وكبس البوليس بيت عم إبراهيم بدرب الحلة. وكان المسكن عبارة عن حجرة أرضية بحوش بيت قديم تهدم سوره أو كاد. ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرئة وحصيرة، وكانون وحلة وطبق صاج، وامرأة عجوز عوراء تبين أنها زوجته. ولما سئلت عن زوجها؛ أجابت بأنه في الوزارة، ثم أكدت أنها لا تعرف شيئا عن اختفائه. ولم يكن له من ثياب إلا جلباب ففتشوه، فعثروا على قطعة حشيش صغيرة. وعادت القوة بالمرأة إلى قسم البوليس. وقالت المرأة إنها لا تدري شيئا عن هربه أو عن السرقة المتهم بها. وبكت طويلا وانتهرت طويلا. وقالت عن حياتهما المشتركة إنه كان في مطلع الحياة زوجا طيبا، وإنهما أنجبا أبناء. من هؤلاء الأبناء عامل يعمل في منطقة القنال منقطع الصلة بهم منذ سنوات. وآخر قتل في حادثة ترام وهو في العاشرة. وبنت تزوجت من عامل بناء ذهب بها إلى أقصى الصعيد، فاختفت من حياتهم كأخيها بالقنال. واعترفت بأن عم إبراهيم تغير تغيرا خطيرا في حياته في الأشهر الأخيرة، وبعد أن بلغ أعقل العمر، إذ ترامت إليها أنباء عن تعلقه ببائعة ناصيب عند قهوة فؤاد، وأن تلك الأنباء سببت أكثر من عراك بينهما على مرأى من حارة الحلة كلها.
انقض المخبرون على قهوة فؤاد، ثم رجعوا إلى القسم بمجموعة غريبة من جامعي الأعقاب بين الطفولة والمراهقة، كما جاءوا ببعض ماسحي الأحذية. وتذكروا جميعا عم إبراهيم عند سماع أوصافه. قالوا إنه كان يجلس في الأشهر الأخيرة في آخر كرسي في الممر المتفرع عن الطريق العام، يحتسي القهوة ويرنو إلى الإنجليزية! وتبين أنهم يعنون بالإنجليزية بائعة ناصيب في السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين، كانت في الأصل جامعة أعقاب كذلك. واعترفوا جميعا على وجه التقريب بأنهم كانوا على علاقات خاصة بها. وأن ذلك كان كذلك حتى مع بعض رواد القهوة من ذوي النفوس الحلوة المتواضعة! وكان عم إبراهيم شديد الاهتمام بها. رآها مرة وهو عابر سبيل. ولما أدرك أنها من معالم قهوة فؤاد اتخذ مجلسه في نهاية الممر لمشاهدتها كل مساء، وكان يدعوها ليبتاع ورقة ناصيب في الظاهر، وليبقيها أطول مدة ممكنة معه في حقيقة الأمر. وفطنت الفتاة من أول الأمر إلى ولعه بها، فأفشت سره إليهم، فراحوا يتجسسون عليه يوما بعد يوم متخذين إياه مزحة ودعابة، وهو غافل عنهم بهيامه. ويوما أخبرتهم بأن الرجل يرغب في الزواج منها، وأنه يعدها بحياة سعيدة خالية من هموم العناء والتشرد. وضحكوا طويلا! اعتدوها نكتة؛ لأن فكرة الزواج لا تطرق لهم بالا من ناحية، ولأن الرجل أبعد ما يكون عن صورة العريس كما يتخيلونها من ناحية أخرى. وقال أحدهم ساخرا: إنه يبدو كأحدنا!
فقالت بتيه: بل هو رجل غني.
وضحكوا كرة أخرى. لكن الفتاة انقطعت عن المجيء إلى القهوة، واختفت من مظانها جميعا!
وعلى العموم اطمأن البوليس إلى أنه قبض على طرف الخيط. لكنه لم يكن يعلم أن الطرف الآخر في أبو قير. أجل كان عم إبراهيم في أبو قير. كان يجلس جلسة مريحة على الشاطئ يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهب النسائم. وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب، وعكست بشرته رواء. وارتدت ياسمينة فستانا أنيقا وتجلت نضارتها كالماء المقطر. جلسة عائلية سعيدة مريحة راضية، وإن لم يخل هواء أبريل من لسعة برد. والمكان شبه خال، لا أحد من المصيفين جاء، وأصحاب البيوت من اليونانيين بعيدون عن الشاطئ. والحب يرفرف راقصا حول الجلسة الجميلة. وتجلت في عيني عم إبراهيم نظرة تشوف ودهشة، كأنه يستقبل العالم لأول مرة في طفولة بريئة. فما رأى بحرا من قبل، بل إنه لم يجاوز أعتاب القاهرة طيلة حياته، لذلك بهره البحر المصطخب، والساحل المترامي، والسماء الملفعة بالسحب البيضاء في صفاء الورد. ومضى يصغي إلى الهدير المتقطع، وهو يبتسم ابتسامة فرحة سعيدة لا تفارق شفتيه. بدا أنه انطلق من أغلال الهموم، وأنه يحلق في حلم، وأنه يستمتع بأنغام الحب الشجية التي ترددها أعماقه النشوى. أما الفتاة فتمددت أمامه في استرخاء واكتنفها صمت راكد، حتى ثقلت جفونها بما يشي بالملل. وكان السيد لطفي الموظف بالسكرتارية هو الذي عرفه دون قصد بأبي قير. كان يصيف كل عام في ذلك المصيف ويحكي عن جماله وهدوئه وأسماكه للزملاء قبل السفر وعقب العودة، فامتلأ خيال عم إبراهيم بالمصيف، ثم عرف أخيرا سبيله إليه. وجاءه مزودا بما يحتاجه شهر العسل من ثياب وأدوات زينة، وهدايا ولوازم المزاج والكيف. وكان يومه كله ينقضي بين الحجرة المفروشة التي اكتراها وبين الساحل، لا شاغل له إلا الحب والمشاهدة والتدخين والأكل والشرب والأحاديث. وأنفق في أسبوع ما لم ينفقه من قبل في عام، ولم تكن المحبوبة تكف عن الطلب، وما أسرع ما كان يلبي طلباتها، وكانت غريبة الأطوار، فحتى الخمر والمخدرات طالبت بها. وكانت صريحة إلى حد الإيذاء، فسألته مرة: من أين لك بالنقود؟
فقال ضاحكا: أنا من الأعيان!
فقالت بارتياب وقد ضرجت الخمر وجنتيها: أنا فاهمة! - الله يسامحك!
وضحكت ضحكة بلهاء وهي تقول: ليس في فيك إلا أربع أسنان، واحدة فوق وثلاث تحت!
وضحك متسامحا. ربما حام حوله كدر، ولكنه كان مصمما على السعادة، السعادة التي يدرك أكثر من غيره كم هي زائلة! لم يكن يطمع في أكثر من الاحتفاظ بما نال من سعادة إلى حين، وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعي بإنفاق آخر مليم مما يملك. لذلك أصر على السعادة، رغم ما يبدو من محبوبته من مشاكسة. وتاقت نفسها إلى رؤية الإسكندرية لكنه رفض بإصرار، فعادت تقول بمكر موروث عن الأرصفة: قلت لك إني فاهمة!
فكان جوابه أن ابتاع لها حلية لطيفة. ووضع بين يديها فاكهة وشرابا وسجائر محرمة، وقبل خدها المتورد، وابتسم لها في حنان قائلا: انظري إلى البحر والسماء، واسعدي بما بين يديك، وليكن ريقك شهدا!
Bilinmeyen sayfa