تخصيصها بذلك أَن ظن كَونهَا من الْجِنّ أقوى من ظن كَونهَا من بَقِيَّة الْحَيَّات فخصت ليَكُون الْإِنْذَار، وتجنب الْقَتْل مِنْهُم فِي حَقّهَا آكِد مِنْهُ فِي حق غَيرهَا. وَأما تَفْصِيل الْعَهْد الَّذِي أَخذه نوح وَالَّذِي أَخذه سُلَيْمَان فَلم أرَ أحدا صرح بِهِ على أَنه لَا حَاجَة للتصريح بِهِ إِذْ لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ كَبِير فَائِدَة وَلم أرَ أحدا بسط الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَا ذكرته وَلَا قَرِيبا مِنْهُ، وَإِنَّمَا غايتهم أَن يذكرُوا بعض مَا مر من الْأَحَادِيث وَأَن الْإِنْذَار ثَلَاثَة أَيَّام أَو سَاعَات وَهل يخْتَص بِالْمَدِينَةِ أَو لَا. وَأما الْكَلَام على الْأَحَادِيث وَبَيَان تعارضها وَمَا تدل عَلَيْهِ من وجوب الْإِنْذَار أَو نَدبه فأغفلوه على أَنه من الْمُهِمَّات الَّتِي يتَأَكَّد الاعتناء بهَا وبذل الْجهد فِيهَا، وَلَعَلَّ أَن نظفر بِكَلَام أحد من الْأَئِمَّة المعتبرين يُوَافق مَا ذكرته أَو يُخَالِفهُ وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. ثمَّ أجبْت عَن هَذَا السُّؤَال بِجَوَاب آخر وَهُوَ لَا يَنْبَغِي أَن تقتل حَيَّة الدَّار ابْتِدَاء، بل إِنَّمَا تقتل بعد الْإِنْذَار فِي الْمَدِينَة الشَّرِيفَة على مشرفها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَغَيرهَا على الْأَصَح وَخبر مُسلم الْمُقْتَضِي للتخصيص بهَا غير مُرَاد بِهِ ظَاهره لأحاديث أخر مقتضية للتعميم. وَاخْتلف الْعلمَاء هَل ينذرها ثَلَاثَة أَيَّام أَو ثَلَاث مَرَّات وَلَو فِي سَاعَة وَاحِدَة؟ وجمهورهم على الأول وَلَعَلَّه لبَيَان الْأَفْضَل والأكمل، وَإِلَّا فَأصل طلب الْإِنْذَار يحصل بِثَلَاث مَرَّات، كَمَا ورد فِي حَدِيث وَإِن كَانَ حَدِيث الأول أصح، وَلم أرَ فِي الْأَحَادِيث مَا يدل على طلب التَّحَوُّل من الدَّار لأَجلهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْأَحَادِيث مَا تقرر من أَنَّهَا تنذر فَإِن ذهبت وَإِلَّا قتلت لِأَنَّهَا شَيْطَان كَمَا فِي رِوَايَة (أَو كَافِر) كَمَا فِي أُخْرَى، وَورد فِي أَحَادِيث مَا يَقْتَضِي أَن جَمِيع أَنْوَاع الْحَيَّة كَذَلِك لَكِن فِي بَعْضهَا اسْتثِْنَاء الأبتر وَذي الطفيتين، وَعلله ﷺ فِي حَدِيثهمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) بِأَنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الْجَنِين. قَالَ الزُّهْرِيّ: نرى ذَلِك من سمهما، وَورد فِي أَحَادِيث أخر مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص طلب الْإِنْذَار بحيات الْبيُوت، وَظَاهر كَلَام بعض الْأَئِمَّة الْأَخْذ بِهَذَا الْمُقْتَضى وَأَن حيات غير الْبيُوت تقتل مُطلقًا، وَالَّذِي يتَّجه أَن التَّقْيِيد بعوامر الْبيُوت فِي حَدِيث، وَبِقَوْلِهِ ﷺ (من رأى فِي بَيته) فِي حَدِيث آخر إِنَّمَا هُوَ للْغَالِب أَو لمزيد التَّأْكِيد وَإِلَّا فعلة طلب الْإِنْذَار من احْتِمَال أَنَّهَا صُورَة جني كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث قاضية بِأَنَّهُ لَا فرق فيطلب الْإِنْذَار فِي الْبَيْت والبستان وَغَيرهمَا وَبعد الْإِنْذَار يقتل حَتَّى الْأَبْيَض الَّذِي كالفضة، وَمَا ورد عَن ابْن مَسْعُود ﵁ مِمَّا يَقْتَضِي عدم قَتله مُطلقًا يحمل على مَا إِذا لم ينذر وَأَن الْإِنْذَار يتَأَكَّد فِيهِ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى صُورَة الْجِنّ من غَيره وَكَذَلِكَ يحمل على هَذَا حَدِيث مُسلم (أَنه ﷺ نهى عَن قتل الجان إِلَّا الأبتر وَذَا الطفيتين) . وَفِي حَدِيث مُرْسل عِنْد أبي دَاوُد وَغَيره أَن كَيْفيَّة الْإِنْذَار (أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن نوح، أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن سُلَيْمَان أَن لَا تؤذونا)، وَلم أرَ من بَين هَذَا الْعَهْد مَعَ أَنه لَا حَاجَة لبيانه لِأَن المُرَاد أَن كلا من النَّبِيين صلى الله على نَبينَا وَعَلَيْهِمَا وَسلم ألزموا الْجِنّ بِأَنَّهُم لَا يُؤْذونَ الْإِنْس فمؤمنهم يُرَاعِي ذَلِك الْإِلْزَام إِذا ذكرتهم وكافرهم لَا يعبأ بِهِ فَيقْتل بعده لِأَنَّهُ إِن كَانَ جنيًا فَهُوَ كَافِر وَإِن كَانَ حَيَّة أَصْلِيَّة فَهُوَ مهدر وكل مِنْهُم يقتل شرعا، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
١٢ - وَسُئِلَ فسح الله فِي مدَّته فِي خطيب يَقُول فِي خطبَته: إِن الْأَوْلِيَاء يردون الْحَوْض مَعَ النَّبِي ﷺ قبل الْأَنْبِيَاء، وَضرب لذَلِك مثلا من أَحْوَال الدُّنْيَا وَهُوَ أَن الرجل الْعَظِيم قد يصل أَتْبَاعه إِلَى منزله قبل من هُوَ أشرف مِنْهُم لقربهم إِلَيْهِ فَهَل مَا قَالَه صَحِيح؟ فَأجَاب متع الله بحياته: مَا ذكره هَذَا الْخَطِيب إِنَّمَا يتم إِن ثَبت أَن الْأَنْبِيَاء يردون حَوْض النَّبي ﷺ، وَلم أر مَا يدل لذَلِك بعد الفحص والاطلاع على الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْحَوْض عَن بضع وَخمسين صحابيًا لَيْسَ هَذَا مَحل بسطها بل الَّذِي رَأَيْته يدل لخلافه. فقد صرح التِّرْمِذِيّ عَن سَمُرَة ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: (إِن لكل نَبِي حوضًا وَإِنَّهُم يتباهون أَيهمْ أَكثر وَارِدَة، وَإِنِّي أَرْجُو أَن أكون أَكْثَرهم وَارِدَة) . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن سَمُرَة بن جُنْدُب ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: (إِن الْأَنْبِيَاء يتباهون أَيهمْ أَكثر أصحابًا من أمته فأرجو أَن أكون يومئذٍ أَكْثَرهم كلهم وَارِدَة، وَإِن كل نَبِي مِنْهُم يومئذٍ قَائِم على حَوْض ملآن مَعَه عَصا يَدْعُو من عرف من أمته، وَلكُل أمة نَبِي سِيمَا يعرفهُمْ بهَا نَبِيّهم) فهذان الحديثان صريحان فِي أَن لكل نَبِي حوضًا مُسْتقِلّا ترده أمته، وحينئذٍ فَلَا يتم لهَذَا الْخَطِيب مَا ذكره فَيُطَالب بمستنده فِي هَذِه الْمقَالة فَإِن بَين مَا يصلح مُسْتَندا
1 / 17