فابتسمت نجلاء وقالت: أظنك تمزح يا سيدي. - لست أمزح يا نجلاء، إنه الحب الطاهر الشريف. - أرجو أن توفق إلى لقاء من تحب. - إنه أمامي وفي يدي لو كتبت لي السعادة وباركتني ملائكة السماء، فاحمر وجه نجلاء من الخجل، وأطرقت في صمت وحيرة، وأسرع أبو فراس يقول: سيدتي! إن رجائي أن تومئي إيماءة تدل على القبول، كل ما أطلبه يا سيدتي أن أنال الرضا بأن أكون لك بعلا. فابتسمت نجلاء ابتسامة واهنة فهم منها أبو فراس رضاها فصاح: أنت يا سيدتي حياتي، وريحانة روحي، ومطمح آمالي، إنني سأكون أسعد زوج طلعت عليه الشمس.
وبعد أن تنقلا في ضروب شتى من الأحاديث، ودعها وانصرف، وهو يظن أنه ملك الخافقين، وسما فوق مناط الفرقدين.
وذهبت نجلاء إلى أختها فحدثتها بخطبة أبي فراس، وأخذت تطريه وتشيد بصفاته ورفيع أدبه، وكلما بلغت الغاية في المديح عادت أدراجها لتبتدئ من جديد، وفاطمة منصتة جذلة لسرور أختها. وبعد أن استمعت طويلا رفعت رأسها وقالت: وهل تقدم لخطبتك أحد في حلب يا نجلاء؟ - كثير يا أختي، ولكني استطعت أن أدفعهم عني جميعا، إلا فتى يسمونه قرعويه، وهو فارسي المنبت، له بحلب أعظم نفوذ وأكبر صولة؛ لأنه غلام سيف الدولة الأثير عنده، وهو من كبار قواده، ولا يعوزه شيء مما يزدان به الرجال من بسطة في الجسم ووسامة في الوجه وشجاعة في الميدان، ولكنه يطوي بين جوانحه نفسا تتوق إلى الشر، ويخفي وراء بسماته كل معاني الختل والخديعة. هذا الفتى لا يمل من الإلحاح في خطبتي ولا يسأم من طول المطل والتسويف، فهو غريم مثابر مصمم، يظن أن الحب ميدان قتال يجب أن يكسب فيه المعركة، وألا يتحدث الناس بفراره منه كيفما بلغ به اليأس. وقد كنت أستطيع أن أغلق بابي دونه، أو أزيد في التنكر له، لولا شدة اتصاله بسيف الدولة وخوفي من مكره ومحاله.
10
والحق أن أكبر ما دفعني إلى زيارة منبج إنما هو لأراك ولأن أفر منه.
وقطع الحديث عليهما دخول حسين الجوهري، الذي لم يلبث بعد الغداء وبعد أن استمع إلى زوجته طويلا، أن خرج مسرعا لدعوة أبي فراس إلى الطعام في الغد، تقديرا لتفضله بزيارة داره.
وهكذا صح تدبير فاطمة، وهكذا توالت الأيام، وتوالت معها زيارات أبي فراس لنجلاء، وهما في كل زيارة يتحدثان عما ينتظرهما من هناءة في ظل زواج سعيد.
وفي ذات يوم دعا حسين الجوهري أبا فراس للصيد في ضيعة له بأحد أرباض المدينة، وكانت سبقتهما إليها نجلاء وفاطمة وطائفة من العبيد والخدم فقضى أبو فراس أياما هنيئة في اللهو والصيد والتمتع بنشوة الحب إلى جانب نجلاء دون رقيب أو حسيب. وبينما هما في صبيحة يوم يركضان بجواديهما خلف غزال؛ إذ لمحت نجلاء شبح فارس عن بعد يظهر ثم يختفي خلف الآكام في هيئة المريب المتجسس، فتركت مطاردة الغزال، وأرخت العنان لفرسها فانطلق كأنه لمحة البرق، ودارت بجوادها حتى لا يظن الفارس أنها تقصده، حتى إذا صارت على كثب منه، وأبصرت صفحة وجهه، انقبض صدرها، ولمع الغيظ في عينيها، وتمتمت بكلمات كلها سخط على النذالة والأنذال. ثم عادت أدراجها فلحقت بأبي فراس والغضب لا يزال يضطرم في وجهها. فدهش وأخذ يسأل عن سبب انصرافها عنه وعما يبدو في وجهها من غيظ وألم، فسكتت برهة، ثم رفعت وجهها إليه قائلة: إن الله خلق فريقا من الناس يوم خلق الأفاعي. وإن بعض الناس لا يستطاع الفرار من كيدهم وخبثهم ولو سكنا فوق متن الهواء، وعشنا في قرارة الماء. وهم كالموت يدركوننا أينما كنا ولو كنا في بروج مشيدة. - ما هذا التهويل يا سيدتي؟ - قد يكون تهويلا، ولكني لا أحب الدناءة، ولا أتحمل الأدنياء. - لقد أفزعتني يا نجلاء، فبالله عليك إلا ما صرحت! - رأيت فارسا عن بعد يظهر ويختفي، فعدوت بجوادي من ورائه حتى أقرب منه بحيث لا يراني، فلما دنوت منه عرفت أنه فهد غلام قرعويه. - قرعويه غلام سيف الدولة وقائد جيوشه؟ وما شأن هذا في أن تنالكم هذه الثورة من الغضب التي كادت تكدر صفاء هذا الوجه اللؤلؤي؟ - لن أكتمك شيئا يا سيدي. إن قرعويه هذا يطاردني في حلب، ويلح في خطبتي، وكأنه لم يرد أن يتركني أياما أتمتع فيها بلذة نسيانه، فأرسل غلامه ليتجسس علي، ويكدر صفو حياتي بذكره. - وهل قرعويه هذا من النفوذ والصولة بحيث ترهبينه وتلجئين إلى مصانعته؟ - له من المكانة عند سيف الدولة فوق ما يتخيل المتخيلون، ثم هو ماكر ختال، يلبس لمصارعة الأسود إهاب الثعلب. - هوني عليك يا سيدتي، فإن في سيف حبيبك مصرع الأسود والثعالب، ثم أخذ يفاكهها ويهون عليها الأمر حتى ضحكت، وحملت الريح رنين ضحكها عذبا حلو النغم فامتزج بتغريد الطيور.
ولما قرب أبو فراس من الخيام لمح أسامة خادمه وهو ينزل عن فرسه، فأسرع إليه وسأله عن سبب قدومه، فأخبره بأن رسالة عاجلة جاءت من سيف الدولة لدعوته إلى حلب دون أن يعوق. وهنا التفت أبو فراس إلى نجلاء حزينا كاسفا، والدمع يكاد يثب من عينيه وقال: هكذا الدنيا لا يتم بها سرور، فأجابته: لا، لا، إن الدنيا كلها سرور، سر إلى ابن عمك غدا وستراني قريبا في حلب. إن الفرقدين لا يفترقان.
الفصل الخامس
Bilinmeyen sayfa