غصن بعيد المنال، فتأمل وحدق فإذا هو وجه نجلاء فطارت نفسه إليه شوقا، ووثب إلى الغصن؛ ولكن الغصن هوى بجسمه؛ وجعل يذهب ويجيء به في الهواء، وهو قابض عليه لا يفلته، والزهرة تنظر إليه وتبتسم، حتى إذا استنجد بقوته، مد إلى الزهرة يدا فاقتطفها، وهي تقهقه بصوت عال أيقظه من رقاده، فنظر، فإذا سيف الفجر يلمع في الأفق، وإذا الديكة تصيح مستبشرة ببزوغ الصباح، فنهض من فراشه، وقد أعادت الرؤيا إلى نفسه شيئا من الأمل، ورأى أن حسن الطالع قد هيأ له من حادثة العجوز وسيلة لزيارتها والاطمئنان على حالها، وأن هذه الزيارات قد تمهد له السبيل إلى رؤية نجلاء، والتعرف إلى أهلها ثم خطبتها منهم. وذهب أبو فراس إلى دار الحسين الجوهري فقابله أحد الخدم لدى الباب، وأخبره أن سلمى بالطبقة الأولى من الدار، ثم سار أمامه ليصل به إليها.
فلما دخل الحجرة حياها وجلس إلى جانب سريرها، وأخذ يسأل عن حالها، ويسري عنها ويتألم لما أصابها، وكانت قد استردت صحتها فأخذت تهون عليه الأمر وتحدثه بكثير من أخبار حلب، وبينما هما يتجاذبان القول إذا نجلاء تدخل فجأة، ولم يكن يخطر ببالها أن إنسانا غريبا يزور سلمى في هذا الصباح الباكر. دخلت وهي تصيح: كيف حالك اليوم يا سلمى؟ فلما لمحت أبا فراس ذهلت، ووقفت مكانها لا تريم، كأن المفاجأة عقدت رجليها إلى الأرض، حتى إذا أفاقت من هجمة الدهشة دارت نحو الباب في ذعر تتلمس الفرار، ولكن سلمى صاحت بها: على رسلك يا سيدتي، إنه الأمير أبو فراس ابن عم أميرنا سيف الدولة، وهو شاعر عبقري الخيال، وطالما حدثك عنه الناشئ الأصغر أستاذه ومعلمه، وطالما ألححت عليه أن يكتب لك أشعاره، وأنت يا سيدتي أديبة شاعرة تجالسين كبار الشعراء والأدباء، وقد كانت فضليات النساء في الصدر الأول لا يرين من حرج في حضور مجالس العلم والأدب، وكان منهن المحدثات والفقيهات والأديبات والشاعرات. فالتفتت نجلاء في تردد وقالت في صوت خافت يتعثر بالحياء: الأمير أبو فراس الشاعر؟ وكان أبو فراس واقفا فتقدم نحوها في تردد وخشية وقال: نعم يا سيدتي أنا أبو فراس الشاعر، وقد آن لي الآن أن أزهى بشعري وأعتز به؛ لأنه نال استحسان خير الأديبات الشاعرات. فخطت نحوه نجلاء في خجل وأدب وقالت: سألتك بالله يا سيدي أن تجلس فإني كنت في شوق إلى سماع شعرك وقد يطول بنا الحديث. أترى بأسا من أن أكون راويتك؟ - إن شعري يشرف يا سيدتي بأن تكوني له راوية.
فقالت: لقد كنت راويتك قبل أن نلتقي. ثم تمكنت في جلستها وقالت في وقار: حدثنا أبو الحصين الرقي، عن جعفر بن ورقاء، عن أبي فراس بن سعيد أنه قال:
إنا إذا اشتد الزما
ن، وجار خطب وادلهم
ألفيت حول بيوتنا
عدد الشجاعة والكرم
للقا العدا بيض السيو
ف، وللندى حمر النعم
6
Bilinmeyen sayfa