ترى هل بلغ من تطير رستم وإشفاقه من مصير القتال أنه كان يريد الصلح بأي ثمن؟! تذهب بعض الروايات هذا المذهب، ويذكر بعض المؤرخين أن رستم مالت نفسه إلى الإسلام، لولا أن رده أصحابه عنه، وهذا رأي مرجوح يدفعه ما سنراه من بأس الفرس في اليومين الأولين من وقعة القادسية، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن رستم أراد بمطاولة المسلمين أن يوقع الخلاف بينهم في الرأي، فإذا اختلفوا بعد الذي رأوا من قوة هذا الجيش الزاحف إليهم زادهم اختلافهم ضعفا وعجزا عن مقاومة القائد القادر وجنوده، وأيما الرأيين صح، فقد بقي المسلمون لا يتغير رأي واحد منهم عن رأي صاحبه، ولا يرضى أحد منهم دون الإسلام أو الجزية إلا بالقتال، عند ذلك بعث رستم إلى سعد يقول له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، وما كان لسعد أن يعبر النهر ومثل غزوة الجسر حاضر أمام ذهنه، وما كان له أن يدع رستم يعبر إليه وينظم صفوفه لقتاله، لذلك بقي مكانه مطمئنا إلى موقفه يحميه النهر من أمامه، وخندق سابور عن يمينه، والصحراء المترامية وراء ظهره.
ما كان لسعد أن يعبر النهر، وما كان لرستم أن يقف جامدا مكانه؛ فقد تضعضعت هيبة الدولة وضعف سلطان المدائن في نفوس أهل العراق من فرس وعرب، فإذا لم يضرب رستم في القادسية ضربته، أوشك هذا السلطان أن ينهار، وأوشكت هذه الهيبة أن تزول، هذا إلى أن جنود يزدجرد كانوا يتحرقون للقاء المسلمين يريدون أن يزيلوا ما لحق إخوانهم قبل ذلك من خزي وعار؛ لذلك لم يكن لرستم بد من أن يعبر النهر وأن يلقى عدوه، وإذ أبى سعد عليهم أن يعبروا العتيق على القنطرة وقال لهم: لا نرد عليكم شيئا غلبناكم عليه، فقد تمهل رستم حتى جن الليل، ثم أمر رجاله فطموا العتيق بالتراب والقصب وبكل ما كان لديهم مما لا حاجة لهم به في الحرب، وعلى هذا الجسر عبر جيش الفرس، ثم جعل رستم الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال، وجعل جنوده من ورائها، وضرب لنفسه قبة نصب فيها سريره الفخم المكفت بالذهب، بذلك وقف الجيشان متأهبين للقتال ينتظران بدأه بين ساعة وساعة، وهما يعلمان أنهما مقبلان على معركة حاسمة ليس بعدها إلا أن يندحر الفرس فينفتح أمام العرب طريق المدائن، أو يندحر العرب فيعودوا إلى صحاري شبه الجزيرة، وليس يعلم إلا الله أيستطيعون بعده أن يعودوا إلى العراق كرة أخرى.
معركة ذلك شأنها كان يزدجرد حريصا على أن يعرف أنباءها ساعة فساعة، بل لحظة فلحظة، حتى كأنه حاضرها، وقد كان على النقيض من رستم، واثقا بحسن مصيرها، أليس شابا، والشباب لا يعرف اليأس ولا يتصور الفشل والهزيمة! أولم تجتمع فارس حوله كما لم تجتمع حول أحد سبقه على العرش، وقد عقدت العزم على أن تنتصر! هي لا ريب ستنتصر إذن؛ لذلك اشتد حرصه على أن يتابع أطوار المعركة التي تنصرها، ولذلك وضع الرجال من المدائن إلى القادسية، يلقي أدناهم من المعركة بأنبائها إلى من بعده فيلقيها هذا إلى من يليه، وهكذا حتى تبلغ المدائن؛ بذلك تطير الأنباء نبأ بعد نبأ إلى مسامعه فيتلقاها وهو أشد ما يكون ثقة بأن يأتيه النبأ الأخير منها بانتصار رجاله الحاسم.
ولعل أول نبأ سمعه قد زاده استبشارا بالخاتمة التي يؤمن بها، ذلك أن سعد بن أبي وقاص عاوده أول المعركة مرض كان يتردد عليه جعله لا يستطيع أن يركب أو يجلس فهو مكب على وجهه في صدره وسادة يعتمد عليها ويشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، ذلك المرض كان عرق النسا ودمامل جعلت هذا الفارس البطل ذا الفعال المجيدة يعجز عن كل حركة يوجبها مكانه من جيش المسلمين في هذا الوقت الرهيب، وزاد يزدجرد استبشارا ما ألقي إليه من برم بعض المسلمين بسعد وتندرهم بمرضه، حتى ليقول قائلهم:
نقاتل حتى أنزل الله نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيم
وبلغ سعدا ما يتندر به الناس وأن طائفة من وجوه القوم تتهمه وتشغب عليه وترميه بالخور وضعف العزم، فحز ذلك في نفسه وأثار غضبه فقال لمن حوله: احملوني وأشرفوا بي على الناس، وارتقى به من حوله، ورأى الجند ما به من الوجع فعذروه لكن ذلك لم يكفه، بل شتم الذين شغبوا عليه وهم بهم وقال لهم: «أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم، والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننت به سنة يؤخذ بها من بعدي.» وأمر برجال بينهم أبو محجن الثقفي فحبسهم وقيدهم في القصر، إزاء هذا الحزم لم يكتف القوم بأن يعذروا سعدا، بل أعلنوا ولاءهم وطاعتهم، فكان مما قاله جرير بن عبد الله البجلي: «أما إني بايعت رسول الله على أني أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدا حبشيا.» وسرى مثل هذا الروح في نفوس الجند، فسكنت بوادر الفتنة وانطفأت نارها.
عند ذلك كتب سعد إلى الرايات يقول: «إني قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني، إني مكب على وجهي وشخصي لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري.» وقرئ هذا الكتاب على الناس فأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
Bilinmeyen sayfa