ضحك على رغمه، فقال النادل: سيملكون الشقق والسيارات، لم لا؟ - والسيوفي؟ - السيوفي وبدران ورزق الله في فرنسا، صحافة عربية، ثراء أيضا، وقيل إن رزق الله اعتنق الإسلام!
ضحك مرة ثانية وتساءل: وأكرم؟ - تاب، ويعمل في الصحافة القومية. - وجلال؟ - يعمل في الأهالي.
فضحك للمرة الثالثة وقال: لعله جن! - كلا، الذي جن هو الأستاذ البرديسي! - تعني أنه في المستشفى؟ - كلا، يرى أحيانا في الشوارع يحاور الهواء. - أفادك الله. - حتى زملائي في القهوة هاجروا إلى العراق، ولولا سني للحقت بهم. - ربنا يعوض عليك.
فحدجه بنظرة باسمة ثم سأله: وأنت متى تهاجر؟
فلم يجب، وارتسمت على زاوية فمه ابتسامة ساخرة، فقال النادل بنبرة ودودة: زمن المبادئ مضى، وهذا زمن الهجرة. - كلامك كله حكمة.
وتجهم وجهه، فبدا أكبر من سنه بعشر سنوات. أي ماض وأي حاضر وأي مستقبل. أين ومتى يقابل جلال؟ وكيف يصارع العبث؟ وقال للنادل: فنجان قهوة آخر، بن زيادة وسكر زيادة.
ذكرى امرأة
أسير تحت العمارة الشاهقة بشارع شريف كل صباح وكل ظهر في ذهابي إلى العمل، ولدى عودتي منه إلى محطة الترام. كلما أسير تحتها يرتفع بصري بحركة تلقائية إلى الدور الخامس، حيث تطل على لافتة الجراح المعروف (...) لا لأنه من أبناء الحي القديم وأقران الصبا فحسب، ولكن - وهو الأهم - لأنه تزوج من الفتاة التي استحوذت على إعجابي وحبي عهدا طويلا. لا يبقى اليوم من ذلك الحب إلا الذكرى، حكاية قديمة لم يكد يفطن إليها أحد. أما العاطفة المتأججة فقد بردت وماتت، وأمست نشواتها وآلامها كأن لم تكن، أو كأنما عاناها شخص آخر تلاشى في تيار الزمن العجيب. ويوما أرى الطبيب واقفا في الشرفة وراء اللافتة وهو يخطب .. يخطب؟ إي والله وبصوت كالرعد ملوحا بذراعيه يمنة ويسرة، كأنما ليهيمن على جمهوره المحتشد. ولكن أين الجمهور؟ العمائر في الصف المواجه له إما مغلقة النوافذ، أو تنظر إليه من خلال أفراد تجمعوا في الشرفات والنوافذ من موظفي الشركات. وعابرو الطريق وقفوا قليلا؛ لينظروا ويسمعوا ويتبادلوا النظرات والابتسامات، ثم يمضي كل إلى سبيله إلا المتسكعين، فلم يبارحوا الطوار وتابعوه باهتمام. لا أتصور أن أحدا ميز كلمة مما يقول؛ لارتفاع موقعه، ولتضارب أصوات الخلق والمركبات. وتدل النظرات والهمسات على اقتناعهم بأن الطبيب خرج عن وعيه أو حصل له لطف. رغم غرابة المنظر وشذوذه وإغرائه بالضحك إلا أن جانبه المأساوي غلب، وسلط الوجوم على الخلق كغبار منتشر. والحق أني تألمت وملكني الرثاء للزميل القديم الذي فرق العمر والعمل بيننا. وطارت خواطري محتدمة نحو شريكته في الحياة، لؤلؤة حينا التي لا تنسى، فأسفت من أعماق القلب. ولم أحتمل البقاء طويلا، خاصة بعد أن سمعت أن البعض اتصل بالإسعاف وشرطة النجدة، فغادرت المكان مغتما، تتقدمني صورة الفتاة التي فتنتني في الزمان الأول، وأتساءل: ترى كيف آل إليه حالها اليوم؟ هل ما زالت متمتعة بجمالها الرائق؟ وكم أنجبت من الذرية؟ أما زالت تشتغل بالتدريس أم استغنت عنه بعد أن أغناها الله؟ وكيف تتعامل مع هذا البلاء الذي ستمتحن به؟ وتظل الواقعة حديثي مع نفسي، ثم مع الأصدقاء في المقهى، حتى عرفت ختامها صباح اليوم التالي في جريدة الصباح، بالبنط العريض وفي أسفل الصفحة الأولى قرأت «انتحار الجراح المعروف (...) يلقي بنفسه من شرفة عيادته بالدور الخامس»، شد ما تأثرت لتلك النهاية، وكل صديق تأثر لها حينا، رغم أن علاقتنا به انقطعت منذ التحاقه بكلية الطب. واختلطت التفسيرات؛ لعله مرض لا شفاء منه، أو نكسة مالية مفاجئة، أو خطأ في نطاق المهنة، حتى قال أحدنا: أو جن وكفى، ألا يجن الإنسان بلا سبب إلا الجنون نفسه؟!
ومضينا ننسى المأساة كما ننسى كل شيء، ولكن صديقا آخر فجرها قبل أن تموت. هو أيضا طبيب من أقران الصبا، ويقيم في نفس الحي - الزمالك - الذي كان يقيم فيه المنتحر، ولم تنقطع صلته به قط، كما لم تنقطع بنفر منا. ولدى أول زيارة له في أعقاب الحادث توفر أكثر من سبب لإثارة الموضوع.
قال لي: أنت تذكره لا شك، كان غاية في الاتزان والاجتهاد.
Bilinmeyen sayfa