وخطب سعد وهو على حاله تلك من يليه من الجند، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، قال الله جل ثناءه:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج، فأنتم تطعمون منها وتأكلون منها، وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وخيار كل قبيلة وعز من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم .
ورأى عاصم بن عمرو ما بسعد من الوجع، فزاده ذلك تأثرا بما سمع من كلامه، فقام في الناس فقال:
هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم، إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم من ذلك جار وحافظ، لم يبق هذا الجمع منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك، الله! الله! اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، ألا ترون أن الأرض وراءكم بسابس قفار ليس فيها خمر ولا وزر يعقل إليه ولا يمتنع به! اجعلوا همكم الآخرة.
ودعا سعد إليه جماعة من الذين انتهى إليهم رأي الناس وانتهت إليهم نجدتهم وعظم فيهم شرفهم، وكان منهم من أولي الرأي المغيرة بن شعبة وعاصم بن عمرو، ومن أهل النجدة طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة وعبدة بن الطيب، ومن سائر الطوائف أمثالهم، وقال لهم: «انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فأنتم من العرب بالمكان الذي أنتم به، أنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم، وأنتم سادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال.»
وانطلق هؤلاء جميعا يخطبون ويقولون الشعر ويعدون الناس النصر في عبارات تهز المشاعر والقلوب، قال الهذيل الأسدي لقومه: «يا معشر معد! اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.» وقال عاصم بن عمرو: «يا معشر العرب إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان العجم، وإنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمرا تكونوا به شينا على العرب غدا.» وقام كل بنحو هذا الكلام وخطب كل أمير أصحابه، فتحاضوا على الطاعة والصبر، وتعاهدوا وتواصوا بالنصر أو الموت دونه.
ورأى رستم تجهز العرب، فثارت في نفسه الحمية لوطنه ، فأنسته طيرته وأنسته دلالات النجوم، وأعادته الجندي المثل الذي عرفته فارس بطلها الأكبر؛ لذلك لم يلبث، حين عبر جنده النهر واصطفوا صف القتال، أن لبس درعيه ومغفرا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج فركبه وهو يقول: غدا ندقهم دقا، وبعث من يحرض الجند على القتال دفاعا عن وطنهم ودفعا لهؤلاء العرب الأجلاف الذين خضعوا أجيالا لنير فارس، ثم إذا هم اليوم تحدثهم نفوسهم بقتالها والظفر بها، أي عار كهذا العار يجب دفعه!
وكذلك وقف الجيشان ينتظران أمر الصدام، وقد أخذت منهما الحماسة كل مأخذ بما يسمعه المسلمون عن جنة الخلد ونعيم الدنيا، وما يسمعه الفرس عن الوطن وعن ملك كسرى وعظمته.
وكان سعد بن أبي وقاص قد أرسل في الناس: إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجز على الأضراس واحملوا، وأمر من يقرأ سورة الجهاد فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس واطمأنوا إلى ما هم مقبلون عليه، فلما فرغ القراء كبر سعد فكبر الذين يلونه، ثم كبر الثانية فتهيأ الناس، فلما كبر الثالثة أنشب أهل النجدات القتال وخرجوا يبارزون أهل فارس، وأقبل أهل فارس عليهم وهم في مثل حماستهم يلبون نداء من يريدون نزالهم، وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، خرج وهو يقول:
Bilinmeyen sayfa