والآن وقد فرغنا من تحديد نوع الشعر العربي التقليدي يحق لنا أن ننظر في طبيعة هذا الشعر وتطوره فنرى أنه قد نشأ منذ جاهليته الأولى مطابقا مطابقة عجيبة لنظرية المحاكاة الأرسططالية.
فالشعر الجاهلي من الشعر الذي يصدق عليه إلى أبعد الحدود القول بأن الشعر رسم ناطق؛ أي تصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل؛ بحيث لا نستطيع أن نقول عنه إنه تعبير عن وجدان قائله، وإذا كان في العربية شعر يمكن أن يوصف بأنه من قبيل الفن للفن فهو بلا ريب شعر الوصف الجاهلي، وهو الفن الذي برع فيه شعراء الجاهلية وأتقنوه إلى حد الإعجاز الذي لا نكاد نجد له مثيلا في أدب عالمي آخر؛ وذلك لفرط دقة الملاحظة واستقصاء الدقائق عند شعراء البادية الذين لم يتركوا فيها شيئا إلا صوروه أدق تصوير، فوصفوا في دقة حسية بالغة الناقة والحصان وحمار الوحش والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمن والأثافي وبعر الآرام والهضاب والدروب وأعشاب الصحراء، وبالمثل وصفوا المرأة وصفا حسيا دقيقا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي؛ حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس الرقيات، وكثير عزة.
فامرؤ القيس مثلا يتغزل في الحبيبة فلا يعدو هذا الغزل وصفها الحسي وتصوير مفاتنها الجسمية إما على الطبيعة وإما وفقا للمثل الأعلى للجمال عند الشاعر وبيئته البدوية، فيقول عنها:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
Bilinmeyen sayfa