124

4

أما وقد فرغنا من حديث عمواس وطاعونها وموقف عمر منه، فلنتحدث عن دلالة ما وقع فيه على حرية المسلمين العقلية لذلك العهد، وعما انطوت هذه الحرية عليه من عناصر القوة، وكيف فتحت لهم أبواب الإمبراطورية العظيمة التي ظلت تزداد على الأيام فسحة وعظمة حتى غير المسلمون ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.

لما سار عمر يريد الشام فلقيه أمراء الأجناد بسرغ وذكروا له أن الأرض سقيمة فأمر الناس بالعود إلى المدينة، اعترضه أبو عبيدة بن الجراح بقوله: «أفرارا من قدر الله يا عمر!» فقال: «نعم! فرارا من قدر الله إلى قدر الله.» وهذا الاعتراض وهذا الجواب يصوران التفكير القدري وما وقع عليه من خلاف لا يزال قائما إلى اليوم، ونحسب كلمة عمر أدق تصويرا للقدرية الإسلامية، فابن الجراح والذين أشاروا على عمر بالسير إلى الشام وقالوا له: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ هؤلاء إذ يؤمنون بأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبأن لكل أجل كتابا فإذا جاء أجلهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، يرون أن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، فإذا اعتزمنا أمرا وجب لذلك علينا أن نغض الطرف عن كل ما سواه، وأن نمضي قدما في سبيله، لا يصدنا دونه بلاء يعرض أو عقبة تقوم، وهذا الرأي يؤمن به أمراء الجند مصدر قوة ليس كمثلها قوة، والجندي الذي يؤمن بالله مكفول له النصر لا محالة، فأول ما يقضي به الإيمان الصحيح ألا يهاب الجندي الموت، وأن يقدم عليه مغتبطا به، فإن استشهد ففي سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل القضية التي ينصرها، وإن ظفر فعاش كان له فخر الأبد، وإيمان الجند بهذا الرأي هو الذي نصر المسلمين في مختلف الميادين؛ لأنهم آثروا الشهادة في سبيل الله، فوهب لهم الله حياة كرامة وعزة.

لكن القدرية بهذا المعنى العظيم الأثر في حياة الجندي لا يمكن أن تكون القدرية كما يجب أن يفهمها السياسي المسئول عن مصالح الناس ومصيرهم في الحرب وفي غير الحرب، وكما يجب أن يفهمها المفكر الذي يقلب الأمور على وجوهها وينظر فيها من كل نواحيها، فصحيح أن لكل أجل كتابا، وأن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، لكنا يجب مع ذلك أن ننظر في الأمور وأن نتدبرها لنحسن التصرف فيها إلى غاية ما يهدينا إليه علمنا وعقلنا، وما يهدينا إليه العقل والعلم وحسن التفكير هو من قدر الله؛ كما أن إقدام الجندي على الموت في ميدان القتال وما يصيبه نتيجة هذا الإقدام هو من قدر الله، وأول واجب على أمير الجند ألا يلقي بجنده إلى التهلكة بسوء رأيه، وألا يعرضهم للموت حتى يستقر رأيه على ملاءمة الأحوال لخوض المعركة، فإذا خاضها وجب عليه أن يعمل للانتصار فيها بأقل تضحية ممكنة، وأول واجب على السياسي ورجل الدولة ألا يعرض نفسه ومن يسوسهم إلى هلكة يستطيع تجنبها، أو يستطيع إنقاذ الناس منها، من غير إضرار بمصلحة الدولة العليا وبسياستها للحاضر وللمستقبل، فإذا ظفر من ذلك بما أراد كان ظفره فخرا له كفخر الجندي بانتصاره، ثم كان هذا الظفر قدرا من الله ورحمة بعباده.

وذلك ما رآه الذين قالوا عن الطاعون إنه بلاء وفناء، وأشاروا على عمر أن يرجع إلى المدينة فسمع إلى مشورتهم، وكان سماعه لها ونزوله عليها الحكمة كل الحكمة، فلو أنه سار إلى الشام فطعن فمات لأصابت المسلمين خسارة عظيمة قد تنتقض بسببها عليهم أمورهم، ولو أنه سار إلى الشام فطعن بعض أصحابه فعاد بسائرهم فانتقل الوباء إلى شبه الجزيرة لتعرض أهلها لكارثة توقيتهم إياها واجب على أمير المؤمنين، وهو حين يفر من الموت ويتحاشى نقل الوباء إلى شبه الجزيرة إنما يفر من قدر الله، فيجنب نفسه ويجنب شبه الجزيرة كارثة لم يردها الله لهم.

والمثل الذي ضربه عمر لأبي عبيدة في هذا المقام يفسر رأيه في القدرية خير تفسير، فإذا وجد راع واديا فيه عدوة خصبة وأخرى جدبة، فرعى الجدبة رعاها بقدر الله، وإذا رعى الخصبة رعاها بقدر الله، ذلك أنه إما عالم فمختار بينهما، فاختياره قدر من الله؛ لأن عقله الذي وهبه الله هو الذي هداه إليه، أو جاهل لهما فراع ما أمامه بقدر الله؛ لأن الأخرى مغيبة عليه فلا اختيار له بين العدوتين، وقد عرف عمر العدوتين في أمر الشام ووبائه، فوجب عليه أن يختار بينهما، وقد استشار فاختار ففر من قدر الله إلى قدر الله.

ولقد زاده الله اطمئنانا إلى اختياره ما رواه عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله أنه قال: «إذا سمعتم بهذا الوباء في بلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارا منه.» فهذا الحديث إنما يفرض الحجر الصحي على ما نفهمه في عصرنا الحاضر، إذ يعزل البلد الموبوء عن غيره من البلاد، ثم يعزل الأصحاء من أهله عن المرضى، ولا يسمح لهؤلاء الأصحاء أن يختلطوا بغيرهم في بلد آخر مخافة أن يكون الداء جنينا فيهم، فتنتقل عدواه منهم ولو لم تظهر آثاره عليهم، والاحتياط لمثل هذا الاحتمال واجب، وهذا الاحتياط هو الذي دعا أمير المؤمنين؛ لأن يعجل بالعود إلى المدينة.

وليس يمنع الحجر الصحي الناس من أن ينتجعوا في حدود بلدهم مكانا يرونه أذهب للداء عنهم وذلك ما كتب به عمر إلى أبي عبيدة إذ قال له: «إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.» وهو بعينه ما أشار به عمرو بن العاص حين طلب إلى الناس أن يتجبلوا من الطاعون في الجبال، ولم يكره عمر رأي ابن العاص؛ لأنه رآه فرارا من قدر الله إلى قدر الله، توجبه الحكمة ويقضي به العقل وتفرضه الروية، ومعنى ذلك أن ما نكسبه في الحياة إنما نكسبه بقضاء وقدر، والعاقل حكيم يهديه الله إلى الخير فيكون ذلك قدر الله له، فإذا لم يغن عن إنسان تفكيره فأصابه ما يؤذيه كان ما يصيبه قدر الله له.

أترى إلى هاتين النظريتين في مدلول القدرية، يؤيد إحداهما أبو عبيدة وطائفة من المسلمين معه، ويؤيد الأخرى عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه، ويؤمن كل من الفريقين بأن له الحرية التامة في التمسك برأيه، وعليه في الوقت نفسه أن يحتم الرأي الآخر، ثم لا يطعن تأييده هذا الرأي أو ذاك في عقيدته ولا يغير من حسن إيمانه وإسلامه! أما وعمر أمير المؤمنين فرأيه هو الذي ينفذ، ثم يبقى أبو عبيدة ومن معه على رأيهم لا يبدلونه ولا ينزلون عنه، ويبقى عمر على احترامهم واحترام رأيهم، كما يبقون هم على احترامه واحترام رأيه.

هذه الحرية العقلية وما أدت إليه من تبادل الاحترام بين هؤلاء المسلمين الأولين كانت عنصر قوتهم وسبب ظفرهم بعدوهم وتغلبهم عليه وفتحهم بلاده، ذلك بأنهم كانوا يؤمنون بأن كل واحد منهم إنما يصدر في رأيه عن قصد الخير للجماعة، وأنه يتحرى الحق لوجه الله جل شأنه، واختلاف الآراء في طبيعة الإنسان ما دام حرا عزيز الجانب، وإنما يغلب رأي حين تراه الجماعة حقا تقضي مصلحتها بتغليبه، ومصلحة الجماعة متأثرة أبدا بأحوال تتغير بالزمان والمكان، فلا ضير عليها أن تغلب الرأي الذي تراه حقا في زمانها ومكانها، وأن يبقى من يخالفونها عن رأيها أحرارا ما قصدوا إلى الخير وابتغوا برأيهم وجه الحق وحده.

Bilinmeyen sayfa