123

وأيا ما كان سبب الوباء فقد أدى تفرق الناس في المرتفعات ، استجابة لدعاء عمرو بن العاص، إلى ذهاب شدته ثم إلى زواله بعد أن أفنى من المسلمين بالشام خمسة وعشرين ألفا، وبعد أن انتقل من الشام إلى العراق ففتك فيه بأهل البصرة أشد مما فتك بغيرهم، وكان أهل البصرة من خيرة جند المسلمين، مع ذلك لم يفكر يزدجرد في استرداد العراق أكثر مما فكر هرقل في استرداد فلسطين أو الشام، فقد خشي ما خشيه هرقل أن يصاب جنوده بالوباء وأن ينتقل معهم إلى أرض فارس، فتكون الطامة شرا من الحرب وآثارها.

كيف يواجه عمر الموقف بعد أن زال الوباء؟ إنه إن يترك الشام على حاله بعد فناء من فني من المسلمين، وبعد أن مات من جندهم به عدد عظيم، يتعرض الفتح فيه لعواقب لا يرضاها، فقد يفكر الروم في القدوم إليه يحاولون استرداده، ثم إن النظام الاقتصادي فيه قد شابه اضطراب سببته مواريث الذين ماتوا، وهو لا يأمن أن يثير توزيع التركات ثائرات بين المسلمين أنفسهم، فليس له إلا أن يذهب بنفسه، فينظر في ذلك كله ويضع كل أمر في نصابه؛ لذا فصل من المدينة في جماعة من الصحابة وخلف عليا عليها، واتخذ الطريق إلى أيلة، فلما بلغها دفع إلى أسقفها قميصا له قد انجاب مؤخره عن مقدمه من طول السير، وقال له: اغسل هذا وارقعه، وغسل الأسقف القميص ورقعه، وخاط قميصا آخر مثله، وعاد بالقميصين إلى عمر وقال له: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك مني، فلبس عمر قميصه ورد الآخر وقال: هذا أنشفهما للعرق.

وسار عمر من أيلة فنزل الجابية فجعلها مقره، وذكر له عماله بالشام وفلسطين ما كان من أمر المسلمين وما نزل بهم، فزار بلاد سورية جميعا، وتفقد شئون المسلمين في شتى أرجائها، وبذل لهم، ورتب منازلهم بدمشق وحمص وسائر المدن التي بلغ فيها فتك الوباء أشده، ثم إنه نظم ثغور الشام ومسالحه، وأعاد توزيع القوات في كوره، وسمى الرجال الذين عينهم عليها، فلما فرغ من ذلك قسم المواريث، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، بذلك استقر كل أمر في نصابه، وعاد كل شيء إلى نظامه، واطمأن الناس بعد طول الفزع، ولم يفكر الروم في الرجعة إلى الشام.

وكان عمر حين جاءه النبأ بموت أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان قد ولى مكانهما شرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان، فلما كان بالجابية عزل شرحبيل عن عمله، وسأله شرحبيل: أعزله عن سخطة؟ فقال: لا! إنك لكما أحب، ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال شرحبيل: فاعذرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام عمر فقال: «أيها الناس! إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل.» والحق أن شرحبيل كان قائدا حسن المداورة بالجيوش، لكنه لم يكن رجل سياسة يعرف كيف يوجه الناس إلى أغراضه القريبة والبعيدة، أما معاوية فكان على شبابه سياسيا محنكا ذا بصر بموارد الأمور ومصادرها.

ولما قفل عمر من رحلته بالشام إلى الجابية يريد المدينة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:

ألا إني قد وليت عليكم، وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، قسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وما قاتلتم عليه من شأنكم، وسمينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم فمن علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا، نعمل به إن شاء الله.

وحضرت الصلاة وكان عمر قد أزمع الرحيل بعدها، فقال له الناس: لو أمرت بلالا فأذن! وكان بلال قد انقطع عن الأذان منذ قبض رسول الله، فأراد الناس سماعه بعد إذ رفع عنهم البلاء، ليذكروا نعمته جل شأنه، إذ أرسل رسوله إليهم فهداهم للإسلام وأورثهم الأرض ووطد لهم أكنافها وأذل لهم الفرس والروم، فلما أصابهم الضر رفعه عنهم ولم ينزل نقمته عليهم، وأذن بلال بصوته الندي لم تغير منه السنون، فأحيا في نفوس الذين أدركوا رسول الله عهدا كانوا يقفون فيه وراءه

صلى الله عليه وسلم

صفوفا متراصة يصلي بهم ثم يحدثهم فيزيدهم هدى، فلم يبق من هؤلاء واحد إلا بكى حتى بللت دموعه لحيته، وبكى من لم يدرك النبي لبكائهم، ثم كان عمر أشدهم بكاء؛ لأنه كان أكثرهم لفضل الله ولفضل رسوله ذكرا، ولقد ظل هذا النداء للصلاة، أرسله مؤذن النبي للمرة الأولى والأخيرة في جو الشام على مقربة من بيت المقدس، علما في التاريخ على فتح المسلمين، واستقرار الإسلام فيها، وقراره بها إلى يوم الدين؛ لذلك لا ينسى مؤرخ أن يذكره، فهو لذاته نصر من الله وفتح مبين.

ودع عمر أهل الشام وعاد إلى المدينة وقد استقر عزمه على أن يزور العراق، لكن الله لم يشأ له أن يزوره، وقيل: إنه كان أزمع الذهاب إلى العراق قبل مسيرته إلى الشام، فإذا بلغ شماله انحدر إلى حلب ودمشق من الفراض، فصرفه كعب الأحبار عن عزمه وجعله يبدأ بالشام، فكانت رحلته إليه آخر رحلة له خارج شبه الجزيرة.

Bilinmeyen sayfa