وجد الإنسان على الأرض عاري العقل والبدن، لا خبرة له بما مضى ولا فكرة لما سيأتي، وكيفما أجال الطرف كانت تقع عيناه على أشياء مجهولة وحوادث جديدة ومظاهر غريبة؛ فكان لا يألو جهدا بدافع الغريزة والضرورة من المراقبة والتفكير والاكتساب، وكان كل واحد من البشر يعيد سيرة من تقدمه ويحذو حذو أسلافه. كل شيء جديد في عين المولود الجديد.
ولكن الإنسان في هذا الميدان الواسع الذي حاول فيه معرفة الطبيعة واستثمارها والسيطرة عليها بقي شديد الظمأ إلى شيء لم يستطع الوصول إليه، إلى شيء يقف عنده مضطربا واهي العزيمة، ضعيف الأمل، حائر الفكر. ذلك معرفة نفسه، وإدراك كنه طبيعته، والوقوف على سر مصيره. لقد تعلم استخدام البخار وتقييد الصاعقة، وجاب السماء، ودخل أحشاء الأرض، وفكك عرى الذرة، ولا يزال الإنسان لغزا للإنسان. أفبعد هذا مبالغة إذا قلنا: إن أغمض ما في الأرض على ساكن الأرض هو نصف الساكن نفسه؟
ومن الحماقة أن أدعوك، أيها القارئ العزيز، للتغلب على صعوبات قصر عنها أكبر المفكرين والحكماء والأنبياء، ولا تزال قائمة في هذا العصر الحديث كما كانت في العصور القديمة، ولكن في وسعنا أن نستنتج منها أن طبيعتنا البشرية ذات كنوز، وفيها من العناصر الثمينة المتعددة ما يتعذر سبر غوره وعده وقياسه على جيل واحد من الناس، بل يجب أن تتعاقب على درسه أجيال وأجيال. إن من السهل عليك إن كنت تملك قطعة أرض - مثلا - أن تجوبها بسرعة، ولكن أين السهولة والسرعة إذا كانت مساحة هذه الأرض واسعة شاسعة وفيها أنهر وغابات وجبال؟ كان لعاهل إسبانيا فيما مضى من سعة الملك ما جعل الناس يقولون: إن الشمس لا تغرب عن أراضيه ... والإنسان أعظم من شارلكان على ضخامة ملكه؛ بما يملك من هذه الطبيعة البشرية.
إن بطرس وأحمد، وآدم وسعاد، والغني والفقير، والأمير والصعلوك، والذكي والخامل سواء في هذا الملك، وعندهم في البدن وأعضائه والجسم وحركاته، وما يختلج فيهم من العواطف والأفكار، وتشتمل عليه ضمائرهم من الآمال والأحلام منجم عميق يمكن استخراج الكنوز منه. وإلى جانب هذه الكنوز جراثيم عيوب لا عدد لها إذا لم ينتبه الإنسان إليها كانت وبالا عليه. ولا أحاول ههنا البحث فيها؛ فحسبي أن أذكر الحسنات التي فينا فهي تهدينا سواء السبيل، وعلى ضوئها نستطيع عبور مآزق الحياة بأقل ما يمكن من الألم أو الندم.
إن رحلتنا حول هذه المملكة المجهولة ترينا أول ما ترينا أعجوبة الأعاجيب؛ عنيت بذلك الجسم الإنساني البارز في أحسن مثال وأبدع تقويم، والجامع في تركيب أعضائه بين المناعة والسهولة والخفة؛ فالأرجل أثبت من عمد الحجارة والطين، وهي مع الأيدي أصدق نموذج لمخترعي أدوات الحركة والنقل وجر الأثقال، والمعدة والرئتان والدورة الدموية والقلب الخفاق مختبرات تمور فيها أسرار الكيمياء والفيزياء، والعينان منارتان أخذ عنهما الإنسان في اختراع المنظار والمجهر وسائر الآلات المعدة لالتقاط النور وتوزيعه، والأذن آلة حساسة تلتقط ما لا يرى ولا يلمس من الأصوات والموسيقى، والوجه كتاب مصور تتبدل سطوره كل آن؛ فتقرأ فيه تواريخ وأحاسيس وذكريات، والدماغ والجهاز العصبي مقر الأمر والنهي الذي يربط أجزاء هذه المملكة الواسعة بعضها ببعض.
وكل هذا إن هو إلا إطار بديع لبدائع باطنية، هو عتبة الهيكل الذي تتنفس فيه، وتحيا عذراء النفس الجامعة بين البطولة والألم واللذة، والرفعة والضعة التي قال فيها ابن سينا: «هبطت إليك من المحل الأرفع.» والتي لا يستطيع فكر أو قول أو غناء، أو تعليل فلسفي، أو وصف شعري أن يستنفد ما فيها من المعاني.
يقول فيلسوف المعرة:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
ولكن الإنسان مع ذلك غير الحيوان وغير الجماد؛ غير الجماد لأن مادته حية، وغير الحيوان لأن في طبيعته ما لا يملك الحيوان.
Bilinmeyen sayfa