وقوم عمر عروض خالد بثمانين ألف درهم ترك له منها ستين ألفا وأخذ العشرين الزائدة فأدخلها بيت المال.
وتحدث قوم إلى عمر في أمر خالد وما صنع به، ورأوا أنه قسا عليه وأن خالدا جدير بالكرامة، وقالوا له: يا أمير المؤمنين لو رددت على خالد ماله! لكن عمر كان لا يزال على سوء رأيه في سيف الله ولا يزال يتهمه؛ لذلك أجاب الذين تحدثوا إليه: إنما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أرده عليه أبدا
6
وأنكر قوم هذه الشدة من عمر، ورأوا فيها من المبالغة ما لا يفسره إلا شدة ضغنه على خالد وعظيم حرصه على النيل منه، فما ثمانون ألف درهم قيمتها دون السبعة الآلاف من الدنانير لرجل غزا وسبى واستفاء من المرتدين ومن العراق ومن الشام ست سنوات تباعا ما قيمته الملايين! وهذا الضغن يبدو في قول الطبري بعد أن روى رفض عمر أن يرد إلى خالد ماله، «فكأن عمر يرى أنه اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.»
ولعل عمر إنما قسا على خالد وبالغ في القسوة عليه بعد عوده إلى المدينة معزولا؛ لأنه رأى جماعة من المتعصبين لخالد يحاولون إثارة الفتنة وأن يمشوا بين الناس بالفساد، فلو أنه أظهر اللين لظن قومه لينه ضعفا، ولأيقنوا أنه عزل خالد في غير إثم، ولجرأ ذلك على الشر وشجع عوامل القلق، ولم يغب ذلك عن فطنة خالد ولم تفته مرامي أمير المؤمنين فيه، فقد كان يرى عمر إذا خلا إليه كان الرقة معه واللطف به، فإذا تحدث إليه قوم في الأمر كان ما رأيت بأسا وشدة عاتب خالد عمر يوما في خلوة وأعاد عليه أنه كان في أمره غير مجمل، فقال عمر له: «يا خالد! والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء أبدا.» وكفت هذه الكلمة خالدا فهدأت من ثورة نفسه وجعلته يرد الذين حاولوا تحريضه على القيام مع خصوم عمر في الثورة به بقوله: أما وعمر حي فلا! وكيف لخالد أن يثور بأميره لأمر أصدره، وهو جندي يعرف النظام ويؤمن به، وهو مسلم حسن الإسلام حريص على أن ينتصر دين الحق على يديه أو على يدي غيره! لذا سكن كارها إلى حياة لا ترضاها نفسه، حياة الجندي البطل يرى ميادين القتال مفتوحة أمامه، وهو مبعد عنها لا يستطيع خوض غمارها؛ لأن أميره عزله وأقصاه، وحسبك لتقدر ما حز ذلك في نفسه أن تذكر قوله، حين أقام بالحيرة سنة لا يقاتل الفرس امتثالا لأمر أبي بكر: «ألا إنها لسنة كأنها سنة نساء.»
واطمأن عمر إذ برت يمينه ألا يلي له خالد عملا أبدا ثم لم تثر لعزل خالد عاصفة، ولم يمالئ خالد أحدا على إثارتها، فغلب جانب البر فيه جانب الشدة والبأس، فأذاع في الأمصار: «إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.»
أفتعبر هذه الإذاعة تعبيرا صادقا عن رأي عمر في خالد، وتشهد أنه اقتنع بأن الرجل لم يرتكب إثم الخيانة ولا إثم الإسراف حين أجاز الأشعث بعشرة الآلاف؟ أم هي إذاعة سياسية قصد بها ابن الخطاب إلى تسكين الخواطر التي ثارت لما أصاب سيف الله، تعصبا له وإعجابا به، وخشية أن يجري عمر في سياسته على تغليب الهوى والأخذ بالظنة في أمر بناة الإمبراطورية الناشئة؟ أغلب الظن أنها كانت إذاعة سياسية أريد بها الاعتذار عن أمر أوشك حين وقوعه أن يحدث حدثا، وآية ذلك أن خالدا مات بعد أربع سنوات من عزله، ولم يترك من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وسلاحه، فلما عرف عمر ذلك من أمره حزن وقال: «يرحم الله أبا سليمان! كان على غير ما ظنناه به.» إذن لقد قامت بنفس عمر ظنة في خيانة خالد أو في إسرافه كانت سبب سخطه عليه وعزله إياه، وخطب الناس بالجابية يوما فقال: «إني أعتذر إليكم عن عزل خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأمرت أبا عبيدة.» لم تكن فتنة الناس بخالد هي إذن وحدها التي أدت إلى عزله مخافة أن يوكلوا إليه ويبتلوا به ويتعرضوا للفتنة بسببه، وليعلموا أن الله هو الصانع، بل كانت في نفس عمر سخطة على خالد لأسباب كانت فتنة الناس بسيف الله بعضها أو كانت أعظمها.
لم يسكن الناس لإذاعة عمر ولم يروها مسوغة عزل خالد، بل ظل منهم كثيرون وفي نفوسهم على عمر موجدة لهذا العزل أي موجدة، لما خطب بالجابية يعتذر جابهه أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بكلام يقول فيه: «والله ما أعذرت يا عمر! ولقد نزعت عاملا استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ووضعت لواء رفعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأغمدت سيفا سله الله، ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم!» وأجابه عمر: «إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.»
Bilinmeyen sayfa