وهكذا نخلص من هذا الاستعراض السريع لنشأة نظرية الشعر وتطورها إلى أن الشعر لم يعد يقصد به اليوم في الغالب الأعم إلا إلى الشعر الغنائي الذي لم يستطع أن يخضع يوما خضوعا تاما لنظرية المحاكاة التي تعتبر الأصل البعيد لمذاهب الواقعية والطبيعية في الأدب، بل لقد استطاع هذا الفن الغنائي أن يتخلص تخلصا نهائيا سافرا من تلك النظرية ليصبح أساسه الفلسفي الحاجة إلى التعبير لا غريزة المحاكاة، وقد تم ذلك بفضل الرومانسيين الذين قالوا إن الشعر وجدان.
وعندما عاد الاتجاه الواقعي إلى الظهور في العصر الحديث بل والسيطرة على فنون الأدب كلها لم تستطع تلك الواقعية أيضا أن تخضع الشعر الغنائي لسلطانها إخضاعا تاما، وإنما كل ما استطاعته هو أن حولت الوجدان من الذاتية إلى الجماعية دون أن تنفي عنه الطابع الوجداني الذي لا يمكن أن يعتبر الشعر شعرا بدونه، وإذا كانت قد حولته أيضا من الذاتية إلى الموضوعية فإن هذه الموضوعية لم تستطع أن تختلط بموضوعية فنون الأدب النثرية كالقصة أو المسرحية لا في بلادنا ولا في غيرها من بلاد العالم، وإن تكن تلك الواقعية الموضوعية الاجتماعية قد أدت بالضرورة إلى تغيير صورة القصيدة في بنائها الشعري وبنائها الموسيقي على السواء، ولكن دون أن تفقدها الطابع الشعري الذي يتركز أولا وقبل كل شيء في التصوير البياني، ذلك التصوير الذي وسعت الرمزية من نطاقه ونقلته من عالم الحواس الظاهري إلى عالم النفس ووقع الصور فيها دون أن تفقدها العنصر الموسيقي الذي يعتبر هو الآخر طابعا أساسيا للشعر ومميزا له عن النثر، فضلا عن أن الموسيقى ليست حلية ولا وسيلة تطريب، بل إنها وسيلة أداء تصل إلى التعبير عن مفارقات المعاني وظلالها العاطفية، بل وألوانها النفسية التي كثيرا ما تعجز اللغة المنثورة عن استخراجها من باطن النفس؛ حتى رأينا مؤلفنا العربي ابن عبد ربه يقول في عقده الفريد: «إن النغم فضل في المنطق لم تستطع اللغة استخراجه، فاستخرجته الأوزان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهرت عشقتها النفس وحن لها الفؤاد.» ويقول أفلاطون: «إن النفس لا ينبغي أن تمنع عن معاشقة بعضها بعضا.»
وكل ما طرأ على الطبيعة الموسيقية لشعرنا الحديث، هو أن استعضنا عن وحدة البيت الموسيقية بوحدة التفعيلة مع توزيع التفعيلات في مقطوعات تستقل وتتكامل مع المقطوعات الأخرى لتحقق الوحدة الموسيقية الكاملة للقصيدة؛ أي أن كل ما حدث هو تغيير التوزيع الموسيقي داخل القصيدة، وأما إهدار تلك الموسيقى إهدارا كاملا فقول لا يستطيع أن يقره شاعر موهوب أو ناقد مستنير.
الشعر العربي وتطوره
فرغنا من الحديث عن النظرية العامة للشعر من حيث أساسها الفلسفي ومقوماتها الأساسية وتطور تلك المقومات، ونود أن ننظر في الشعر العربي على ضوء نظرية الشعر العامة، وتطور ذلك الشعر منذ العصر الجاهلي حتى اليوم.
وأول ما يستحق النظر هو تحديد وتعريف الفنون الشعرية التي عرفها العرب دون غيرها من فنونه الأخرى مع تعليل سريع لما عرفوه وما جهلوه.
فالأدب العربي الفني لم يعرف من فنون الشعر المعروفة في الآداب العالمية غير فن واحد هو الفن المعروف باسم «الشعر الغنائي» أي شعر القصائد دون الفنين الآخرين وهما: فن الملاحم، وفن الشعر التمثيلي. وإن يكن الأدب الشعبي قد كان أكثر تنوعا وأوسع آفاقا من الأدب الفني الذي ظل حبيسا في الآفاق التي رسمها أدب الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي، فالأدب العربي لم يلبث أن انتقل مع الإسلام واللغة العربية إلى أقطار مترامية خلف حدود الجزيرة، ولم تقنع الشعوب الجديدة التي اتخذت العربية لسانا بما رسم أدب الجزيرة من مجالات ونماذج وأصول وقيود؛ لأن بيئات تلك الشعوب وحاجاتها النفسية كانت تختلف عن بيئة الجزيرة وحاجاتها؛ ولذلك نرى الشعوب التي تعربت في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا تخلق لنفسها الملاحم الشعبية التي لا تنتسب لشاعر معين بل يشترك في تأليفها والإضافة إليها عدد من الشعراء الشعبيين المجهولين، منهم الشاعر فحسب، ومنهم الشاعر والمنشد والعازف على الربابة في وقت واحد، وبفضل هؤلاء الشعراء الشعبيين المجهولين تمتعت تلك الشعوب بما لدينا اليوم من ملاحم شعبية مثل: ملحمة عنترة وملحمة أبي زيد الهلالي سلامة، وملحمة الظاهر بيبرس، على نحو ما تمتعت بالقصص الشعبية التي اكتسبت شهرة عالمية مثل قصص ألف ليلة وليلة.
وإذا كان الأدب الفني لم يعرف ما يشبه المسرحيات من قريب أو بعيد لأسباب وتعليلات لا يزال الباحثون يتناقشون فيها، فإن الأدب الشعبي قد عرف فنونا تشبه إلى حد ما الفن المسرحي مثل: الأراجوز وخيال الظل، وإن يكن هذا الفن بمعناه الكامل لم ينشأ في عالمنا العربي الحديث تطورا عن هذه الفنون الشعبية، بل أخذناه عن الغربيين بعد اتصالنا بهم في القرن الماضي وابتداء من سنة 1848 وهي السنة التي ابتدأ فيها هذا الفن في منزل أحد التجار الأدباء ببيروت هو مارون نقاش. بل إن فن الشعر العربي التقليدي وهو الفن الغنائي إذا كان قد تحجرت صوره وقوالبه في الشرق العربي؛ إذ البيئة شديدة القرب من الجزيرة مهد اللغة وأدبها؛ فإنه لم يلبث أن تمرد على هذه الصور المتحجرة في بيئة جديدة نائية كبيئة الأندلس؛ حيث ظهرت الموشحات كما سبق أن أوضحنا. وفي الشرق والغرب العربي معا تمرد الشعر الشعبي على تلك الصور المتحجرة أيضا، فظهرت في الشعر الشعبي فنون الزجل والمواليا والكان كان والقوما وغيرها.
وهكذا نخلص إلى أن شعرنا الفني الفصيح هو وحده الذي اقتصر في أدبنا العربي التقليدي على الشعر الغنائي المحدد في صورة القصيدة ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة.
طبيعة الشعر العربي
Bilinmeyen sayfa