الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الحادي عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Bilinmeyen sayfa
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
فارس بني حمدان
فارس بني حمدان
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
- بالله عليك لا تطيلي يا ليلى فإن مما يثير شجون النفس، ويزيد في ألم الحزين، أن يدفع إلى العزاء والصبر بكلمات خاوية متخاذلة حفظها الناس لينثروها في كل مأتم. إن كل كلمة من هذه يا ليلى شعلة تؤجج وجدي، وتضطرم في فؤادي، إن الحزن حرم قدسي يجب أن تخشع أمامه الرءوس بالصمت والإطراق. - ولكنك يا سيدتي «سخينة» تكادين تقتلين نفسك حرضا،
1
وتعصفين بهما هما، فقد مرت أيام سبعة منذ دهمنا الخبر المشئوم لم يرقأ لك فيها دمع، ولم تهدأ نفس، ولم يطمئن بك فراش. إن لنا في الله ثقة يا سيدتي. وماذا نصنع وقد مزج الله بالحياة معنى الموت، وبالموت معنى الحياة؟ نحن يا سيدتي في زمن مضطرب لا يركد عجاجه،
Bilinmeyen sayfa
2
ولا تسكن سيوفه في أغمادها، بعد أن انحلت أواصر بني العباس، وأصبحت دولتهم أشلاء
3
ممزقة، يفترسها كل مفترس، ويغير عليها كل واثب. ففي كل أرض حرب مشتعلة الأوار،
4
وفي كل دار أنين وبكاء، ولن نملك - نحن النساء - إلا أن نردد قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي
على قتلاهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
Bilinmeyen sayfa
5 - وهذا أعجب ما قيل في العزاء، إن الحزين الذي يتسلى عن مصائبه بمصائب غيره لمأفون
6
الرأي سقيم العاطفة. والنفس التي تهدأ للكوارث تحل بسواها، وتستريح في نكبتها لأصوات النادبات وعويل الباكيات ثم تنسى النار التي تلتهم دارها؛ لأن لهيبها اندلع في كل دار، لنفس شريرة حقود ... - ليس الأمر كما تظنين يا سيدتي، وإنما هي طبيعة بني الإنسان تعبر عنها الشاعرة، فالحزين يتأسى بالحزين، والغريب يسعده الغريب، وقد طبعت النفس على أن تستهين بمصابها عند نزول المصائب العظام والفوادح الجسام، وقد يقيس المرء مصيبته بمصيبة غيرها فيحمد الله على السراء والضراء. - هذا كلام بعيد عن الإقناع يا ليلى؛ لأنني أبكي زوجا كان قليل الأنداد
7
في الأحياء، فأصبح قليل الأنداد في الأموات، فليس إلى التعزي فيه من سبيل. فعلى أبي العلاء فليجزع الصبر، وعلى سعيد فلتبك البواكي. ثم أطرقت إطراقة طويلة، وأخذت تهز رأسها في وجوم.
كانت سخينة في نحو الخامسة والثلاثين، صبيحة الوجه، جميلة الطلعة، فارعة الطول، ممتلئة الجسم. امتزج في تكوينها الدم العربي بالسلالة الرومية، فجاءت صورة بارعة للملاحة العربية، والجمال الإغريقي معا. وكانت تجلس في ذلك اليوم، وهو الحادي والعشرون من رجب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في إحدى حجرات قصرها الذي امتاز بين قصور منبج (إحدى مدن الشام) بضخامة بنيانه، وارتفاع شرفاته، وروعة زخارفه. وكان يقوم فوق أكمة بالشمال الغربي من المدينة، بالقرب من «عين المرج» بين الخمائل الزهر،
8
والحدائق الفيح،
9
يحيط بكل ذلك سور ضخم سامق بني بالحجر الصلد، وربض في كل ركن من أركانه حصن منيع الذرا، يكاد يجبه
Bilinmeyen sayfa
10
الدهر، ويتحدى نوازل الأيام. أما القصر فكان آية من آيات الفن الإغريقي في اتساع حجراته وأبهائه، وعظم أعمدته التي نحتت من الرخام الأبيض الناصع اللماع، وفخامة أثاثه، وجمال سقوفه وما زينت به من النقوش والصور، التي تعاون المال والفن الرفيع على أن تكون شركا للعيون، وفتنة للعقول، وكان القصر يموج بمن به من الجواري، يذهبن في أنحائه هنا وهناك، وقد غشت وجوههن سحابة من الحزن الصامت المكبوت.
11
كان هذا القصر لأبي العلاء سعيد الحمداني عظيم أسرة بني حمدان وشاعرها وفارسها المعلم، الذي هابته القبائل النازلة بالشام والموصل، واستجدت عونه الدولة العباسية وهي تترنح
12
للسقوط، واتخذت من شجاعته درعا تقيها صولات الطامحين.
رفعت سخينة رأسها بعد طول الإطراق، ونظرت في وجه وصيفتها ليلى نظرة الذاهل المأخوذ وقالت: إن ابني حسينا يصل من الموصل اليوم، فلعلنا نقف منه على جلية الأمر في مقتل أبيه. - إنه لن يعوق يا سيدتي ؛ لأنه أرق قلبا من أن يتركنا طويلا بين حرقة الحزن ومرارة الانتظار.
ثم أخذتا في الحديث في مآثر سعيد وجوده وشجاعته، وذكرت ليلى مواقعه اللامعة ونصره المؤزر
13
الحاسم على بني كلاب وبني النضير، وما كانت إلا ساعة حتى سمعت جلبة وضوضاء، ثم فتحت أبواب القصر، ودخل الحسين بن سعيد، يمتطي جوادا أشهب،
Bilinmeyen sayfa
14
كاد يضنيه طول السفر وبعد الشقة
15
لولا كرم عربي فيه أنف أن ينال منه التعب أو يمسه اللغوب.
16
وكان الحسين شابا فارها
17
طويل نجاد السيف، وسيم الوجه، قوي البناء، لم يجاوز العشرين، فوثب من فرسه ناشطا إلى القصر، وأسرع إلى أمه يقبل يديها ورأسها في حنان امتزج فيه البر بالحب، والشغف بالإشفاق، وكان حزين النفس مثقل الكاهل بالهموم، ولكنه حينما رأى وجه أمه، ولمح ما ارتسم فيه من سطور الحزن الأليم، والهلع القاتل، أسرع فبسط قليلا من أسارير وجهه، ومحا من عينيه دمعتين تحيرتا فيهما بين الانهمال والجمود، ثم جلس إلى جانبها، أخذ يدللها - كما يدلل الطفل الجازع - بعبارات أرق من الدموع. وانطلق يقول في صوت صادق النبرات لم يذهب الحزن برنينه، ولم تهزه عواصف الشجون: لقد كان السفر شاقا يا أماه، وكانت الطرق وعرة طويلة على الرغم من أننا كنا نطوي المراحل كما يطوي البرق معصرات الغمام.
18
وقد وثب علينا في الطريق جماعة من بني تميم أطمعتهم فينا قلة العدد وكثرة الغنيمة، فما كان إلا أن جردت سيفي ودعوت أصحابي إلى الوثوب، حتى فروا كما يفر الأمن من قلوب الجبناء. - أنت يا ولدي ابن أبيك حقا، ولكن هذه الشجاعة يا حسين هي التي أيتمت أبناء بني حمدان، وأيمت
Bilinmeyen sayfa
19
نساءهم، انظر اليوم ماذا سيكون من شأن أخيك الحارث أبي فراس، وقد تركه أبوه في غضارة
20
الطفولة، يتعثر في سنواته السبع. - إن اليتم في سبيل الشرف عزة وكرامة. إن أبطال بني حمدان يموتون ليحيا أبناؤهم، وإن ذلك المجد الباذخ، وتلك الصولة العاتية التي ملأت العراق والشام رعبا، لم تكن إلا صدى لقبور الشهداء من بني حمدان، الذين سقطوا في الميدان بعد أن تحطمت سيوفهم في سبيل الشرف والبطولة. إنني يا أماه سأحيا بأبي، وسيحيا في أبي، ولن يقول الناس إن ابن سعيد مات أبوه فبخعه
21
الحزن، وجلس في إحدى زوايا قصره يبكي كما تبكي الإماء،
22
لا، لا، إن مجد بني حمدان باق على الدهر، وهو سر قدسي يحفظه الأجداد للآباء ويصونه الآباء للأبناء. أما أبو فراس ... ثم أطراق قليلا ورفع رأسه، قال: فلن أعلم ولن تعلمي ما سيكون من أمر هذا الطفل اليتيم. ولكني لا أستطيع أن أشك في صدق ظنوني فيه. وإذا دل الفرند
23
على كرم السيف، ونم الغصن على طيب منبته، فإن مخايل أبي فراس تنبئني بأنه سيكون بطلا، وأنه سيترك في الدنيا دويا. إن هذا الطفل أعجوبة الأعاجيب! إنه وهو في السابعة يبهرك برأي أصيل، وعزم صليب، وقلب لم يعرف الرعب، ولم ينل منه الفزع، إنك ترين في عينيه نبل محتده،
Bilinmeyen sayfa
24
وقوة نفسه، وكرم خيمه.
25
وإن في ابتسامته الهادئة المشرقة أشعة من الآمال الجسام، التي تسخر من الدهر، وتطمح إلى عظائم الأمور. هذا الطفل الصغير يا أمي عصارة المجد الحمداني، وملتقى عناصر قوته.
فسالت الدموع من عيني سخينة وقالت: صدقت يا حسين، لقد رأيته أمس من نافذة حجرتي، وهو يقود جيشا من أترابه
26
أبناء حراس الحصون، وقد حمل بيمينه غصنا كان يسميه الصارم البتار، وثب به في خفة النمر على من زعمهم أعداءه، فبدد شملهم جميعا، ثم صعد إلي في صلف الشجاع المنتصر يحدثني بأخبار الموقعة، وما ظفر به من أسرى وغنائم، ولكنه أجج نار أشجاني حينما سألني عن أبيه، فلما قلت له: إنه ذهب إلى بغداد ليحارب أعداء الخليفة، أمال رأسه في شمم واعتداد وقال: لم لم يأخذني معه؟ إنني أحب الحرب وأهوى النضال، وإن هذه الحرب الصورية بين هؤلاء الصبية لا تشفي من نفسي غليلا، وحينما أبصر دمعتين تطفران من عيني قال: أنت لا تحبين الحرب؛ لأنك لم تتذوقي نشوة الانتصار! فأسرعت وقلت: إن الناس سيموتون في الحرب يا بني، فأخذه الضحك طويلا ثم قال: الموت خير من حياة كحياة جاريتي هيلانة التي دخلت حجرتها نحلة بالأمس فطارت نفسها هلعا، وملأت جوانب القصر صياحا وضجيجا. - إنه كما قلت لك أعجوبة الأعاجيب، وصورة صادقة من أبيه، وإن أما تسعد بمثله، وتترقب ما ينتظره من مراتب العظمة وبعد المنزلة، جديرة بألا يجد الحزن إلى قلبها سبيلا، إن أبي لم يمت يا أمي، وإنما تجدد شبابه في وفي أخي أبي فراس. ثم طفق ينشد من قصيدة بشامة النهشلي:
إنا - بني نهشل - لا ندعي لأب
عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا
27
Bilinmeyen sayfa
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة
تلق السوابق منا والمصلينا
28
وليس يهلك منا سيد أبدا
إلا افتلينا غلاما ناشئا فينا
إنا لمن معشر أفنى أوائلهم
قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟
29
إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم
حد الظبات، وصلناها بأيدينا
Bilinmeyen sayfa
30
لقد مات أبي ميتة الكريم الشجاع، كان يجود بنفسه وسيفه في يمينه يضرب به ذات اليمين وذات الشمال. - قل لي كيف مات بحقك؟
فزفر زفرة طويلة، وأطرق إطراقة المفكر الحائر كأنه يريد أن يجمع شوارد نفسه، أو أن يتخلص من الظنون التي كانت تغاديه وتراوحه منذ شهد المعركة، وقال: تعرفين يا أماه ما كان بين أبي والخليفة الراضي العباسي من أواصر المودة، وتعلمين خبر تلك الرسالة التي أرسلها إليه الخليفة منذ ستة أشهر، يستدعيه إليه، ويتعجل رحيله، ويشير فيها في خفاء وإبهام إلى أنه في حاجة إلى عونه، والاستظهار به
31
على أعدائه من الترك والعرب، وقد كان أبي إلى إجابة الخليفة أسرع من رجع الصدى كما تعلمين، فرحلنا إلى بغداد في قلة من عبيدنا ورجالنا، فلما وصلنا إلى دار الخلافة لقي أبي من الخليفة من صنوف الإكرام، وحسن الوفادة، وتقريب المنزلة، ما ملأ قلوب الحاشية حقدا وضغنا، وفي ذات ليلة همس أبي في أذني بأن الخليفة ولاه إمارة الموصل وطلب منه السفر إليها بعد يومين. - يوليه إمارة الموصل وهي في يد ابن أخيه ناصر الدولة! هذه مكيدة خسيسة من هذا الخليفة الضعيف الماكر، يريد بها أن يوقع العداوة والبغضاء بين رجال هذه الأسرة الباسلة، التي أقضت مضجعه، وأخذت تبتر أوصال مملكته في العراق والشام، فلم يجد هذا الخبيث من وسيلة إلا أن يغري أبناء العمومة بعضهم ببعض، وأن يحاربهم بسلاحهم، ويطعنهم برماحهم، فإذا انتصر أحدهم على أخيه هلل له وكبر، ونثر فوقه أزهار المديح والثناء، وهو يرى في دخيلة نفسه أنه قد استراح من فريق عظيم منهم، وأن الفرصة ستواتيه للقضاء على الفريق الآخر. هكذا أصبح دأب هؤلاء الخلفاء منذ دالت دولتهم،
32
وأصبحت نهبا مقسما بين الأمم، فإنهم حين فقدوا سلاح القوة، برعوا في الكيد والحيلة. والضعيف دائما يستعير لنفسه قوة من نصب الأشراك، ودس الحبائل. - هذا ما استطعت أن أبوح ببعضه لأبي؛ لأنك تعرفين ما كان له من الهيبة وعنف الشكيمة
33
التي تعقل اللسان دون مخالفته، فما كان منه إلا أن قال في استنكار وغضب: ماذا تريد يا فتى؟ أتريد أن تقول إن الخليفة لا يملك عزل أمير وتولية أمير؟ أتريد أن تقول إنه أصبح من الضعف والخور بحيث لا تتجاوز أوامره جدران قصره؟ نحن يا بني خدام الخليفة، وعدته في الشدائد، وقد بقيت الخلافة في أبنائها إلى اليوم بأسنة بني حمدان وسيوفهم. إن ابن أخي ناصر الدولة لا يملك إلا أن يطأطئ رأسه لحكم الخليفة. - فهل طأطأ رأسه حقا؟ - لا أدري. وقد ساورتني في هذا الشأن شكوك مبرحة اضطرب لها ميزان عقلي، وكادت تقضي علي.
فتنهدت سخينة ولمع في عينيها لهيب الغضب وقالت: امض في حديثك يا بني. - أتظنين أن لابن عمي يدا في مقتل أبي؟ - امض في حديثك يا حسين، قاتل الله المناصب، وقاتل الله الجشع، وقاتل الله الحرص الذي أذل أعناق الرجال؛ إن إدراك المسألة سهل هين، ما كان ينبغي أن يخفى على أبيك. ذلك أن الراضي جشع ماكر، وقد حرمه ناصر الدولة خيرات الموصل وذخائره واستأثر بها دونه، ولم يبعث إليه منها شيئا. وكانت جبايتها أيام المأمون آلاف الآلاف من الذهب والفضة، فأراد الخليفة أن يجعل من أبيك شبكة لاصطياد هذه الأموال على أن يلهيه بقليل منها، وأحس ناصر الدولة بأن الغنيمة ستطير من يديه، فثارت نفسه، وصمم على الاحتفاظ بها ولو قتل في سبيل ذلك أعز الناس لديه. وأكبر ظني أن عيونه وجواسيسه بدار الخلافة طيروا إليه الخبر فأخذ له الأهبة، وأعد له العدة. امض في حديثك يا حسين. - غادرنا بغداد في خمسين رجلا ... - في خمسين رجلا؟ يا له من جيش لهام!
Bilinmeyen sayfa
34 - نحن لم نذهب لحرب، ولم نتحفز لقتال، ولكنا ما كدنا نصل إلى مشارف الموصل حتى خرج علينا كمين في غبش الظلام عدته نحو خمسمائة فارس، فأحاط برجالنا من كل جانب، وجال أبي بفرسه ليخترق ثغرة في صفوفهم، ولكنهم تواثبوا عليه وخزا بالرماح، وضربا بالسيوف، وهو ينثر رءوسهم بسيفه كما ينثر الزراع الحب، ويكر هنا وهاهنا كما يكر النمر اليائس حتى تمزقت درعه، وصبغتها الدماء. وقد عمدت إلى قائد عصابتهم فرميته بسهم فسقط تحت سنابك الخيل، وأسرعت إلى أبي وقد أثقلته جراحه فحملته إلى المؤخرة، ولم تمض لحظات حتى لحق بآبائه الشهداء.
فبكت سخينة طويلا ثم رفعت رأسها وقالت: وبعد موته رحل هذا الجيش المغير، ولم يستأصل بقيتكم؟ - نعم. - وهل بعد هذا تبقى عندك خلجة
35
شك في أن المكيدة أعدت لأبيك، وأن الذي أعدها هو الذي يخشى من مزاحمة أبيك؟ - إن لأبي أعداء كثيرين يا أمي، وإن شجاعته لم تترك قبيلة إلا ولها عنده ثئور. - ظن كما تشاء يا حسين، أين دفنتموه؟ - دفناه فوق هضبة شرقي مدينة الموصل تحت شجرة زيتون.
وبينما هما في الحديث إذا صياح وجلبة في بهو الدار، وخادمة أبي فراس «هيلانة» تهرول وهي تلهث وتتمتم بكلمات ارتطمت فيها العربية بالرومية، وأبو فراس يعدو أمامها راكبا رمحا انتزعه من حائط كان معلقا به، واتخذ منه جوادا كريما حتى دخل الحجرة التي بها أمه وأخوه، وهو يصيح: هذه الجارية البلهاء تستنكر على مثلي أن يمتطي جوادا، لقد كان أبي يحب هذه اللعبة ويعدني بحصان حينما أبلغ التاسعة، أين أبي يا حسين؟ - أبوك في مكان عال تتلاقى فيه الرياح، وتجوده أخلاف
36
الغمام . - ولم لم يعد معك؟ - إنه لو استطاع أن يعود لعاد، ولكن الحرب أبت إلا أن تقتضيه دين الشرف والبطولة. - وما دين الشرف والبطولة؟ - الموت! فهز الطفل رأسه وهو يغمغم: الموت، الموت! الموت دين الشرف والبطولة! ثم حملق في وجه أخيه وقال: والثأر أيضا يا حسين دين الشرف والبطولة؛ إنه ماحي العار، ومخمد النار؛ ثم انطلق يعدو بجواده في أنحاء القصر ولم تدمع له عين، ولم يبح صدره بزفرة أنين.
الفصل الثاني
تابع الفلك دورته، وتعاقبت سنواته، والأمير الصغير في كل يوم تتفتح مواهبه، وتتجلى مخايله، كالزهرة تحس بأنفاس الربيع فتتخايل فوق غصنها، وكالنجم يمتد به الليل فيزيد تألقا وسطوعا. وليس من شك في أن الطفل صورة من الوراثة والبيئة، فإذا اجتمع في ناشئ كرم المنبت، وسلامة الطبع، وصحة الجسم، وحسن الإشراف، كان مثلا عاليا للإنسانية الكاملة. وأميرنا أبو فراس قد فاز بكل هؤلاء؛ فكان جديرا أن تعقد به الآمال، وأن تترقبه الرياسة، وتتهيأ له صدور المحافل.
نشأ في كنف أخيه الحسين، وفي رعاية أم رءوم
Bilinmeyen sayfa
1
تظله بجناحها، وتغذوه بحنانها. وكان الحسين يثير في نفسه الاعتزاز بقومه وبتاريخه المجيد، ويحفزه إلى العظمة والسيطرة والبطولة. ولم تقصر حاضنته عائشة النزارية في الرمي نحو هذه الغاية، فإنها رأت جذوة في نفسه فطفقت تنفخ فيها حتى تركتها شعلة متأججة، تقذف بالشرر. وكثيرا ما كانت تجلس إلى جانب سريره عندما يأوي إلى فراشه، وتقص عليه سير أجداده، ومآثر آبائه، بأسلوب يهز العاطفة، ويثير الوجدان. فهي إذا تحدثت عن حمدان جد هذه الأسرة، أخذت تجلو من أخبار شجاعته ومروءته صورا امتزجت فيها الحقيقة بالخيال، وتذكر كيف أنه أبى أن يخضع للمعتضد العباسي، وأن يلقي إليه بالقياد، فاقتطع من أملاك الدولة العباسية إمارة «ماردين» ونادى بنفسه عليها ملكا مستبدا، ولم يبال ما كان للمعتضد في ذلك الحين من دولة وصولة. ثم تصف ما كان بعد ذلك من غضب المعتضد وحنقه على هذا العربي الثائر، وكيف أنه بعث إليه بجيش جرار، ولكن هذا الجيش ما كاد يلتقي برجال حمدان حتى مني بالهزيمة والخذلان، وعاد الخليفة بفلوله
2
مدحورا، ونار الغضب تأكل صدره، فلم تهدأ له ثائرة حتى رماه بجيش آخر لا يعرف أوله أين آخره، لكن حمدان كان إلى شجاعته وتحديه الموت ذكيا واسع الحيلة، يقدم - كما يقول عنترة - إذا كان الإقدام عزما، ويحجم إذا كان الإحجام حزما، فلما رأى أنه في قلة من رجاله، وأن من المناجزة
3
إلقاء بيده إلى التهلكة، اتخذ الليل مركبا، وسرى في ستار من ظلماته كما يسري طيف الخيال، لا تناله الأكف، ولا تبصره العيون، وتراجع تراجع الليث ليثب، وطلبه الخليفة في كل مكان، وبث وراءه العيون، وأخذ عليه الطرق والمناهل،
4
ولكنه كان شعاعا لا تمسكه يد قابض، وسرا لا تدركه العقول. وكان أهون على الخليفة أن يصيد العنقاء، أو يقتنص نجوم السماء، من أن يحاول أن يمسه بضرر، أو يقف له على أثر. اختفى حمدان، ولكن ذكاءه ونفاذ بصيرته لم يختفيا، فأوعز إلى ابنه الحسين أن يصانع الخليفة حتى ينال بالحيلة ما رأت القوة أن تتركه إلى حين، وقد كان رأيه صوابا، فنال الحسين الحظوة عند المعتضد فأغضى عن ثورة حمدان، وأعاد إلى قومه ما كان لهم من نفوذ وسلطان.
تقص هذا القصص وأمثاله، والطفل ذاهل مأخوذ حينا، وواثب من سريره أحيانا، وكلما حاولت الانتهاء طلب إليها المزيد. وكأنه كان يستمد من أرواح أسلافه قوة، ويستلهم من سيرتهم عزيمة، ويتخذ من تاريخهم غذاء لكبريائه.
وفي ليلة ألح عليها أن تحدثه عن أبيه، فنظرت إليه وأطالت النظر، وقالت: أما أبوك فكان سيد بني حمدان وأصدقهم رأيا، وأثبتهم قلبا، وأطهرهم نفسا. ولقد كان إذا ركب بين الفرسان فرعهم طولا، وبزهم جرأة وإقداما، وكان إذا عد الأجواد أبسطهم كفا، وأرحبهم فناء، وأسبقهم نازعة إلى المعروف. أذكر ليلة حينما قدم من حلب من قتال بني تميم ... - ومن بنو تميم هؤلاء؟ - قبيلة قوية الشكيمة، صعبة منال الزمام، لا تلين أعناقها لحاكم، تحدت جيوش الخليفة المقتدر بالله العباسي، فعاثت في أعمال حلب، فاستنجد الخليفة بأبيك وأخيه الحسين، فبرزا إليها في جيش خضم،
Bilinmeyen sayfa
5
ونشب بين الفريقين قتال مر المذاق. وحين قدم أبوك من هذه الحرب، ذهب على الفور إلى حجرة أمك حزينا مهموما، فظننا أول الأمر أن الهزيمة لحقت بجيشه. وأخذت أمك بما وهب الله لها من لباقة ومعرفة بفنون الكلام، ترفه عنه، وتلوح من بعيد بأن هزيمة الشجعان خير من انتصار الجبناء، وأن النصر كالمرأة الفروك
6
تجفو الرجل أحيانا ليتشبث بها، ويزيد بها حبا وجنونا. فالتفت إليها أبوك وغبرة الحزن لم تفارق وجهه وقال: ماذا تقولين يا سخينة؟! لقد انتصرنا على بني تميم وطاردناهم إلى مضاربهم. وهنا قفز الطفل من سريره صائحا: حياك الله يا أبي، وسقيا لجدثك الطاهر، لقد خفت يا عائشة أن يكون قد هزم أو أن يكون ...
ففهمت عائشة ما تلجلج في صدره، وقالت في غضب: إن أباك لا يعرف الفرار، ولو عرفه لكان بيننا الآن يملأ جوانب القصر حياة وقوة، ويشيع فيه البهجة والسرور. إنه لم يفر في آخرة مواقعة أمام خمسمائة فارس من العتاة الأشداء، فقاتلهم حتى ضاق مجال فرسه، وحتى تحطم حسامه، فمات كريما شهيدا. ثم عادت إلى حديثها الأول فقالت: وحينما علمت أمك بانتصاره قهقهت في سخرية مصنوعة، وقالت: وماذا إذا يحزن فارسنا المغوار، ويشوه من وجهه الوسيم، بعد أن شتت الجموع، وعاد بالأسلاب والغنائم؟ فاتجه إليها الأمير سعيد وقال: الذي يحزنني أنني بعد أن ركد غبار المعركة، سألت عن تمام القضاعي وقد كنت شهدته يجول في ميدان القتال ويصول، ويقذف بنفسه بين الكتائب كأنه أخذ على الموت عهدا، فعلمت أنه قتل، فحزنت أشد الحزن وأمضه. ولم أحزن لأن رجلا قتل، فإن في موت الشجاع في الحومة
7
شرفا لا يدرك معناه الجبان، ولكني أعلم أن له زوجا وأما عجوزا وبنيات أضعف من الثمام،
8
وأوهن من أضغاث الأحلام، كبراهن في نحو الخامسة عشرة. لذلك أسرعت عند بلوغي «منبج» إلى داره. وحينما قابلت أمه أخذت في مواساتها فلم تزد على أن تقول: إن ابني اشترى الجنة بحياته ففاز بالثمن الربيح. ولما حاولت أن أقذف بين يديها كيسا به مائتا دينار، شخصت عيناها واربد وجهها في غضب، وصاحت في وجهي قائلة: رحماك بنا أيها الأمير! إننا لا نبيع رجالنا بالمال، وخير لنا أن نموت جوعا من أن نجمع بين موت تمام ومعرة الأبد! خذ مالك أيها الأمير، فإن فتات الخبز في ظل العزة والكرامة خير من موائد الملوك، فبهرت وأطرقت حزينا، وخرجت من الدار حائرا مبهوتا. ثم اتجه إلى أمك وقال: ألا نستطيع أن نعمل شيئا لهذه الأسرة يا سخينة؟ إن لك طرائق في التفكير ورثتها عن أجدادك الروم لم تدع أمامك بابا من الرأي مغلقا. فأسرعت أمك وقالت: هون عليك أبا العلاء، فإن الأمر جد يسير، إننا نستطيع أن نزوج كبرى بناته بأحد حراس القصر، وأن نمهرها بمائتي دينار، ولن تجد العجوز غضاضة في الأمر ولا حرجا، بل تسر؛ لأن الأمير شرفها بالإصهار إلى أحد حراسه، حينئذ تلألأ وجه أبيك بشرا وصاح: مرحى بابنة أفلاطون مرحى! لقد علمت أنك لا يعوزك الرأي الأصيل، والحيلة البارعة. - وهل تم هذا الزواج؟ - تم بعد شهر من قدوم أبيك، وتزوج عمار الحارس بصبيحة القضاعية، وأصغر أبنائها اليوم هو أسامة خادمك، الذي تلعب معه في حدائق القصر.
هكذا كان يغذى الطفل بأحاديث البطولة، وهكذا كانت تثار حميته إلى ترسم خطوات آبائه العظام. وقد وجدت هذه الأحاديث من نفس الطفل أرضا خصبة ومنبتا طيبا فزادها خياله ضخامة وعظما، وكانت شغل نهاره ومسرح أحلامه، فطالما استبطأ الزمن الذي حال دونه أن يجرد سيفا أو يشهد في قتام
Bilinmeyen sayfa
9
الخيل واشتباك الرماح مشهدا.
ولما بلغ الرابعة عشرة وأجاد القراءة والكتابة، قسمت أمه وقته بين مجلسين: مجلس بين الأدباء والشعراء وعلماء الدين واللغة والتاريخ، ومجلس فوق صهوات الخيل وبين خيرة المدربين على الفروسية وأساليب الضرب والطعان. وكان من أبرز الشعراء المنقطعين لتعليمه أبو الحسن المعروف بالناشئ الأصغر، فقد أملى عليه شعره، وقرأ معه دواوين القدماء والمحدثين، وأخذ يوجهه إلى طرائق النقد، ويبصره مواطن السحر والجمال في جيد المنثور والمنظوم، وكان أبو فراس يؤثر شعر عنترة في الجاهليين، وشعر الفرزدق والكميت في الأمويين، ويروح عن نفسه بشعر كبار الشعراء العباسيين كبشار وأبي نواس والحسين بن الضحاك.
والحق أن نفسه كانت مختلفة النزعة، فبينما هي جد وصرامة وتوثب إلى معالي الأمور، إذا هي حنانة إلى اللهو العنيف، تواقة إلى التمتع بنعيم الحياة واجتلاء أسرار الجمال. والجمال مظهر من مظاهر هذا الكون تدركه النفس الشفافة وتهفو إليه، وترى فيه متعة وغذاء، والنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ولا يجلوها إلا فترات من السرور الذي لا يخدش الفضيلة ولا يمس الكرامة.
كان الناشئ الأصغر يقرأ معه يوما بائية الكميت في مدح بني هاشم، فلما قضيا في درسها طويلا التفت إليه وقال: أقلت شيئا من الشعر جديدا؟ - لقد جال بالأمس في نفسي شعر أحسست به كأنه همسة الوحي فأسرعت إلى القلم لكتابته. فنشط الناشئ وقال: هات أبا الفراس. فأنشد:
تطالبني البيض الصوارم والقنا
بما وعدت جدي في المخايل
10
فمثلي من نال المعالي بسيفه
وربتما غالته عنها الغوائل
Bilinmeyen sayfa
وما كل طلاب من الناس بالغ
ولا كل سيار إلى المجد واصل
فصاح الشيخ وقال: إيه يا بن حمدان! هذا هو الشعر الذي عجزت عنه شياطين الشعراء! زدني بالله يا بن سعيد زدني فقال:
خيلي وإن قلت كثير نقعها
بين الصوارم والقنا الرعاف
11
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي
مأوى الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة
حتى كأن خطوبها أحلافي
Bilinmeyen sayfa
شيم عرفت بها غلاما يافعا
ولقد عرفت بمثلها أسلافي
فطرب الناشئ وقال: حقا إن منبج لم تنجب بعد أبي عبادة البحتري مثلك. اصدح يا بني كما تشاء وغرد، وعلم طيور الشام تلك الألحان القوية المملوءة بذكريات المجد والبطولة، فإن الناس حيث شعراؤهم، فلقد سئمنا تلك الأشعار الرخوة الخائرة، التي قتلت في نفوس العرب النخوة والشهامة، وصدفتهم عن التطلع إلى المجد والغلب، فعاشوا في بلهنية
12
النعيم، واستناموا إلى الراحة بين ظل الأشجار، وخرير الأنهار، وبين قينة
13
وكأس، وعبث ومجون. وهذا العبث إلى ما مني به العرب مع الاعتماد على الغرباء، وإلقاء شئون الدولة إليهم ، هو الذي قضى على الدولة العباسية، وأتى على بنيانها من القواعد، بعد أن ملكت أطراف الأرض، وتحدت الدنيا بالعلم وقوة السلطان أيام الرشيد والمأمون. لقد رمحتنا
14
الدنيا بعد أن كنا نقتعد منها صهوة العز والصولة. هذا خليفتنا العباسي الذي بايعه الديلم بعد أن خلعوا أخاه وسملوا
15
Bilinmeyen sayfa
عينيه، يجلس اليوم على عرشه كما يجلس القرد الخائف المذعور تذهب عيناه يمينا وشمالا حيث اتجهت عصا صاحبه، وقد علمت أن هذا البائس المنكود أمر أن تنقش على النقود أسماء ثلاثة من أمراء الديلم بعد أن أصبح بينهم لعبة تشدها ثلاثة خيوط!
وإذا اتجهنا إلى ناحية الروم، رأينا أنهم لم ينسوا ثأرهم عند العرب الذين ثلوا عروشهم، وبددوا ملكهم، فأخذوا في مدى هذه القرون يعدون العدة، وينفثون في رجالهم روح الحقد على المسلمين، ويلوحون لهم بأمل براق، ويمنونهم الأماني، ويصورون لهم ذلك اليوم الموعود الذي تعود فيه مملكة الروم التي اغتصبها المسلمون إلى حوزتهم. وهاهم أولاء اليوم رابضون بالقرب من طرسوس يتحينون الفرصة للوثوب، ويغتبطون بما أصاب دولة الإسلام من تمزق، وبما شجر بين أمرائها من حقد وعداء وانقسام.
وهنا قال أبو فراس في صوت تكاد تخنقه العبرة: إن الأمم تموت حينما تنسى أخلاقها، وتغفل عن تاريخها. ولن تعود دولة العرب إلا إذا عاد أهلها إلى أخلاق العرب!
بهذا وأمثاله كان ينشأ أبو فراس في دراسة الأدب والتاريخ. وقد دفعته هذه الدروس إلى الاستزادة والتوسع والانصباب على العلم حيثما وجده؛ فكان يخلو بنفسه ساعات في خزانة الكتب بالقصر ينتقل بين كتبها كما تنتقل النحلة من زهرة إلى زهرة لتجني العسل طيبا شهيا.
أما تدريبه على الفروسية وأساليب القتال، فكان يقوم به واصل بن عبد الله أعظم المدربين مهارة، وأبرعهم ضربا بسيف أو طعنا برمح أو إصابة بسهم، ولم يكن يجد في تدريب الفتى الناشئ عنتا أو مشقة، وكأنما كان يعلم السمك أن يسبح في الماء، والطير أن يحلق في السماء، فإن أثر الوراثة في أبي فراس كان عميقا بعيد الغور، فلم يمض شهر حتى حذق فنون الحرب، وركوب الخيل، وأخذ يفاخر أنداده ويصاولهم، ولم يعقد رهان إلا كان فيه المجلي السباق، وكم أغراه التمكن من فنون الفروسية بكثير من التهور والمجازفة، فكان يركض فرسه ويلهبه بالسوط ليثب به فوق مسيل ماء يبلغ عرضه عشر أذرع، دون أن يبتل حافر فرسه، وكان يقيم سدا مرتفعا من جذوع الأشجار، ثم يهمز جواده فيثب فوقه كأنما يطير في الهواء. وقد أفزعت هذه الأفانين واصلا، وخاف عليه مغبتها، فأفضى إلى أمه بمخاوفه، ولكن أمه لم تلبث حين سمعت حديثه أن هزت كتفيها في قلة اكتراث، ونظرت في وجه واصل بعد أن أطبقت عينها اليسرى في غرور وكبرياء، وقالت: ما عليك من هذا يا بن عبد الله. إن بني حمدان يجب أن يعملوا ما لا يستطيع عمله الناس. وإلا فلمن أعدت خطيرات الأمور؟
الفصل الثالث
شغلت الشام وبخاصة في مدينة حلب في هذه الأيام بالحديث عن نجلاء الخالدية، وسرت شهرتها بالجمال البارع من فم إلى فم، وتناقل الناس في إعجاب وإكبار ما ازدانت به من خلق ودين ولطف وأدب وخفة روح وعلو نسب. وكانت نجلاء حقا كما يصفون وفوق الذي يصفون، فقد وهب الله لها وجها واضح الجبين، رائع القسمات،
1
به عينان يتألق فيهما الطهر ويشع منهما النبل وكرم المحتد، ومنحها نفسا أصفى من قطرات الغمام، وأقرب إلى نفوس الملائكة الأطهار. نشأت في بيت علم وأدب ينتمي إلى أسرة رفيعة المجد باذخة الشرف، وقد بلغ في هذا الحين أخوها محمد وسعيد الخالديان منزلة أثيرة عند سيف الدولة بن حمدان أمير حلب، وكانا يشرفان على خزائن الكتب في قصره. فنمت نجلاء في هذا البيت الكريم، وتعهدها أخواها بالتعليم والتهذيب حتى برعت في فنون الأدب، وقالت الشعر الجيد الرصين. وكانت دارها مثابة الأدباء والشعراء والعلماء يغشونها لينعموا بطرائف الأحاديث والأخبار، وروائع الشعر والأدب، ولينالوا من كرم نجلاء وحسن ضيافتها ما يعز على موائد الملوك.
وكثيرا ما أشاد بمديحها الشعراء، وكثيرا ما غنى المغنون بحسنها فرددت آفاق حلب هذا الغناء عذبا مشجيا ، وكثيرا ما كانت نجلاء تسمع هذا الغناء فتبتسم وتهز كتفيها في أنفة وشيء غير قليل من الخجل.
Bilinmeyen sayfa
شغل الناس بنجلاء، وتسابق فتيان الأسر الكريمة إليها يستجدون نظرة رضا، ويتمنى كل شاب منهم لو أسعده الحظ بأن يكون لها بعلا، باذلا في سبيل ذلك كل ما في يديه من مجد وشهرة ومال، ولكن هذه الزهرة الناضرة النقية لم تقابل هذه النحل المزدحمة حول رحيقها
2
المختوم إلا بابتسامة الزهر لأشعة الصباح. فقد علمها أدبها ونبل أخلاقها أن تعطف على الناس جميعا في وداعة وصيانة، وأن تسطع عليهم جميعا كما تسطع الشمس، لا يختص بشعاعها قصر أمير، ولا يحرم ضياءها كوخ بائس فقير. فما يكاد يظن شاب أنه فاز منها بلمحة رضا حتى يدعمه اليقين بأن ما كان يظنه قبولا لخطبته لم يكن إلا لطفا في الرد وأدبا في الإباء.
وكان أشد الفتيان حرصا على خطبتها، وتشبثا بالرغبة في تزوجها، قرعويه غلام سيف الدولة وقائد إحدى كتائبه.
كان شابا جميل الطلعة، مديد الطول، تياها شديد الغرور بنفسه والزهو بها، يجمع إلى ذكائه طبيعة النمر في الفتك، وغريزة الثعلب في الدهاء والحيلة. عرض هذا القائد على نجلاء كل شيء ليكون لها زوجا فلم يظفر بشيء، وكثيرا ما مناها الأماني، وهمس في أذنها بما ينتظرها من جاه وثروة وبعد مكانة، ولكن فتاتنا كانت تقابل كل هذا بابتسامة مهذبة لطيفة تمتزج فيها الدهشة بالحياء، وتقول: ما أجمل هذا! حقا إنه بديع، ثم تنطلق إلى حديث آخر في لباقة وأدب حتى إذا طال الكلام انفلتت منه كما ينفلت الطائر قبل أن تعلق به حبالة الصائد.
وهكذا مضت الأيام وقرعويه يزيد إلحاحا، وهي تزيد عنه بعدا وانصرافا.
وكانت فاطمة أخت نجلاء تسكن بمنبج، حيث يقيم زوجها الحسين الجوهري أكبر تجار الجواهر بالمدينة. فقدمت نجلاء من حلب لزيارة أختها مع خادمتها سلمى العراقية، وهي امرأة في الستين من عمرها لئيمة الطبع، لها دهاء وفضلة من ذكاء، صرفتهما في الحيل والخبث واقتناص المنافع. ولم تقصد نجلاء من هذه الزيارة إلا أن تروح عن نفسها قليلا من صخب حلب وازدحامها، وقد راقها ما رأت في منبج من حسن منظر، وطيب هواء، فأطالت مدة إقامتها.
وفي ذلك الحين كانت شجاعة أبي فراس وصباحة وجهه، وكرم خلاله قد سارت مسير المثل في المدينة، ووصلت أخبارها إلى كل بيت، وتطلع كل عظيم إلى أن ينال شرف مصاهرته. أما الأمهات فقد رفعن رءوسهن، ومددن عيونهن، وأرهفن آذانهن لكل ما يصل إليهن من أخبار بطل منبج وفارسها الباسل. وأعدت كل أم ابنتها لهذا الشرف، وأخذت تمهد لها إليه السبيل. والأم حينما تلد بنتا لا تفكر في شيء إلا في زواجها، وحينما تهز مهدها - وهي تتفرس في وجهها، وتدعي أن كل هفوة للجمال فيه إنما هي حسن من نوع غريب لا عهد للناس به - لا يخطر ببالها إلا إحصاء أبناء المدينة ممن هم في طبقتها واحدا واحدا، وتخير أكرمهم محتدا، وأعظمهم ثروة وأملحهم وجها، حتى إذا استقر بها الاختيار أخذت في العمل، والاستنجاد بخير الوسائل، فتوددت إلى أمه، ودفعت زوجها من حيث لا يدري إلى مجاملة أبيه ومصادقته، فإذا مات الغلام انصرفت إلى غلام آخر يليه في المرتبة، وأعادت القصة بذاتها، لا تخرم
3
منها حرفا.
Bilinmeyen sayfa
هكذا كانت حال الآباء والأمهات بمدينة منبج حين شب أبو فراس عن الطوق، وحين أصبح شابا جميلا في نحو الثامنة عشرة، تتيه به العروبة، وتشتاق إليه ميادين القتال. فلم يكن عجبا بعد هذا أن تكثر زيارة الأمهات لقصر سخينة، وأن يرسلن عليها سيلا جارفا من الملق كاد يجترفها. فما فعلت شيئا إلا كان حسنا جميلا، ولا قالت قولا إلا وهو حكمة سليمان، وفصاحة سحبان، وكلما مر ذكر ابنها في غضون الحديث عرضا نثرن عليه الثناء، وغمرنه بصنوف المديح والإطراء. وسخينة تسمع وتفهم؛ لأنها أم تعرف ما تتمناه الأمهات لبناتهن من الخير والسعادة.
زارها في أحد الأيام بعض كرائم السيدات، وكان بينهن نائلة زوج والي المدينة من قبل سيف الدولة، ومعها ابنتها عزة، فلما استقر بهن المقام أخذت نائلة تملأ البهو حديثا في جمال القصر، وحسن تشريفه، ثم تتبع ذلك بالإشادة بمجد بني حمدان، ثم تنتقل إلى ما تتحلى به سخينة من صفات الشرف والكرامة وأصالة الرأي، ثم تثب بعد كل هذا إلى أن الولد صورة من الأم، وأن كل عرق ينتمي إلى أصله، وأن سيرة أبي فراس أصبحت مثلا عاليا للفتيان. ثم تتابع الحديث وتقول: إن ابني لا يمل الكلام في بطولة أبي فراس حتى لقد قلت له بالأمس: خير لك يا بني أن تؤلف كتابا في أخبار صديقك. فصاح ضاحكا وقال: وبم أسمي الكتاب يا أمي؟ قلت: «سمه روض الآس في أخبار أبي فراس.» فابتسمت سخينة وقالت: خير له أن يسميه: «ظبية الكناس
4
في بطولة أبي فراس.» فضحك السيدات جميعهن، وما كدن يخضن في حديث آخر حتى دخلت هيلانة تعلن قدوم السيدة فاطمة الخالدية وأختها نجلاء، فقمن لتحيتها، وقالت فاطمة في دعابة: لقد هززتن أركان البهو قهقهة ففيم كان ضحككن؟
فحاولت نائلة بعد أن بهرها جمال نجلاء أن تغضي عن السؤال، وأن تصرف الحديث إلى غير وجهه، ولكن سخينة أسرعت فقالت: كنا نختار اسم كتاب يؤلف في سيرة ابني فماذا تقترحين؟ - أقترح أن يسمى «تعطير الأنفاس بسيرة أبي فراس»؛ فظهر الغيظ على وجه نائلة وقالت: كيف حال ابنك الصغير يا فاطمة؟ لقد سمعت أنه كان مريضا. - إنه الآن بخير، مسح الله عنا وعنك السوء.
ثم تجاذبن أطراف القول في فنون شتى، وسخينة لا ترفع عينيها من وجه نجلاء، فقد أعجبها جمالها وأدبها وحسن حديثها. حتى إذا مر وقت غير قليل، ودع الزائرات سخينة وانصرفن.
وحينما انفردت نجلاء بأختها في الطريق قالت: لقد سمعت كثيرا عن أبي فراس، وسمعت كثيرا من شعره الذي يتناقله الناس، وهو يعد في الطبقة الأولى قوة وروعة وبعد خيال. - إنه شاب لم تر له منبج مثلا في أدبه وسجاحة خلقه وبطولته. - لقد أكثر الناس من المبالغة في وصف شجاعته حتى أحببت أن أراه. - لا تعقد في منبج يا نجلاء مجالس للشعر والأدب كما هو الحال في حلب ، ولكنك تستطيعين أن تريه كل أصيل ممتطيا جواده مع فريق من خلانه في بعض مروج المدينة. - يكفي أن أراه في شعره كما أرى كل شاعر، فإن الشعر صورة صادقة لصاحبه، ومرآة صافية لخوالج نفسه. - ليس دائما يا نجلاء، فإن لأبي نواس شعرا في الزهد، وللحطيئة شعرا في الحث على مكارم الأخلاق.
كان أبو فراس حقيقا بكل هذه الضجة، فقد زادته الرجولة وسامة وقسامة، فكان مشرق الوجه، نافذ نظرات العيون، متين الجسم، قوي العضل، تتأجج فيه نيران الشباب، وتفور في نفسه نزعات عاتية من الطموح إلى المجد والوثوب إلى مراتب العظمة. وكان صورة صادقة للبطولة في القرن الرابع الهجري، شديد الثقة بنفسه، قليل الاكتراث بالنوازل والخطوب، يعيش عيشة الأمراء المترفين في ثروة وجاه ورفاغة
5
من العيش، ويتسلى بقرض الشعر وركوب الخيل والمصارعة والصيد. والتف حوله كثير من أبناء القواد وكبار الأسر، فكانوا يقضون أكثر وقتهم في ترف ولهو وتناشد للأشعار، بين مروج منبج الخضر، وأرباضها
Bilinmeyen sayfa