فأسرع أبو فراس وقال: أنت مخطئة يا خالتي، إن للطب شأنا في استئصال الأمراض أو تخفيف شدتها، أما أن المرء يعالج نفسه بفطرته فصحيح، ولكن هذا العلاج قد يطول فتطول به آلام المريض. إن الطب لا يمنع الموت، ولكنه قد ينقذ من الموت. - لك رأيك يا بني، ولكني إن أنكرت الطب فلن أنكر فضل الجراحين، فإن نتائج أعمالهم ظاهرة بينة. وهنا قال الطبيب: وما رأيك أيتها الفيلسوفة العجوز في جابري العظام؟ - يجب على جابر العظام ألا يشدخ النفوس، ويكسر الخواطر.
فضحك الحسين الجوهري وقال: إن سلمى أيها الطبيب لا تحب أن يدعوها إنسان بالعجوز.
وانصرف الطبيب، وتبعه أبو فراس بعد أن وضع تحت وسادة سلمى كيسا به عشرون دينارا، وعند انصرافه لمح ستارا ينفرج عن وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، ولم تتفتح أزهار البساتين عن أنضر منه، ولم تفاخر لآلئ البحار بأكثر منه صفاء وتألقا. وجه خلقه الله من أشعة الجنة: فيه الجمال، وفيه النبل، وفيه الشرف. رأى أبو فراس هذا الوجه فاضطرب قلبه، ولم يحاول أن يطيل النظر هيبة وإجلالا، فقد ذهل عن نفسه، وأحس على الرغم من ذهوله أن هذا الوجه كان يرسل ابتسامة مشرقة طاهرة كزهرة الربيع، بعثت في نفسه الأمل، كأنها اللوح السابح يراه الغريق من بعيد، وقد اصطلحت عليه الأمواج، وجاءه الموج من كل مكان، فيهرع إليه، ويتشبث به، ويرى فيه بارقا من النجاة.
خرج أبو فراس من الدار، وأخذ سمته إلى قصره كالمأخوذ، وقد سمع نفسه وهو يردد:
تبسم إذ تبسم عن أقاحي
وأسفر حين أسفر عن صباح
الفصل الرابع
قضى أبو فراس ليلته مضطربا أرقا، وكان دقيق الحس، بعيد مرمى الخيال، فأخذ يصور له الوهم صورا لهذا الوجه الباسم الوضاح، ويذهب به في طرق كثيرة الشعب، بعيدة المسالك: فمرة يرى نفسه وهو أمام هذه الفتاة يمد يده لخطبتها وهي عنه معرضة عزوف،
1
لا تجيب بكلمة، حتى إذا برمت به تمشت نافرة في خفر وحياء، كأن أمرا منه لا يعنيها، وكأن حديثه الطويل لم يوجه إليها. ومرة يلقاها لا تزال باسمة ، فما يكاد ينبس بكلمة حتى تبادله الحديث في وداعة ورفق وأدب. ثم يعود إليه عقله فيجلس جلسة المفكر الرزين، ويسائل نفسه هامسا: من هي؟ ومن تكون؟ إن كانت زوج الحسين الجوهري، فلا برحت دوني عليها ستور! ومتى استساغ كرم محتدي أن ينال بالنظر زوجا كيفما بلغ بها الجمال؟ إن كانت إياها فيا لكمدي، ويا لحسرتي!
Bilinmeyen sayfa