يمكن التوفيق بين مذهب تشامبرلين القائم على حقائق الأثنولوجيا والاجتماع، وبين مذهب البيولوجيين القائم على الاختبار وصدق المشاهدة؟ الحقيقة أن لا تناقض بين المذهبين إلا في الظاهر؛ فإن تلاقح السلالات إن صح بيولوجيا أنه من مهيئات الخصب والقوة الحيوية، فإنه لم يثبت أنه ضروري للاحتفاظ بالقوميات اجتماعيا، والفرق بين الخصب في الإنتاج والقوة الحيوية للانتصار في التناحر على البقاء شيء، والاحتفاظ بالوحدة القومية في الاجتماع شيء آخر.
إذن يتضح من هذا أن نقاء السلالات البشرية أثنولوجيا مفيد من الناحية الاجتماعية، كما أن تلاقحها وتدامجها بالدم مفيد بيولوجيا، إذا ما اعترى السلالة ضعف حيوي كاد يقرضها من الوجود، كما هو حادث اليوم في بعض بقاع فرنسا وبين كثير من السلالات اللاتينية.
حالات العقل
تقوم فلسفة كونت على قانون وضعه وسماه قانون الدرجات أو الحالات الثلاث، فقال بأن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا، لا بد أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية أو الغيبية المجردة، والثالثة اليقينية الواقعة.
هذا هو قانون الحالات الثلاث، ويمكن أن يحصر القول في هذا القانون العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي بثلاث طرق للتأمل في حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنها تتناقض، ومن هنا تنتج ثلاثة ضروب من الفلسفة، أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير، في اكتناه حقيقة الظاهرات، كل منها تنافر الأخرى. أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق، والبحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية بين الأسلوبين الأولين.
ففي الحالة اللاهوتية، يبحث العقل في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكامنة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في المعرفة المطلقة، وهنالك يضطر إلى التسليم بأن كل الظاهرات إنما ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تقع وراء عالم الطبيعة المنظور.
وفي الحالة الثانية وهي حالة محورة عن الحالة الأولى، يتبدل العقل من فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود، يكون في استطاعتها إحداث مختلف الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الظاهرة من تفسير الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظاهرات؛ إلا عبارة عن نسبة كل منها إلى مصدرها الأول.
وفي الحالة الثالثة يطرح العقل طريقة البحث الضائع وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظاهرات، ويلقي بكل جهده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها؛ أي صلاتها المتشابكة وتلاحقها ومشابهاتها، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة. فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة ما بين ظاهرة من الظاهرات وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجا بنسبة تقدم العلم اليقيني.
هذا هو مذهب كونت، ولكنك إذا فكرت قليلا في الأصل الذي نبع منه ذلك الشيء المبهم الغامض الذي نسميه «العقل الإنساني»، وجدت أن هنالك حالة مر بها العقل يمكن أن تكون بمثابة قاسم مشترك أعظم يضرب في مجموع هذه الحالات التي بنى عليها كونت فلسفته. على أنك لا تستطيع بجانب هذا أن تدرك حقيقة هذه الحالة، أو أنها ذات أثر خالد باق في مجموع الحالات الثلاث التي عمد إليها كونت في تكوين مذهبه الفلسفي، إلا إذا رجعت إلى تحليل نفسي تاريخي تتناول فيه نشوء الإنسان.
فإن كثيرا من الفلاسفة قد أظهروا جهلا كبيرا بحياة الإنسان وتاريخه، فبنوا قواعد ووضعوا مذاهب، على الرغم مما فيها من الروعة وأثر الجهد فإنها بعيدة جهد البعد عن الحقائق الواقعة التي ينطق بها تاريخ الإنسان، فبينما تجد أن البعض منهم قد اطرح البحث في طريقة التفكير التي ينتحيها العقل وصولا إلى حقائق الأشياء، تقع على غيرهم وقد حاولوا أن يفصلوا العقل عن الإنسان ليجعلوه موضع درس خاص، يرجعون إليه بعد أن يفرغوا من تاريخه الطويل، في حين أن تاريخ الإنسان وتاريخ العقل شيء واحد، وما فصلهما إلى شيئين إلا عبث كبير بالعلم وأساليبه.
كذلك تجد أن كثيرا من الفلاسفة، سواء في العصور الحديثة أم القديمة، قد زعموا بأن العقل ليس بشيء سوى مجموعة ما يصدر عن الفكر والإدراك الشامل، لحصروا العقل في مجموعة ما يدرك، ويتصور ويحكم به ويتعقل فيه ويفهم ويعتقد به ويراد فعله. ولكن قليلا من البحوث الفذة التي قام بها علماء عمدوا إلى النظر في الإنسان باعتباره كلا واحدا، قد أثبتت أن الإنسان لدى الواقع لا يستطيع أن ينتبه انتباها عقليا كاملا لحقيقة ما يدرك أو يتذكر أو يريد أو يحكم فيه، بل برهنوا على أن جزءا عظيما من تفكير الإنسان في كليات المسائل أو جزئياتها إنما يقع تحت آثار وراثة طويلة ثابتة تجعله خاضعا لقبول أشياء ومبادئ وحقائق من غير أن يشعر كيف أنه قبلها أو سلم بها.
وعلى هذا تجد أن حالة الحياة النفسية اللاشعورية قد تستقوي في أغلب الأحيان على الحالة الشعورية الراجعة إلى إحكام العقل على ما يدركه أصحاب الفلسفة اليقينية. وهذه المسألة تظهر كأنها أمر طبيعي واقع لكل من يمعن النظر في الحقائق الآتية:
يدلنا التاريخ الطبيعي على أن هنالك أربع حالات يثبتها البحث في تاريخ الإنسان:
الأولى:
حالة العقل الحيواني، وهذه ندعوها بالحالة الغريزية.
والثانية:
حالة العقل الطفلي، وهذه ندعوها بالحالة اللاهوتية.
والثالثة:
حالة العقل الوحشي، وهذه ندعوها بالحالة الغيبية أو الميتافيزيقية.
والرابعة:
حالة العقل المتمدين، وهذه ندعوها بالحالة الإثباتية أو اليقينية.
أما الأولى، فبحثها مقصور على علم النفس المقارن.
وأما الثانية، فبحثها مقصور على علم النفس التحليلي.
وأما الثالثة، فبحثها مقصور على علم الإنسان والشعوب.
وأما الرابعة، فبحثها مقصور على علوم التاريخ والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.
ومن مجموع هذا ننتهي بالنتيجة الآتية:
الحالة الأولى:
العقل الغريزي أو الحيواني.
الحالة الثانية:
العقل اللاهوتي أو الطفلي.
الحالة الثالثة:
العقل الغيبي أو الوحشي.
الحالة الرابعة:
العقل اليقيني أو المتمدين.
أما وقد ثبت أن الأصل في العقل للغريزة، وثبت بجانب هذا أن الإنسان مجموعة صفات وراثية قديمة العهد، فإنا لا يمكننا أن نسلم بأن الحالات الثلاث الأخيرة، قد تخلصت تخلصا تاما من قواسر الحالة الغريزية الأولى. وعلم النفس الحديث يدلنا على أن الإدراك اللاشعوري لا يزال ذا صفة غالبة في كل ما يصل إليه العقل الإنساني من نتائج البحث في حقائق الأشياء.
الفرق بين الشرق والغرب
يقولون إن بين الشرق والغرب فارقا بعيدا وصدعا متنائيا، والحقيقة أننا نرى هذا الفرق ظاهرا، أجل الظهور، كلما قلبنا أوجه النظر في حالات اختص بها الغرب والشرق؛ ففي الشرق علم وفي الغرب علم، ولكن في الشرق علما قام على الأساطير والخرافات، وفي الغرب علما قام على الاختبار والمشاهدة؛ وفي الشرق فلسفة وكذلك في الغرب فلسفة، غير أن في الغرب فلسفة قامت على مذاهب وضعها الفلاسفة، أو أساليب غيرت من نماذج الفكر، أما الشرق ففيه فلاسفة انبتت الصلة بينهم وبين أهل زمانهم؛ لأنهم نظروا في الفلسفة نظر المعتقد بأنها البحث في الغيبيات لا في الواقع، في حين أن الفلسفة ليست إلا البحث وراء وجهة من النظر تنظم سبل الحياة. وعلى هذا فقس إذا نظرت في الموسيقى والشعر والأدب وكل ما تبقى بعد ذلك من مظاهر الحياة العقلية والاجتماعية.
على أني لا أعتقد أن السبب في ذلك راجع إلى أن حجم الجماجم في الغرب أكبر منه في الشرق، أو إلى أن المادة السنجابية في مخ الأوروبي أكثر كمية أو أرقى صفة منها في مخ الإفريقي أو الآسيوي، كما يزعم البعض، ولسنا بأقل منهم قدرة على فهم الحقائق والأشياء، ليس شيء من هذا بواقع، ولكن الواقع أن في الشرق حضارة قامت على الدين، وفي الغرب دين قام على الحضارة.
معتقد داروين الديني
يقول داروين:
إن في النظر إلى الحياة بما يحوطها من مختلف المؤثرات والقوى، نظرة الاعتقاد بأن الله قد نفخها في بضع صور، أو صورة واحدة بداءة ذي بدء، لعظمه وجلاله، وأن هذا السيار إذا ظل مدفوعا بالجاذبية دائرا حول فلكه المرسوم، قد هيئ بقوى أنشأت ولا تزال جادة في إنشاء تلك الصور غير المتناهية، بما فيها من مواضع الجمال وبواعث الروعة والإعجاب. (أصل الأنواع، ف15)
ويقول:
ليس هذا الزعم - زعم القائلين بالخلق المستقل - إلا تبديل غير ثابت بثابت، أو على الأقل غير معروف بمعروف، فهم يشوهون صبغة الله وخلقه، وما قول الكونيين القدماء بأن صور الحيوانات المستحجرة في بعض الصخور، لم تخلق إلا عبثا لمحاولة تشبيه باطن الأرض بأحياء البحار، بأبعد من قول القائلين بالخلق المستقل في الزمان الحاضر منزلة من السقوط والاتضاع. (أصل الأنواع، ف5)
ويقول:
إني إن كنت على تمام الاقتناع بما في المبادئ التي بثثتها في هذا الكتاب - أصل الأنواع - من الحق الثابت، فإني لا أتوقع مطلقا أن أقنع بها رجالا من المشتغلين بالعلم الطبيعي قد شحنت أفكارهم بفكرات متكاثرة تخالف وجهة نظري، وظلت ثابتة في عقليتهم زمانا طويلا، وإن من الهين أن نخفي جهلنا وراء ستار من المصطلحات، مثل «فكرة الخلق» و«وحدة القصد والنظام»، ظانين أننا بهذا قد نفصح عن المغمضات، في حين أننا لا نصل من هذه الطريق إلا إلى إعادة الاعتراف بالجهل بتعبيرات أخرى. (أصل الأنواع، ف15)
ويقول:
هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة، أما عقليتي فأكثر التئاما مع المضي مع ما نعرف من القوانين التي بثها الخالق في المادة، والاعتقاد بأن نشوء سكان هذه الأرض وانقراضهم في الحاضر والماضي، يرجع إلى نواميس جزئية مثل النواميس التي تحكم في تولد الأفراد وموتهم، وإني كلما نظرت في الأحياء نظرة القانع بأنها أعقاب متسلسلة عن بضعة عضويات عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكمبرية، شعرت بأن نظرتي هذه أكثر إجلالا، وأبعث على التأمل، وأدل على العظمة. (أصل الأنواع، ف15)
فهل يمكن أن يقول هذا القول ملحد كافر بالله؟
قرأت في أحد خطابات داروين إلى طالب ألماني، على ما أذكر، أنه كثير الشك فيما يمكن أن يكون وراء هذه الحياة، من النعائم التي بشرت لنا بها الأديان، بانيا حكمه، وإن شئت فقل شكه، على كثرة ما يرى في هذه الحياة، من ضروب التعاسة والشقاء، غير أنه على الرغم مما في هذه المقابلة من الفوارق البعيدة، فإنها تدل على نزعة الرجل الاعتقادية، فهو في الواقع رجل مؤمن بالله ولكنه إزاء الإيمان «لا أدري» صميم، ولو أنه زادنا في خطاباته شيئا، ولو ضئيلا، يدل على متجهه الاعتقادي، لقلنا بأنه شكي صرف إزاء الأديان، وإن كان ثابت الاعتقاد بوجود مدبر يدبر هذا الكون، ولا جرم أن هذا هو معتقد كثير من المؤمنين، الذين لم يستطيعوا أن يلغوا العقل، كما أنه معتقد كثير من العقلاء الذين لم يستطيعوا أن يلغوا الإيمان جملة.
الشخصية
لما أدركت جالينوس الوفاة استلقى على فراشه وقال: «إن المدبر الذي يدبر الجسم قد عجز عن تدبيره.» وأوصى أفلاطون أن يكتب على قبره هذه الكلمات: «أيتها الأرض، إن كنت مخفية جسد أفلاطون، فإنك لا تستطيعين الدنو من نفسه التي لا تموت.»
فأي التصورات قامت في ذهنيهما وهما على باب الأبد السحيق؟ أيدل ظاهر هذه الكلمات على حقيقة ما قام في وجدانهما؟ لا أظن ذلك؛ بل أتخيل أن ما قام لديهما من التصورات مختلف تمام الاختلاف عما يدل عليه ظاهر هذه الكلمات، فإن شهوة التأليف مثلا قد تقوم في ذهن عدد عديد من الناس، ولكن منهم من يطلب المال، ومنهم من يسعى وراء الشهرة، وقليل منهم من يبغي نفع الناس، فالدافع واحد، ولكن التصورات التي تختفي وراء الدوافع النفسية مختلفة، وفي تضاعيف هذه التصورات تكمن حقيقة الشخصيات.
كلمات لطاغور الشاعر الإلهي «هل الشفقة شيء خصت به الذوات الفانية الضعيفة وحدها، ولم تخص به الآلهة؟ إن الغوث يجب أن يبذله الإنسان إذا ضنت به السماء.» «لا يمكن أن تمتع الخطيئة بعمر مديد كهذا، هل يمكن أن تكون تلك المراسم التعبدية التي نشأت وأرباها تطاول الزمان حتى أعتقت تحت أقدام الآلهة من الخطيئات.» «لقد بدأ الليل يرخي ظلامه، وتشتد حلكته، إنه يتربع على هام الوجود، إنه امرأة مهجورة، أما هذه النجوم، فدموعها استحالت نارا.» «كم هي صغيرة هذه الأرض، وكم هي محصورة الجوانب، حيث تقوم الآفاق الدائمة من حولها ، ترمقها وتتبعها أينما سارت . إن الأشجار والمنازل ومجموع الأشياء القائمة من حولي تغشي على باصرتي، والضوء كقفص يحول بيني وبين ظلام اللانهاية، والساعات تصيح داخل حدودها كأطيار مأسورة، ولكن، لأي شيء يتدفق هذا الجمع في هذه الجلبة، ولأي غرض؟ إنهم ليلوحون لي كأنهم في خوف مستمر من فقدان شيء لن تناله أيديهم.»
فازانتي (للناسك) : «لست أفهم ما تقوله يا أبتاه، خبرني، ألا يوجد في هذه الدنيا الفسيحة من حمى.»
الناسك : «حمى؟ ألا تعرفين أن هذه الدنيا عبارة عن هوة لا قرار لها؟ فجموع هذه الخلائق إنما تخرج من ثقب العدم باحثة عن حمى يحميها، ومن ثم تدخل ثانية في فوهة الفراغ اللامتناهي، وهنالك تفقد آثارها، ها هي أشباح الكذب والرياء تتخايل من حولنا، رواحا وجيئة في سوق الأوهام والخيالات، ولا تبيعنا من غذاء، اللهم إلا عدما باطلا، إنها إنما تحرك فينا نهمة الجوع ثم لا تكفينا، ابتعدي من ثم يا بنيتي ابتعدي.»
فازانتي (للناسك) : «ولكن يلوح لي أنهم سعداء جد السعادة في هذه الدنيا يا أبتاه، ألا نستطيع أن نلحظهم من جانب الطريق.»
الناسك : «وا أسفاه! إنهم لا يفقهون شيئا، إنهم لا يرون أن هذه الدنيا موت ممتد إلى اللانهاية، إنها تموت كل برهة، ومع ذلك فإنها لا تصل إلى غاية، ونحن مخلوقات هذه الدنيا إنما نعيش ونتغذى على الموت.»
السائح (للناسك) : «هل أجد من حمى بجانب هذا المكان؟»
الناسك : «ليس من حمى في أي مكان يا بني، اللهم إلا في قرارة نفسك، فابحث عن هذا وتشبث به إن أردت النجاة.
هل تظنون أنكم بحكم الكثرة وقوتها الغاشمة تحتكمون في الحقيقة، وأنكم سوف تغرقون العقل وقوة البرهان في جوف تلك الهزات الأثيرية، التي تنبعث مع صياحكم المتعالي؟!
إني لا أسلم مطلقا بأن الحق يكون دائما في جانب أشد الأصوات خشونة، وإني لأخجل من أن أعتنق معتقدا لا يقوم على غير القوة ولا بقاء له بغيرها.
الدين واحد في جوهره، ولكنه يختلف في كثرة صوره، فالماء واحد ولكن باختلاف الشواطئ التي يغشاها، يكون الحق فيه لأمم مختلفة، أما إذا كان في صميم قلبك نبع يروي ظمأك، ويطفئ عطشك، فلا تلومن جيرانك الذين هم مقسورون على أن يستسقوا بجرعات من الماء، يأخذونها من بركهم القديمة التي غشاها من قبل أسلافهم، مع ما يحيط بها من المروج المخضوضرة الخصيبة التي غذاها الزمان، وأشجارها التي تحمل أثمارها الأبدية.
الحقيقة والحب هما روح الدين وجثمانه، أليس على هذا تنطوي كل المعتقدات وفيه تنحصر ماهيتها؟
لقد أسفر القمر، هذه الآونة، من بين السحب، وروح السلام يرف على صفحة الماء، كأنه يحتضن الدنيا بين ذراعيه، تحت ضوء القمر العظيم، من هنا تذهب الطريق وتمتد إلى حيث تفقد آثارها بين الأشجار الشيقة بظلالها الصامتة، وهنا تقوم البيوت، وهنالك في النهاية يقوم المعبد، وشاطئ النهر يلوح عن بعد صامتا موحشا، فالظاهر أني هبطت كهاطل ينقض فجأة من سحب كلها أحلام إلى عالم الإنسانية، فكنت على جانب الطريق.
وا أسفا يا صديق! إنها لأسوأ اللحظات تلك التي يخدع الإنسان فيها قلبه، فإن الشهوة العمياء تصبح كتاب صلواته، وتتربع الأوهام على عرش آلهته. أمن وراء هذا القمر، الذي يستلقي نائما بين السحب السارية انسيابا يكون عالم الحقيقة الخالدة؟ الصبح السافر سوف يغشانا في الغداة، وستبدأ الجماهير الجائعة تجوب أنحاء بحر الوجود بآلاف من الشباك، وسوف لا يتذكرون هذا الليل الهادئ بأضوائه القمرية، إلا كما يتذكرون غشاء رقيقا من الباطل تنسجه سنات النوم أو الأشباح، أو الأوهام، إن تلك الشبكة السحرية التي تنسج عادة من مفاتن خادعة تختص بها امرأة، لهذا مثلها، وهل يمكن أن تشغل محل الحقيقة العظمى؟ هل لعقيدة يخلقها وهمك أن تطفئ عطش الهاجرة إذ تتلظى نيرانها وتشتد حرارتها.
في أيام المحن تنحل أقدس الروابط، فالأخ يحطم أخاه، والصديق يخون الصديق. سأخرج في الظلام، وفي ظلام الليل سوف أعود لأقرع الباب، فهل سأجد صديقي واقفا يلحظني وفي يده مصباح مضيء؟ سأحمل هذا الأمل بين جوانحي.»
ماليني : «إني أحلم بينما أنا مستيقظة، بأن الرياح كواسر، وأن المياه مضطربة دوافق، الليل مشتد الحلك، والسفين قد أوثقت إلى جدران المرفأ، أين الربان الذي سوف يهدي الضالين التائهين إلى مآويهم؟ إني أشعر بأني أعرف الطريق، وأن السفين سوف يهتز بالحياة حين ألمسه، ويسرع الخطو إلى الأمام.
إن دم المخلوقات ليس وقفا على الآلهة، وإنه من حق الملك، كما أنه من حق أحقر فلاح، أن يحافظ على الحق، وأن يدفع عن الاستقامة ما يهوش سبيلها.
ألست تدري أن ثرى هذه الأرض إنما يتكون من عدد غير محدود من وقائع القتل والتفظيع؟ إن الزمن القديم ما ينفك يخط حوادث الحياة المنحدرة في جوف العدم مع مخلوقاتها بمداد من دم. يقع القتل أينما تتصور، في القفر المجدب وفي حظائر الإنسانية، وفي عشوش الطير، وفي حفر الحشرات، وفي البحر، وفي السماء، وهنالك قتل من أجل الحياة، وقتل من أجل التسلية، وقتل للاشيء أصلا. إن الدنيا تقتل من غير أن تهدأ نوبتها.
إن شرائع القلب ليست بذاتها شرائع الكتب المقدسة.»
جاسنج : «الطريق ممهود أمامي، سأسلكه وبيدي جرة الصدقات ومعي البنت المستجدية أتخذها رفيقة، من ذا الذي يقول بأن طرق هذه الدنيا ملتوية متعسرة على أية حال. سوف نبلغ بها النهاية، النهاية التي تنتهي معها خطيئات الحياة وآلامها، حيث الراحة الأبدية، ماذا تجدي عنا الكتب المقدسة والمعلمون وتعاليمهم؟!
لا تحدثني عن الحب، فلأفكر دائما في الواجب. إنما الحب كالحشيش الأخضر وكالأشجار وكموسيقى الحياة، كلها أشياء ينعم بها سطح الأرض. إنها تأتي وتفنى كالأحلام، ولكن من وراء هذه الأشياء يكون الواجب، كطبقات الصخور العاتية، أو كحمل ثقيل لا يمكن أن تزحزحه القوات.
إن الضعفاء في هذه الدنيا قليلو الحيلة، أما الأقوياء فقساة غلاظ الأكباد. إن الطمع بلا شفقة، والجهل أعمى، والكبرياء لا تبالي عندما تحطم الأضعفين تحت أقدامها.»
وبعد، فهل هذه فلسفة أم حكمة؟ أم مزيج من كليهما؟ كلا، إن هذا لوحيا، وأي شيء يكون الوحي إن لم يكن هذا؟
الشعراء والناثرون
أصدر الصديق هيكل بك حكمه بأن النثر في تقدم والشعر في جمود، وعلل الأستاذ طه حسين هذه الظاهرة بأن الناثرين يقرءون ويحاولون الفهم والتثبت مما يقع بين أيديهم من أدب وعلم وحكمة، في حين أن الشعراء لا يقرءون ولا يحاولون أن يفهموا إذا قرءوا، ولا أظن أن هذا التعليل كاف وحده، بل أعتقد بأن كل من لم يستطع أن يفكر قد أصبح في مصر شاعرا، على أن الخيال إذا لم يتقيد بالفكر، أصبح وهما باطلا، وشعراؤنا في خيالهم لا يخرجون عن هذا.
على أن هنالك فئة من الشعراء لم يفت الأستاذ طه حسين أن يذكر أنها تقرأ وتفكر، بل قل بأنها تحاول أن تغير من أساليب الشعر وقوالبه العتيقة، ولكن أولى بهذه الفئة ألا تفكر ليصفها الناس بالشاعرية، إذا أراد أفرادها أن يندمجوا في زمرة الشعراء.
السببية والغائية في الفلسفة
هل من فارق حقيقي بين السببية والغائية؟ وهل الغائية قانون عقلي لا غير، أم أنها سنة من سنن الطبيعة؟
قال أحد الفلاسفة المحدثين: «إن كل ما يحدث في هذا الوجود لا بد من أن يكون له مصدر يصدر عنه ومرمى يذهب إليه.» على أن هذه النظرية لا يمكن أن تحيطها ريبة أو شك، ما دامت بعيدة عن الاحتكاك بفكرة الغائية، فإذا احتكت بفكرة القصد والغاية في الطبيعة، أحاطتها الشكوك وتغلغلت فيها الريب الممضة، فإننا نقطع مثلا بأن كل حركة يجب أن تتجه في اتجاه ما، ولكن هل المرمى الذي ترمي إليه هذه الحركة هو بذاته نتيجة لا غير، أم أنه غرض وغاية؟! هذا هو السؤال. هل الأجسام في حركتها مقصورة على الحركة بفعل غائي، أم أنها مجذوبة بغيرها اعتباطا؟ وإذا سلمنا بأنها مقصورة، فهل ذلك يكون بفعل جسم آخر، أم بحكم إرادة ترمي إلى قصد وغاية؟
وقال آخر: «نرى أنه من الضروري أن الفعل الموجد يتضمن مع فكرة السبب الدافع على الابتداء في الحركة، فكرة الغاية التي تتجه نحوها.» وهذه أيضا نظرية لا يمكن نقضها، ولكن مع هذا يمكن أن ينظر فيها من عدة نواح مختلفة. فقد نتساءل: هل تحديد الاتجاه الذي تتجه فيه الحركة أمر يشمله السبب كنتيجة أو كفرض؟ وهل هو تطبيق منطقي أم إنه نتيجة إرادة حددت من قبل كل شيء؟ وكما تستطيع أن تقول بأن الاتجاه ينزع دائما نحو غرض ما، كذلك تستطيع أن تسأل كيف يكون هذا؟
لدينا ثلاثة أقوال، يقول أرسطوطاليس: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» ويقول جوفروي: «لكل موجود غاية.» ويقول دافيسون: «كل حركة تذهب في متجه ما.» غير أن هذه الأقوال ليست بأكثر من حقائق استقرائية، وإن شئت فقل بأنها تعميمات تؤيدها التجربة، ويصدق عليها الاختبار، على أننا إذا بحثنا بعض نواحي الطبيعة ورأينا مشاهدات تدلنا على وجود علاقات وأواصر متينة، تربط بين الوسائط والغايات، أو خيل إلينا على الأقل أن الواقع يلائم هذا الظاهر، فإننا نمضي نطبق هذه القاعدة من طريق التوسع على حقائق أقل التئاما، ومن ثم نطبقها على كل ما في الطبيعة من حقائق، خصوصا لما في منازعنا من حب التعميم.
وعلى هذا وضع أرسطوطاليس قاعدته: «لا تبدع الطبيعة من شيء عبثا.» والسبب في هذا أن أرسطوطاليس قد أكب على درس التاريخ الطبيعي، فوقع من طريق درسه، على حقائق عديدة كان للطبيعة في كل منها قصد وغاية، فأخذ يطبق هذه الحالة على كل ما في الطبيعة، ووضع قاعدته التعميمية اعتمادا على براهين استمدها من ناحية واحدة من نواحي الطبيعة.
لهذا نستطيع أن نقول بأن الغائية ليست في اعتبارنا مبدأ أوليا، بل إنها قانون طبيعي، يثبت وجوده الاختبار والاستقراء. نقول بهذا مجاراة للعلماء؛ إذ يسلمون بوجود نواميس عامة، وهي لدى الحقيقة ليست إلا مجرد ميول لأنها كثيرا ما تتخللها الشواذ والمستثنيات، مثل: قانون الاقتصاد الطبيعي، وقانون اقتسام العمل، وقانون الاتصال، وقانون التبادل النسبي في النماء العضوي. بهذا يتضح أن هنالك قانونا غائيا يلوح كأنه يتضمن كل ما يسبقه من القوانين، أو بالأحرى ميل إلى الغائية، وهو ميل يظهر جليا في تراكيب العضويات، ونواحي تكوينها، وقد نقول بأن هذا القانون يمكن أن يستدل على وجوده في عالم الحياة، إذا قسنا بين ما فيها من نظام وحكمة وبين غيرها مما يعتوره النقص والانشعاب في ناحية أخرى من نواحي الطبيعة.
غير أن العلماء كثيرا ما أظهروا نفرتهم من القول أو التسليم بالأسباب الغائية، فما هو السبب في هذا؟ السبب في هذا أن فكرة السبب الغائي قد اتخذت طوال أزمان مديدة على أنها مبدأ ضروري مسلم به تسليما إيمانيا، وبذلك شعر العلماء بثقل وطأته على العلم، حيث كان لها من التأثير فيه بمثل ما كان للسببية العلمية الصرفة، فكان إذا نظر العالم في حقيقة أي شيء، شعر بأنه مقصور على أن يعرف سبب ذلك الشيء، كما يعرف الغرض منه والغاية التي يرمي إليها، وما دام أنه ملزم بأن يعرف الغايات كان لزاما عليه أن يطرح، ولو إلى حين، البحث وراء الأسباب، وهذا ضرب من الاستبداد الفكري، لا يخضع له رجل العلم لأنه لدى الواقع يفقده حرية البحث. ولكن إذا أخذنا الغائية، لا على أنها قانون أولي من قوانين العقل، بل على أنها مجرد نزعة من منازع الطبيعة، فلست أجد مانعا يحول بين رجال العلم وبين النظر في حقيقة هذه النزعة، ما داموا يسلمون بأن في منازع الطبيعة التي يعكفون على درسها ما هو أعضل منها وأبعد عن متناول الفهم.
العلم والسياسة
كانت سياسة الأمم في الأعصر القديمة من الهنات التي لا تتطلب من الصفات أكثر من عبوسة في الوجه، وصلابة في الإرادة، وقسوة في القلب، أما اليوم فقد انقلبت الآية.
لما عرفت الشعوب حقوقها المدنية، وتغيرت قواعد الحكم في هذه الدنيا، وأصبحت الشعوب مصدر السلطات، وقضي على سلطة المستبدين بأمرهم، وتقررت مبادئ الحرية السياسية والفكرية؛ قضى هذا التطور الكبير على تسلط الصفات القديمة التي كان يجب أن يمتاز بها السياسيون. أما اليوم، فالسلطة لأشد السياسيين ليونة وأكثرهم أخذا بالواقع المحسوس، وأشدهم سيرا مع ما تتجه فيه الجماهير.
وأما في الغد، فإن العلم سوف يتسلط على العالم كله، وحتى على السياسة، ولست أدري كيف أن سياسيا أو زعيما يجهل مبادئ علم البيولوجيا والاجتماع، يكون في مستطاعه الحكم على حقائق الأشياء أو على ظواهرها حكما بعيدا عن مواقع الزلل.
معنى الحرية
جاهد الناس في سبيل الحرية، والحقيقة أن جهادهم واستماتتهم في سبيلها لم يكن عن اقتناع بأنها مفيدة أو أنها ضرورية أو أنها ستبلغ بهم - إذا ما استحوذوا عليها - إلى أقصى قمة من المجد أو السعادة في الحياة، لم تكن استماتة الناس في القتال من أجل الحرية لشيء من هذا، بل كان قتالهم في سبيلها آتيا عن طريق الوهم والتخيل، أكثر من أي شيء آخر.
خيل إلى الناس أن الحرية هي الإباحة، وتحت هذا العنوان عملوا، وانقيادا لهذه الأخيلة، قاتلوا واستماتوا في سبيل الحرية. لم يدرك معنى الحرية إلا نفر قليل عديدهم من زعماء الشعوب، بل أدركوا الحرية محدودة بحدود ضيقة، مقيدة بقيود ثقيلة. ولعمري كيف يمكن أن تقاتل الجماهير في سبيل الحرية إذا هم أدركوها على ما أدركها «ميل» أو «بنتام» أو غيرهما من رجالات الأمم؟
خيل إلى الناس في عصر من العصور، أن الحرية هي إطلاق الشهوات والانفعالات وكل النزعات والصفات الإنسانية التي هي أدنى إلى أفق الحيوان من بقية الصفات؛ لهذا قاتلوا واستماتوا في سبيلها؛ لأنها كانت إليهم محببة مرغوبا فيها، على هذا التصور الغريب.
أما اليوم، فإن العلامة جوليان هكسلي، وهو من أكبر الباحثين في التناسليات، يقول على ملأ من العالم: «متى يقلع الناس عن خرافة الاستمساك بما يسمونه الحرية الشخصية؟» وما من فرد واحد يرفع في وجهه عقيرة أو يجابهه بقول. أليس في هذه الظاهرة دليل واضح على أن الإنسانية ارتقت أدبيا من طريق الوهم أكثر من ارتقائها من طريق الحقائق الواقعة؟ أوليس في هذا دليل على أن المستحيلات الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة، كانت على استحالتها دافعا للإنسانية على التقدم والارتقاء؟
قد يتساءل البعض: كيف أن الحرية والإخاء والمساواة مستحيلات ثلاثة دفعت الإنسانية على التقدم والارتقاء، وكيف يمكن أن يكون المستحيل عاملا مؤثرا في الحياة الاجتماعية يبعث الناس على الضرب في سبيل التقدم.
أما السؤال الأول فجوابه بين سهل: لأن الحرية تنافي المساواة، بدليل أن ليس من شيء هو أقتل للحرية من العمل على التسوية بين غير المساويين. والناس لا يتساوون، اللهم إلا في المجاز، وهو ولله الحمد ليس بذي أثر في الحياة العملية. كذلك تتنافى فكرة الإخاء مع الحرية؛ لأن الحرية تعطي لكل فرد الحق في أن ينافس غيره وأن يجاهده الحياة ويناحره فيها من أجل البقاء، فإذا منعت على الناس حق المنافسة والتناحر، جردتهم من أول ما تتطلب الحرية من صفات.
أما كيف تؤثر هذه المستحيلات في الجماعات بما يبعثها على الرقي، فسبيل سهل؛ لأن الناس لم يفهموا هذه المستحيلات على حقيقتها، بل بموحياتها النفسية لا غير، فهموها على مقتضى ما أوحت إليهم نفسياتهم من مدلولات؛ لهذا سعوا إليها، وعملوا تحت رايتها، فبلغوا شأوا من الرقي مهما قيل فيه، فإنه شأو لا يغبطون عليه.
مدنية العقل ومدنية الروح
المدنية الحديثة مدنية العقل، لا مدنية الروح، والظاهر أن مدنية الروح قد قضي عليها، ولكن إلى وقت موقوت وأجل مسمى.
سيشعر الإنسان عما قريب أن ارتقاءه المادي ليس وحده السبيل إلى السعادة، بل سوف يشعر أن الماديات لا تسلم إلى السعادة. ومن الجائز أن يرجع إلى الروحانيات يستدر وحيها، ولكن بطريقة مخالفة تماما للطريقة التي اتبعها حكماء الهند بين غياضها القديمة، وزهاد مصر في صحرائها الشاسعة.
حول وظيفة الدين
جمعني مجلس يوما فيه ملحد ومتدين، أو بلغة الفلسفة مؤمن وشكي. ودار بينهما الحديث على الدين ووظيفته في هذه الحياة، فكان من رأي المؤمن أن الدين إنما شرع لهداية الناس أفرادا وجماعات. أما الشكي فقد قال له: إذا سلمنا بهذا لزمنا أحد فرضين: فإذا قلنا بأن الدين قد هدى الناس إلى السبيل السوي، إذن لم يصبح له من وظيفة يؤديها؛ لأنه يكون قد أدى وظيفته بالفعل، وإذا قلنا بأن الناس لم يهتدوا رغم الأديان، كان هذا دليلا على إفلاس الأديان عن هداية العالم.
وهكذا دواليك على مر الأزمان.
في الوطنية
وما قولك في الوطنية: أرجع بك إلى كتاب حياة صموئيل جونسون، تأليف بوزويل، ففي الصفحة 115 من طبعة مكملان سنة 1922، مجلد ثان، تقع على هذه المحاورة:
جونسون : «إن الوطنية هي آخر ملجأ يلجأ إليه المنافقون.»
وهنا يعلق بوزويل على قول جونسون بقوله: «غير أنك لا تنس أنه لم يقصد بها حب الإنسان لوطنه، حبا صحيحا صادقا، بل قصد تلك الوطنية التي اتخذها الكثيرون في مختلف الأمم والعصور كساء يلتحفون به قضاء لأغراضهم، وحاجاتهم الشخصية.» أما أنا فقد استمسكت بفكرة أن كل الوطنيين لم يكونوا منافقين ولا خونة، ولما اضطررت إلى ذكر رجل من الوطنيين الذين نحبهم ونمجدهم (وهو بلا شك بيرك معاصرهم)، أجاب جونسون بما يأتي: «سيدي، إني لم أقل بأنه غير أمين، إنه ليس لدينا من حق في أن نستنتج من أخلاقه السياسية أنه كان أمينا حقا، فإنه إذا قبل مركزا في الوزارة الحالية، فإنه بذلك يفقد تلك الصفة التي اشتهر بها؛ صفة الصلابة في الحق وضبط النفس، وربما فقد مركزه فيها في خلال سنة واحدة؛ فإن هذه الوزارة ليست ثابتة، كما أنها ليست متفانية في الدفاع عن أصدقائها، كما كان سير روبر والبول من قبل، وعلى هذا يترتب أن يعتقد أن انضمامه للوزارة الآتية أبقى على فائدته من انضمامه إلى الوزارة الحالية.»
وهكذا تكون الوطنية حتى في إنجلترا سيدة العالم، وفي عصر صموئيل جونسون وبوزويل وأدموند بيرك.
الوصول إلى الحقيقة
لما بدأ ديكارت يفكر في الفلسفة وفي العالم، وداخله الشك في التقاليد القديمة، لم يستطع أن يترك نفسه وعقله نهبا للشك وحده، بل وضع لنفسه قواعد أدبية سماها «أحكاما وقتية لضبط النفس»، اتبع محوياتها طوال أعوام تفكيره التي أنفقها سعيا وراء الحصول على الحقيقة، بل إنه جعل الوصول إلى الحقيقة مشروطا على اتباع هذه الأحكام الاختيارية، وحصر هذه الأحكام في أربعة أشياء:
الأول:
أن يخضع المفكر لقوانينه وشرائع دينه التي ولد وربي تحت ظلالها.
الثاني:
أن يعمل ما سنحت الفرص التي تدعوه إلى العمل، ومن غير تلكؤ، وعلى مقتضى ما تصل إليه قوة أحكامه العقلية، وأن يسكن إلى النتيجة راضيا من غير تذمر أو ضجر.
الثالث:
أن يسعى وراء السعادة بأن يعمل على الإقلال من رغباته وشهواته أكثر مما يعمل على تلبية ندائها وسد مطالبها.
الرابع:
أن يكون البحث وراء الحقيقة غرضه في الحياة.
وكثيرا ما شك منا المفكرون، وكثيرا ما عمد المؤلفون إلى اتباع خطى ديكارت، ولكنهم ظلموه ظلما كبيرا، فهل منهم من اتبع هذه القواعد خلال شكه قبل أن يصل إلى الحقيقة؟ ومن الذي وصل إلى الحقيقة منهم؟ بل من ذا الذي يدعي أنه عرف شيئا من أطراف الحق، ليكون سلمه إلى الحقيقة.
حقا لقد ظلم ديكارت، وفي سبيل الحق ما حاق به من ظلم حيا وميتا.
الحظ والعبقرية
من الأشياء التي لا أومن بها حكم المصادفة في تسيير أعمال النوع الإنساني، والمصادفة يدعوها الناس حظا، فهل يمكن أن يكون للحظ كما يفهمه الناس أثر في تحديد الحالات التي تقع في الحياة، ويكون لها أثر في إسعاد الجماعات والأفراد، أو في بؤسهم وشقائهم؟ من الجائز أن يكون لاتفاق وظروف الحياة وتوافق الأعمال الإنسانية أثر في خلق ظروف تجعلنا ننظر في بعض الأحيان إلى الحياة نظرة القانع بأن ظروفها مجموعة من المصادفات التي ليس لنا من قدرة على الاحتكام فيها، أو تصريف وجوهها. غير أن في الحياة أشياء أخرى غير هذه من الممكن أن ننظر فيها هذه النظرة ذاتها، وهي مع ذلك ليست نتاجا لمجموعة من الظروف التي تخلفها الأعمال الإنسانية، بل تلوح لنا في صورة تجعلنا نوقن بأن لنظام الطبيعة الأبدي ضلعا كبيرا في إحداثها.
أحاطت مثل هذه الظروف بالعديد الأورفي من أبناء آدم، منذ أن أشع في العقل الإنساني أول شعاع من أشعة الفكر الخالد، غير أن الحظ لم يخدم إلا بضعة أفراد من أبناء آدم، ليكونوا أول من يجني ثمار الحظ الذي انطوت عليه أسرار الطبيعة الأبدية. ولا حاجة بنا لأن نذكر أسماء يغيب عن أذهان القراء ذواتها، بل نعمد إلى أكبر من أبرزت البشرية من أصحاب العقول الفذة، فلديك أولا أرسطوطاليس، فإن وضعه لعلم المنطق فيه من الحظ بقدر ما فيه من النبوغ والمهارة؛ لأنه لا يتكرر في التاريخ مطلقا أن يجد شخص غير أرسطوطاليس عقلا إنسانيا يحتاج إلى قانون يحكمه. وكذلك غاليليو، لأنه لا يتكرر على الإطلاق أن يجد غيره نظاما فلكيا معكوسا فيقومه. ثم نيوتن، فإنه لا يتكرر في التاريخ أن يجد شخصا غيره سيارات تدور حول الشمس محتاجة إلى تعليل يعلل دورتها. ثم داروين؛ لأنه لا يتكرر أن يجد شخص غيره أنواعا حية يحتاج العقل إلى معرفة كيفية نشوئها.
أما أمثال هؤلاء فقلائل في التاريخ البشري، وهم لا شك أكبر الناس حظا، كما أنهم أكثرهم عبقرية ونبوغا.
قيام المدنيات وسقوطها
للأستاذ الكبير مستر «فلندرز بتري» المؤرخ الإنجليزي المعروف، نظرية في قيام المدنيات وسقوطها، أطلق عليها اسم «نظرية الدورات المدنية». والحقيقة أن الناظر في قيام المدنيات وسقوطها على مر العصور القديمة يلحظ دائما أن المدنية كانت ذات دورات كاملة، وأنها كانت متنقلة غير مستقرة، فمن مصر إلى روما إلى الكلدان إلى آشور إلى الهند إلى اليونان إلى الصين. وكانت كل مدنية من هذه المدنيات، تدور دورتها الكاملة ثم تسقط سقوطا فجائيا لا تستطيع أن تتلمس له من سبب أو تقع له على مصدر يقنع به العقل أو يرضى به المنطق.
ومن غريب الأمر أن سقوط المدنية في تلك الأزمان كان يعقبه إحدى حالتين، فإما أن يبيد الشعب الذي تسقط مدنيته وتضمحل، وإما أن يصيبه الجمود الشديد، فتتحجر ملكاته ومواهبه، ويظل واقفا حيث هو، فلا يتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا يفيد الإنسانية بفائدة ما ماديا أو أدبيا. ومثال الحالة الأولى الشعب اليوناني والشعب الفينيقي القديم، فكلاهما باد تماما ولم يتركا من خلف يرث عنهما ميراثهما العظيم، الذي اقتسمته عنهما الإنسانية. ومثال الحالة الثانية الشعب الهندي والشعب الصيني، وهما شعبان يمثلان حقيقة أن من السلالات البشرية فئة تفقد مواهبها، إذا اضمحلت مدنياتها، وتتحجر مواهبها لأسباب غير معروفة، وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل يكون نصيب المدنية الحديثة كنصيب المدنيات التي تقدمتها على مر العصور، أم إن الأسباب التي كانت تفسد المدنيات قد فنت مع تقدم العلوم والمعارف واتساع مناطق الاستكشاف في كل فروع المرافق الإنسانية.
الحقيقة أن المنطق لا يحبونا إلا بأضعف أنواع القياس، يزودنا بما يدعوه المناطقة قياس التمثيل، ومحصله تطبيق الحالات السابقة على حالات واقعة، وهو أضعف أنواع القياس المنطقي، على أنه يوهمنا على أية حال بأن نصيب المدنية الحديثة سيكون كنصيب غيرها من المدنيات القديمة.
ولقد مثل الأستاذ «مكدوغل» الإنجليزي لدورات المدنية بخط منحن يأخذ في الارتفاع من نقطة ليبلغ إلى أقصى القمة التي يمكن أن تبلغ إليها المدنية، وهنالك يشتد انحناؤه، فإذا بلغ الانحناء أشده، انحط مرة أخرى انحطاطا فجائيا يمثل سقوط المدنيات.
وأغلب ظني أن تمثيل الأستاذ «مكدوغل» غير صحيح؛ فإن «دورات المدنية» يصح لدى الواقع أن يمثل لها بخطوط منحنية تتسلقها الشعوب شعبا بعد آخر خلال الأزمان، غير أنه لا يصح مطلقا أن يمثل لسقوط المدنيات بخطوط شديدة الانحدار تبلغ من انحدارها حدا يصل إلى حيث بدأ خط الدورة في الارتفاع؛ لأن هذا إنما يدل على أن المدنيات كانت تبيد تماما ولا تخلف وراءها من أثر ترثه عنها المدنيات التي تتلقح بها وتأخذ عنها. والمعروف أن كل مدنية حديثة إنما هي مجموعة صور تستخلص من مدنيات قديمة بحيث تحدث ألفة جديدة. إذن فدورات المدنية يمكن أن يمثل لها بخطوط منحنية تأخذ في الارتفاع رويدا رويدا لتبلغ إلى قمة الدورة، غير أنها لا تسقط فجأة بل تبقى حيث تصل ليبدأ خط منحن آخر في الارتفاع من نهاية القمة التي بلغ إليها الخط الأول، فالدورات المدنية على هذا عبارة عن خطوط ارتقائية يعلو أحدها الآخر إلى ما لا نهاية.
والدليل على هذا أن التاريخ لا يثبت مطلقا أن شعبا تسلق خط المدنية مرة ثم رجع إلى حالة من الهمجية، كانت هي بعينها الحالة التي بدأ من عندها تسلق خط الدورة، التي مثلت مدنيته. والحقيقة أن السلالات عندما تبلغ حدا من المدنية، تتحجر مواهبها وصفاتها، فيتعذر عليها التقدم وتقف عن السير إلى الأمام. وهنا تبرز سلالة أخرى، تأخذ بيد المدنية الإنسانية إلى قمة أعلى من القمة التي بلغت إليها الأولى، وعلى هذا لا يكون من تقهقر مدني، بل استحجار وجمود، ينتاب سلالة من السلالات، فيلوح لنا كأنه انحدار وفساد.
ولا شبهة مطلقا في أن هذه القاعدة سوف تسري على المدنيات الحديثة، غير أنها ستكون أقل ظهورا؛ لأن حركة التسلق كانت في الأزمان القديمة سريعة، ولأن ميراث المدنية لم يثقل كاهل الشعوب بما يثقله به ميراثها الحديث، وكذلك كانت نسبة السرعة في الاستحجار والوقوف. أما في عصرنا هذا فسيكون التسلق بطيئا، وكذلك ستكون نسبة السرعة في الاستحجار؛ ولهذا ستلوح خطوط الدورات المدنية أقل انحناء ولكن أعلى قمما، وكذلك سيكون تعاون الأمم على حمل بعضها البعض في مدرج الارتقاء أكبر آصرة؛ لأنه من المستحيل عندي أن تستطيع سلالة بمفردها أن تتسلق خط الدورة المدنية وحدها في الزمن الحاضر. ومما هو أشد استحالة عندي هو أن تستمر سلالة وحدها في التقدم على بقية السلالات في التسلق إلى القمة من غير أن يحل بها النصب وينتابها الكلال.
حول علم الأخلاق والعلوم الأخرى
يقول بارتلمي سانتهيلير في مقدمته لكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس ما يلي: «فليس على علم الأخلاق إذن إلا أن يستمر في عمله واثقا من أنه سوف يجني ثماره حتى في أشد البقاع محلا، بشرط أن يستكشف الحق أو يزيد في قدره.» ونحن نتساءل: هل يمكن لعلم الأخلاق أن يستكشف الحق؟ بل هل يمكن لفرع من فروع المعرفة الإنسانية أن يطمع في استكشاف الحق. إن في ذلك لتقييدا للنظرية الأخلاقية، يخرجها من الحيز العملي إلى حيز الغيبيات، وإذا لم نستكشف الحق فكيف نستطيع أن نزيد من قدره في جهة ما من جهات المعرفة الإنسانية، لا جرم أن هذا يكون غير مستطاع؛ لأن العلم بازدياد قدر شيء من الأشياء يستلزم أولا معرفة طبيعة الشيء في ذاته.
ثم نقتطع من تلك المقدمة عبارات أخرى فيها ما يدعو إلى إنعام النظر والتأمل، فهو يقول مثلا: «لا شك في أنه لا يلزم البتة الحط من صحة العلوم الطبيعية، ولا من صحة العلوم الرياضية، على الأخص، ولكنها لا تزال بعيدة عن صحة علم الأخلاق، فإن القضايا التي تعلمنا إياها هذه العلوم، والحقائق التي تكشفها لنا، هي إما منازع فيها وإما يقتضي تفهمها ملكات ليست لجميع العقول، فأما أولاها (العلوم الطبيعية) فإنها خارجة عن الإنسان، فتقتضي مشاهدات خارجية صعبة ومحوطة بالشكوك غالبا، بل مستحيلة أحيانا، والأخرى (العلوم الرياضية) إنما هي سلاسل طويلات من الاستدلالات، لا يكاد يكون التمشي معها ميسورا.»
وهنا نسائله: أليس هذا هو الحال بعينه في علم الأخلاق؟ ثم يقول: «وأما في علم الأخلاق فالأمر على ضد ذلك، كل منا يحمل في نفسه جميع ما يشتغل به هذا العلم من الموضوعات التي - لأنها كلها حقيقية - لا تنفك ماثلة تحت أعيننا، فليس علينا أن نخرج عن أنفسنا لنتعرفها، بل حسبنا أن نسأل أنفسنا بانتباه وإخلاص، لنظفر بأجوبة لا يتطرق إليها الخطأ، وما هذه الأجوبة من قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة إلا كأجوبة الوحي حقيقة بالتصديق لأنها لا تخدع البتة. ومع التسليم بأن هذه الأجوبة كان يمكن أن تختلف في العصور القليلة الرقي، وأنها لا تزال يختلف بعضها عن بعض، عند الشعوب القليلة المواهب، فإنها عندنا الآن أجوبة متماثلة ثابتة.
لندع جانبا تلك الخلافات، التي لم تكن فاسدة بالمرة، فهي على الأقل غير ثابتة، ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن لما أن سلوك الناس الأخيار، هو في الواقع واحد، أيلزم حتما أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه؟ ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه، مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس، وبين أن هذا الإقرار العام سببه، أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع وتقع على مقتضاها، من حيث لا يشعر الفاعل في غالب الأحيان.»
وهنا نسائله: ألا يحتاج البحث وراء تلك الموضوعات التي يشتغل بها علم الأخلاق، وهي كائنة في تضاعيف النفس الإنسانية، إلى ملكات ومشاعر ومؤهلات تجعل فهم هذه الأشياء على حقيقتها غير ميسور إلا لفئة قليلة من الطبقة المنتقاة من الناس، شأن العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: هل وجود «قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة» كاف وحده لأن يكون ميزانا لقياس نظريات علم الأخلاق، ومعرفة أصولها؟ وما هو القلب الشريف العدل؟ وهل يمكننا قبل أن نحدد هذه المعقولات أن نقول إن علم الأخلاق أثبت أركانا من العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: إذا كان من الممكن أن تختلف أجوبة القلب «الشريف العدل» باختلاف الشعوب وباختلاف الأزمان، أفلا يكون من الألزم لمن يقول هذا القول بأن يعتقد بأن قواعد علم الأخلاق نسبية غير مطلقة؟ وعلى الأخص إذا تذكرنا أنه إنما يتخذ أجوبة أهل المدنية الحاضرة مقياسا لأقصى ما يصل إليه علم الأخلاق من رقي في المعقول والتطبيق، وماذا تكون قيمة قواعده هذه عند شعوب أرقى نفوسا وأكرم طبيعة من شعوب المدنية الحديثة؟
إن الإنسانية لا تزال كما كانت منذ أقدم العصور، لا فرق بين متمدينها ومنحطها، من حيث التواضع الأخلاقي، وعلى الأخص في الاتباع العملي للفضائل. وما المدنية الحديثة لدى الواقع إلا مدنية علوم لا مدنية أخلاق. والمثل القديمة تكاد تكون بعينها المثل الحديثة بلا فرق بينها على وجه التقريب، وما عدم لحاق الفضائل بالعقل من حيث الابتكار والتطبيق إلا دليل على ما نذهب إليه.
ثم نسائله: هل حدد معقول الفضيلة لنعرف ما هي النفوس الفاضلة؟ ونسائله: هل وقوع «الجدال في النظريات» غير كاف لأن يستتبعه وقوع الجدال في العمليات؟ وأين هم «الأخيار» الذين اتبعوا في الحياة طريقا بعينها؟ فإن توحيد سلوك الناس الأخيار يقتضي أن يتناول ذلك حتى خطرات نفوسهم وجرائمهم الفكرية، فهل معرفة هذا الأمر مستطاعة في الحقيقة، وإن دل الظاهر على وحدة السلوك عند الأخيار كما يقول سانتهيلير، ما دام يعتقد أن علم الأخلاق كائن في تضاعيف الفطرة؛ أي أنه عبارة عن درس الطبيعة الكامنة للنفس، وأن هذا الدرس لن يتيسر إلا بدرس ظواهر السلوك؟
اللهم إن كان علم الأخلاق هو أثبت العلوم الإنسانية وأشدها وضوحا، وهو بعد على ما يصفه هذا الكتاب، فإنا ولا شك نقول على العلوم الإنسانية السلام.
القرآن وحكومة الإسلام
يحاول أحد أساتذة الجامعة المصرية، وهو أستاذ اللغة العربية والآداب، أن يقول، بل هو يعتقد بأن القرآن ليس بكتاب منزل، وأنه من وضع محمد بن عبد الله، بز به العرب بلاغة تعبير وقوة بيان وحسن سبك وفصاحة أسلوب، فغلبت عليهم فكرة أنه معجز وصحت لديهم من هذا الطريق نبوته، فكان واضع الدين الإسلامي الذي لا يكمل الإسلام من غير أن يذكر اسمه بجانب اسم الله، فيقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
يعتقد الشيخ طه حسين، هذا الاعتقاد، ويحاول أن يبلغ إلى بث فكرته، بمحاولات عديدة، منها محاضراته، التي يلقيها في القرآن يوري فيه تورية، ومنها أحاديثه الخاصة يبوح فيها بما يعتقد. غير أنه لا يجرؤ على أن يجهر برأيه هذا بين الناس ويذيعه على رءوس الأشهاد، فيدور في محاضراته تلك الدورات الغريبة، ويلف تلك اللفات البعيدة التي لا تنتهي إلى غاية ولا تصل إلى قصد معين.
ولست أدري لماذا لا يجاهر الأستاذ برأيه؟ أظن أن السبب في هذا قلة إيمانه، بصحة ما يرى وضعف عقيدته بصلاحية النظرية التي يعتقد بها، وإلا لكان من الواجب عليه أن يذيع رأيه بشجاعة ويدافع عنه بصلابة، إذا كان تام الاعتقاد بصحته.
تقوم في ناحية أخرى فكرة مشابهة لفكرة الأستاذ؛ هي فكرة الشيخ علي عبد الرازق في أصول الحكم في الإسلام، هو في الواقع يريد أن يقول إن حكومة الإسلام لم تقم على قواعد اجتماعية صحيحة، وإنها كانت حكومة مستبدة اجتمعت فيها السلطة الدينية والزمانية في شخص واحد، وإن هذه القاعدة لا يصح أن تكون أساسا لقيام حكومة فيها من النظام الديمقراطي قسط يضمن صلاحية الحكم وقيام العدل بين الناس.
يريد هذا فيلف ذلك اللف البعيد، ويدخل بنا في مناقشات شبيهة بالمناقشات التي دارت في مجمع أفسوس وخلقيدونية ونيقية، ويقذف بنا في بحث مسألة الحكم في الإسلام من ناحية التوكيل الإلهي لشخص محمد عليه السلام، ولماذا لا يقول بأن أصول الحكم في الإسلام بائرة، وأن القاعدة الديمقراطية أصح منها؟ السبب في هذا أن الشجاعة في إبداء الرأي تنقصه، والإيمان بصحة نظريته ناقص غير كامل. قال الأستاذ بيكر بعد بحث طويل في مدلول لفظة «الإسلام» ما يلي:
وقد تستعمل لفظة الإسلام في النهاية لتدل على ذلك النظام العمراني الذي يجمع في تضاعيفه بين الحكومة والدين؛ لأن قيام مدنية ما، على الرغم من كل الخلافات الموضعية، وعلى الرغم من قيام تلك الخلافات في كثير من عصورها المتفرقة، إنما يدل ظاهرا على أن فيها كثيرا من صفات التماسك والبقاء. إننا إنما نبحث في حقيقة التبعية للدين، فنجد أن حكومة الإسلام ومدنيته عبارة عن وحدة تامة شاملة كاملة الأوصاف، حتى إن أكثر الناس قد يضمون أمما بلغت الفروق بين بعضها وبعض مبلغ الفروق الكائنة بين الآريين والساميين والزنوج تحت ذلك الاسم الجامع؛ «الإسلام».
هذه هي الحقيقة، الحقيقة أن الإسلام كان دينا وحكومة وأمة عظمى، والحقيقة أيضا أن الحكومة كانت من أسباب الضعف الأولى في الإسلام وفي مدنية الإسلام. ولماذا لا نقول بأنك تفضل الحكومة الديمقراطية على هذه الحكومة، ولا تلف اللف البعيد، وتقيم من النظريات ما يقذف بنا في ذلك التيه الجدلي الذي لا نصل فيه إلى النهاية؟
وحدة الوجود
الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الأديان قولها بأن الله منفصل عن المادة، وأنه ذات متحيزة منفصلة عن الماديات، تدير الأكوان والعناصر المادية بقوة ترسلها على الموجودات كما ترسل الكهرباء تياراتها على الألواح القابلة من التلغراف اللاسلكي. وكان هذا الخطأ سببا في أن يعجز أهل الدين عن مجاراة أهل العلم عن إدراك الله في تفسير النصوص المنزلة.
وكانت أكبر المشكلات التي وقع فيها أهل الأديان البحث في قدم المادة، قالوا بأن الله قديم مخالف للحوادث، آمنا بذلك وصدقنا، ولكن كيف ننكر على المادة قدمها، والعقل لا يسلم بخلق شيء من لا شيء، أو فناء شيء إلى لا شيء؟ وكيف نوفق بين حدوث المادة وقدم الله، إذا اعتقدنا بأن الله علة كاملة، وأن العلة الكاملة لا يتخلف عنها معلولها بحال من الأحوال؟ وعندي أن المتصوفين والباطنيين أصحاب القول بوحدة الوجود قد حلوا أكبر إشكال صادفه العقل البشري خلال كل العصور. قالوا بأن الله هو المادة، والمادة هي الله؛ أي أن في المادة مبدأ مدبرا هو الله، وأن عنصر النظام الذي تعثر عليه في نواحي المادة هو الله، وأن القدم للمادة لا يترتب عليه الاعتقاد بحدوث الله، ولا قدم الله يترتب عليه حدوث المادة.
المادة في الله والله في المادة، هذا هو المبدأ الذي يخيل لي أنه صحيح، والذي يحل مشكلات أهل الدين وأهل العلم في هذه المسألة الكبرى، بل يكون معه الدليل على وجود الله ملموسا محسوسا، لا يحتاج إلى تلك الجدليات العقيمة التي لا تنتهي إلى غاية ولا تقف عند نهاية، جدليات أقل ما كان فيها من الضرر أنها أبعدت الإنسانية عن الله، وأبعدت الله عن الإنسانية، بقدر ما كان فيها من التعصب لفكرة القدم ومخالفة الحوادث.
حول البهائية
دارت حول البهائية معركة حامية على صفحات «العصور»، وعلى الرغم من أن المعركة قد دارت حول تاريخ البهائية ونشأتها وبعض منازع يظهر بها أنصار هذا المذهب الجديد، أو الدين الجديد أو الخرافة الجديدة أو ما شئت من الأسماء، فإن المناقشة قد أخذت تتطور في بحث تاريخي إلى بحث في أصل العقيدة البهائية، وفي نشأتها، وفي أنها دين منزل، وفي أن الله حل في عبد البهاء وفي عباس أفندي من بعده، وأنه يحل الآن في شوقي أفندي خليفتهما الأخير، كأن الله لا شغل له عند البهائيين إلا أن يتقمص تلك الأجسام البشرية التي لا تخرج عن أنها ماء وطين، وأن هذا المزيج سوى ذوات ندعوها البشر. ولا جرم أن هذا الدين أجرأ الأديان على الافتراء، ففي الأزمان القديمة اختار الله بعض الشعوب دون بعض، وميز بعضها على بعض برسالاته، وخصها بعطفه. أما اليوم وعن طريق البهائية، فإنه يختار النوع البشري برمته، فكأن اختياره لليهود في الأزمان السالفة كان عبثا تريد البهائية اليوم تقويمه.
ولا يضرنا اليوم، أن يضاف إلى الأديان التي تنشر بين سلالات البشر دينا جديدا، ولا يضير الإنسانية أن تزيد الخرافات الذائعة بينها خرافة جديدة، ولكن الذي يضيرنا ويضير كل الآخذين بمبادئ الطريقة العقلية الحديثة أن يقف نفر من الناس ينادون بالشعوب هلموا إلى الخلاص الأخروي من طريق البهائية؛ فإنها آخر ما أوحي به للناس، كأن الناس لم يكفهم أن ينال منهم الوحي ذلك المنال القاسي، خلال كل العصور الغابرة، فأخذوا اليوم يحيكون من الخيال خرافة جديدة يسمونها البهائية.
ولعمرك لئن كان الدين عبارة عن قوة مما فوق العقل ولا علاقة له بشيء مما في طبيعة الإنسان سوى مشاعره وعواطفه وانفعالاته، فكيف بالبهائية تكون دينا وهي تتناول بأبحاثها الاقتصاديات والعمرانيات ومشاكل الاجتماع الإنساني، بل ولا تتأخر عن أن توحي إليك بما تفعل في بناء القناطر والسدود؟
لا شك في أن هذا الدين نسيج وحده في تاريخ الإنسانية.
الروح وفلاسفة الهند
يحاول فلاسفة الهند أن يخرجوا الإنسان من الطبيعة بأن يجردوا الروح من أغلال الجسم، فإذا اعتبرنا الروح قوة تحل في الأجسام الحية، كان لا مندوحة لنا عن الاعتقاد بأنهم إنما يحاولون في الحقيقة أن يقللوا جهد المستطاع من تأثير الجسم في الروح، لا أن يجردوا الروح من الجسم، تجريدا تاما.
الروح والجسم، وما نقصد بالروح إلا سر الحياة المودع في الأجسام الحية مثلهما كمثل المادة والقوة، فإذا استطعنا أن نبرهن على أن هنالك مادة يقوم وجودها بغير قوة، أو أن قوة من المستطاع أن توجد في غير مادة، أمكننا أن نبرهن على أن الروح قد توجد في غير جسم حي، أو أن جسما حيا من المستطاع أن يوجد بلا روح، فالروح إذن يجب أن تحل في جسم؛ أي في مادة.
وماذا يكون من أمر الروح، بعد أن تموت الأجسام؟ ذاك سر لم ينض عنه الحجاب.
أكذوبة الحرية
من الأكاذيب المتفق على أنها صحيحة أكذوبة أن الإنسان ولد حرا. أول ما في هذه النظرية من بطلان أن الإنسان لم يختر أن يوجد في هذه الحياة، فكيف به يكون حرا؟ وكذلك هو يرتحل عن هذه الحياة غير راض عنها ولا عن الارتحال من بيئتها، فكيف به يكون حرا؟
ثم هو عند حد قول بشار:
خلقت على ما في غير مخير
هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد
وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا
فكيف به يكون حرا؟
أفهم أن تكون الحرية معقولا نسبيا لا غير، أما الحرية المطلقة التي نشدها خياليو الزعماء في الثورات الكبرى، فهي أكبر الأكاذيب التي استغوت الجماعات منذ أبعد العصور.
فوضى الأدب
الفوضى القائمة في الأدب العربي، ليست في الواقع إلا صورة من الفوضى العامة التي تملكت أفكار أهل الشرق بعد الحرب العالمية، غير أني لا أستطيع أن أدلي برأي في فوضى الاقتصاد أو المال، على الرغم من أني أعتقد بأن الفوضى لم تقف دونهما، كذلك لا أستطيع أن أدلي برأي في فوضى السياسة الشرقية عامة، غير أني إن أردت أن أتخذ للسياسة الشرقية عنوانا هو سياسة مصر، أيقنت بأن الفوضى في سياسة ممالك الشرق بالغة مداها الأقصى.
كذلك لا أستطيع أن أتكلم في فوضى الأدب بصورة عامة، إذن وجب علي أن أحدد موضوعي فأدلي برأيي الذي أراه في فوضى الأدب، من حيث تعدد الأساليب.
يعتقد الكثيرون في مصر، مركز النهضة، أستغفر الله، لا النهضة الأدبية وحدها، بل النهضة «العلمية» في أنحاء الشرق، ولمن يعتقدون هذا الاعتقاد أكبر العذر فيما يعتقدون به، غير أني لا أعرف إذا جاريتهم على اعتقادهم في أي شيء تنحصر مظاهر النهضة العلمية والأدبية في كل شيء. حسن، لنقل معهم في كل شيء ؛ تخلصا من متاعب البحث ، ولكن لننظر في ناحية بعينها من نواحي النهضة الأدبية، ولندع بأن من مظاهر النهضة الأدبية تعدد الأساليب العربية.
إن تعدد الأساليب - ولا شبهة - دليل على الرقي الأدبي وعلى الإكباب على المطالعة والدرس، غير أني أرى في تعدد الأساليب روحا فوضوية غريبة؛ لأن تعدد الأساليب في أول ما يدل عليه، انتهاج لطرق في التعبير تختلف عن الطرق التي انتهجها القدماء. وهذا حسن إلى حد ما، ولكن الفوضى آتية من ناحية أننا لا نبالغ في احتذاء الأساليب العربية المنتقاة، فلكل لغة أساليبها الراقية، ولكل منها مثاليتها الأسلوبية. وبالقياس على هذه الأساليب يكون بعدنا أو قربنا من المثل العليا في أسلوبه الإنساني إذا صح هذا. وإذا صح لنا أن نتخذ هذه النظرية قاعدة، خشيت أن أقول إننا في هذا العصر أبعد عن أن نحتذي الأساليب المنتقاة التي جرى عليها حتى أدباء العصر القريب.
أما نزعة بعض الكتاب إلى احتذاء الأسلوب العامي في الكتابة العربية، ودفاعهم عن هذه الطريقة السفلى، فلا سبب له عندي، إلا العجز، وهم في نظري أكبر الدجاجلة الذين نبتوا في تربة الأدب، كما نبتت الطفيليات حول الغرس النافع، بلا حاجة إليها.
معنى التضحية
في كل ما تقوم عليه المثل العليا في الأخلاق، وهي التي يظهر أثرها المباشر في العمليات، لا يحتاج الإنسان إلى شيء أكثر من أن يفهم معنى التضحية، وأن يجعل لهذا المعنى أثرا في أعماله وتصرفاته، على أننا مع الأسف لم نعرف بعد ما هي التضحية، ولم نفقه كيف يمكننا أن نجعل لها أثرا في أعمالنا.
خذ أبسط الأشياء احتكاكا بالحياة، خذ حب النقد للوصول إلى الحقيقة، فإنا لم نعرف بعد من النقد، إلا أنه وسيلة للعداء هي أقرب الوسائل، وطريقا للتنابذ هي أسهل الطرق، فإذا أردت أن ترمى بالسخافة فانتقد الأدباء، وإذا أردت أن توسم بالجهل، فانتقد العلماء، وإذا أردت أن تموت جوعا، فانقد أعمال حزب الأغلبية في مجلس النواب.
الاعتداء الذي توقعه الأمم القوية على الأمم الضعيفة ليس بأكثر من تكرار لفعل طبيعي أتاه الإنسان، بحكم نزعته الحيوانية، عدة ملايين المرات.
فالإنسان قبل زمان التاريخ لم يفز بغذائه وبزوجه، بل وبحياته نفسها، إلا من طريق الاعتداء على ما يملك غيره من حق أو حطام. وفي ظني أن قول الشاعر: «ومن لا يظلم الناس يظلم»، فيه تعبير حق عما في الإنسان من هذه النزعات الغريبة.
وعلى أية من القواعد نحاول اليوم أن نحول دون اعتداء القوي على الضعيف، وهذا أمر يكاد يكون في حكم السنن الطبيعية الثابتة.
غير أننا لا نريد أن نتساءل في هذا، بل نتساءل: لماذا يسلم الضعيف بحقه تسليم تفريط إن كان في مستطاعه الدفاع ولو إلى حين؟ أظن أن السبب في هذا راجع إلى أن الضعيف يقدر الحياة أكثر مما يقدر الحق، على أنه لو قدر الحق ولو قليلا لاستطاع أن يرد كثيرا من عاديات الغاصبين.
قلب الأمثال
من الأشياء الجارية على ألسن الناس ما لو قلبت معناه لخرجت منه بمعنى فيه روعة جديدة، بل روعة تبز روعته الأصلية الجارية على ألسن الناس. فالناس يقولون: «الحق للقوة.» فإذا قلت مثلا: «القوة للحق.» وقعت على معنى أسمى من المعنى الأول، وأجدر بأن يكون المحرك الأول لقوى الجماعات.
على أن كثيرا من الناس، يتشككون في المعنى المدرك من قلب الأمثال السائرة. والسبب في هذا أن الناس بطبيعتهم نزاعون إلى التأثر بالماديات؛ فالقوة مادية، والحق معنوي، لهذا يعتقدون بصحة الأول، ولا يدركون للثاني إلا معنى مجردا غير ماثل أمامهم.
كذلك الحال إذا رجعت إلى أهل الوثنية وقلت لأحدهم: «الصنم في الله.» لرد قولك فورا بأن «الله في الصنم»، على أن الحقيقة على عكس ذلك تماما؛ وذلك لأنه يدرك المادة إدراك الحس، ولا يدرك الله إلا إدراك معنى، وعلى هذا قامت الكفايات الإنسانية، وعلى هذا توورثت على مر السنين والأحقاب.
أين أثر الطغيان؟
كنت أسير على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ذات يوم، وقد تجمع على الشاطئ عدد من الأطفال الصغار انقسموا إلى جماعات عديدة، فأخذ جماعة منهم يصورون على الرمال صور حيوانات عديدة ، وأخرى في تخطيط صورة بيت كبير. وبدأ الأطفال يتنازعون ملكيته، وبدأت جماعة أخرى تبني من الرمال صور بيوت شبيهة بالبيوت التي يبنيها النمل وكثير من الحشرات. وبينما كنت أجيل الطرف في ألاعيب الأطفال، وأتأمل فيما ترى إليه تصوراتهم، هاجمتنا موجة كبيرة ذهب مداها إلى آخر ما خطت يد الأطفال على الرمال، فلم تترك منه عوجا ولا أمتا، كأنما الرمال اللينة قد ابتلعت مع مد الموجة كل ما رسم فوقها من آثار.
أليس في هذه الحالة شبه باغتصاب حق الشعوب قسرا وقوة، أين الأثر الذي خلفه الرومان في أرض بريطانيا العظمى؟ وأين الأثر الذي تركته مصر في غربي آسيا؟ وأين الأثر الذي تركه الإسكندر المقدوني فيما فتح من ممالك العالم؟ وأين أثر القوة التي اغتصبت حقوق الشعوب على مدى الأزمان؟ أين الأثر الطبيعي الذي خلفه هنيبعل وقمبيز وهولاكو وجنكيز خان؟ مدت عليهم موجات الحق الطبيعي، وطمت عليهم فورات الشعوب، فلم يبق من ذلك إلا الأمم، تتناوبها دورات الانتصار والانكسار، وهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
كفايات الشرق
ليست القوة المادية وحدها دليلا على تسود الشعوب من حيث الصفات المدنية، وإن كانت دليلا لا يدفع على تسودها الحربي، فقد غزا الرومان بلاد اليونان، وكانوا أقل من اليونان كفاية، من حيث المواهب العقلية والأدبية.
من يدرينا اليوم، لعل في شعوب الشرق من المواهب الكامنة ما يظهر بعد قليل من الأجيال، وإن استعمارها اليوم هذا الاستعمار القائم على القوة وقتل الكفايات، كان من أكبر البلايا التي أصابت الإنسانية، وصدتها عن التقدم والارتقاء.
الترف والانحلال
ذاع الاعتقاد بين الباحثين في الاجتماع، أن الترف والانغماس في الملذات، مما يقذف بالأمم والشعوب في مهاوي الفساد والانحلال، غير أني أرى أن الانغماس في الملاذ والترف مظاهر تدل على عوامل الانحلال، وعناصر للفساد أبعد غورا في نفوس الأفراد والجماعات مما يتخيل الكثيرون من الباحثين.
الجامعة الشرقية
للسلطان عبد الحميد - رغم استبداده، ورغم ضعف أعصابه، والظروف الغريبة التي أحاطت بسني حكمه، أو بالأحرى الظروف التي خلقها هو من حوله - كلمات يؤثرها عنه التاريخ، فقد قال مرة، وقد حوطته أوروبا بما استطاعت من قوة وعنف: «إن أوروبا تحاربنا حربا دينية في قالب سياسي.» ولم يقصد عبد الحميد بالضرورة أوروبا تحاربه حربا دينية كالحرب التي قامت بين الإسلام والنصرانية في القرون الوسطى، وتعرف بالحرب الصليبية، بل يقصد أن أوروبا المسيحية جامعة لا تحتمل أن يكون للشرق الإسلامي سلطة على شعب من شعوبها. على أنه رمى بهذه الكلمة إلى غرض آخر، رمى به إلى استفزاز المسلمين في أنحاء الشرقين الأقصى والأدنى، ليكونوا جامعة يقاوم بها جامعة أوروبا، المسيحية، غير أن صرخته هذه لم تفده فتيلا، فإن استبداده واستبداد عماله وضعف حكومته وتحكم الصور الدينية الرجعية في إدارة الحكومة كان سببا من الأسباب التي فتت في عضد الأمم الإسلامية، التي وقعت تحت حكمه، وأفقدت حكومات الأمم الإسلامية المستقلة كل ثقة في حكومة أمير المؤمنين.
واليوم يقوم في روع الناس أن ما رمى إليه عبد الحميد أصبح خيالا، بعد أن فطنت الأمم إلى فكرة القومية وتركت الاستمساك بجامعة الدين، وهذا صحيح، غير أني أرى على الرغم من كل هذا أن جامعة شرقية سياسية تعمل على مقاومة النفوذ الأوروبي، والاستعمار الأجنبي، يكون لها أثرها الخالد لا في استقلال الشعوب الشرقية وحدها، بل في العمل على ترقية الإنسانية في مجموعها.
الشرق والمثل العليا
ولد الشرق ميلادا جديدا يوم أن هب يطالب برد حريته المسلوبة، ويعمل على إحياء مدنيته البائدة، غير أن الشرق يحتاج اليوم إلى صفات أخلاقية ترى أن الأمم الشرقية أبعد الأمم عن أن تعرف لها قيمتها السياسية.
لم يعرف الشرقيون بعد تلك الفضائل التي ينطوي عليها ضبط النفس عند وقوع الملمات الكبرى، وما أكثر ملمات الشرق!
لم يعرف الشرقيون بعد معنى التضحية عند حلول الأزمات، وما أكثر الأزمات التي تصيب شعوب الشرق!
لم يعرف الشرقيون معنى الصراحة في معالجة المشكلات التي تحتاج إلى المصارحة الجدية، وما أكثر المشكلات التي يخلقها الغرب للشرق!
وإذا أردنا أن نعدد الأشياء التي لم يعرفها الشرق بعد، لذهبنا في سلسلة طويلة منها، غير أني أعتقد أن بضعة أفذاذ من الرجال يعطون الشرق المثل العليا، في الأخلاق عمليا، لقادرون على أن يبعثوا في النفوس تلك الشرارة الأولى التي لا يستغنى عنها في توليد حريقة عظمى يمتد لهبها.
تعطيل الدستور
يقول طاغور: «عند حلول الكوارث تنحل أقدس الروابط، فالأخ يحطم أخاه، والصديق يخون الصديق.» ولا أجد أن هذه الكلمة الكبيرة أكثر انطباقا على شيء من حالات هذه الدنيا، أكثر من انطباقها على رجال السياسة، فهي في مصر ظاهرة مألوفة.
حلت بمصر الكارثة الأخيرة؛ كارثة تعطيل الحياة النيابية،
1
ولا ندري إلى أي حد، فإن ذلك موكول بالظروف، وليس خاضعا لإرادة رئيس الوزارة ولا لغيره من رجال الدولة، كبر شأنه أم صغر، ولم تكد تظهر بوادر هذه الحالة في الأفق السياسي، ولم يكد يفتح في سماء الأمل منفذ نور لأصحاب المعالي، حتى ولجه جمع منهم، ثم أخذوا يسددون منه نبال النقمة والانتقام إلى أقفية إخوانهم الذين تضامنوا معهم بالأمس.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى قواعد ومبادئ مقدسة لا علاقة لها بأقفية الذين رماهم هؤلاء بنبالهم وسددوا إليهم سهامهم، ولكن ما دام النحاس رئيس الأغلبية، ولا أغلبية إلا بالدستور، فلنوجه النبال إذن إلى قلب الدستور، كما توجه إلى قفا النحاس وأصحابه، فإذا ساءلت نفسك: أية علاقة بين الأكثرية وتصرفها، وبين الدستور؟ وما هي علاقة الانتقام من النحاس بقتل الدستور؟ وما هي الرابطة بين ضرب الأغلبية وبين الحق العام الذي يملكه أصغر طفل في أصغر قرية، كما يملكه أكبر صاحب دولة من أصحاب دولاتنا؟ لما استطعت أن تقع على جواب ظاهر، اللهم إلا أن تلجأ في تفسير ذلك إلى الاعتقاد بأننا في مصر، وفي الشرق عموما، لم نستطع أن نفرق بين المبادئ والذوات، فالدستور ملعون لأن صاحب الأغلبية في مجلسيه هو النحاس، ولكن ماذا يكون من أمر الدستور إذا أصبح الأغلبية في مجلسيه هو صاحب الدولة محمد محمود؟ لا جرم يكون أكبر نعمة وآخر ما تجود به النظم على الحضارة المصرية من البركات، بل يكون أجمل حلة تخلع على الشعب المصري، الذي عراه الاستبداد عما يستر جسمه الضئيل من الحقوق التي اعترف بها للعبيد والهمج، وترك غرضا ترميه الألسن بأمر الكلم، كما تحدجه العيون بأخبث ما تستطيع أن توجه من نظرات الاحتقار.
أولا يكون إصلاح إلا إذا أظهرنا أهل الدنيا والآخرة على أن الشعب المصري لا يستحق الحرية ولا يعرف لها طعما؟ أولا يكون إقرار للحقوق إلا بأن يسلب الشعب من حقه الطبيعي؟ أولا يكون من انقلاب إلا إذا ظهرنا بمظهر المرغمين عليه المسوقين إليه؟ أولا يكون لنا من طريق إلى التنفيذ إلا تلك الطريق الملتوية المتعسرة التي نحفر فيها الأنفاق ونذهب فيها خفية متسللين تحت الثرى، كما تفعل الحشرات الدنيا؟
نظم الحكم
لا أستطيع أن أدرك أن حسن القوامة على الحكم قد يتأتى بغير نظامين؛ فإما نظام نيابي تتسع فيه الحريات بقدر ما يستطاع، وإما نظام دكتاتوري تنحصر فيه السلطة في يد شخص واحد، وليس بين هذين النظامين فراغ يمكن أن يسده نظام ثالث؛ ففي كلا النظامين الدستوري والدكتاتوري، تتوحد الأضرار كما تتوحد المنافع، ويحصر الخطأ كما يحصر الصواب، أما في النظام الثالث، وهو نظام لا بد من أن تتضارب فيه النزعات وتختلف فيه الأهواء على مقتضى ما تتجزأ السلطة وتتشعب وجهات النظر، فلا يمكن أن تحدد فيه المنافع والمضار، ولا يمكن أن يحصر الخطأ والصواب. ومن الأسف أننا نحكم اليوم، وفي مصر وفي القرن العشرين، بمقتضى النظام الثالث، فلدينا ثلاث سلطات متضاربة الأهواء لا يمكن التوفيق بين وجهات نظرها، إلا بأن يكون التوفيق على رأس فتيان القرى، وما على أهل القرى إلا أحد أمرين؛ فإما أن يخضعوا، وإما أن تسلخ جلودهم.
محكمة الضمير
يحتمي دكتاتوران في أوروبا هما موسوليني وبريموده رفيرا بالدستور، ويستظلان بمجالس النيابة، أما صاحب الدولة محمد محمود باشا، الدكتاتور الأول في أرض الفراعنة، ففي غير حاجة إلى الاستظلال بشيء من ذلك، فهو يترك نفسه معرضا لحرارة الشمس تلفح وجهه، ولهب الريح يتقاذفه، فأكرم بها من شجاعة فات فيها رئيس دولتنا، رئيس دولة إيطاليا وطاغية إسبانيا معا!
محكمة النفس العليا هي الضمير، وعلى أساس هذه المحكمة قام مذهب الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانت في الأخلاق.
حاسب ضميرك دائما، واسأله في هوادة ولين: «هل صحيح أن يكون تصرفك الأخلاقي في مسألة من المسائل، قانونا، تجري عليه الإنسانية؟» هذا هو لب مذهب كانت في الأخلاق، ولا شبهة مطلقا في أن لهذا القانون علاقة كبيرة بمذهب إيزوقراط اليوناني إذ يقول: «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك.»
ومحكمة الضمير معقودة دائما، ليل نهار، سرا وعلانية، فهل تؤثر ظروف الحالات التي تقوم في الأفق الاجتماعي على هذه المحكمة، وهل تتبع هذه المحكمة شرعة من شرائع الآداب العليا، من غير أن يكون أمامها مبدأ تأتم به. كلا، إن المبدأ هو المهتدى الوحيد الذي تهتدي به هذه المحكمة في ظلمات ما يحف بها من مظاهر الأشياء الإنسانية.
سمعت بأن ستة آلاف من الجنيهات كانت كافية لأن يشترى بها «ضمير» جريدة من الجرائد الكبرى، وسمعت أن ابتسامة حلوة وقليلا من الذهب كان كافيا لأن ينقذ جيش الإسكندر الروسي من إحاطة عسكر الأتراك، وسمعت أيضا أن قليلا من أبهة الملك والسلطان كانت كافية لأن تغري ملوكا بالاستبداد، وأن تلقي بوزراء في أحضان العسف والجور، ينوءون به على كواهل الأمم.
ولا جرم أن كل هؤلاء شرع أمام محكمة «الضمير»، فلو سأل أحد من هؤلاء نفسه يوما: «هل يصح أن يكون تصرفه قاعدة للإنسانية تجري عليها؟» إذن لرجع عن غيه وانصرف عما أقدم عليه؛ ذلك لأنه إذا سأل نفسه على هذا النمط، أدرك لأول وهلة أن هذا القانون يجوز أن يطبق عليه من الغير كما يطبقه على نفسه، إذن يكون الجواب أن خيانة محكمة الضمير إضرار بالإنسانية وبالأفراد، وإذن نعتقد أن محكمة الضمير لا بد لها من قانون أو مبدأ يسير أحكامها في كل ظرف من الظروف.
إذا ساءل مستبد ضميره: «هل يصح أن يكون الاستبداد قانون الأخلاق الإنساني؟» وإذا ساءل مرتش نفسه: «هل تصح الرشوة أن تكون مبدأ المعاملة؟» وإذا ساءل سفاح ضميره: «هل يصح أن يكون القتل صبغة الحيوان الناطق؟» وإذا ساءل كل الأراذل أنفسهم: «هل يصح أن تكون رذائلهم قاعدة يجري عليها المجتمع؟» إذن لخلصت الإنسانية من الشرور والآثام، وإذن لعرف المستبد أن الاستبداد جائز أن ينقلب عليه في نفس الصورة التي يطبقه بها على بقية الناس، وإذن ينتفي أن يكون الظالم مظلوما إذا ظلمه غيره، وينتفي أن يكون السارق مسلوبا إذا سلبه غيره.
وهكذا دواليك، ضع نصب عينيك دائما فكرة أنك فرد من أفراد الإنسانية مهما علت رتبتك وكبر جاهك، اذكر في أعماق نفسك دائما قول إيزوقراط: «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك.»
الخصومة بين الشرق والغرب
بين الشرق والغرب خصومة قديمة، يرجع أصلها إلى الدم وإلى اختلاف النزعات التي يوجدها عادة تباين الناس في الميول والنزعات، فإذا رجعت إلى التاريخ القديم، ألفيت هذه الخصومة قائمة على قاعدة تختلف عن القاعدة التي تقوم عليها الخصومة في العصور الحديثة.
أينعت المدنيات الأولى في جنبات الشرق، وتحت ظلاله الوارفة، ففي غابات الهند القديمة، وفي الوديان الخصيبة كوادي النيل، نشأت أولى الجماعات الإنسانية التي أقامت المدنية، شيدت أسسها مع المدن المسورة الحصينة. ومن طريق المدنية تكونت فكرة القومية، ثم اتسعت فكانت الأمم التي يجمع بين أفرادها نظام المدنية أحد مظاهره.
لهذا كان الشرق أسبق من الغرب إلى تكوين فكرة الاستعمار وغزو الشعوب التي حفت بمراكز المدنية القديمة في وديانها الخصبة وغاباتها الملتفة. وهنالك سبب آخر للخصومة، تستبينه في قيام الروح الدينية في الشرق، فتحت سماء الشرق الصافية وفي براريه وصحراواته المتسعة نشأت الأديان الأولى، فنشأ في الهند بوذا وبراهما، وفي الصين كونفوشيوس العظيم، وفي برية فلسطين موسى، وعلى ضفاف الأردن عيسى، وفي جوف الصحراء محمد؛ هؤلاء هم المصابيح التي شع ضياؤها في سماء الجهالة الأولى، فأنارت السبيل على قدر ما احتملت عقلية الأنام في العصور التي نشئوا فيها. أما الغرب في ذلك الحين، فلم يكن ليسترشد بشيء من هذه الأقباس، بل كان لا يزال عاكفا على الصور الميثولوجية القديمة ، قانعا من الحياة بأن يكون أهله قبائل لا عمل لها إلا ما كان لأعراب البادية من عمل قبل الإسلام وبعده.
وكرت السنون وانقلبت آية الحياة، من حياة روحانية عكف عليها الشرق، إلى حياة مدنية وصناعية لم يعرفها إلا الغرب، وهنا انقلب وجه الخصومة، ورجعت موجة الحياة تمد من الغرب على الشرق، فتغرقه في غمار تلك المدنية المادية، فهوى في بحرها الخضم إلى الأعماق.
أما إذا عرف الشرق كيف يستطيع أن يقاوم هذه المدنية المادية، فهنالك يتحرر، ولا أظن أن الشرق يمكنه أن يتخلص من مخالب هذه المدنية، قبل أن يمرن على انتحالها ليقاوم موجة الاستعمار الغربي بقوة مستمدة من نفس مدنيته.
الأزهر والعلوم الدنيوية
ظل الجامع الأزهر، وهو الجامعة الإسلامية الكبرى في أنحاء العالم الإسلامي، في مخاض يعاني آلامه سنين طويلة، وفي ظني أن زمان الوضع قد قرب، ولعل هذه الآلام الطويلة تحبو هذه الجامعة الكبرى بمولود تقر به عين مصر وعين العالم العربي الإسلامي بأجمعه.
بدأت هذه الجامعة الأزهرية تشعر بآلام المخاض عندما فكر الأستاذ الكبير محمد عبده في إصلاح الأزهر، وعندما أراد أن يدخل في برامجه علم الجغرافية والفلك، وشطرا من الفلسفة اليونانية؛ التي تؤيد نظريات الإسلام، وغير ذلك من وجوه الإصلاح. ولقد اشتدت بعد هذه الحركة آلام المخاض؛ فرمي المصلح الكبير بالكفر والمروق عن الدين والخروج عن السنة والكتاب.
واليوم نسمع من فضيلة شيخ الجامع الأزهر في مذكرته التي رفعها إلى رئاسة مجلس الوزراء؛ أن الدين لا يعاند العلم، وأن الأزهر يجب أن تحور برامجه تحويرا أبعد مدى عن التحوير الذي أراده الأستاذ محمد عبده. أليس في طلب الأستاذ صاحب الفضيلة أن يكون علم مقارنة الأديان من العلوم الأساسية في الأزهر؛ دليلا على أن هذه الجامعة كادت تخلص من آلام المخاض الطويلة، وأن زمان الوضع قد قرب؟
حول المجمع اللغوي
يفكر صاحب المعالي وزير المعارف بجد في إنشاء مجمع علمي قد يطلق عليه اسم المجمع اللغوي أو الأكاديمي، أو غير ذلك من الأسماء ، ولا يعنينا أن يكون مجمعا أو منتدى أو أكاديميا؛ فالأسماء لا قيمة لها بجانب النظام الذي يجب أن يقوم عليه هذا المعهد الكبير.
ولا يجب أن ننسى مع تكوين هذا المعهد، أنه يتكون في مصر، وفي الشرق؛ لهذا ينبغي لنا أن نلاحظ في تكوينه عدة أشياء:
أولا:
إن أعضاء المجامع التي هي من صبغة هذا المجمع في أوروبا يعيشون من أقلامهم، أما في مصر فإنه يتعذر على رجل يريد أن ينقطع للبحث والدرس أن يعيش من قلمه، ولو كان في منزلة الجاحظ بلاغة، وفي منزلة سحبان فصاحة.
ثانيا:
يجب أن يتكون المجمع من أشخاص أحبوا العلم لأجل العلم نفسه، وأن ينتخبوا انتخابا يتوخى فيه قبل كل شيء المصلحة العامة ومصلحة العلم والأدب، وأن يتحرر تكوين المعهد من الأغراض الشخصية.
ثالثا:
إذا قصد أن يكون هذا المجمع لغويا؛ وجب أن يلحق به معهد للترجمة يغذي المجمع دائما بالمصطلحات الجديدة؛ هذا على أن يترك المترجمون أحرارا في وضع المصطلحات، ويناقشون فيها أمام المجمع، وأن تدون المناقشات العلمية اللغوية في مضابط يرجع إليها، وتكون هذه المضابط في المستقبل نواة لوضع القاموس العلمي الحديث.
رابعا:
أن تهيئ الحكومة أعضاء المجمع ومترجميه بكل ما يضمن لهم حياة هادئة بعيدة عن المشاغل الدنيا، وأن تكفيهم شر الحاجة لينصرفوا إلى العمل المنتج بقدر المستطاع.
هذه الأشياء الأساسية يجب أن تراعى في تكوين هذا المعهد الكبير، الذي سوف يكون - ولو عندي على الأقل - أكثر فائدة من مائة جامعة يدرس فيها فطاحل من أمثال لالاند وغيره من العلماء الذين لا يمكن أن ينزلوا إلى مستوى طلبتنا، ولا يمكن أن يرتفع طلبتنا إلى مستواهم.
الجامعة المصرية
يجرنا حديث المجمع اللغوي إلى التحدث عن الجامعة؛ فقد دارت مناقشة بيني وبين أحد الأصدقاء المطلعين على حركة العلم والتعليم في أوروبا، وكان من رأيه أن الجامعة المصرية الحديثة لا يمكن أن تنتفع بأمثال لالاند ودجوي وغيرهما من كبار الأساتذة الفرنسيين، وأن الجامعة انتفعت بمن هم في منزلة هؤلاء من العلماء العمليين الذين يدرسون علوم النبات والحيوان والفيزياء والكيمياء مثلا، فإنها لا تنتفع بأمثالهم ممن يدرسون الآداب؛ والسبب من هذا أن أساتذة الآداب الذين يصلون هذه المنزلة العليا؛ تتحجر آراؤهم وتتبلور حول مذهب معين قد يكون مبتكرا، أو منتحلا، وقد يكون راجعا إلى مذهب حديث، أو قديم. وهؤلاء لا ينتفع بهم طلبة مبتدئون في الدرس يجب أن يدرسوا العلم من ناحية تاريخية أولا ليقفوا على تدرج العقول فيه ووجه نشوئه وتطوره. وكان من رأي محدثي أن الجامعة يجب أن تنتخب أساتذتها من الطبقة التي يمكن أن توافق فيها مقدرتهم عقلية الطلبة المصريين على حسب كفاياتهم.
ولقد أخذت أفكر في كلامه طويلا، ثم عجبت كيف أن هذه الاعتبارات قد غابت عن الذين أسسوا الجامعة ووضعوا قواعدها، وما افترقنا إلا وأنا أشد اقتناعا بفكرته مما كنت قبل أن أحادثه.
تكوين الشعوب في الشرق والغرب
يعتمد الشرقيون دائما على حكوماتهم في كل الأعمال العامة، وفي حدسي أن أول واجب على حكومات الشرق أن تضع هذه الحقيقة نصب أعينها.
ولدينا دليل ثابت على أن هذه الحقيقة كانت طوال الأعصر ذات أثر بالغ في حياة الأمم الشرقية؛ فلم تنه أمة من أمم الشرق إلا تحت ظلال حكومة تعمل على نشر العدل وإقرار الحقوق من نصابها. وهذه الحقيقة إن أمكن تطبيقها على كل الأمم في الشرق والغرب، إلا أن هنالك فارقا لا نفطن إليه دائما؛ وهذا الفارق هو أن الغربيين قد استطاعوا أن يحوروا من نظام حكوماتهم بمحض إرادتهم، فكانت الشعوب هي التي تكون الحكومات، أما في الشرق فإن الحكومات هي التي تكون الشعوب.
بدأ مستر بوزويل، الكاتب المعروف، كتابه في ترجمة «صموئيل جونسون» معتذرا عن تأليف الكتاب، قائلا إن كتابة ترجمة الرجل الذي بز كل أدباء الدنيا في الترجمة عن حياة العظماء؛ مهمة شاقة، والحقيقة مهمة الكاتب كانت شاقة جدا.
وكما بز جونسون كل كتب الترجمة في الدنيا، كذلك بز الشعب الإنجليزي كل أمم الأرض في القدرة على الترجمة عن حياة عظمائه. وعندي أن هذا سر عظمة هذا الشعب ؛ فإن الرجل الإنجليزي في مستطاعه أن يقف على دقائق حياة عظمائه من طريق الترجمة عن حياتهم التي ينقطع لها في كل عصر نخبة من الأدباء يشار إليهم بالبنان، بل في استطاعة كل إنجليزي أن يكون من عظماء رجاله حلقات متتابعة تزوده بأرقى المثل، وتعظه بأنكى المثلات، وتضع أمام عينه تاريخ أمته العظيمة، في نسيج تتعارض في خيوطه الشخصيات العظيمة على مدى العصور.
ولئن كان للشعب الإنجليزي من أدب يضارع آداب أرقى الأمم؛ فإنه يبز كل الأمم، ويمتاز عليها بعنايته في الترجمة عن حياة عظمائه، ولقد يخيل إلي أن هذه صناعة اختص بها الإنجليز، ولعلها مستمدة من روحهم الوطنية ومن أخلاقهم الوطنية، التي توارثوها جيلا بعد جيل، حتى انحدرت إلى عصرنا هذا، فكان من نتائجها تلك الإمبراطورية التي يبغضها العالم، ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنها.
عمر الخيام
بدأنا ندرس عمر الخيام في العصور، وبدأنا نضعه في ميزان النقد والتحليل، ولا أدري كيف يمكن أن نخلص من درس عمر الخيام بفكرة يمكن أن يكون فيها بعض الثبات؛ إذ لم نعمد إلى درس أمثاله من الشعراء الذين غلبت الحكمة في أشعارهم، وأخصهم أبو العلاء المعري. وكذلك سوف نكب على دراسة عصره الذي عاش فيه، ولكن الحقيقة أن كل عصور المدنية العربية متشابهة جد التشابه، ففيها تجري روح واحدة، فإذا اختلفت في بعض الأحيان مظاهرها، فإنك تجد أنه اختلاف يلابس الكم لا الكيف.
هذه بعض اعتبارات تواجهنا في درس عمر الخيام، على أني أعتقد قبل كل شيء، أن الاعتماد على درس هذا الرجل العظيم يجب أن يوجه أولا إلى درس نفسيته؛ وهذه الدراسة لها فوائدها كما أن لها متاعبها ومصاعبها، غير أنها على أية حال الأساس الذي لا يمكن أن نبلغ إلى درس عمر الخيام بغيره، فإذا استطعنا أن نخلص من درس عمر الخيام بتحليل نفسيته أولا بعد أن نمهد لذلك بدرس في حقيقة رباعياته لأنها العمدة في هذا الدرس؛ استطعنا أن نصل إلى شيء من حقيقة هذه الشخصية الغامضة.
أسلوب العلم
يتساءل الناس كثيرا كيف تختلف روح البحث في المسائل العلمية عنها في بقية فروع المعرفة الإنسانية؟ والجواب على ذلك من أبسط الأشياء؛ فإن العلم بعيد عن الروح المذهبية، فهو لا يجزم بأن ما يصل إليه من النتائج، مهما كانت صحة الأدلة التي تقوم عليها، يمكن أن تظل كما هي على تتالي الدهور؛ فإن أول ما في أسلوب العلم، من المرونة، الاعتقاد بأن حقائقه رهن التغير والتبديل آنا بعد آن، تبعا لما يجد من فروع المعرفة الإنسانية من الأبحاث والحقائق. أما بقية فروع المعرفة، وإن كان في استطاعتها أن تتبع في أبحاثها الأسلوب العلمي، إلا أنها إلى ناحية المذهبية أقرب منها إلى ناحية التحرر، وهذا هو السر في الفرق بين الناحيتين؛ ناحية اليقين وناحية التأمل.
ابن الإنسان
لما فرغت من درس كتاب «إميل لودفيج» الذي أسماه «ابن الإنسان» وخصه بالترجمة عن حياة عيسى ابن مريم العظيم، تابعت درس الموضوع من الوجهة التاريخية، لشغف أحسسته وميل شديد إلى الوقوف على تاريخ ذلك العصر، عصر الأنبياء، وعصر المعجزات. ولا أنكر على القارئ أني كنت أشعر بميل شديد إلى قراءة الحوادث المتتابعة، في حياة عيسى وحياة الذين عاصروه، وعلى الأخص عندما أقع على تحليل معجزة من المعجزات التي تنسب إلى عيسى أو عمل من الأعمال العظيمة التي تروى عنه، أو قول مأثور من أقواله التي قامت عليها النصرانية.
قرأت عن معجزات عيسى أنه أسكن الريح، وأنه شفى المرضى، وأنه أحيا الموتى، وقرأت له أنه أعاد الحياة إلى جثة رجل كانت قد بدأت في التعفن بالفعل.
ولكني لا أكذب القارئ في شيء، فإني إذا كنت أقرأ هذه الروايات كنت أشعر شعورا خفيا يزيدني إكبابا على درسها وطول التأمل منها. ولعل الإنسان فيه بالفطرة نزعة ترغبه في الوقوف على المستحيلات، وكيف أنشأتها العقول البشرية. غير أني ما فطنت إلى شيء من أسرار النصرانية بعد أن مررت على كل تلك الخوارق التي لا تصدقها عقول بشرية، لم ينتكث فتلها ولم تغزها التقاليد، بل فطنت إلى سر أسرارها عندما قرأت رواية عيسى في إبراء نفس «مومس» انحطت إلى الدرك الأسفل من الرذائل، بأن تابت توبة صادقة فحباها الغفران. ولا جرم أن إبراء الأنفس معجزة أين منها إبراء الأجسام ورد الأرواح إلى الأبدان.
حاجتنا إلى لغة علمية صحيحة
نريد أن يكون لنا لغة علمية بالمعنى الصحيح، ونبحث في كيفية الوصول إلى هذه الغاية السامية، ولا شبهة مطلقا في أن اللغة العربية قد سدت حاجات الأدب والعلم والفن في العصور الوسطى، ولا ريبة أيضا في أنها كافية لسد حاجات هذه النزعات العقلية، لو أن العقل البشري قد وقف من التقدم عند الحد الذي بلغه العرب حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد آخر من ظهر من كبار مؤلفي العرب في أول انحلال المدنية الإسلامية. غير أن هذا العصر كما شهد بدء انحلال المدنية الإسلامية، شهد كذلك تكوين أول جرثومة فرخت في جو أوروبا لتكون نواة للمدنية الغربية، فقد انتقلت حينذاك إلى جامعات أوروبا مبادئ أرسطو طاليس منقولة عن كتاب العرب، وأخصهم ابن رشد بطريق طلاب الغرب، الذين كانوا يفدون من أوروبا ليتلقوا العلم في المعاهد العربية الإسلامية، كما نفد نحن اليوم إلى أوروبا نتلقى العلم في جامعاتها الكبرى.
على أننا إذا ذكرنا أن القرن الثالث عشر الميلادي هو بدء انحلال المدنية الإسلامية، فإنما نذكر هذا تجاوزا لأننا نعتقد أن المدنية الإسلامية حملت في تضاعيفها بذور الانحلال، منذ أول تكوينها، غير أن الصبغة التي اصطبغت بها، والصورة التي لابست المنشآت المادية والأدبية والعلمية في مدنية الإسلام، قد أخفت كثيرا من عوامل الانحلال، التي ظلت تعمل على هدم كيانها منذ أول تكوينها.
على أني أعتقد أن نزعة العرب إلى «تعريب» كل ما وصلت إليه يدهم من المستحدثات المادية والفنية، ومجاراة الذين استعربوا من الفرس والروم وغيرهما من الأمم لهم في هذا المضمار كان أعظم ستر تسترت وراءه عوامل الانحلال التي بثت من تضاعيف تلك المدنية. وهذه الحقيقة تجعلني أميل كل الميل إلى القول بأننا إذا أردنا أن نكون لغة علمية صحيحة، فالواجب علينا أن نجاري الأساليب التي اتبعها العرب في عصور نهضتهم الأولى، وهي ولا شك أساليب أرضت العقول في ذلك الزمان، فلها عندي من هذه الوجهة أعظم المبررات.
على أن نهضة العرب العلمية الأدبية كانت إذا قيست بنهضة النصرانية في أوروبا، مصبوغة بالكثير من ضروب التسامح الديني والعقلي؛ لهذا نجد أن العرب لم يأنفوا من التعريب في المفردات، بل ضحوا كثيرا من أساليب اللغة في سبيل التعبير الحرفي عن المعاني التي نقلوها إلى لغتهم في الفلسفة والعلوم، وهذا التطرف إن كان غير محدد الأثر ولم يفد العربية فائدة كبرى، غير أنه يصح أن يتخذ دليلا على تحرر عقولهم، وعلى استعدادهم لتضحية أساليب اللغة في سبيل تنمية الفهم والمعرفة، والبرهان الأقوى على هذا تلك التراجم التي خرجت من يد حنين بن إسحق، وإسحق ابنه، وحبيش الأعسم، وغيرهم من المترجمين في العصر العباسي؛ تلك التراجم التي ضحت فيها اللغة العربية وأساليبها أي تضحية ابتغاء النقل على أية صورة.
هذا التسامح الكبير كان مضرا باللغة، ولكنه كان مفيدا في تربية نشء اصطبغ بالصبغة اليونانية السريانية، واستطاع بعد قليل تكوين مدارس لها أثرها الخالد على تاريخ الفكر.
أما اليوم فلسنا في حاجة إلى تضحية كثير من أسلوب اللغة على ما أعتقد، والسبب في هذا على ما يخيل إلي، أننا أوقف على أسرار اللغات التي نترجم عنها، من مترجمي العصر العباسي وغيره من العصور؛ ولذا نلاحظ أن اللغة العربية بين أيدينا أطوع في التعبير وأسلس في القياد، لا لأننا أوقف منهم على أسرارها، بل لأننا أوقف على أسرار اللغات التي ننقل منها.
غير أنه ينقصنا شيء واحد توافرت لدى العرب أسبابه؛ ينقصنا في ناحية المراجع العليا التشجيع، وينقصنا في ناحية أنفسنا حبنا للعلم لذاته لا لنتائجه المادية، أما إذا توافرت لدينا الأسباب فإننا نستطيع أن نكون لغة علمية عربية صحيحة، تكفي حاجات العلم الحديث.
ماذا ينقص الشرق؟
يقولون بأن الشرق تنقصه الأخلاق، ويقولون بأنه ينقصه الإتقان، كما يقولون بأن الشرق في حاجة إلى إصلاح ذات النفوس على وجه عام. غير أني أرى أننا أحوج ما نكون من هذه الأشياء إلى تشرب روح الفن، وما أقصد بروح الفن دراسته ومعرفة تاريخه، ولا أقصد أن يكون الفن حرفة عند جميع الناس، أو مرتزقا أو مهنة يمتهنونها، بل أقصد بتشرب روح الفن أن يصبح كل إنسان فنانا بميوله المكتسبة.
يجب أن يتعود الشرقيون النظر إلى أعمالهم نظر الفنان إلى فنه، وبذلك يكتسبون روح الإتقان ويحبون العمل، لا لأجل مزاياه المادية أو عوائده المالية، بل يحبونه كفن يجب إتقانه أولا، ولا جرم أن ذلك يعود بكسب مادي مضعف؛ ذلك لأن الناس يحبون الفن، ويحبون الجمال، بغرائزهم، فإذا تسربت روح الفن وروح الجمال إلى المنتوجات والمستحدثات، عاش الفن وازدهر وأصبح الفن قاعدة الحياة.
حاجتنا إلى الشك
الفرق بين الإنسان في عصوره الأولى والعصر الحاضر، من حيث النزعات العقلية، أنه في أزمانه الغابرة كان يحتاج إلى الاعتقاد، أما الآن فإنه يحتاج إلى الشك.
اكتفى الإنسان في عصوره الأولى بأن يعلل الأشياء تعليلات ظاهرية بما أوحى إليه تصوره، أما في العصر الحاضر فإن النقد قد استوى على عرش العقل البشري حاكما بأمره، ولهذا فنحن أحوج الآن إلى الشك منا إلى الاعتقاد.
فكرة وجود خالق
بين النزعة الدينية وفكرة وجود الله رابطة عقلية قوية، فإنه لا يمكن أن تعثر على دين من غير أن تقع فيه على فكرة وجود خالق، ولقد دارت المعركة قديما بين العلم واللاهوت، وما نقصد به سوى المذاهب الدينية التي أصبحت في نظر أربابها مقدسة، كمتون الدين الأصلية. أما اليوم، فسوف تدور المعركة، كما يقول الأستاذ جوليان هكسلي، حول فكرة وجود خالق أو بالأحرى حول فكرة وجود الله. على أنني لا أدري كيف تدور المعركة حول فكرة وجود الله، وهو ليس في الأذهان أكثر من فرض ضروري تقتضيه الكفايات العقلية في الإنسان، فرض من تلك الفروض التي لا يستطيع العقل أن يحتفظ بألفته وتماسك نواحيه من غير أن يعتقد بصحته اعتقادا إلزاميا، لا اعتقادا إقناعيا. إذن يخلق بمن يقول بأن المعركة القادمة ستدور بين العلم وبين فكرة وجود الله، أن يقول بأن المعركة ستقوم بين صفتين عقليتين؛ إحداهما تكرهنا على أن نفرض وجود الله فرض ضرورة، والأخرى تحاول التخلص من ذلك الفرض.
التنزيل والوحي والعقل
إذا استطاع الذين يؤيدون الأديان أن يثبتوا صحة التنزيل، انتهت المعركة القائمة بين الدين والعلم بانتصار الدين، على أننا لا نقصد ب «الإثبات» الإثبات النقلي، بل الإثبات العقلي الذي يقره العلم؛ لأنك لا تستطيع أن تقنع العلم إلا ببرهان مستمد من أسلوبه، وقائم على طريقته، أما صحة التنزيل فقائمة على قبول فكرة الوحي، وعندي أن الوحي والتنزيل لم يقم عليهما إلى الآن دليل يصح أن يطمئن إليه العقل.
فساد الأمم وفساد الزعماء
في التاريخ أمثال كثيرة تدلنا على أن أمما برمتها قد فسدت وفنت بموت زعمائها، كما أنك تقع على أمثال كان فساد الأمم فيها عاملا من أكبر العوامل على فساد الزعماء وموتهم أدبيا، ولا جرم أن المثل الثاني أكثر انطباقا على أمم الشرق في حالتها الحاضرة من المثل الأول.
طرفا الفن
أعتقد أن للفن طرفين، أحدهما بالغ منتهى الجمال، والآخر بالغ منتهى القبح، فالفنان الذي يخرج لك من ريشته أو أزميله صورة أو تمثالا، يبهجك جماله، أو المغني الذي يلقي على سمعك مقطوعة تطير بك إلى عالم الأثير، لا يفضل عندي فنانا يخرج لك صورة تمثل منتهى البشاعة والقبح. أليست قدرة الأول على تصوير الجمال، تناظرها قدرة الثاني على تصوير القبح؟ وإذا كانت الملاحة محبوبة عند الناس والقبح مبغوضا، فذلك راجع إلى الميول البشرية، لا إلى الفن من حيث هو قدرة على تصوير مختلف صور الحياة.
ميل الجماهير للمستبدين
يظهر أن في الجماهير ميلا شديدا وحنوا على الذين يحتقرونها بأعمالهم دون أقوالهم، ويظهر أيضا أن الجماهير من عباد القوة دون غيرها. ظاهرة يمكن الاستدلال عليها في كثير من ظروف الحالات التي تقع تحت أعيننا في كل يوم، بل وفي كل آونة.
مستبد يقوم في أمة من الأمم فيقتل حرياتها قتلا، ويستولي على الزمام من أمورها عنوة وغصبا، ويهدر كل يوم من أبنائها دماء ربما كانت أزكى من دمه، ويعقل منهم عقولا ربما كانت أرجح من عقله، ثم يغويها بكلمات جوفاء ك «الماضي المجيد الذي تعمل على إحيائه»، و«التراث العظيم الذي تعمل على بعث رفاته»، و«ستحاربون منتصرين بعد خمس سنوات فتزلزلون الأرض وتحميكم أرواح الأجداد»، و«الإمبراطورية العظيمة تنتظركم فوق الأرض وملكوت الله في السماء»؛ فلا تلبث الجماهير أن تنقاد متحمسة للذل، متفانية في العبودية، مستميتة في حب الخضوع والاستكانة.
وصحفي يحاول أن يستغل غفلة الجمهور فيقدم له على صفحة لا أكثر، من ورق لامع وصور متقنة، من فاتنات يرقصن عاريات، أو فتيان يغازلن فتيات في عهر وغواية، أو رواية وقائع لا تروى إلا بين أهل الدعارة، وكلمات يفزع منها كل إنسان عرف قيمة نفسه، فيندفع الجمهور المحتقر في نظر هذه الصحف، الممتهن في عقليته ومستوى آدابه، المتهم في مقدار حكمه على الأشياء؛ وراء هذه الصحف يعضدها لا بإعجابه ولا بمديحه، بل بماله. صحف تعيش على استغلال أحط الصفات البشرية، وتقرض بالربا الفاحش غواية تلقاء ضلالة من الجماهير، لهي صحف تتهم عقلية قرائها بالفساد، وتنشر علنا وتحت حماية من القانون صورا خلقية لم تفكر الحكومات بعد في صيانة الجماهير من أدوائها العديدة.
وإني لأعجب كيف أن حكومة كالحكومة المصرية هيأت قواها بمثل هذه الحملة المبرورة ضد السموم البيضاء التي لا تصيب إلا أفرادا، ولا تقتل إلا مناكيد المجتمع ممن قضى عليهم ضعف العزيمة وفقدوا الشجاعة، تجيز نشر صحف تنفث سمومها لا في الأفراد بل في المجموع، وتعيث فسادا في الأرض وتقيم سدا في وجه المصلحين الذين يحاولون رفع المستوى الأدبي والعلمي، أين منه سد الإسكندر، كلا بل سد يأجوج ومأجوج!
عصر النقد
في الأدب الحديث جانب من النقص لم أعرف حتى الآن كيف يمكن إصلاحه، فإني لم أتبين من منازع الأدباء حتى اليوم أن هنالك بادرة ترمي إلى القضاء على هذا النقص.
أعرف من الأدب في أول ما أعرف منه أنه طريقة في الوضع تقابلها طريقة في النقد. أما طريق الوضع فقد قطعنا فيه شوطا لا بأس فيه على وجه الإجمال، وأما طريق النقد فذلك هو النقص الذي لا نزال نحسه في الأدب الحديث، هذا في عصر يقول فيه «كانت»: «يمكن أن نصف هذا العصر بأنه عصر النقد؛ النقد الذي اضطر كل شيء إلى الخضوع له. فالدين على عرش القداسة، والقانون على عرش العظمة، قد حاول كلاهما مرات أن يفلت من الخضوع لهذه الضرورة، غير أنهما بما حاولا في هذا الشأن قد أقاما في الأذهان شكا فيما يعضدهما من الأسس والقواعد، كما أنهما عدما بهذا كل ما حبا العقل غيرهما به من الأشياء التي أثبتت قدرتها على الثبات أمام النقد الحر.»
أخرجت منذ مدة كتيبا في مقارنات تاريخية تقليدية سميته «قصة الطوفان وتطورها في ثلاث مدنيات قديمة: هي الآشورية البابلية والعبرانية والمسيحية، وانتقالها باللقاح إلى المدنية الإسلامية»، وأرسلت منها هدايا للصحف والمجلات التي خيل إلي أنها تقدر الاطلاع على مثل هذه البحوث، فكانت الباكورة أني اطلعت في إحدى مجلات العراق على نقد جاء فيه: «إسماعيل مظهر مغرم بكل ما يخالف معتقد الأقوام الذين يعيش في وسطهم، وقد يصيب في بعض الأحيان فيما ينكره عليهم (الحمد لله)، لكن في أغلب الأحايين يخطئ الهدف.»
ثم قال الكاتب: «وأول ما يشاهد في مطبوعات دار العصر أغلاط الطبع، فإنها تسبق جميع المطابع في هذا الميدان.» ثم قال: «ونراه كثيرا ما يجعل بجانب الكلمة الاصطلاحية العربية الكلمة الإفرنجية، في حين لا حاجة إلى ذكرها لشيوع معرفتها عند الجميع، مثل الدين والفلسفة والتأمل والعلم إلى نحوها.» ثم قال: «وكثيرا ما يخطئ الكاتب في معرفة الألفاظ العربية الاصطلاحية، فإنه ذكر في ص15: أنثروبومورفزم، أي الفكرة القائلة بتزويد الله شيئا من الخصائص الإنسانية. والمعروف عند السلف (رضي الله عنهم) بهذا المعنى مذهب المشبهة أو التشبيه. وسمى الفلسفة الحسية بالفلسفة الإثباتية، وكيف جاز له أن يسميها إثباتية والحس أساسها، والحس كثير الانخداع كما هو مقرر في علم الطبيعيات.» إلى غير ذلك، ثم ذكر أني أخطأت في تعريب أسماء أعرف أنه لا يصيب في تعريبها الآمن درس اللغات القديمة، وعلى الأخص الآشورية والكلدانية.
وإني لا أريد أن أناقشه فيما ذهب إليه، وعلى الأخص لدى اعتراضه على اصطلاحي «ذاتي» و«موضوعي»، اللذين أراد ترجمتهما بالذهني والغرضي على ما قال السلف، مع أن المقصود منهما في الفلسفة الحديثة بعيد عما ذهب إليه هذا السلف. ولا أريد أن أنبهه إلى أني ترجمت اصطلاح أنثروبومورفزم ب «الناسوتية»، وأني أول من ذهبت هذا المذهب في ترجمتها وأغفل مناقشتي فيها. ولا أريد أقول له إن ترجمة فلسفة كونت
بالحسية خطأ محض وداهية دهياء على الفلسفة وأهلها. ولا أريد أن أقول له إني جريت في ترجمتها بالإثباتية على قول السلف؛ إذ كانوا يقولون فلان جبري وفلان إثباتي أو مثبت. ولا أريد أن أنبهه إلى أن الفلسفة الإثباتية لا تقوم على الحس وحده، بل تعتمد بديا كما تعتمد كل العلوم على «تصور» صحيح يثبته الحس بالتجربة أو المشاهدة. ولا أريد أن أوجه نظره إلى أنه اتهم أكثر من صحيفة ومطبعة بالأخطاء المطبعية، فقال في جريدة «البلاد» التي يصدرها في بغداد الأديب الفذ «روفائيل بطي» أن أغلاط الطبع تتدفق فيها تدفق السيل العرم. لا أريد أن أنبهه إلى شيء من هذا، بل أريد أن أسائله - بعد أن أسلم جدلا بكل نقوده هذه - أين الموضوع يا أستاذ؟ كل ما قلت صحيح! ولكن ما رأيك في مقدمة الكتاب وفي الموضوع نفسه. ذلك الموضوع الذي لم نرم فيه إلى تعريب الألفاظ ولا ترجمة المصطلحات، بل إلى مرمى يعرف الكاتب أنه مهزوم إن ناقشه.
هذا ما ينقصنا في الأدب الجديد؛ طريقة للنقد نتحرر بها من التقاليد ومن التغرض. وقد يسائلنا البعض: أين التغرض الذي ظهرت عليه مجلة لغة العرب التي ساقت هذا النقد؟ فنقول له: ارجع إلى الصفحة المقابلة لهذا النقد، والتي نشر في رأسها نقد جريدة البلاد «الحرة الفكر» لترى في نهايتها ما يأتي:
الفردوس - مجلة دينية أدبية تاريخية شهرية وسنتها عشرة أشهر ، يصدرها القس منسي يوحنا راعي الكنيسة القبطية بملوي - ورد الجزء الأول بحجم الثمن الصغير وفيه 16ص، والمجلة مفيدة لمن يريد إصلاح الأمة من وجهة الدين، وهي الوجهة الحقيقية التي لا يستغني عنها امرؤ يبغي الفلاح لنفسه ولغيره.
سائل محرر «لغة العرب»: ألم يخطئ راعي الكنيسة القبطية بملوي؟ ألم تعثر في مجلته على غلطة مطبعية؟ كلا بالضرورة، وألف كلا. •••
يروى عن أمية بن أبي الصلت أنه قال في شأن وقعة الفيل يذكر الحنيفية دين إبراهيم:
إن آيات ربنا باقيات
ما يماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل
مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب كريم
بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظل يحبو كأنه معقور
2
لازما حلقة الجران كما قط
ر من صخر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطا
ل ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا
كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الله
إلا دين الحنيفة زور
وقال في خراب سدوم وقصة لوط:
ثم لوط أخو سدوم أتاها
إذ أتاها برشدها وهداها
راودوه عن ضيفه ثم قالوا:
قد نهيناك أن تقيم قراها
عرض الشيخ عند ذاك بنات
كظباء بأجرع ترعاها
غضب القوم عند ذاك وقالوا:
أيها الشيخ خطبة نأباها
أجمع القوم أمرهم وعجوز
خيب الله سعيها ورجاها
أرسل الله عند ذاك عذابا
جعل الأرض سفلها أعلاها
ورماها بحاصب ثم طين
ذي حروف مسوم إذ رماها
وقال يذكر قصة تضحية إبراهيم لابنه إسحق:
ولإبراهيم الموفي بالنذ
ر احتسابا وحامل الأجزال
بكره لم يكن ليصبر عنه
أو يراه في معشر أقيال
أي بني إني نذرتك لله
شحيطا فاصبر فدى لك حالي
واشدد الصفد لا أحيد عن السك
ين حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللح
م جذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه
فكه ربه بكبش جلال
فخذن ذا فأرسل ابنك إني
للذي قد فعلتما غير قال
والد يتقي وآخر مولو
د فطار منه بسمع فعال
ربما تجزع النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
ولشعراء النصرانية كثير من مثل هذا الشعر الذي يصوغون فيه روايات دينية في أحسن حلة. وغالب الظن أن هذا الموضوع لم يطرق في نقد الشعر العربي من قبل، فلو توفر عليه أديب ومضى في مقارنات يستخلص منها معتقد هؤلاء الشعراء، وهم الذين مثلوا حركة الثقافة بنواحيها في عصورهم، كان لنا مجال جديد في البحث الأدبي له فوائده كما أن له جماله.
ويروى على ذكر أمية بن أبي الصلت أنه عندما مرض مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية (دين إبراهيم) حق ولكن الشك يداخلني في محمد. ولما دنت وفاته أغمي عليه قليلا ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما
ها أنا ذا لديكما
لا مال يفديني، ولا عشيرة تنجيني. ثم أغمي عليه أيضا بعد ساعة حتى ظن من حضره من أهله أنه قد قضى. ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما
ها أنا ذا لديكما
لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر. ثم إنه بقي يحدث من عنده ساعة، ثم أغمي عليه مثل المرتين الأوليين حتى يئسوا من حياته، ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما
ها أنا ذا لديكما
محفوف بالنعم
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما
ثم أقبل على القوم فقال: قد جاء وقتي فكونوا في أهبتي. وحدثهم قليلا حتى يئسوا من مرضه، وأنشد يقول:
كل عيش وإن تطاول دهرا
منتهى أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
في رءوس الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينك واحذر
غولة الدهر إن للدهر غولا
الشعر والمادة
إن بين كثير من الأمور النفسية والعاطفية، وبين كثير من الماديات، تقابلا حتى يخيل إليك أن الأشياء النفسية والعاطفية كأنها ماديات تحولت أشياء معنوية، أو كأن الماديات أشياء معنوية استحالت جمادات.
من ذلك أن بين الشعر والمادة تطابقا من حيث إن لكل منهما «ماهية» لم يتوصل العلماء إلى معرفتها في المادة، ولم يتوصل الأدباء والنقاد إلى معرفتها في الشعر. فإذا قيل مثلا، إن الأشياء الظاهرة في المادة إنما هي أعراض ينبغي أن يحملها جوهر فيه تكمن الماهية، فكذلك يستطاع أن يقال في الشعر إن كل الصفات التي يقول الأدباء والنقاد إن من الواجب أن تتوفر في الشعر حتى يحكم عليه بأنه جيد، إنما هي أعراض يحملها جوهر فيه تكمن ماهية الشعر.
فإذا كان اللون والحجم والوزن والطول والعرض والثقل وما إلى ذلك، جميعها أعراضا ينبغي لكي تظهر لحواسنا أن تكون محمولة في جوهر ذي ماهية خاصة، وإذا كان الوزن والقافية واللفظ والصناعة والمعنى والخيال وما إلى ذلك، جميعها أعراضا يحملها جوهر، فما تلك إلا تعبيرات عنه ودلالات عليه، إذن فأين المادة وأين الشعر؟
أليس في مثل هذا التقابل بين الماديات والعاطفيات النفسية مواضع للتأمل ومواطن للاستبصار؟
شاعرية الألفاظ
ما أقوى العلاقة القائمة بين الشعر وبين الحالات النفسية! وعندي أن التأثر النفسي بالشعر أقوى الأسباب التي تدعونا إلى نقد الشعر؛ ذلك بأن المعايير النقدية التي يخضع الشعر لسلطانها، على اختلافها وتباينها، تتضاءل جميعا إذا قيست بالمعيار النفسي. على أن للمعيار النفسي في نقد الشعر عوامل كثيرة، منها الموسيقى المستمدة من القافية والروي، ومنها قوة الخيال، ومنها الاتجاه الذي يتوجه فيه الشعر ... إلى غير ذلك، وجميعها عوامل تؤثر في المعيار النفسي في نقد الشعر. غير أن أقوى هذه العوامل تأثيرا معيار النقد النفسي للشعر، إنما ينحصر في شاعرية الألفاظ.
فقد نسمع من كثير من النقاد أن هذا الشاعر بارد الأنفاس، وأن ذاك غير ماهر في اختيار الألفاظ، من غير أن نحدد المعنى المقصود من أمثال تينك العبارتين تحديدا يرضاه المنطق وتقره طبيعة العقل؛ إذ هي ترمي دائما إلى تحديد معنى لكل لفظ مفرد، وإلى تحديد معنى لكل عبارة تكونت من ألفاظ. فإذا أردنا أن نحدد ما يعصر من عبارات تجري بها في العادة أقلام النقاد والكتاب، وجب أن نرجع بها إلى أصولها النفسية، حتى نستطيع أن نفسرها تفسيرا منطقيا يقبله العقل وتقره ما فينا من طبيعة الميل إلى تحديد كل المعاني التي نتخذ الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التعبير بها.
والواقع أننا نقول إن شاعرا بارد الأنفاس، وإن آخر غير ماهر في اختيار الألفاظ، إنما نعبر بهذا عن حقائق نفسية، تنزل من أنفسنا منزلة أبعد الأشياء اندساسا في أغوار الفطرة؛ فقد نعلم أن من الحقائق النفسية ما دعاه النفسيون: «تداعي الأفكار». فإن اللفظ الجميل المعنى يدعو إلى الفكر دائما كل المعاني الجميلة التي تلابسه أو تقاربه، ولفظا قبيحا أو محزنا يدعو إلى الفكر كل المعاني التي تدانيه أو تمت إليه بسبب من الأسباب. مثل ذلك إذا قلت «الشاطئ المخضوضر»، دعت هذه العبارة إلى ذهنك كل المعاني الجميلة التي تلابسها؛ فالنهر المنساب، والماء الصافي، والظل الوارف، وصوادح الطير، والرضا النفسي، والأخذة الروحية؛ كل هذه المعاني تؤاتيك غير مختارة لمجرد أن العبارة الأولى قد حملها وعيك، فدعا معها جميع المعاني التي ترتبط بها، وجميع الملابسات المرحة الجميلة التي تلازم الشاطئ المخضوضر. وإذا قلت «القبر الصامت»، أو «الصحراء المجدبة»، دعت هذه العبارة إلى وعيك جميع المعاني المحزنة التي تلابس القبر والصحراء المحزونة الصماء.
هذه الحقيقة لها في نقد الشعر أعظم الأثر، فإن لفظا جميل المعنى حسن الملابسات يدعو إلى الذهن شتى المعاني الأخاذة الجذابة، إن ورد في سياق الشعر أحدث في النفس شعورا بالرضى والجمال، وزاد إلى موسيقى الشعر القائمة على جمال الوزن والقافية، موسيقى نفسية تزيد الشعر تأثيرا في النفس، وتفتق الخيال، فيشرف الوعي من خلال ذلك اللفظ على آفاق من الجمال اللامتناهي تزيد من قيمة الشعر بقدر ما يكون لألفاظه من أثر في استدعاء ألوان الجمال أو التأمل أو العظة أو الحكمة ... إلى غير ذلك. وعكس هذا تماما ما يحدثه لفظ رديء الملابسات فاسد المعنى. وهذا ولا شك ما يقصد النقاد إذ يقولون بأن الألفاظ شاعرية، على أن شاعرية الألفاظ إنما يحددها دائما استعمال اللفظ من حيث ينبغي أن يستعمل، فيكون مطابقا تماما لمقتضى الحال.
الشرق والثورة
حدثني صديق ممن تجمعني به ذكريات عزيزة؛ ذكريات الثورة المصرية (1919)، عندما كانت أنفاسنا حارة كاللهب المضطرم، وكانت أرواحنا مشبوبة كاللظى المتأجج؛ لهيب الشباب ولظى الفتوة. لم يكن عهد الكهولة قد أصاب شيئا من تأملنا أو حفزنا بعد إلى اللجوء إلى قواعد المرجحات العقلية التي هي عندنا اليوم أشبه شيء بقانون المرجحات الرياضية؛ فإما أن نرضاها، وإما أن نعتقد أننا على غير صواب، وأننا إلى الشطط أقرب. حدثني ذلك الصديق عن الشباب وعن أيام الجهاد المستمر والسعي المتجدد في سبيل إذكاء روح الثورة في نفس الجماهير، وذكرني بما كان لنا من مواقف نعجب الآن كيف خرجنا منها وفينا نفس يردد أو عرق ينبض. كيف لم يحصدنا الرصاص؟ وكيف لم تسل أنفسنا على شفرات السيوف؟ كيف هزأنا بالموت غير مقدرين أن الموت كان أقرب إلينا من حبل الوريد أشهرا طوالا بل أعواما؟ وكيف خلصنا من جميع هذا بأرواحنا سليمة وجسومنا لم يصبها كلم واحد؟
قلت له في خلال الحديث: ما أشهى تلك الأيام! فإن للمخاطرة بالروح جمالا لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يفوز بالسلامة. ذلك جمال أشبه بجمال الفقر الذي لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يلوذ بالغنى. ولعل الأمر على عكس ما يخيل إلينا، ولعل الواقع أن المخاطرة والنقد ليس فيهما من جمال، وأن ما نستشعر من جمال منهما بعد الفرار من آصارهما قد يكون جمال الذكريات الماضيات؛ إذ تحيي في النفس جزءا من ماضيها، وتطبعها بطابع قديم كاد يبلى على الأيام.
قلت لصديقي: من لنا بمثل تلك الأيام؟
قال الصديق: نعم، نحن في احتياج إلى ثورة؛ إلى ثورة طاحنة تمضي بكل ما يقف في طريقها، وتأتي على كل ما يقاومها، ثورة شيطانية لا عقل لها، ثورة مبرأة من الرشاد والحب والنهى؛ ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل، ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول، ثورة منزهة عن السيف والمدفع وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم، بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعا شياطين خرسا، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مثلنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مثلا عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين.
وكان صديقي يتكلم متهدج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صوت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة.
في سبيل العلم
في سبيل العلم ما احتمل غليليو، فقد قال إن الأرض هي التي تدور حول الشمس، على الضد من العقيدة اللاهوتية التي اعتنقتها الكنيسة الرومانية. لما هم رؤساء الكنيسة باتهام غليليو، كان مؤلفه قد ذاع في أنحاء أوروبا، فزاد ذلك من غضبهم عليه وتبرمهم منه، وكان على رأس الكنيسة «أريان الثامن»، ولم يكن بابا لا غير، بل كان أميرا من بيت «بربريني»، فأخذته العزة بالإثم، وأمر بأن يمنح غليليو وكتابه هبة منه لمحكمة التفتيش.
وعبثا حاول «كاستلي» البنديكتي أن يقنع رجال الكنيسة بأن غليليو يحترم الكنيسة ولا يهزأ بمبادئها، بل ضاعت كل جهوده سدى في سبيل أن يثبت لرجال الدين إذ ذاك «أنه ما من شيء يمكن عمله، من شأنه أن يمنع الأرض من الدوران.» ولكنه طرد ونفي مغضوبا عليه مقصيا به عن الكنيسة، وقسر غليليو على أن يقف أمام تلك المحكمة الرهيبة واحدا فردا بلا مدافع أو نصير؛ وهنالك عذب مرارا حتى اضطر إلى أن يعلن جاثيا على ركبتيه الاعتراف الآتي: «أنا غليليو، في السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور.»
3
إنه ولا شك قد غلب على أمره؛ لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه. ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يؤدي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض.
ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى إن ذلك كان سببا في أن ينكر عليه بعض أبناء عصره نعت «الشهيد»، غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها؛ فلقد كان شيخا كبيرا عمر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفا من فلورنسا إلى روما مكبا على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا بأنه إذا تأخر عن القدوم «أخذ في الأغلال». وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ روما حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألوانا. ولقد كان يعرف جيدا ما هي محكمة التفتيش، وكان يلوح له شبح «جيوردانو برونو»
4
بين اللهيب ماثلا أمامه كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل «هرطقة» العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة «اسبالاترو» وسلم إلى محكمة التفتيش متهما بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وأن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من «المؤمنين».
ولقد استمر اضطهاد غليليو كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقي في المنفى بعيدا عن أسرته، بعيدا عن أصدقائه، مقصيا عن صناعته النبيلة. وقسر على أن يظل خاضعا لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالبا أن يمنح من الحرية بعض الشيء؛ كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن الجواب على ملتمسه الصغير. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الكنيسية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعبادا.
ولقد أجبر على أن يواجه هجمات أعدائه على ذاته وعلى نظريته هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لسانا. ورأى الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقاب الصارم والظلم الفادح؛ فنفي «كاستلي»، ورأى «ريكاردي» رئيس البلاط المقدس و«شيامبولي» سكرتير البابا يبعدهما «أريان الثامن» عن وظيفتيهما محقرين، ورأى عضو محكمة التفتيش في فلورنسا يوبخ أقذع توبيخ لأنه أمر بطبع كتابه، وعاش ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من الطلبات الكنسية ومن كل جامعات أوروبا، بل ليرى عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه، بأخبث النعوت وأحط الذكريات.
ومات غليليو، فطلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في «سانتا كروتش»، فأبوا. وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثرا تذكاريا فلم يسمح لهم. وقال البابا «أريان الثامن» ل «نيكولتي»، وهو السفير الذي كلف بأن يعرض بعض المطالب الخاصة بغليليو الميت عليه، ما يأتي: «إنه لأسوأ مثل يعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام محكمة التفتيش الرومانية؛ لأنه روج فكرة مثل فكرته المملوءة بالخطأ والكفران. ولم يقصرها على نفسه، بل أقنع بها غيره، فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية.»
ونفذت إرادة البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن غليليو من غير تكريم بعيدا عن أسرته، ومن غير تأدية أي واجب ديني، ومن غير أن يقام على قبره نصب أو تأريخ يشير إلى العظمة المخبوءة في ذلك الرمس الذي ضم رفاته.
ومضى على ذلك أربعون عاما جرؤ بعدها «بيروزي» أن ينقش على قبره تاريخا يشير إلى حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع «نيلي» أن ينقل رفاته إلى مسقط رأسه ليضعها في مكان لائق بها، وأقام عليها نصبا. وكانت النار ما تزال مستعرة والعداء مستحكما، فقد طلب إلى رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم «لرجل اتهم بمثل ما اتهم به غليليو من السيئات والخطيئات.» ولهذا رفضت السلطات الكنسية أن يكتب على قبره الجديد أي تذكار ما لم يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات.
فيا له من علم! ويا لها من حياة!
كيف أفكر؟
هل علمتني تلك الكتب التي حبرت خلال الألفين الفارطين من السنين شيئا؟ قد تشب في نفوسنا بعض الأحيان رغبة في أن نعرف كيف نفكر، وقلما تقوم في أنفسنا رغبة في أن نعرف كيف نهضم أو كيف نمشي. لقد تساءلت ما هو عقلي؟ والحق أنه سؤال كثيرا ما أربكني.
لقد حاولت أن أكشف بقوة عقلي ما إذا كانت المصادر التي تجعلني أهضم وأمشي، هي بنفسها المصادر التي تجعلني أتقبل الفكرات. ولم أستطع أن أدرك كيف وإلى أين تذهب تلك الفكرات عندما يعضني الجوع بنابه السام، وكيف تعود وتتجدد بعد أن أسد نهمة الجوع بالأكل.
استبنت فارقا كبيرا شاسعا بين الفكر والاغتذاء، بغيره لا أستطيع التفكير، حتى لقد اعتقدت أن في كياني مادة تفكر وأخرى تهضم. ومع هذا، وبالرغم من أني رضيت نفسي دائما على الاعتقاد بأن في وجودي شيئين، فإني من الوجهة المادية أشعر شعورا صادقا بأنني شيء واحد. على أن هذا التناقض يؤلمني ويؤذيني.
سألت بعضهم، وكانوا من أولئك الذين يفلحون الأرض، أمنا العظمى، عما إذا كان كل منهم شيئين، وعما إذا كانوا قد استكشفوا بفلسفتهم الخاصة أن فيهم جوهرا خالدا باقيا، ومع ذلك فهو مؤلف من لا شيء ولا امتداد له، وأنه يؤثر في أعصابهم من غير أن يلمسها، وأن هذا الجوهر قد حل فيهم بعد أن حملت فيهم أمهاتهم بستة أسابيع؟ فظنوا أني أهزل، ومضوا يفلحون الأرض مبتسمين من غير أن يحيروا جوابا.
أمن الضروري أن أعرف؟
لما أن وجدت أن عددا عظيما من الناس ليس لهم أية فكرة في تلك المشكلات التي تساورني، وهم مع ذلك لا تختلجهم الشكوك فيما يتلقى من المدارس أو من الوجود عامة أو في المادة أو في الروح ... إلى غير ذلك، ورأيت أنهم يهزءون من رغبتي التي تدفعني إلى معرفة هذه الأشياء واستيعابها، شرعت الريبة تداخلني في ضرورة معرفتها، وتخيلت أن الطبيعة قد أعطت لكل مخلوق نصيبا هو حقه الطبيعي غير زائد ولا منقوص، وإذن تكون تلك الأشياء التي لا نستطيع أن نعرفها، ليست من نصيبنا، ولكن بالرغم من هذا اليأس، فإني لا أقدر على أن أجرد نفسي من الرغبة في أن أتعلم، فإن حب الاستطلاع نزعة سوف تظل غير مكفية في نفسي.
أومن بالثورة
تقضي على الظلم، وتقيم العدل، وتحكم بين الناس بالقسطاس المستقيم.
الثورة التي تولد ولا تستولد. الثورة التي يولدها شعور بالظلم، ولا تستولدها الأغراض التي تختفي من وراء الظواهر الكاذبة.
الثورة التي يجمع عليها الشعب، فتكون للشعب، لا الثورة التي يستنبتها الأفاقون في بعض الأحيان، لتكون مطية إلى غاياتهم الذاتية. ثورة الجماعات بعد أن تختمر في نفسيتها عوامل تقدمية ارتقائية، فتنفك من عقالها محطمة كل العوائق التي تحول دون الانبعاث في سبيل تطور طبيعي، هو في فطرة الجماعات بمثابة الغريزة في فطرة الأفراد.
الثورة الانطلاقية التي تقدس الحريات: حرية الفكر، والقول، والنشر، والعقيدة.
الثورة التي تحطم في طريقها كل قيد من القيود التي يفرضها الطغاة على العقل البشري.
الثورة على الطغيان في كل صوره، وبمختلف أشكاله وأوضاعه.
الثورة على الفوضى لإقرار القانون.
الثورة على الاستبداد لإقرار الحرية.
الثورة على الفساد لمحو الفساد.
الثورة على الخيانة لصيانة الأمن الوطني.
الثورة على الاستغلال والاستدماء لبناء مجتمع صحيح التكوين قوي التماسك.
الثورة على النظم التي توسع الفروق بين الطبقات، وتضعف من ظواهر المشابهات بينها.
الثورة على كل غل من الأغلال التي يكون من شأنها كبت الروح الإنساني.
الثورة على كل الأصفاد التي تشل القانون انتجاعا لمواطن النفع الذاتي.
الثورة على الإنسان إذا طغى على القانون والنظام.
الثورة على الشر انتصارا للخير والصلاح.
الثورة على الرذائل الفردية والاجتماعية، إقمدين لإنجلترا بالكثير من تكوينيامة لفضائل الأخلاق. •••
أومن بالثورة لأنها من طبائع الأشياء؛ ذلك بأن للفرد طبيعة وللجماعة أخرى ، وكلتاهما عبارة عن ثورة قائمة. فالفرد إذا لم يثر على نزعاته السفلى، فلا يعرف المثل العليا. إذا لم يثر على الشر، فلا يعرف الخير. إذا لم يثر على الطلاح، فلا يعرف الصلاح. إذا لم يثر على العنف، لما استهدى بنور العقل. إذا لم يثر على الحمق، لما عرف الحكمة. إذا لم يثر على الأوثان، لما عرف الله.
والجماعة إذا لم تثر على الظالمين، لما استقر لها حق في الحياة، ولا في الحرية. وإذا لم تثر على القتلة والسفاحين والخونة وأهل الفساد، لارتدت إلى الحياة الحيوانية؛ حياة الغابة.
والثورة فوق ذلك تكاد تكون فطرة؛ فالتطلع في النفس ثورة على الاستكانة، والأمل ثورة على اليأس، ونشوات السعادة ثورة على البؤس، والعلم ثورة على الجهل، والحب ثورة على البغض والكراهية.
فإذا قلبت جميع مظاهر الإنسان، رأيت أن حياته ثورة قائمة لا تهدأ ولا تنام. ومع أن هذه الظواهر الحيوية بينة بذاتها، سافرة غير مقنعة، تعمى عنها أعين الظالمين. فعسى أن يتعظ الظالمون.
ما هي الثورة؟
هي الخروج على نظام فاسد لإقرار نظام صالح. هي تعبير عن الأحاسيس التي تتجمع في نفوس الأفراد، فإذا اختمرت كان لها صفة الإجماع، فتتبدل من ثورة مكبوتة، أو ثورة كامنة في نفس الفرد، إلى ثورة سافرة تتجلى في تصرف الجماعة.
ما أسباب الثورة؟
هي تجمع الأحاسيس، وتطور النزعات، في نفوس الأفراد، فإذا استمكنت هذه الأشياء من حياة الناس، أصبح التعبير عنها عقيدة ثابتة، والتضحية بنت العقيدة؛ وهنا تكون الثورة.
أمنا الأرض
تجري سنة التغير على جميع ما في الأرض من أشياء؛ فلا بقاء ولا استمرار، بل تحول مستمر بطيء، على مدى الآلاف المؤلفة من السنين.
نعم، لقد صدق الفيلسوف هيرقليطس الإغريقي، إذ قال بمبدأ التغير والحركة.
على شواطئ البحار صراع عنيف دائم بين الماء واليابسة، وهذا الصراع لا بد من أن يحدث تغيرا بطيئا من طبيعة الشاطئ.
تخيل أنك زرت شاطئا بحريا يعلو سطح البحر، وقد غشيته الأعشاب. ثم تخيل بعد ذلك أنك زرت هذا الشاطئ عينه بعد ثلاثين سنة، فلم تجد عشبا ولا أرضا، بل وجدت بركة تسبح فيها الأسماك.
لا شك في أنك تدرك لأول وهلة أن الموج والريح والمد والجزر، كانت من الأسباب التي أحدثت هذه الظاهرة. على أن هذه العوامل الطبيعية قد تحدث أكثر من ذلك؛ إنها قد تأكل الصخر وتفتته، ثم تجذبه إلى الغور البعيد، فلا تلبث الصخرة أن تصبح أرضا مبسوطة، كأن لم يكن عليها تل ولا جبل.
ولا تنتهي عند ذلك قصة ذلك الصراع؛ فإن البحر إنما يأخذ من مكان ليعطي مكانا آخر؛ يأخذ من ناحية من الأرض فضلات متحاتة، ليرسبها في قيعان منه، فلا تلبث أن ترتفع بالترسب حتى يصبح البحر أرضا سواء.
إن كثيرا من السهول تحوي أصدافا؛ فوجودها حيث هي يدل على أن هذه السهول كانت من قبل قيعانا بحرية.
والقول المعروف المنقول عن «هيرودوت»: «إن مصر هبة النيل»؛ قول صحيح من جميع الوجوه؛ فدلتا النيل أرض رسوبية، كانت يوما ما بحرا خضما طمره النيل على مر ملايين من السنين، حتى أصبحت هذه الروضة الغناء التي نعرفها.
والنيل اليوم يزحف بنا في اتجاه أرض إغريقية.
إن البحر ينقل الرمل والحصباء والطباشير والمدر والبقايا المختلفة من الشواطئ، وكذلك قطع الصخور إلى التيارات البحرية، فتنقلها إلى أماكن أخرى تستقر فيها، فيأخذ قاع البحر في الارتفاع، ويقل بذلك عمقه.
وقد يلقي البحر بهذه البقايا ليتألف منها ما يسمى الشواطئ الرملية. كما أنه قد ينقلها مستديرا بها من حول الشاطئ إلى مكان بعيد، حيث تهبط إلى القاع وتستقر.
إن حركة الماء واليابسة هي في الحقيقة حركة هدم وبناء متواصلة.
أليست هذه الصورة بنفسها، هي التي تتكرر في حياة الإنسان؟ هدم وبناء لقدوم الحياة؟! •••
وليس البحر وحده هو الذي يحمل هذا العبء العظيم، فإن للأنهار أثرها في ذلك أيضا؛ فماء النهر يحمل معه من الأرض بقايا ويقذف بها إلى البحر.
ما تحمله الأنهار من بقايا اليابسة، يتوقف قدره وحجمه على قوة انحدار الماء فيها، فإذا كان انحدار الماء ضعيفا، حملت ما صغر حجمه وخف وزنه، وإذا كان انحداره عظيما ، حملت ما عظم حجمه وثقل وزنه. فإذا ما ترسبت هذه البقايا عند مصاب الأنهار، قل عمق ماء البحر عندها شيئا بعد شيء، وعلى مر آلاف من السنين، يرتد البحر إلى الوراء، وتتقدم اليابسة إلى الأمام حتى يتكون ما نسميه «الدلتا».
فنهر المسيسيبي مثلا يجري في حوض مساحته 1147000 ميل مربع، ويجرف من مجراه إلى البحر ما لا يقل عن 7459267200 قدم مكعب من البقايا، كالتراب والمدر والحصباء.
ونهر «بو» في إيطاليا يجري في حوض مساحته 30000 ميل مربع، ويجرف إلى البحر 1510137000 قدم مكعب من الرواسب.
ونهر «التايمز» ينقل إلى البحر كل سنة 5000000 طن من المواد الرسوبية. وحينما تحل هذه الرواسب، يتكون بحلولها طبقات أو قيعان جديدة، تعلو ثم تعلو. فإذا مرت ملايين السنين، وجد أهل الأرض فيها مراتع خصبة ووديانا وأرزاقا جمة.
وهكذا تجري سنة التغيير على الأرض بفعل العوامل الطبيعية والعناصر. إن الدنيا هدم وبناء، وكذلك الحياة.
جيوردانو برونو في عصر الظلام
فيلسوف إيطالي عاش في عصر النهضة (1548-1600)؛ عاش في غمرة الانقلاب الفكري الذي أحدثه كوبرنيكوس وغليليو ... والثورة الفنية التي خلقت ما خلد من آثار فناني ذلك العصر العجيب.
كان عمره خمسة عشر عاما عندما التحق بالدومينيكيين في نابولي، ويقال إنه ألف كتابا في «سفينة نوح». أما السبب في التحاقه بزمرة دينية، ثم شكوكه التي ساورته في بعض العقائد الأساسية للدين النصراني كعقيدة التجسد، فلا يذكر له المؤرخون سببا، أو يروون وقائع تبين عن حقيقة ذلك الانقلاب المخيف في عقلية إنسان تملكه الإيمان، ثم تملكه الشك.
اتهم «برونو» بالمروق ثم بالكفر، واضطهد وطورد، فهرب من روما حوالي سنة 1576، ومضى يتنقل من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ثم استقر في «جنيف» سنة 1579. غير أن الجو الذي عاشت فيه تعاليم «كلفن» لا تعيش فيه تعاليم «برونو»؛ فتلك تعاليم تحددها النصوص والعقائد، وهذه تعاليم أساسها الشك وقوامها الفكر الحر.
هجر «برونو» مدينة جنيف طالبا السلامة لنفسه وفكره، ولاذ بمدينة ليون بفرنسا. ثم ما لبث أن هبط «تولوز »، ومن ثمة في «مونبلييه»، ثم لجأ إلى «باريس» في سنة 1581.
ما حل بمكان إلا وبشر بالآراء الجديدة، والمستكشفات الحديثة في عصره، سواء أفي الفلسفة كانت أم في العلم. تلك الآراء والمستكشفات التي كانت بداية ثورة عنيفة قامت في عالم الفكر الإنساني.
نهل «برونو» من منهل النهضة، حتى غص فكره، وامتلأت نفسه، وثبتت عقيدته على أن الفكر البشري لا ينتعش في بيئة تغشاها غيوم الفلسفة القائمة على سلطة اللاهوت وتقاليد الكنائس.
تكونت زبدة فكره من آراء «لوكريشيوس» و«الرواقيين» ومذهبهم في وحدة الوجود الطبيعي. وأخذ شيئا عن «أناكساغوراس»، واستمد من الأفلاطونية الجديدة. ولكنه استعمق في دراسة «نيقولاس دي كوزا»، الذي يوصف بأنه فعل في عالم التأمل ما فعل «كوبرنيكوس» في عالم الفلك. •••
لما نزل «باريس» تقبله الملك «هنري الثالث» بقبول حسن، وهيأ له كرسيا لتدريس الفلسفة، على أن يقبل أولا أن يتلقى «الأسرار المقدسة»، فرفض بكل إباء. وبالرغم من هذا سمح له أن يحاضر في الفلسفة، غير أنه لم يلبث على ذلك إلا ريثما يتهيأ للنزوح إلى إنجلترا سنة 1583، حيث أقام عامين تعلم فيهما أمرين: الأول، كيف يمقت جفاف الطبع الإنجليزي؛ والثاني، أن الأساطير تسيطر على جو «أكسفورد»، كما تسيطر على جو «جنيف».
هيأت له جامعة «أكسفورد» ندوة يحاور فيها بعض رجال العلم في مذهب «كوبرنيكوس» ومذهب «بطليموس» في نظام الأفلاك. وعلى إثر ذلك نشر كتابا أيد فيه صحة القول بدوران الأرض من حول الشمس كما يقول «كوبرنيكوس».
في سنة 1584 نشرت محاوراته التي عنوانها «طرد الوحش المستبد». وفي الأولى منها أفرغ برونو خلاصة فلسفته، وبدأها بأن قال: إن الآلهة حاولت أن تطهر السماء من الصور السماوية التي من شأنها أن يذكرهم وجودها بأعمالهم الخبيثة، لتضع محلها صورا تذكرهم بالفضيلة والأدب المثالي.
ومضى يهاجم اللاهوت الوثني، متخذا من ذلك قناعا يخفي وراءه نزعته إلى القضاء على كل عقيدة دينية تقوم على القول ب «التشبيه»: أي القول بأن الله مزود بما يشبه الخصيات الإنسانية.
أما بداية محاضرته الثانية، فأهم ما تضمنت محاورات «برونو »، وهي ثلاثة. ففيها تحل الفضائل محل الوحوش الخيالية التي مثل لها في محاضرته الأولى، فيسود بدلا منها الحق والتبصر والحكمة والقانون والنظام.
ثم هاجم المعتقدات القديمة وأصحابها هجوما عنيفا، فقال: «إن الكهنة فئة متعالمة، تعمل دائما على هدم سعادة الإنسان في الأرض؛ وإن بهم أطماعا دنيوية، فضلا عما بهم من انحلال الخلق، ونزعتهم إلى بذر الشقاق والخلافات بين البشر.»
وهزأ بالأسرار المقدسة، فقال: «إن قصص التوراة أساطير أشبه بأساطير الإغريق.» ونفى المعجزات قائلا إنها إلى صناعة السحر أقرب شيء. •••
تعقبه رجال محكمة التفتيش، فقبضوا عليه وسجنوه. ثم أخذ إلى روما في سنة 1593، حيث قضى في السجن سبع سنين. وفي فبراير من سنة 1600 طرد من حظيرة النصرانية، وفي السابع عشر من ذلك الشهر أحرق حيا في روما.
وظل «برونو» ذلك الثائر الحر، مطويا في جوف التاريخ قرنين كاملين، حتى تنبه إليه الفكر الذي كان أكبر المدافعين عن حريته، فأقيم له تمثال في روما نصب في ميدان «كامبو دي فيوري»، وفي نفس المكان الذي أحرق فيه.
موكب الحياة
في الأساطير القديمة قصص عن أشخاص أو رواد أو أبطال، وهبتهم الطبيعة قدرة خاصة على فهم منطق الطير؛ ذلك الذي ظن خطأ أنه أبكم لا يقدر على شيء. وعلى الرغم من أننا لم نزود بكفاية القدرة على فهم منطق الحيوان، ذلك المنطق الذي يتألف من إشارات وأصوات، فإن البحوث الحديثة قد هيأت لنا فرصة الوقوف على المخلوقات التي تعايشنا فوق هذه الأرض. فرفعنا بعض الحجب التي لا يزال كثير منها يغشى على مباحث التاريخ الطبيعي، حتى بعد أن أفلح علماء الأحياء، وعلى رأسهم «لينايوس» في أن يبينوا لنا عن العلاقات الأساسية التي تربط بين نواحي الطبيعة الحية. •••
في سنة من أوالي سني القرن العشرين، وجه محرر إحدى الصحف سؤالا لقرائه، أراد به أن يعرف منهم اسم الكاتب الإنجليزي الذي خلف أكبر الأثر في توجيه الفكر الإنساني في أثناء القرن الفارط. وألقي هذا السؤال على سير «هربرت مكسويل» العالم الطبيعي المعروف، كما ألقي على غيره .
يقول سير هربرت، إنه عندما مضى يفكر في الاسم الذي يكتبه، أخذ القلم بعد قليل وكتب اسم «شارلس داروين».
قد يتفق أن يوجد من يأنف أن يضفي هذا الشرف على عالم مواليدي، دون مجموع اللاهوتيين والمؤرخين والفلاسفة والأخلاقيين والشعراء وكتاب المقالة والقصصيين، الذين ظهروا في خلال القرن التاسع عشر برمته، ومنهم من خلف آثارا دمغ بها الفكر بطابع ثابت في الناحية التي تمشت فيها مواهبه. غير أن الواقع أنه لم يتح لواحد من هؤلاء أن يصمد لمثل ما صمد له «داروين» من عناد ونبذ لما أتى به من حقائق العلم الطبيعي في أي فرع من فروع المعرفة، ولم ينتصر غيره في مجاله، انتصار «داروين» في مجال ذلك العلم، ولم يخلف غيره من الأثر ما خلف من النتائج وأساليب البحث في ميادين النشاط العقلي.
ليس من غرض أن أستطرد هنا إلى الكلام في «داروين»، وهل أمكنه أن يؤلف جميع حلقات التطور الحيوي في عقد تنظيم من الفكرات المسلسلة، أو أنه عزي إلى نظرية الانتخاب الطبيعي من التأثير أكثر مما لها في حقيقة الأمر؟
إن هذه الأشياء من شأنها أن تظل زمنا آخر مثارا للمناقشة والخلاف. أما الذي أجمع عليه الناس، فهو أن «داروين» إذ استجمع كل حقائق العلم والبحوث التي تقدمته واستوعبها وأنعم النظر فيها، مؤيدا بعضها نابذا البعض الآخر، وأنه إذ أثبت صحة الكثير منها بملاحظات علمية دقيقة، وأضاف إليها نتائج بحوثه في تولد الحيوانات الأليفة؛ قد وقع إلى رفع «علم الأحياء» في جملته وفي متجهه إلى ذلك المستوى الرفيع، وأضفى على الحياة ثوبا جديدا مثيرا للعجب، باعثا على الإجلال والإكبار.
نعم، كان ذلك بعض ما أضفى «داروين» على طبيعة الحياة، غير أننا لا نبالغ إذا قلنا إن عالم الأحياء قبل «داروين» لم تكن له صفة الرتابة في أذهان الناس. كان علم الحياة أشتاتا وأباديد، فعمد «داروين» إلى هذه الأشتات ورتبها وصنفها تصنيفا متمشيا مع واقع الأمر من تطور الحياة، على مدى العصور، فأظهر أن للعالم موكبا نظيما سار فيه ، مماثلا لموكب الحياة أبان عنه علماء الطبيعة وصوروه أحسن تصوير، منذ أن كانت المادة سديما لا شكل له ولا صورة، حتى صار إلى النظام الكوني الذي نراه الآن.
ومنذ أن وصل الفكر الإنساني إلى هذه الغاية، انساقت بحوث العلم الطبيعي جميعا نحو إظهار ما في هذه الحياة من آيات، هي أجزاء متناسقة من موكب رتيب، هو موكب الحياة.
مخلب النمر
كتب بانديت «نهرو» سيرته الشخصية، ونشرت في الإنجليزية بعنوان «نهرو». والسيرة من مفتتحها حتى مختتمها، صفحة رائعة من الكفاح والجهاد، ومن العقيدة والإيمان. قرأت هذه السيرة، فوقعت في صفحة 419 على العبارات الآتية: «إني مدين لإنجلترا بالكثير من تكويني العقلي، حتى ليتعذر علي أن أعتزلها اعتزالا كليا. ومهما يكن من أمري، ومن سلوكي، فإني لا أستطيع أن أتحرر تماما من الصبغة العقلية، والمثل والأساليب التي تلقيتها في المدرسة وفي الجامعة ببريطانيا، تلك الأشياء التي أطل من نافذتها على الشعوب الأخرى، بل وعلى الحياة في جملتها.» «إن كل ميولي الأخرى، ما عدا نزعتي السياسية، تجري مع إنجلترا ومع الشعب الإنجليزي، وإني إن أصبحت كما يقال خصما لا يلين للحكم البريطاني في الهند، فإنما كان ذلك برغمي وفوق إرادتي.» «إنما ذلك الحكم، وإنما ذلك الإذلال، هو الذي نعاديه ونخاصمه، ولا نسالمه طائعين، لا الشعب الإنجليزي. فلنمكن إذن من روابطنا بهذا الشعب وبكل الأمم الأجنبية الأخرى. إننا نريد جوا منعشا في الهند، نريد أفكارا جديدة وضربا من التعاون سديد الاتجاه، بعد أن تقدم بنا العمر واكتهلنا.» «ولكن الإنجليز إذا أرادوا أن يمثلوا معنا دور النمر، فلن يتوقعوا منا صداقة أو تعاونا. إننا لا نكن لنمر الاستعمار إلا أشق صور المقاومة، وأعنت ضروب الخصام، وعلى أمتنا أن تعالج ذلك الحيوان المفترس، فإنه من المستطاع أن تؤلف نمر الغابة، وأن تكسر من حدة استشرائه وافتراسيته وهي فطرية فيه، ولكن ليس هنالك أي احتمال لأن تؤلف الاستعمار بما فيه من الجشع الرأسمالي وحب التسلط، إذا ما تحالفا على إخضاع أرض بائسة تعيسة تنكب بهما.» «لا جرم أنه من الخطأ أن يقول إنسان إنه أو أمته، لن يلين ولن يتفاهم، ذلك بأن الحياة بطبعها تدعونا جميعا إلى التفاهم. إن الصلابة المطلقة نزعة خاطئة في أية أمة ظهرت، وفي أي مكان تكون، ولكن إلى جانب هذا، يقوم كثير من الحق الثابت في ضرورة انتهاج خطة التصلب القاسية، إذا ما قام نظام من الحكم فاسد، أو نشأت ظروف أو حالات تصبح معها النزعة إلى التفاهم أشق من أن يتحملها الطبع البشري.» «إن التسلط الإنجليزي وحرية الهند ضدان لا يجتمعان، ولن يستطيع القانون، ولن تتهيأ الظروف لوجه ما من التعاون بين الهند وإنجلترا، إلا بمحو كل ضروب التسلط الاستعماري في الهند.»
هذا ما يقول «نهرو». ونحن المصريين أمة مجيدة، غلبنا الإنجليز على أمرنا في غفلة من الزمن، مستغلين فساد أمرائنا في عصر الاحتلال الوبيء، فإذا قمنا بثورة وطنية خالصة لمصر، فذلك بأننا نشعر بأن وظيفة طبيعية من وظائفنا الحيوية يعطلها ذلك الاحتلال الاستعماري، بل ذلك السرطان الإنجليزي، ولن يكون لنا من استقلال حقيقي قبل أن نتغلب على ذلك الداء، ولا دواء لنا إلا تحقيق حرياتنا القومية.
إن العملاق الجبار الذي ظل نائما القرون تلو القرون، يشهد الدنيا تقوم من حوله وتقعد، قد أخذ يتحرك ليشارك الدنيا قياما وقعودا، أخذ ينشد حقه الفطري في أن يقوم بوظيفته الطبيعية في المجتمع الإنساني.
إن أبا الهول بدأ يتكلم.
ولكن باللغة التي يفهمها المعتدون الظالمون القساة، أخذ يسقيهم بنفس الكأس التي سقوا بها الأمم والشعوب.
إن تحقيق حرياتنا واستقلالنا أمر كائن بالفعل؛ لأن ذلك من يدنا. لقد ثرنا فحققنا وجودنا، وثبتنا الحكم على ضفاف النيل لأبناء النيل.
ذلك حق ثابت.
الحزن المقيم
ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟
ما هذه الكآبة الصامتة التي لا تفصح عن معانيها بصرخات الألم، ولا بدموع الشجى والشجن؟
ما هذه السمات المغمورة في فورات من الغم والأسى؟
ما هذه الجبهات المعقودة على ما يختفي وراءها من ترقب كأنه ترقب الطامة الكبرى والمصيبة العظمى؟
ما هذه النظرات الحائرة الباكية بغير دموع، المسفوحة بغير نشيج، ينفس عن الصدور بعض ذلك الوجد الدفين؟
ما هذه الرمقات الجامدة الباردة كأنها الرصاص؟
ما هذه الخطوات المتعثرة التي هي أشبه بمشي الرسيف كبلته الأغلال، وأخذت بناصيته الأصفاد؟
ما هذه العلامات الاستفهامية المرتسمة على كل وجه؛ وجه العجوز الهرم، والفتى في ميعة الصبا، والفتاة في غمرة الهوى والشباب؟
ما هذه الأفكار السود التي تحوم في كل رأس، وتدور في كل ذهن، وتتغلغل في حنايا كل روح؟
ما هذه السلبية التي ملكت أطراف العالم كله، حتى يخيل لنا أن الروح الإنساني قد حبس في أربعة جدران سلحت بالحديد وسيجت بالنار؟
ما هذه الدماء المسفوحة؟ وما تلك النفوس التي تنتظر البوار استجابة لقوى الشر التي استولت على هذه الحياة؟ •••
من العجيب أنك تلمس هذه الظاهرة في جميع أنحاء الدنيا، كأنما أصلت على الإنسانية سيف باتر في يدي جبار ذي بطش، يشهره على نحرها كلما أخذت ثناياها تفتر عن ابتسامة حزينة، فترتد عنها ولسان حالها يقول:
أريد أضحك للدنيا فيمنعني
أن عاقبتني على بعض ابتساماتي
عشت قبل الحرب الأولى، وعشت بعدها، وعشت قبل الحرب الثانية، وعشت بعدها. وربما عشت حتى أشهد حرب البوار التي نحن مقدمون عليها، وقرأت وسمعت أن موارد الدنيا تكفي من فيها وتزيد على مطلوباتهم المعانية لو أنها وزعت بالعدل والقسطاس المستقيم. وقرأت وسمعت أن الأموال التي بعثرت سفها في الحربين العالميتين، تكفي لسد حاجات الناس أجمعين، ليصبحوا في رغد من العيش ورفعة من الحياة. وقرأت وسمعت أن بعض بلدان العالم كانت تخزن القمح الزائد عن حاجتها لترفع ثمنه في السوق إرضاء لمطامع أشعبية. وفي الهند والصين مجاعات تقتل الملايين. أولا يكون هذا من أسباب ذلك الحزن الذي يخيم على دنيانا؟ ألا يكفي أن يموت خير البشر ليأخذنا حزن مقيم؟ •••
كنت وما زلت فلاحي الروح؛ أحب الفلاح وأحب الريف، وربما أكون قد عشت في الريف أكثر مما عشت في الحواضر.
كنت أسمع قبل أربعين سنة أو يزيد؛ أي قبل أن يأخذ الحزن بتلابيب الدنيا، تلك الرنات الجميلة المنبعثة من حناجر الفلاحات تتجاوب بها جنبات الحقول النضرة الجميلة، وهن رائحات أو عائدات، تغنين أغاني الريف الصادرة عن عقل مصر وروحها، فتأخذني نشوة لا تزال تتجاوب بها أنحاء نفسي. أما الآن فلا شيء إلا الصمت المطلق، فلا شاد ولا شادية.
ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟ •••
كنا لا نرى في سمائنا إلا الطير الجميل، يزورنا منه في دورات منتظمة طيور مهاجرة، فإذا سمعنا صوت السقساق الشامي، استبشرنا بالخير؛ لأنه يأتي مع الشتاء؛ زمن الفيض والكثرة. وإذا رأينا الوروار في مستهل الصيف، فذلك زمان التبر المنثور، زمن الحصاد.
أما الآن فترى إلى جانب براءة الطير، تلك القلاع الطائرة التي تحمل إلينا البوار والدمار، والتي في مستطاعها أن تحول حقولنا في طرفة عين إلى ميدان حرب تبور فيها النفوس، وتقضي على الحرث والنسل في لمح البصر، فكأنها رمز الموت مصلتا على رءوسنا، ولكنا لا نعلم متى ينزل. ونزول الطامة أهون من ترقبها. ألا يكون هذا من أسباب ذلك الحزن الغامر المخيم على دنيانا؟
لم يبق لي في الريف، وأنا واحد من ملايين يشعرون مثل ما أشعر، إلا وكر ذلك الكروان الذي شاركني جزءا من سطح بيتي، فظللته بحمايتي، وأخذته في كنفي، إذ لم يبق في الريف من شيء يذكرني بماضي الأيام الحلوة، إلا رنين تلاحينه الجميلة الصداحة، يرسلها في أثناء الليل وفي نور القمر، فتعود بي الذكريات إلى تلك الألحان القوية الرنانة، التي كانت ترسل بها جارتنا بديعة أو «عامرية» بنت أخيها، أو غيرهما من فتيات القرية اللواتي تمتعن بقوة الجسم وقوة الروح.
لم يكن في ذلك الوقت بأسعد حالا من حيث المعاش منهن الآن أو من مثيلاتهن. كن فقيرات درجن في حجر العوز، وكن محتاجات إلى العمل، فعملن في الحقول وفي محالج القطن. ولكنهن كن مرحات كالغزلان، مستخفات كأنهن الطير، سارحات في أثناء النهار وفي أطراف من الليل.
بعضهن الآن في المقابر، وبعضهن جالسات على أبواب الدور مسندات رءوسهن بأكفهن وفي وجوههن الأسى والحزن، أبناؤهن مغمورون في صخب الدنيا، وبناتهن شاردات العقول زائغات الأبصار. من يدريهن؟ لعل في ثنايا القدر حروبا أخرى، أو ملمات كبرى؟ كيف لا والذرة قد فك عقالها، والأيدروجين على الأبواب، وكوبلت، ذلك الشيطان المارد، يحييهن عن بعد، ناظرا إلى أولادهن، سواء في ذلك من شب عن الطوق، أو من لا يزالون زغب الحواصل. كيف لا وهو «كوبلت» الذي لا يبقي ولا يذر.
ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟ •••
الشرق، شرقي الأرض، يريد أن يسود الدنيا. والغرب، غربي الأرض، يطلب أن يكون السيد الأعلى. والناس بين الشرق والغرب يساقون قطعانا، كأنما هم صيران من العجول، فلا إرادة، ولا فكر، ولا إنسانية.
يقول بعض الناس، وهم في العادة ممن أشربت نفوسهم حب الدمار: إن هذه الأزمات ضرورية لرقي الإنسان وتحوله وتطوره. وما هذا القول إلا تعبيرا عما انعقدت عليه ميول زعماء هذا الإنسان من غرور الدنيا، من الحماقة، من الشر، من العجز عن إدراك حقائق الحياة، كما أبرزتها الحكمة البشرية.
إن مصير البشر في يد حفنة من هؤلاء المفتونين بغرور الدنيا، المصروفين عن حقائقها إلى ما تنطوي عليه النفوس من أطماع.
ولو أن مجهود البشر قد تحول كله إلى ناحية الإنتاج والمعاش، إذن لبقي الناس في سلام.
لو أن عقول البشر قد اتسعت للحرية الصحيحة، الحرية التي تحترم استقلال كل فرد وكل جماعة، وتعترف بحقها في الحياة وفي اختيار حكومتها وشكل معيشتها كما تريد، إذن لعم الرخاء وزال الشر، وضرب الإنسان في مدارج التقدم الحقيقي.
حقائق بينة بذاتها، ولكن كيف السبيل إلى تطبيقها ومستقبل البشر في يد حفنة من الذين نسوا هذه الحقائق، وأخذهم غرور الدنيا.
ألا يحق لنا بعد هذا أن نتساءل: ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟
حديث ذو شجون
تحدث الأسقف «وليم رالف إنج»، وهو كاتب شهير من كتاب الإنجليز، إلى مكاتب صحفي، عن حصيلة اتجاهه الفكري عندما بلغ الثالثة بعد التسعين، فقال:
إذا قدر لي أن أعيش عمرا آخر، فلا أظن أني سأنتمي إلى الإكليروس، فإني لم أسعد يوما بالكنيسة الإنجليزية. وربما يقال إني عندما تقدمت بي السن حسنت نصرانيا، وسئت كنيسيا.
لم أحبب السلالة البشرية، وإنما أحببت بضعة أفراد منها، أما البقية فمجموعة من الأوشاب والأخلاط.
جاهدت في جميع أطوار حياتي حتى أقع على الغرض من الحياة، كما عملت على حل ثلاث مشكلات ظلت جوهرية في نظري: مشكلة الأبدية، ومشكلة الشخصية الإنسانية، ومشكلة الشر. غير أني أخفقت، فلم أحل مشكلة منها. ولست الآن بإزائها أكثر علما بها، مني عندما بدأت التفكير فيها. وأعتقد أنه يستعصي على أي إنسان حلها.
عملت أخيرا ما أستطيع، وآمل ألا أكون قد بددت حياتي، ومع هذا فإني لا أستطيع أن أقول إن الدنيا، بوجودي فيها، قد أصبحت أفضل مما كانت. لا أفضل ولا أسوأ. إنها كما كانت وكما ستكون، ولكن لا تنعتني كالعادة بالأسقف الحزين، فإني لم أستحق أبدا هذا النعت.
كل ما هنالك أني حاولت أن أواجه الحقيقة، وأن أكون أمينا، فلا أتطوح حمقا مع التفاؤل.
إني أعلم عن الحياة الأخرى بقدر ما تعلم أنت؛ أي لا شيء. كما أني لا أعلم أن هنالك حياة أخرى على إطلاق القول، وفقا للتعاليم الكنسية.
ليس عندي أية فكرة عن السماء أو عن «إله غفور رحيم».
لا أعلم ماذا ينتظرني.
علي أن أنتظر وأرى.
حكاية التطور: تهيئة المكان والزمن
في أقصى الشمال بلاد مجهولة، بها صخرة عظيمة سعتها مائة ميل عرضا في مثلها ارتفاعا.
يرود هذه الصخرة طائر صغير كل ألف سنة، ليشحذ منقاره.
عندما يتم بذلك تفتت الصخرة، فذلك يوم واحد من عمر اللانهاية. •••
يعيش الإنسان في ظل علامة استفهام ضخمة ...
ما نحن؟
من أين أتينا؟
إلى أين نذهب؟
تباطأنا ولكن بشجاعة لا تهزم، مضينا ندفع علامة الاستفهام شيئا بعد شيء نحو ذلك الخط البعيد الكائن من وراء الأفق، حيث ذهب بنا الأمل أن نقع على جواب.
لم نتقدم كثيرا بعد.
إن معرفتنا ما تزال قاصرة، غير أننا وصلنا إلى حيث نستطيع أن نحدس بأشياء كثيرة، بقدر كاف من الضبط.
إذا مثلنا للزمن الذي مر على نشوء الحياة الحيوانية والنباتية في هذا السيار بخط لا يتجاوز امتداده عرض صفحة الكتاب، واقتطعنا من هذا الخط جزءا من خمسين من طوله، فإن هذا الجزء المقتطع يشير إلى عمر الإنسان، أو عمر مخلوق شبيه به، فوق الأرض.
والإنسان، إن كان آخر صورة في قافلة التطور، فإنه أول كائن استخدم «العقل» ليغزو به قوى الطبيعة؛ وذلك هو السبب في أن الباحثين صرفوا أكثر همهم إلى دراسته، ولم يحفلوا بغيره من المخلوقات، كالسنانير والكلاب والخيل، حفولهم به، وإن كان لهذه المخلوقات من ناحيتها الخاصة، تاريخ نشوئي ذو بال، خلفته من ورائها خلال القرون. •••
كان السيار الذي نعيش فيه - وذلك بقدر ما وصل إليه العلم - كرة كبيرة من المادة المشتعلة، ظهرت كغمامة صغيرة من الدخان في محيط ضخم في الفضاء. وتدرجا، في خلال ملايين متعاقبة من السنين، أكلت النار قشرتها الخارجية، أو قل إن قشرتها «تحارقت»؛ أي أحرق بعضها بعضا، واكتست بطبقة رقيقة من الصخر. ومن فوق هذه الطبقة الجماد، هطل المطر غمرا وبلا انقطاع، مفتتا أجزاء من الطبقة الصوانية، حاملا الثرى والفتات إلى الوديان التي كانت تقبع نائمة بين الصخور الشامخة التي علت الأرض المستبخرة.
وأتت الساعة في نهاية الأمر، فاخترقت أشعة الشمس غلاف السحب، وشهدت كيف أن هذا السيار تغشاه ضحاضح، ستصبح فيما بعد تلك المحيطات العظمى التي تستوي في شرقي الأرض وغربيها.
وذات يوم وقعت الآية العظمى، فإن الأرض الموات الجامدة، قد أنشأت الحياة، وطوفت الخلية الحية الأولى فوق ماء المحيط.
ظلت الخلية الأولى تطوف والتيار يتلقفها بضعة ملايين من السنين، غير أنها كسبت في خلال تلك الأحقاب بضعة خصيات من شأنها أن تجعل عيشها أسهل وأيسر، في أرض لم يكمل بعد تهيؤها للحياة.
ولقد كانت بعض هذه الخلايا أسعد حالا من بعض؛ إذ عاشت في الأغوار المظلمة من البحيرات والبرك، فمدت جذورها في الرواسب المائعة اللزجة التي انحدرت من رءوس التلال؛ وبذلك نشأ النبات. في حين أن خلايا أخر، فضلت أن تظل طليقة متحركة، فخرج منها أرجل ذات مفاصل عجيبة، فكانت أشبه بالعقارب صورة، ومضت تزحف في القيعان البحرية، متنقلة بين النباتات حتى اتخذت صورة السمك الهلامي.
أما غير هذه وتلك، فكانت مخلوقات تكسوها الحراشف، فاعتمدت في حياتها على حركة السبح، للتنقل من مكان إلى مكان سعيا وراء القوت، وعلى مسار الزمن، عمرت المحيطات بالملايين المملينة من صنوف السمك.
ومضى النبات يزداد عددا، منتقلا إلى بيئات أخرى، ذلك بأن قاع البحر، كان قد أفعم به، فلم يبق محل للمزيد منه. ودفعته الضرورة أن يهجر الماء، فشغل حوافي المستنقعات والشواطئ الوحلية تحت قواعد الجبال. لقد كان البحر يغشاه بمده مرتين كل يوم فيغمره بأجاجه.
ومر الزمن.
فحاول النبات أن يتخلص من بيئته غير المواتية، وعمل على أن يعيش في الطبقة الهوائية التي تغلف هذا السيار. وبعد قرون عديدة من المرانة والتمرس عرف كيف يعيش سالما في الغلاف الجوي، كما عاش في الماء، وزاد حجمه، فصار عشبا ثم شجرا، ثم عرف كيف يخرج زهرا جميلا يجذب إليه النحل، ويلفت إليه الطير الذي حمل بزوره، فنشرها في كل مكان، حتى أصبح وجه الأرض مكسوا بالمراعي الخضر النضيرة.
إن بعضا من الأسماك أيضا أخذت تترك البحر، فقد تعلمت كيف تتنفس برئات وخياشيم معا، بدلا من الخياشيم وحدها. وضع لها العلماء اسم «البرمائيات»؛ أي التي تستطيع أن تعيش في البر وفي الماء. وحياة الضفدعة التي تقفز من تحت قدميك، قد تقص عليك كل ما يتعلق بتفاصيل الوجودين اللذين يتمتع بهما الحيوان البرمائي.
لما خرجت هذه الحيوانات من الماء أول الأمر، أخذت تعتاد الحياة في البر شيئا بعد شيء، وما لبث بعضها أن صار زاحفا كالعظايا، وأخلد إلى الحياة الهادئة في جوف الحراج يعايش الحشرات، أو ينام مسترخيا في ظل الأشجار العظيمة.
من أجل أن تتمكن من سرعة الحركة فوق الأرض اللينة، أخذت أرجلها تتطور وتتكيف بما يلائم ذلك، وزادت أحجامها، وامتلأت الأرض بصورها الضخام العظام، فبلغ بعضها ثلاثين أو أربعين قدما طولا. وكان بها قوة وعنفوان، فأخذت تداعب الفيلة، كما يداعب السنور الكبير جراءه الصغار.
على أن بعضا من أفراد ذلك الشعب - شعب الزواحف - أخذ يعيش في الأشجار. وكان بعض الشجر ضخما باسقا، قد يبلغ مائة قدم ارتفاعا، مما جعل هذه الزواحف أقل احتياجا إلى أرجلها في التنقل والزحف؛ إذ أصبح من ضرورات حياتها أن تنتقل من غصن إلى غصن بسهولة وسرعة ويسر.
لما بلغت من الضرورة هذا المبلغ، أخذ بعض جهات من إهابها الخارجي يتحول متكيفا في صورة مظلة تمتد طوال جسمها من الجانبين، مبتدئة عند يديها، منتهية عند قدميها. وسرعان ما نبت في هذه المظلة ضرب من الريش، فإذا انزلقت اتخذت من أذنابها شبه دفة كدفة السفين تحكم حركاتها، ومن ثمة طارت من شجرة إلى أخرى؛ فكان ذلك أول خروج الطير إلى عالم الوجود. •••
حدث في عالم الحياة حادث كبير؛ إن دعانا إلى العجب، فذلك لأننا نجهل أسبابه الصحيحة. فإن جميع الزواحف الضخام انقرضت في مدى زمن قصير نسبيا.
إننا لا نعرف السبب في ذلك!
ربما كان راجعا إلى تغير مفاجئ في الطقس، وربما عاد إلى أنها بلغت من الضخامة مبلغا منعها من السبح أو الزحف أو المشي، فماتت جوعا، وهي تنظر عن كثب إلى المراعي اليانعة، والأشجار الخضر، عاجزة عن أن تبلغ إليها.
ومهما يكن من أمر السبب في انقراضها، فإن ملكوت الزواحف الذي ظل ثابتا قرابة نصف مليون من السنين، قد أتى عليه تطور الأحياء. •••
مضت جوانب الدنيا بعد ذلك تمتلئ بصور مختلفة من شتى المخلوقات. لقد انحدرت جميعا عن الزواحف، ولكنها اختلفت عنها اختلافا كبيرا؛ إذ كانت تغذي صغارها بأثدائها، فعرفت في العلم الحديث باسم «الثدييات» أو «ذوات الثدي».
لقد نفضت عنها حراشف السمك، ولم تبق على ريش الطير، فاتخذت من الشعر كسوة لإهابها الخارجي.
كسبت ذوات الثدي فوق ذلك عادات أخرى، استعلت بها على غيرها من عالم الحيوان؛ فإن إناثها بدأت تختزن بيضاتها التناسلية في داخل جسمانها، حتى تنقف عن الجنين في تلك البيئة، في حين أن غيرها كان يترك صغاره عرضة لمخاطر البرد والحر وهجمات الوحوش الضارية . على العكس من ذوات الثدي؛ إذ مضت تلازم صغارها وتحتفظ بها، وترأمها وتحنو عليها، وتبقيها تحت كنفها زمنا طويلا، وتحميها في طور ضعفها وقلة حيلتها وعجزها عن أن تكافح أعداءها.
بهذا أصبح لذوات الثدي فرصة أسنح للبقاء، ذلك بما كسبت عن أمهاتها من العلم بأشياء كثيرة. تدرك ذلك لو أنك رأيت هرة ولاحظت كيف تعلم أولادها أمر العناية بأنفسها، وكيف تمسح وجوهها بأكفها، وكيف تصيد الفئران.
لا أريد أن أطنب في التعريف بذوات الثدي، فأنت على علم كاف بها؛ فإنها تعايشك وتحف بك أينما كنت؛ إنها من رفقائك في الشارع وفي البيت وفي الحقل، كما أنك تستطيع أن ترى أقربها إليك نسبا في أقفاص حدائق الحيوان. •••
الآن أنتقل بك إلى مفترق الطريق الأعظم.
ذلك عندما خلف الإنسان من ورائه ركب الحياة المغلقة، حياة المخلوقات التي تعيش وتموت غفلا من أي أثر معنوي. لقد بدأ يستخدم قواه العقلية، ليحور من قوة اقتداره، ومن ميسرات سلالته.
نشأ بالتحول البطيء كائن ثديي أهلت به خصياته الطبيعية أن يستعلي على جميع صور الحياة، وبخاصة في القدرة على الحصول على الغذاء والحماية، وعرف بعد قليل كيف يستعمل طرفيه المقدمين للقبض على فرائسه. وبالاستعمال نشأت له مخالب كالأيدي، وبعد كثير من الجهد والمرانة، استطاع أن يزن جسمه، فينتصب ماشيا على رجليه.
كان هذا الكائن نازعا إلى القردية، ولكنه كان فوق القرود درجة؛ فأهل به ذلك التحول أن يصبح ماهرا في الصيد.
ومن أجل أن يكون أكثر أمنا، راح يطوف في أرجال كبيرة العدد، ثم استطاع أن يخرج أصواتا ينذر بها صغاره، وينبهها إلى اقتراب الخطر.
مضى عليه بضع مئات الألوف من السنين، قبل أن يتمكن من تفصيل هذه الأصوات، لتصبح أجزاء للكلام.
إن هذا الكائن، ولو لم تصدق ذلك إلا بكثير من الحرج، هو جدك الأول؛ هو الإنسان المشوب بالقردية. (عن فان لون)
ليليا
إذا كان في مستطاع الجدران أن تتكلم، فإن قصر «نووان» الريفي بمقاطعة «بيري» بفرنسا، يصيح هديرا صاخبا من الأصوات المتضاربة.
كثيرا ما رنت في جنباته الفساح موسيقى شوبان وليست، كما مثل فيه فلوبير ودوماس الصغير تمثيليات قصارا، وضع شوبان موسيقاها، وراحوا يمرحون في أبهائه وممراته، وصور دولاكروا في مدرس كان بحديقته، ونزل به ضيوف من نوابغ العصر، مثل بلزاك وتيوفيل جوتييه والفرد ده فيني، وتناظروا وتحادثوا في بعض جوانبه وغرفه الفساح.
وفي أواسط القرن التاسع عشر، ترددت في جنباته همسات العشاق الآبقين من قيود العصر، فتيان وفتيات من أعرق أسر فرنسا، اختلوا بين جدران قصر «نووان». فلو أن جدران هذا القصر كان في مستطاعها أن تتكلم، إذن لوجب أن تصحح أنساب كثير من الأسر، وتبوب تبويبا جديدا.
كانت «جورج صند» سيدة ذلك القصر، ومضيفة هؤلاء وأمهم الروحية ظاهرة من ظاهرات ذلك العصر.
كانت جميلة فاتنة؛ فاتنة بنوع ما. كانت تمشي في ردهات القصر وممراته كأنها فتى أمرد جميل الصورة. ولم تكن عبقريتها الفتية هي وحدها التي اجتذبت جميع أولاء إلى قصر «نووان» وجعلته قبلة العباقرة ذوي الشهرة وبعد الصيت، فقد استطاعت فوق ذلك أن تفتن فئة كبيرة من الجمهور الفرنسي بمؤلفاتها التي جمعت فيما بعد في ستة وتسعين مجلدا. أما شخصيتها، والدنيا العريضة التي استطاعت أن تشيدها من حولها، فكانت من الفتنة والتعقد بحيث احتاج شرح حياتها في ذلك القصر إلى عشرين دليلا من كتب الإرشاد، لا تفسر غامض الأمر، بل تزيده غموضا.
عن هذه المرأة العجيبة كتب «أندريه موروا» كتابا أصبح من عيون الأدب الفرنسي ساعة ولد، وكفى تعريفا بهذا الكتاب أن يقول فيه أثبات النقاد إنه أعظم كتب «موروا» على إطلاق القول.
اختار «موروا» اسم «ليليا» عنوانا لكتابه عن جورج صند، رجوعا إلى عنوان سيرة شخصية كتبتها «صند» في سنة 1833، ولما تبلغ التاسعة بعد العشرين. فقد كانت إذ ذاك مؤلفة معروفة، وأما لطفلين، وإنسانا طليقا من قيود العرف، تلبس سروالا وتدخن السيجار، وكانت فوق ذلك امرأة مشبوبة العاطفة، تلبي نداء الجنس، وتطلبه، ملحة فيه إلحاح الرفيق الذي تألفه. قالت في كتابها ذاك:
عندما أقترب منه، أشعر بنهم هذياني عجيب لا يكفيه العناق. إن الرغبة في مثل حالي، ليست سوى حرارة الروح تشل قوى الحواس. هي غيبوبة بهيمية مستوحشة تتملك عقلي، وتتجمع هنالك ... (أي في عشيقها).
إن هذا اللين المخيف، بل ذلك الغلاف الرخامي على حد قولها، قد أثر في حياة الكثير من الناس، حتى ليعتبر عاملا من عوامل التاريخ الفرنسي، إن كان صغيرا، فهو مع ذلك جوهري أساسي. لهذا يقول أعداء «صند» والناقمون عليها إنها في عراكها الذي بذلته تشبع هذه النزعة أو تكبحها، قد افترست الرجال، كأنما هي غول لا تشبع نهمته.
يقولون إنها فرضت على عشاقها ما فيها من نارية الطبع، انتقاما من الجنس الآخر، فلا تترك محبا وقع في حبائلها، حتى ترده إلى حال ميئوس منها كحالها تماما.
أما «موروا» فليس من مذهب القائلين بالغيلانية في طبيعة جورج صند، بل يذهب إلى أنها امرأة خلقت متعطشة للحب، وأنها جديرة بالحب، ولكنها غير حائزة لصفة الخضوع، تلك الصفة التي لا يكون حب بغيرها. •••
كان اسمها «أورور دوبن»، وأبوها ضابط من النبلاء المغامرين، مات على إثر كبوة من جواده، عندما كانت «أورور» في ميعة صباها. أما أمها فكانت راقصة، أو في الحقيقة، كما قالت «صند»: شيء أقل من راقصة في ملهى من أسوأ ملاهي باريس سمعة.
ونشأت «أورور» بضيعة «دوبن» في قصر «نووان» بكفالة جدتها، وكانت امرأة حازمة صارمة. وتعلمت في باريس بعناية الراهبات الإنجليزيات، وعندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها تزوجت من «كزيمير دافيدان»، وهو فتى مستقيم مرح، ولكنه معدوم الخيال، فيقضي بياض النهار في الصيد، وسواد الليل في سبات عميق، يسمع له من خلاله شخير ونخير. وإلى هنا كانت «أورور» سوية الطبع، ولكن رأسها كان مملوءا بالصور التخيلية، أو بالأحرى بالآراء الانطلاقية.
وقع عليها «كزيمير» ذات مرة ملقية برأسها على كتف شاب وسيم، فكان تعليقه على ذلك صورة من سباته الشخيري: «لا ينبغي لأحد أن يعرف شيئا؛ إن ذلك من شئوننا الخاصة وحدنا.»
يقول «موروا»: «ليس الخنا من الأشياء التي لا تغتفر بتاتا في الزواج، وإنما هو الجفاء والنبذ.»
فلما أن أحس «كزيمير» بالجفوة، تهالك في الشرب، وكان قد علق بإحدى الخادمات، ووقعت عليه «أورور» في مستراب، بعد أن وضعت طفلها الثاني بساعات. وبعد ذلك بقليل التقت «أورور» بكاتب محام اسمه «جول ساندو»، كان الطراز الأول من قافلة كبيرة من العشاق، وذهبت تعيش معه في باريس، وخرجت من زمالتهما في التأليف والكتابة باسم «جورج صند». ومن علاقتها الغرامية نشأ ما سمي في أدب ذلك العصر بالخصيات الصندية أو الظواهر الصندية: السيجار الكبير، والأحذية المهدبة، ثم تلك العادة العضال التي تنطوي على تناقض عجيب، عادة البحث عن الحب العنيف، في أحضان رجال هم من الخور ومن الخنوثة بحيث يعجزون عن تلبية ندائه.
مسكين «جول الصغير»! لم يكن فيه قوة التوليد، لم يكن يستطيع أن يكب على الكتابة أربع عشرة ساعة، ثم يمتطي جوادا يعدو به عدوا إلى حيث ينتظره حبيب. وسرعان ما أسقطته «صند» من حسابها، وتحولت عنه إلى الروائي «بروسبير مريمييه». كان «مريمييه» على ما يقول «موروا» من ذلك الصنف الذي ينتقي منه الشيطان أبطاله العشاق. وكان يتكلم عن الحب بخشونة طالب في كلية للطب يتكلم في طبه. واعتقدت «صند» أن استكلابيته قد تشفي عندها بعض ما فيها من النزعات الغيلانية، غير أن هذا الدون جوان، قد عجز عن أن يبلغ من ذلك شيئا.
سقط جول، فعقبت عليه بألفرد دي موسيه.
كانت تجلس من فوق حشية عند قدميه، تلفظ الدخان من غليون صنع من خشب الكرز الثمين، فلا يلبث أن يتمتم أن ملهمته ضعيفة هشة الكيان. لقد كانت كذلك، فإن «صند» لم تلبث أن تركت «دي موسيه» نصف ميت بفندق في مدينة البندقية، فارة مع طبيب إيطالي.
كتبت إلى ذلك الطبيب ذات مرة تقول: «فيك، فيك يا بيترو سيتحقق جميع أحلامي.»
إن أحلامها لم تتحقق في «بيترو».
يقول بلزاك: «مهما يكن، فمحصل الأمر أنها رجل. وإنها لألبس لهذه الحال، كلما أمعنت في أن تكون رجلا.»
ويقول الموسيقي شوبان: «ما أبغض تلك المرأة! أهي حقيقة امرأة؟»
وما لبث غير قليل أن أثبت في مذكراته قوله: «كانت تمعن في النظر عندما أغرق. لقد أسرت قلبي ... إنها تحبني.»
وذهب معها إلى جزيرة «ميورقة» يانعا مزدهرا كالوردة، نضرا كزهرات الربيع. وعاد من هنالك يتفل دما، وعلى قاب قوسين أو أدنى من الموت.
عاش شوبان بعد ذلك سبع سنين في قصر «نووان»، هي أحفل سني حياته بالتأليف الموسيقي.
لم يعش هنالك عشيقا لها، ولكنها مرضته تمريض أم رءوم تسهر على طفل حبيب، منكرة عليه أي تقرب يتجاوز ذلك الموقف. •••
يحلل «موروا» أخلاق «صند»، فيذهب إلى أن ضعفها النفسي كان يحملها دائما على اختيار عشاق يكونون من الضعف والخور بحيث يعجزون عن إخضاعها وإرغامها. غير أنه يقول تعقيبا على ذلك إن «صند» هي فاتحة ذلك الطريق الذي يسير فيه اليوم من يعرفن بالنساء المتحررات. كما يقول إن خصياتها كانت تستحب، لو أنها كانت في رجل.
كان عشاقها رتلا طويلا من الرجال، ولقد اعترف أكثرهم بأنها وإن حطمتهم، فإنها كذلك بنتهم وشيدتهم.
لم يعد كونت «دورس» الصواب إذ كتب لها: «إنك امرأة يشغف بها، كما أنت بالإضافة إلى ذلك، الرجل الفذ البارز في هذا الجيل.»
Bilinmeyen sayfa