1
قلما اجتمع لكاتب ما اجتمع لرنان؛ فأحاط بشتى الموضوعات، وألم بمختلف العلوم من آثار وتاريخ ولغات وفلسفة. وكان فوق ذلك منشئا بليغا يعد في الطبقة الأولى من كتاب فرنسا. وقد جاء في كل ما كتب بآراء فيها كثير من الغرابة، وأحيانا كثير من التناقض. واليوم بعد مرور نحو من ستين سنة على وفاته سيبقى كما كان في أيامه، داعيا للحيرة عند النقاد؛ لأنه لم يقل في أي كان من المباحث التي طرقها كلمته الأخيرة، بل وقف بين النفي والإثبات، والشك واليقين. وقد كثر شراحه لا لصعوبة تناوله، بل لتعدد ألوانه، وخصب إنتاجه، فكانت أفكاره كالمجرة في السماء يرى الناظر أنوارها «ويغرق في تيارها وهو مصقع».
ولا أحاول اليوم في هذا الفصل إلا الإلمام بناحية واحدة من نواحيه وهي الفلسفة. •••
من الأوهام الراسخة في الأذهان أن التربية الكاثوليكية قيد للفكر تمنعه من التحليق في سماء الإبداع، ولكن وجود رنان نفسه جاء دليلا على فساد هذا الزعم؛ لأن تربيته الدينية تركت أثرا عميقا في حياته الأدبية والعقلية. لقد أعد نفسه لخدمة الكنيسة، غير أن إيمانه كان قصير العمر، فهجر المدرسة التي احتضنته وهو في الثانية والعشرين، ونزل إلى ميدان الجهاد العالمي لا صاحب له ولا معين ولا مال سوى ألف فرنك اقتصدتها له أخته هنرييت من نفقاتها الخاصة.
فلم يأت عليه ثلاث سنوات حتى كان قد انتهى من تأليف كتابه الأول «مستقبل العلم»، وفيه بنى كل آماله على العلم في تجديد التربية والأدب والسياسة والاجتماع، وإقامة بنيان وطيد للعدالة بين الناس باتحاد العلم والديمقراطية، غير أن هذا الكتاب بقي مطويا عملا بإشارة بعض أساتذته، ولما أراد طبعه بعد أربعين سنة أصابه ما أصاب «لتره» عندما أعاد نظره على ما كتب في العلم الوضعي بعد ثلاثين سنة من كتابته، ولكنه لم يحذ حذو «لتره» في إظهار أخطائه، بل اكتفى بالابتسام، فقال في المقدمة: إنه تردد كثيرا في نشره لئلا يصدم أرباب الذوق. وإذا كان للكتاب من مزية فلأنه يظهر في مظهره الطبيعي شابا متهوسا يعيش بفكره، ويؤمن بالحقيقة كل الإيمان.
رأى رنان أن العلم لم يحقق آمال البشر، ولكنه تحاشى أن يقول إنه لم يف بوعده، وما هو هذا الوعد؟ وهل يمكن البحث في إفلاس العلم إفلاسا كاملا أو جزئيا في زمن له فيه كل يوم فتح جديد؟ على كل فقد ضاعت ثقة رنان الأولى ورجع عن اعتقاده بأن العلم يغير الطبيعة البشرية، ويجدد وجه العالم، ورأى من الجنون فكرة هداية مليار من البشر، فمهمة العلم الوحيدة هي معرفة الحقيقة لا تحقيق المثل الأعلى؛ لأن الحقيقة واحدة، وأما المثل الأعلى فيختلف باختلاف كل فرد، وكل إنسان يحوك ثوب عدالته واجتماعه على قدر طاقته وحاجته.
لقد هجر رنان أوهامه الأولى وبقي من أشياع العلم الوضعي، ولكنه كان شاعرا، فظل أفق الأحلام لامعا أمام عينيه؛ فهو ينكر ما وراء الطبيعة، ولا يقبل إلا ما يثبته العلم، غير أنه لا يجهل عجز العلم، وأنه كلما تقدمنا خطوة فيه زدنا احتكاكا بالمجهول واللانهاية. ولو افترضنا أن العلم بلغ درجة الكمال، وأمكن الفلسفة أن تكون أم العلوم، فتميط اللثام عن أسرار الوجود، فإن هذا العلم يصبح حينئذ مقبرة العقل البشري، ويجرده من أحلامه، ويخلع عن العالم حلة جماله وجلاله؛ ذلك لأن العلم يفسر لنا كيف، ولا يفسر لماذا، ولا جواب عنده للأسئلة الكبرى التي تشغل كل مفكر: هل للحياة غاية؟ وهل في الوجود فكرة أدب؟ وهل يتمشى الإنسان إلى نهاية أسمى؟ لم الحياة؟ ولم العذاب؟ ولم الموت؟
هذه أسئلة لا يجيب العلم عنها. نعم، هناك تفاسير كثيرة، ولكنها شخصية متناقضة حسب أمزجة أصحابها وأدمغتهم؛ ولهذا يقول رنان: كل إنسان يولد وله فلسفته كما يولد وله إنشاؤه. ما الفلسفة إلا صوت يصدر عن النفس عند اصطدامها بالحقيقة، وما المذاهب الفلسفية سوى قصص النفس وحكاياتها، وأبطال هذه القصص تسمى الجوهر، الفرد، الفكرة، الإرادة، اللاوعي.
المذاهب الفلسفية صحيحة في رءوس أصحابها، ولكن لا تشرك غيرهم فيها؛ لأنه لا يمكن تأييدها بالاختبار والمنطق، ولهذا نجد رنان الذي يحب التفلسف يتحاشى كل منطق، ويقيم مكانه ما يسميه «الفرق الطفيف»؛ فهو لا يؤيد كالمؤمن ولا يجحد كالكافر، بل يبقى في شعوره بين بين.
ولقد فكر رنان بادئ ذي بدء بتعليم الفلسفة ونال رتبة أستاذ فيها، ثم انقلب عنها إلى فروع أخرى، ولكنه أشار إلى ما كان يعتمده من أسلوب في التدريس لو مضى في فكرته الأولى، فهو يعشق التساهل، ويحترم عقائد مستمعيه؛ فلا يسعى ليبرهن، بل يقف عند حد إعطائهم الفكرة ليبني كل هيكله كما يشاء.
Bilinmeyen sayfa