البعثات اليهودية والنصرانية التي كانت تتغلغل في جزيرة العرب، تدعو إلى دينها وتنشر تعاليمها، وسنذكر كلمة عن كل منها: (1)
التجارة:
من قديم كانت جزيرة العرب طريقا عظيما للتجارة؛ فطورا تنقل غلاتها إلى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر في الجنوب ولا سيما في ظفار؛ وطورا تنقل غلات بعض الممالك إلى البعض الآخر؛ ذلك لأن طريق البحر لم يكن طريقا آمنا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلا وكان خطرا، لذلك أحاطوه بشيء من العناية، كأن تخرج التجارة قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محدودة وفي طرق محدودة.
وكان في جزيرة العرب طريقان عظيمان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي: أحدهما يسير شمالا من حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي، ومن ثم إلى صور؛ والثاني يبدأ من حضرموت أيضا، وسير محاذيا للبحر الأحمر متجنبا صحراء نجد وهجيرها، ومتجنبا هضاب الشاطئ ووعورتها، وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في المنتصف تقريبا بين اليمن وبطرة.
هذه الطرق التجارية أفادت العرب فائدة كبيرة، وفتحت لهم بابا للرزق كبيرا، فمنهم من كان يسكن المدن الواقعة على الطريق ويتاجر لنفسه، ومنهم من كان يستخدم في التجارة سائقا أو حارسا أو دليلا.
ومع ميل العربي للغزو والنهب، وتهديده للممالك الممدنة على التخوم، ومهاجمته لها من حين لآخر، فإن حبه للوفاء، وشعوره بالشرف وتقديره للوعد الذي يصدر منه جعله يستطيع أن يتعامل مع من حوله من الأمم، ويمهد الطريق لتجارة واسعة منظمة، فكان كثير من القبائل يحمون القوافل من تعدي قبائل أخرى في نظير جعل يأخذونه؛ وكثيرا ما يردون الجعل إذا عدا عاد على قاقلة فلم يستطيعوا رده، وزاد في نجاحها علمهم بالصحراء وسبلها، ومواضع الأمن والخوف فيها، وقدرتهم على تحمل القيظ وعناء السير.
كانت التجارة قديما في يد اليمنيين، وكانوا هم العنصر الظاهر فيها، فعلى يدهم كانت تنقل غلات حضرموت وظفار وواردات الهند إلى الشام ومصر، ثم انحط اليمنيون لأسباب أشرنا إلى بعضها من قبل، وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ القرن السادس للميلاد، فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلا ما يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة؛ وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم ووصل المكيون قبيل الإسلام عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغا منتهاه؛ إلى درجة عظيمة في التجارة، وعلى تجارة مكة كان يعتمد الروم في كثير من شئونهم، حتى فيما يترفهون به - كالحرير - وحتى يستظهر بعض مؤرخي الفرنج أنه كان في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون التجارية وللتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحباش ينظرون في مصالح قومهم التجارية
1 .
كان أشهر من يسكن مكة قبيلة قريش، وأبوها النضر بن كنانة، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي، وقد رأى بعضهم أنها سميت قريشا لاشتغالها بالتجارة، ففي لسان العرب: «وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، من قولهم: فلان يتفرش المال ؛ أي: يجمعه».
وفي الأغاني: «إن عمارة بن الوليد المخزومي وعمرو بن العاص وكانا كلاهما تاجرين خرجا إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها»
Bilinmeyen sayfa