عاش خالد أربع سنوات بعد عزله بعيدا عن ميادين فخره ومجده، يحز الهم في قلبه أن يرى إخوانه وبني وطنه يقتحمون فلسطين إلى مصر والعراق إلى فارس، وهو مقيم في بيته، وسيفه في غمده لا يجرده لنصر أو شهادة، ولا يبديه مشهورا أمام الأبطال يهز قلوب العدو هزا، ويحصد رقابهم حصدا، أفما كان حسبه خلال هذه السنوات أن يستمتع بهذا المجد انعقد له لواؤه، وتكلل بغاره جبينه؟!
كلا! فما المجد لرجل لا يزال قديرا على أن يرفع صرحه ويعلي بناءه! إنما يسكن إلى مجد بلغه من يقعد به الجهد عن أن يسمو من مراتبه إلى أعظم مما بلغ، وكان خالد لا يزال قديرا أن يقتحم مراتب المجد جميعا، فيفتح من أرض الروم أضعاف ما فتح، ويبلغ عاصمة قيصر كما بلغ سعد بن أبي وقاص عاصمة كسرى، أما وعمر قد ألزمه عقر داره، فكسر سيفه وهد ركنه، فما أطول أيامه وأشد ألمه! وقد اخترم الهم حياته فمات بعد هذه السنوات المريرة
7
وهو يقول: «لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.» وفي الرواية المشهورة أن خالدا بكى حين حضرته الوفاة وقال: «لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!»
حزن المسلمون لموت خالد أشد الحزن، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم حزنا، رووا أنه سمع أمه تندبه وتقول:
أنت خير من ألف ألف من القو
م إذا ما كبت وجوه الرجال
فقال: «صدقت والله إن كان لكذلك!» وكان عمر ينهى عن الندب على الميت وبكائه حتى لقد شتت النسوة اللاتي اجتمعن ببيت عائشة يندبن أباها أبا بكر، فلما اجتمع نساء المدينة يبكين خالدا لم يعرض عمر لهن ولم يعترض عليهم فقيل له: ألا تسمع! ألا تنهاهن:
8
فقال: «وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة،
Bilinmeyen sayfa