مناقشة هذه الآراء:
لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبأ بمثل هذا النمط من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص؛ لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي؛ إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخامس لا يستحق مناقشة ولا جدلا؛ كذلك يخطئ الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونا كقانون الرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالأصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطأ؛ لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة متبدية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، وكل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات، أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها فقد كان لها قانون وكان لها علم وإن كان قليلا - كما سيأتي - إنما الذي يستحق البحث والمناقشة هو رأي ابن خلدون وأوليري.
أما رأي ابن خلدون فخلاصته أن العربي متوحش نهاب سلاب، إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علما ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع.
وخلاصة رأي (أوليري) أن العربي مادي ضيق الخيال، جامد العواطف، شديد الشعور بكرامته وحريته، ثائر على كل سلطة، كريم مخلص لتقاليد قبيلته.
فهما متفقان في وصف العرب بالمادية وثورتهم على كل سلطة، أما الوصف الثاني فلا مجال للشك فيه، وقد صدق (أوليري) في قوله: «إن هذه الصفة هي التي تفسر لنا الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب»، أما المادية فكثير من المستشرقين يوافقون ابن خلدون وأوليري على وصف العرب بها كالأستاذ «برون» في كتاب «تاريخ الأدب عند الفرس»، ويعنون بهذا الوصف أنهم لا يقدرون إلا المادة وإلا الدرهم والدينار، فأما المعنويات فلا قيمة لها في نظرهم، وحقا أنك لتدرك هذا المعنى بجلاء في بعض سكان البادية اليوم، ولكن هل هذا الوصف يصح أن يعمم في عرب الجاهلية؟ ذلك ما نشك فيه، فإنه لو صح ما يروى لنا في كتب الأدب من حكايات الكرم والوفاء، وبذل النفس عن سماحة في المحافظة على تقاليد القبيلة لتنافي تمام المنافاة مع المادية، لذلك يظهر لنا أن كلا من أوليري وابن خلدون أخطأ في عدم تحديد «العربي» الذي يصفه، فنحن نعتقد أن عربي الجاهلية يخالف في أمور كثيرة عربي الإسلام، بل عربي الجاهلية نفسه متحضرا غيره باديا، وبدو اليوم يخالفون في أمور كثيرة بدو الجاهلية، وابن خلدون - مع دقته في بحثه - لم يحدد بالضبط معنى العربي الذي يصفه، وهذا ما جعله يضطرب في قوله؛ فإنك إذا قرأت قوله في بعض المواضع تفهم أنه إنما يريد العربي البدوي كالذي يهدم القصور ليستعمل حجارتها في الأثافي وخشب ثقفها في الأوتاد، فإنما ذلك ينطبق على البدوي الممعن في البداوة، لا العربي المتحضر في الدولة الأموية أو العباسية؛ ثم تراه يذكر العربي في أنه لا يحسن اختيار مواقع البلاد، كما فعل عند تخطيط البصرة والكوفة، وهذا كما تعلم ليس هو العربي البدوي الممعن في البداوة، إنما هو عربي صدر الإسلام الذي فتح فارس والروم؛ وليس العربي الذي يخطط المدن هو الذي يهدم القصور لأثافيه؛ ثم هو يذكر أنه لا يحسن علما وأن الموالي هم السابقون في هذا المضمار، وهذا ليس عربي البدو ولا عربي صدر الإسلام، إنما هو عربي الدولة العباسية وآخر الأموية، وقد ناقض ابن خلدون نفسه؛ إذ يقرر في موضع آخر من مقدمته ما يفهم منه استعداد العربي بطبيعته للتحضر والاستفادة ممن يخالطه ويعاشره، قال: «ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح، وملكوا فارس والروم، واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة، فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا، وأمثال ذلك؛ فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم، واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم، واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليه، أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتفنن فيه، فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة، واستجادوا المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية»
14 .
فترى من هذا أن ابن خلدون في حكمه على العربي خلط بين العربي في عصوره المختلفة، وأصدر عليه أحكاما عامة، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.
ثم يقول (أوليري): «إن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف»، أما ضعف الخيال فلعل منشأه أن الناظر في شعر العرب لا يرى فيه أثرا للشعر القصصي ولا التمثيلي، ولا يرى الملاحم الطويلة التي تشيد بذكر مفاخر الأمة، كإلياذة هوميروس وشاهنامة الفردوسي، ثم هم في عصورهم الحديثة ليس لهم خيال خصب في تأليف الروايات ونحو ذلك، ونحن مع اعتقادنا قصور العرب في هذا النوع من القول، نرى أن الضرب أحد مظاهر الخيال لا مظهر الخيال كله، فالفخر والحماسة والغزل والتشبيه والمجاز كل هذا ونحوه مظهر من مظاهر الخيال، والعرب قد أكثروا القول فيه كثرة استرعت الأنظار وإن كان الابتكار فيه قليلا.
كذلك ما ملئ به شعر العربي من الغزل، وبكاء الأطلال والديار، وذكرى الأيام والحوادث، وما وصف به شعوره ووجدانه، وصور به التياعه وهيامه، لا يمكن أن يصدر عن عواطف جامدة.
أما رأي الجاحظ فيتلخص في أنه يسلم بقول الشعوبية في أن ليس لهم علم ولا فلسفة ولا كتب موروثة، ويرى أن العرب عوضوا عن هذا بميزتين واضحتين: طلاقة اللسان، وحضور البديهة؛ والحق أنهما صفتان ظاهرتان فيهم، ويكفي أن تلقي نظرة على ما خلفوه من آدابهم لتعترف بما منحوا من لسان ذلق وبديهة حاضرة، ولعلك من هذه المناقشة تلمح رأينا في العرب، فهم ليسوا في جاهليتهم وإسلامهم في درجة واحدة من الرقي العقلي والخلقي، فلنقتصر الآن على وصف العربي الجاهلي:
Bilinmeyen sayfa