ولو أراد الواحد منا أن يحقق ادعاءات سترنر لعارضته الوقائع، ووقفت الحقائق سدا في وجهه. ولو أراد سترنر نفسه الذي كان رجلا هادئا مسالما أن يجرب بالعمل ما يقول لمنعته شرطة برلين وأعادته إلى الحقيقة والواقع. فتعاليم سترنر ليست شيئا في نظر الفيلسوف، ولكن لها أهميتها في نظر المؤرخ؛ لأنه لم يكن بين الذين حاولوا هدم العرش والهيكل. ومن أتباع هجل من استطاع مثله أن يحتج أبلغ احتجاج على النظام القهري الخانق الذي كانت عليه بروسيا في منتصف القرن الماضي. وما ذكرت هنا آراءه إلا لأنها - كما قلت - تساعدنا على فهم نيتشه وتفسير مذهبه. •••
لم أجد كاتبا حطم بمعول فلسفته أصنام العقائد، وأنزل الآلهة عن عروشها لينتصب مكانها إلها في عقول الناس مثل نيتشه. ولا أدري أكان الجنون الذي انتهى إليه فأوقف حركة عقله قبل أن تقف حركة جسده نتيجة هذا الإجهاد والجهاد، مع ما عرف عنه من إفراطه في استعمال المخدرات، وغرامه الشديد بالموسيقى، أم هي ضربة لازب لما بين العبقرية والجنون من النسب المزعوم؟ على كل حال فإن غرابة أطواره، وميله إلى الوحدة، وغضبه الدائم على معاصريه من حملة الأقلام، وكبرياءه الفائقة أمور تحمل على الشك في أنه كان موفور الصحة خاليا من شائبة المرض.
وفضلا عن ذلك فهناك تناقض تام بين الرجل والمؤلف؛ فإن دعة أخلاقه، ولطف معشره، وتعلق تلاميذه به، وحب النساء له، على الرغم مما كان يكيل لهن من الشتائم في كتاباته، لا يتفق مع ثورة الفكر والقلم التي صفع بها جميع المبادئ القائم عليها نظام الاجتماع. لقد كان نيتشه أعدى عدو لهذا الاجتماع المملوء نفاقا، كما كان جاك روسو من قبله. وكما نادى روسو بالعودة إلى الطبيعة والسليقة نادى بها هو أيضا، مع هذا الفرق بين الاثنين: أن روسو كان من عامة الشعب في عالم أرستقراطي، ونيتشه أرستقراطي الروح إلى أبعد حد في عالم أخذت الديمقراطية التي تنبأ عنها روسو تتحقق فيه.
لقد استولى على عرش كبريائه، ومن ذروة هذا العرش أرسل حكمه على البشر، فقسم الناس إلى فئتين، وجعل بينهما هاوية سحيقة؛ فئة النبلاء، وهم القلة، ولا يعني بالنبلاء تلك الطبقة المعروفة بقدم العهد أو الألقاب أو غير ذلك من الامتيازات، بل أصحاب الإرادة والعمل والأطماع، الذين خلقوا للإمارة والحكم والإبداع، وفئة القطيع البشري الكثير العدد، أسير العبودية، عبودية التقاليد والحقد والحسد والبغضاء لكل سابق أو متفوق. كل ما هو سام وعظيم في العلم لا يصدر في اعتقاده إلا عن هذه الفئة القليلة من الأشراف. وبالعكس، إذا كان السلطان للعبيد فإن أعمالهم لا تأتي بغير السافل والدنيء، كما في الديمقراطيات حيث تغلب الكمية على الكيفية ويتحكم النعاج بالأسود.
فالمذهب الأرستقراطي، مذهب نيتشه، يزعم أن الرقي يقوم على تنازع الطبقات أكثر منه على تنازع البقاء؛ أي بفوز الرجال العظام قادة الشعوب الذين يسكبون في عروق الأمم دما جديدا، وإذن فتكون غاية الإنسانية إنتاج رجال عظام وتضحية الجماهير في سبيلهم. والمذهب الديمقراطي، وهو مذهب تولستوي، أيضا يقول: إن الذي يكتب التاريخ هم الجماعات، وأما تلك القلة التي تدعي الزعامة فضررها أكثر من نفعها؛ وعليه فغاية الإنسانية تضحية الفرد للجماعة لا الجماعة للفرد. ومعنى ذلك سلطة الشعب والتصويت العام فالاشتراكية. وبما أن الرقي عمل اجتماعي؛ فلا يجوز حصر فوائده في الأقلية، بل يجب أن يتمتع بها جميع الناس.
إن نيتشه لا يعترف بشرعة أدبية واحدة للبشر، بل عنده أدبان، أدب للجبابرة وأدب للأقزام، أدب للسادة وأدب للعبيد؛ فالرحمة والإحسان والأمر بالمعروف وحب القريب وسائر الفضائل التي تتغنى بها الجماعات شر في عرفه، ولا صلاح ولا فضيلة إلا في القوة والشدة والتحكم، تلك هي صفات الأشراف أو علية القوم التي لا تعرف من الواجبات إلا إطلاق العنان لغرائزها، فتكون حليتها حب الذات، والتجرد عن كل ما يسميه عامة الناس أدبا.
اسمعه يقول: «محبة الذات لا تختص إلا بمن كان شريف الروح؛ أي ذاك الذي عنده إيمان لا يتزعزع بأنه فوق الناس، وله يجب أن تخضع وتضحي سائر الناس، فهو خارج عن نطاق الخير والشر.»
فالرجل الأسمى أو السوبرمان هو الذي لا دين له ولا وطن ولا أسرة، ولا قيمة للشرائع الأدبية عنده إلا بقدر ما تسمح له أن يكون السيد المطاع.
هذه المبادئ الغريبة التي تمتاز بها تعاليم نيتشه تكاد تكون فطرية فيه، فقد شهد الحرب على العرش والهيكل وهو في الثالثة عشرة من عمره؛ فلم يجد في النصرانية إلا دين رق واستعباد؛ لأنها بتعظيمها الزهد والرحمة والوداعة ونكران الذات قد جزت أشرف غرائز الإنسان ، وبدلت منها فضائل كاذبة، وحولت العالم إلى مستشفى كبير ليس فيه سوى مرضى وممرضين، مع أن الواجب الأول على الإنسان أن يكون صحيح الجسم.
ولم يكن عداؤه للحكم الديمقراطي بأقل من عدائه للكنيسة؛ فهو يرى في الحكومات ويلا على المدنية، إلا إذا استلم مقاليدها رجل ظالم، وبسط دكتاتوريته عليها.
Bilinmeyen sayfa