دنيا الله
جوار الله
الجامع في الدرب
موعد
قاتل
ضد مجهول
زينة
زعبلاوي
الجبار
كلمة في الليل
حادثة
حنظل والعسكري
مندوب فوق العادة
صورة قديمة
دنيا الله
جوار الله
الجامع في الدرب
موعد
قاتل
ضد مجهول
زينة
زعبلاوي
الجبار
كلمة في الليل
حادثة
حنظل والعسكري
مندوب فوق العادة
صورة قديمة
دنيا الله
دنيا الله
تأليف
نجيب محفوظ
دنيا الله
دبت الحياة في إدارة السكرتارية بدخول عم إبراهيم الفراش. فتح النوافذ واحدة بعد أخرى، ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلب شارد ودون اكتراث. واهتز رأسه بانتظام وبطء، وتحرك شدقاه كأنما يلوك شيئا. فقلقت تبعا لذلك منابت الشعر الأبيض في ذقنه وعارضيه، أما صلعته فلم تكن بها شعرة واحدة. وعاد إلى المكاتب ينفض عنها الغبار ويرتب الملفات والأدوات، ثم ألقى على الحجرة - الإدارة - نظرة شاملة، ثم نقل بصره بين المكاتب وكأنما يرى شخوص أصحابها، فلاح الارتياح في وجهه حينا والامتعاض حينا، ومرة ابتسم ثم ذهب، وهو يقول لنفسه: «الآن نذهب لإحضار الفطور.»
وكان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول من حضر، جاء بكاهل ينوء بخمسين عاما، ووجه نقش على صفحته امتعاض ثابت، كأنه سجل لقرف الزمن. وتبعه السيد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة، الذي يضحك كثيرا؛ لكنه ضحك متوتر يداري به همومه اليومية. ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يدعى في الإدارة، والجندي الذي ينم تطلق أساريره على أنه لم يخرج بعد من نعمة الطفولة. ودخل يتبختر السيد مصطفى، أنيقا ذهبي الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة، ولحق به حمام رقيقا نحيفا منطويا على نفسه. وأخيرا حضر سيادة مدير الإدارة، الأستاذ كامل، محوطا بهالة من وقار، وفي يده مسبحة. وضجت الإدارة بالأصوات وخشخشة الأوراق. ولكن أحدا لم يشرع في عمل، حتى المدير انهمك في مكالمة تليفونية، وانطلقت صفحات الجرائد في الجو كالأعلام. وقال لطفي وهو يتابع الأخبار بعينيه: ستكون السنة نهاية العالم.
وعلا صوت المدير وهو يقول متهللا في التليفون: وهل يخفى القمر؟
وتساءل سمير: لماذا نشقى بالزواج والأبناء، ها هو شاب يقتل أباه تحت بصر أمه!
كذلك تساءل أحمد بصوت متحشرج: ما فائدة كتابة روشتة إذا كان الدواء غير موجود بالسوق!
ولبث الجندي يرمي ببصره من مجلسه إلى عيادة دكتور في العمارة المواجهة، يرصد ظهور ممرضة ألمانية شقراء في النافذة، ثم عاد لطفي يقول مؤكدا: صدقوني، نهاية العالم أقرب مما تتصورون.
ووضع المدير يده على السماعة، وقال لحمام آمرا: جهز الملف
عام.
ثم عاد إلى المحادثة الشائقة، فلم يرفع حمام رأسه عن الجريدة، وهمس بين أسنانه «داهية في أمك!» وإذا بعم إبراهيم يعود بصينية ممتلئة. وراح يوزع سندوتشات الفول والطعمية والجبن والحلاوة الطحينية. وطحنت الأفواه الطعام وتجاوب التمطق في الأركان، ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف. ووقف عم إبراهيم عند مدخل الإدارة يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين، حتى هتف به أحمد بصوت يعترضه الطعام: كشف الماهيات يا عم إبراهيم.
فذهب الرجل. وبعد ساعة من الوقت دخل الحجرة بائع الكرافتات والروائح العطرية الذي يزور الإدارة عادة في أول الشهر. ومر بالمكاتب عارضا بضاعته فأقبل الموظفون يتفحصونها، وأخذ بعضهم ما يحتاجه منها، وغادر الرجل الحجرة على أن يعود إليها بعد قبض الماهيات. وبعد ساعة أخرى جاء بياع السمن؛ ليجمع الأقساط المستحقة، ولكن مصطفى قال له بلهجة ذات معنى وهو يضحك: انتظر حتى يرجع عم إبراهيم.
فوقف الرجل عند الباب وشفتاه تتحركان بتلاوة مستمرة. وكانت الآلة الكاتبة تنقر بنشاط، على حين انتقل سمير إلى مكتب المدير؛ ليعرض أوراقا هامة. ودخلت الشمس لأول مرة من النافذة المطلة على الميدان، وما زال الجندي يختلس النظرات إلى نافذة العيادة. ونادى المدير عم إبراهيم لأمر، فذكره مصطفى بأنه لم يرجع بعد من الخزينة، وعند ذاك تساءل أحمد رافعا رأسه عن الملفات: الرجل تأخر! لماذا تأخر الرجل؟!
وذهب بياع السمن؛ ليمر بالإدارات الأخر، ثم يعود. وهب أحمد إلى خارج الحجرة ونظر يمنة ويسرة في الطرقة، ثم عاد وهو يقول: لا أثر له، ماذا أخره؟! الرجل المخرف!
ولما مرت ساعة ثالثة فقد أحمد صبره فقام، وهو يعلن بصوت مسموع أنه ذاهب إلى الخزينة للبحث عن الرجل. ثم عاد بوجه طافح بالغيظ وهو يقول: أخذ الكشف منذ ساعة كاملة، فأين ذهب المجنون؟
فسأله لطفي: هل قبض هو مرتبه؟
فأجاب محتدا: نعم، قالوا لي ذلك عند شباك صرف الخدم السايرة. - لعله ذهب يتسوق! - قبل أن يسلمنا الماهيات؟! - لا تستبعد ذلك، إنه يأتي كل يوم بجديد.
وارتسم الاستياء على وجوه، وقطب المدير - وهو درجة رابعة قديم - وساد صمت قصير، ما لبث أن قطعه مصطفى بضحكة من ضحكاته، ثم قال: تصوروا أنه سرق في الطريق!
فندت ضحكات فاترة، فاترة جدا، كأنها تأوهات متنكرة، غير أن لطفي قال: أو وقع له حادث!
ولما آنس في الوجوه استياء استدرك قائلا: ما يدوس عم إبراهيم اليوم، فإنما يدوس إدارة كاملة.
فقال أحمد بحدة: إلا من وراءه خزينة خاصة!
وارتاح الجميع إلى قوله تشفيا، غير أن المدير نقر على مكتبه بقلمه الباركر المهدى إليه في مناسبة سعيدة، داعيا الإدارة إلى ضبط النفس، وكان في الحقيقة يداري قلقه المتزايد. لكن الجندي تساءل رغم ذلك: ماذا يحدث للنقود في هذه الأحوال؟ - كحال السرقة؟
ولم يضحك أحد، فعاد الجندي يتساءل: في حال الحوادث؟ - قد تسرق في الزحمة، وقد يتحفظ عليها في قسم البوليس حتى تتضح الحقائق، ومت يا حمار!
لكن بدا أن مملكة الضحك قد جدبت تماما. بدت الوجوه كالحة، ومضى الوقت أثقل من المرض. وتساءل صوت: على وجه من أصبحنا اليوم؟! وذهب أحمد يبحث عن عم إبراهيم في المراقبة كلها، ثم عاد بوجه ناطق بخيبة مسعاه. وفكر المدير في المشكلة الغريبة التي لم تدر لأحد في بال. إنه يأبى أن يصدق. سيظهر الرجل المجنون فجأة عند الباب. ستنهال عليه الشتائم وسينتحل كافة الأعذار. وإلا فما العمل؟ لطفي وراءه زوجة غنية، وسمير وغد معروف، ولكن ثمة مساكين مثل أحمد قد يقضي عليهم الحادث! وعاد بياع السمن، وقبل أن يفتح فاه، صاح به المدير: انتظر، القيامة لم تقم، ونحن في إدارة حكومية، لا في سوق.
فتراجع الرجل مذهولا. وزار الإدارة موظفون من المراقبة يستطلعون الأحوال، وهم بعضهم بالمداعبة، ولكنهم وجدوا جوا مكفهرا، فتلاشت الدعابات في حلوقهم، وتجسد القلق وكف الجميع عن العمل. وتأوه أحمد قائلا: قلبي يحدثني بأن المسألة جد! ضعنا يا جماعة!
ثم هب واقفا وهو يقول: سأسأل عنه بواب الوزارة. واختفى مهرولا، ثم عاد وهو يصيح بصوت ثائر: البواب يؤكد أنه رآه يغادر الوزارة حوالي التاسعة صباحا!
ثم بصوت مختنق: أفظع من كارثة، لا يمكن أن يبيع حياته بمائة وخمسين جنيها أو مائتين، حادث؟! من يدري؟! هذا الشهر لن نعرف له نهاية يا رب السموات!
وشعر لطفي بأن بعض الأنظار تتجه نحوه من حين لحين، فقال منقبض القلب: إنها أفظع من كارثة، لعلكم تتساءلون ماذا يهمني أنا؟! والحق أن زوجتي الغنية لا تنفق مليما واحدا من مالها.
وانصبت عليه في السر عشرات اللعنات، ولم يعره أحد التفاتا. وتأوه أحمد قائلا: أتصدقون بالله؟ والله الذي لا إله إلاه إني من اليوم الثاني في الشهر أذهب وأجيء، وليس في جيبي مليم واحد، لا قهوة ولا شاي ولا سيجارة ولا استعمال لأي نوع من المواصلات، أولاد في الثانوي وأولاد في الجامعة، ودين كبير بسبب الأدوية، وماذا يمكن أن أفعل يا إله الكون؟!
ولما جاوزت الساعة الواحدة وقف مدير الإدارة بوجه كئيب، وابتعد عن مكتبه وهو يقول: لا بد من إبلاغ المراقب العام.
واستمع المراقب العام إلى القصة في امتعاض ظاهر، ثم تساءل: ألا يجوز أن يرجع رغم الظنون؟ - الحق أني يائس تماما من ذلك، الساعة تدور في الثانية.
فقال المراقب العام بلهجة منتقدة: أنت تعلم أن تصرفكم خاطئ، ومخالف للتعليمات.
فانجحر المدير في صمت يائس مليا، ثم تمتم: جميع الإدارات تفعل ذلك. - ولو! الخطأ لا يبرر الخطأ، اكتب لي مذكرة لأرفعها لوكيل الوزارة.
ولكن المدير لم يتحول عن موقفه، وقال: الجميع في أشد الحاجة إلى مرتباتهم، هذه حالة لم تسبق بمثيل! - وماذا تريدني أن أفعل؟ - نحن لم نتسلم المرتبات، ولم نوقع في الكشف. - لا يمكن إنكار الواقعة، ولا التهرب من المسئولية.
وتكاثف الصمت وبدا المدير كرجل ضائع، وضاق المراقب به، فتشاغل بالنظر في أوراق على مكتبه، حتى تحول المدير عن موقفه، ومضى نحو الباب في خطوات ثقيلة جدا. وقبيل خروجه جاءه صوت المراقب، وهو يقول في جفاء: أبلغوا البوليس!
انتقلت إدارة السكرتارية إلى نقطة البوليس، وشقوا طريقهم إلى حجرة الضابط بين نسوة جالسات القرفصاء، تتقدمهن شرذمة من رجال متعاركين مخضبين بالدماء يسوقهم عسكري، على حين تعالى من وراء باب مغلق صراخ أليم واستغاثات. وأفضى السيد كامل المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها إلى آخرها. وقال عن عم إبراهيم: إنه فراش في الخامسة والخمسين، دخل خدمة الوزارة وهو في العاشرة عاملا بالمطبعة، ثم نقل فراشا لتطاوله على رئيسه، وأجره الأصلي ستة جنيهات. وقال عنه موظفو السكرتارية إنه كان طيبا، وإن يكن به شذوذ محتمل كأن يشرد أحيانا حتى وهو يحدثك، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يتطوع بذكر ملاحظات عامة في السياسة دون مناسبة، وعن مسكنه قيل إنه يقيم بالبيت رقم 111 بدرب الحلة، ولم يسبق له أن سرق أو أتى ما يستوجب الشك في ذمته. وقال الضابط بعد تحرير المحضر إن النقطة ستتأكد أولا أنه ليس ضحية لحادث من الحوادث ثم يتخذ البحث مجراه. ولم يجد الموظفون بدا من الانصراف، فغادروا النقطة كالمساطيل من الذهول. واختلطت أصواتهم وهم يتبادلون التشكي والتساؤل عما يمكن عمله إزاء مسئولياتهم الخطيرة التي تنتظرهم في البيوت. وشملتهم رغبة واحدة في أن يبقوا معا حتى يجدوا لمشكلتهم حلا، غير أنهم اضطروا في النهاية إلى التفرق فمضى كل إلى حال سبيله. عاد مدير الإدارة إلى بيته ولا أمل له إلا في البوكر أو الكونكان. وقصد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة محل رهونات بباب الشعرية، اعتاد في الأزمات أن يقترض منه بربح فاحش. أما لطفي فكانت زوجته تتكفل بنفقات البيت، ولكن كان عليه أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهري. الجندي - وهو شاب أعزب ويعيش في كنف أبيه - قرر أن يقول لوالده: تقبلني هذا الشهر، وكأنني ما زلت طالبا. حمام كان عليه أن يقنع زوجته المشتركة في جمعية توفير من الجيران بالمطالبة بنصيبها المخصص للكساء؛ لإنفاقه في البيت مهما كلفه ذلك من سباب وعراك وبكاء. سمير بدا أمره هينا نوعا ما، فما إن خلا إلى نفسه حتى قال: لولا الرشوة؛ لوجدت نفسي في مأزق لا مخرج منه! بقي أحمد كاتب المحفوظات الذي ظن الزملاء أن النهار لن يطلع عليه. مضى يتخبط في الطريق بلا أدنى وعي لما حوله من أناس ومركبات. ودخل مسكنه متأوها أزرق الوجه، فارتمى على أول مقعد وأغمض العينين. وأقبلت عليه الولية برائحة المطبخ، متسائلة في انزعاج: مالك؟
فقال دون مقدمات: لا مرتب لنا هذا الشهر!
فقالت بدهشة: لم، كفى الله الشر؟! عم إبراهيم جاء بمرتبك في أول النهار!
وثب الرجل قائما كغريق وجد آخر الأمر متنفسا، على حين ذهبت الولية وجاءت بلفة من الأوراق المالية وجد فيها مرتبه كاملا! استخفه الطرب لحد الجنون، فبسط يديه، وهتف من الأعماق: «الله يكرمك يا عم إبراهيم .. الله يجبر بخاطرك يا عم إبراهيم.»
وكبس البوليس بيت عم إبراهيم بدرب الحلة. وكان المسكن عبارة عن حجرة أرضية بحوش بيت قديم تهدم سوره أو كاد. ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرئة وحصيرة، وكانون وحلة وطبق صاج، وامرأة عجوز عوراء تبين أنها زوجته. ولما سئلت عن زوجها؛ أجابت بأنه في الوزارة، ثم أكدت أنها لا تعرف شيئا عن اختفائه. ولم يكن له من ثياب إلا جلباب ففتشوه، فعثروا على قطعة حشيش صغيرة. وعادت القوة بالمرأة إلى قسم البوليس. وقالت المرأة إنها لا تدري شيئا عن هربه أو عن السرقة المتهم بها. وبكت طويلا وانتهرت طويلا. وقالت عن حياتهما المشتركة إنه كان في مطلع الحياة زوجا طيبا، وإنهما أنجبا أبناء. من هؤلاء الأبناء عامل يعمل في منطقة القنال منقطع الصلة بهم منذ سنوات. وآخر قتل في حادثة ترام وهو في العاشرة. وبنت تزوجت من عامل بناء ذهب بها إلى أقصى الصعيد، فاختفت من حياتهم كأخيها بالقنال. واعترفت بأن عم إبراهيم تغير تغيرا خطيرا في حياته في الأشهر الأخيرة، وبعد أن بلغ أعقل العمر، إذ ترامت إليها أنباء عن تعلقه ببائعة ناصيب عند قهوة فؤاد، وأن تلك الأنباء سببت أكثر من عراك بينهما على مرأى من حارة الحلة كلها.
انقض المخبرون على قهوة فؤاد، ثم رجعوا إلى القسم بمجموعة غريبة من جامعي الأعقاب بين الطفولة والمراهقة، كما جاءوا ببعض ماسحي الأحذية. وتذكروا جميعا عم إبراهيم عند سماع أوصافه. قالوا إنه كان يجلس في الأشهر الأخيرة في آخر كرسي في الممر المتفرع عن الطريق العام، يحتسي القهوة ويرنو إلى الإنجليزية! وتبين أنهم يعنون بالإنجليزية بائعة ناصيب في السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين، كانت في الأصل جامعة أعقاب كذلك. واعترفوا جميعا على وجه التقريب بأنهم كانوا على علاقات خاصة بها. وأن ذلك كان كذلك حتى مع بعض رواد القهوة من ذوي النفوس الحلوة المتواضعة! وكان عم إبراهيم شديد الاهتمام بها. رآها مرة وهو عابر سبيل. ولما أدرك أنها من معالم قهوة فؤاد اتخذ مجلسه في نهاية الممر لمشاهدتها كل مساء، وكان يدعوها ليبتاع ورقة ناصيب في الظاهر، وليبقيها أطول مدة ممكنة معه في حقيقة الأمر. وفطنت الفتاة من أول الأمر إلى ولعه بها، فأفشت سره إليهم، فراحوا يتجسسون عليه يوما بعد يوم متخذين إياه مزحة ودعابة، وهو غافل عنهم بهيامه. ويوما أخبرتهم بأن الرجل يرغب في الزواج منها، وأنه يعدها بحياة سعيدة خالية من هموم العناء والتشرد. وضحكوا طويلا! اعتدوها نكتة؛ لأن فكرة الزواج لا تطرق لهم بالا من ناحية، ولأن الرجل أبعد ما يكون عن صورة العريس كما يتخيلونها من ناحية أخرى. وقال أحدهم ساخرا: إنه يبدو كأحدنا!
فقالت بتيه: بل هو رجل غني.
وضحكوا كرة أخرى. لكن الفتاة انقطعت عن المجيء إلى القهوة، واختفت من مظانها جميعا!
وعلى العموم اطمأن البوليس إلى أنه قبض على طرف الخيط. لكنه لم يكن يعلم أن الطرف الآخر في أبو قير. أجل كان عم إبراهيم في أبو قير. كان يجلس جلسة مريحة على الشاطئ يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهب النسائم. وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب، وعكست بشرته رواء. وارتدت ياسمينة فستانا أنيقا وتجلت نضارتها كالماء المقطر. جلسة عائلية سعيدة مريحة راضية، وإن لم يخل هواء أبريل من لسعة برد. والمكان شبه خال، لا أحد من المصيفين جاء، وأصحاب البيوت من اليونانيين بعيدون عن الشاطئ. والحب يرفرف راقصا حول الجلسة الجميلة. وتجلت في عيني عم إبراهيم نظرة تشوف ودهشة، كأنه يستقبل العالم لأول مرة في طفولة بريئة. فما رأى بحرا من قبل، بل إنه لم يجاوز أعتاب القاهرة طيلة حياته، لذلك بهره البحر المصطخب، والساحل المترامي، والسماء الملفعة بالسحب البيضاء في صفاء الورد. ومضى يصغي إلى الهدير المتقطع، وهو يبتسم ابتسامة فرحة سعيدة لا تفارق شفتيه. بدا أنه انطلق من أغلال الهموم، وأنه يحلق في حلم، وأنه يستمتع بأنغام الحب الشجية التي ترددها أعماقه النشوى. أما الفتاة فتمددت أمامه في استرخاء واكتنفها صمت راكد، حتى ثقلت جفونها بما يشي بالملل. وكان السيد لطفي الموظف بالسكرتارية هو الذي عرفه دون قصد بأبي قير. كان يصيف كل عام في ذلك المصيف ويحكي عن جماله وهدوئه وأسماكه للزملاء قبل السفر وعقب العودة، فامتلأ خيال عم إبراهيم بالمصيف، ثم عرف أخيرا سبيله إليه. وجاءه مزودا بما يحتاجه شهر العسل من ثياب وأدوات زينة، وهدايا ولوازم المزاج والكيف. وكان يومه كله ينقضي بين الحجرة المفروشة التي اكتراها وبين الساحل، لا شاغل له إلا الحب والمشاهدة والتدخين والأكل والشرب والأحاديث. وأنفق في أسبوع ما لم ينفقه من قبل في عام، ولم تكن المحبوبة تكف عن الطلب، وما أسرع ما كان يلبي طلباتها، وكانت غريبة الأطوار، فحتى الخمر والمخدرات طالبت بها. وكانت صريحة إلى حد الإيذاء، فسألته مرة: من أين لك بالنقود؟
فقال ضاحكا: أنا من الأعيان!
فقالت بارتياب وقد ضرجت الخمر وجنتيها: أنا فاهمة! - الله يسامحك!
وضحكت ضحكة بلهاء وهي تقول: ليس في فيك إلا أربع أسنان، واحدة فوق وثلاث تحت!
وضحك متسامحا. ربما حام حوله كدر، ولكنه كان مصمما على السعادة، السعادة التي يدرك أكثر من غيره كم هي زائلة! لم يكن يطمع في أكثر من الاحتفاظ بما نال من سعادة إلى حين، وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعي بإنفاق آخر مليم مما يملك. لذلك أصر على السعادة، رغم ما يبدو من محبوبته من مشاكسة. وتاقت نفسها إلى رؤية الإسكندرية لكنه رفض بإصرار، فعادت تقول بمكر موروث عن الأرصفة: قلت لك إني فاهمة!
فكان جوابه أن ابتاع لها حلية لطيفة. ووضع بين يديها فاكهة وشرابا وسجائر محرمة، وقبل خدها المتورد، وابتسم لها في حنان قائلا: انظري إلى البحر والسماء، واسعدي بما بين يديك، وليكن ريقك شهدا!
أراد لها أن تسعد كما يسعد، وكان من قبل يسير مطرق الرأس، لا يرى من الدنيا إلا التراب والطين. أو لا يرى إلا شواغله وهمومه. أما هنا فرأى ما لم يكن يراه؛ رأى الفجر في طلعته السحرية، والغروب في عجائب ألوانه التي تنساب عن الشفق، ورأى النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللامتناهية. رأى ذلك كله بقوة الحب الخالقة حتى عجب كيف يوجد بعد ذلك النكد!
وفي أوائل يونيو ظهرت على الساحل أول أسرة جاءت مبكرة للتصييف، فانقبض قلب عم إبراهيم، وشعر بدنو الشقاء كالأجل. ستولي السعادة قريبا وإلى الأبد. وزاده ذلك إصرارا على السعادة المتاحة، فأشعل سجائره تباعا. ويوما كان عند البقال، فلمح في آخر الطريق السيد لطفي الموظف بالسكرتارية بصحبة سمسار من سماسرة المساكن. سقط قلبه خوفا، فمضى مسرعا إلى عطفة جانبية، ثم تسلل منها إلى حجرته. جاء لطفي ليؤجر مسكنا لشهري يوليو وأغسطس كعادته كل صيف. وما هي إلا أسابيع حتى يجوب الشاطئ بالطول والعرض، ولا يبقى له هو مكان. إن يد الخيبة تطرق بابه ولن يجد له مكانا. سينقضي الحلم مثل هذه السحابة المسرعة. وستغادره محبوبته كزفيره. محبوبته التي يحبها رغم تململها وحدتها ولسانها المفلفل. يحبها، ويشكر لها ما وهبته من سعادة، ونفخت فيه من روح الشباب. فليسامحها الله وليسعدها الله. ووجد نفسه في حجرته منفردا، فراح يعد ما تبقى من النقود ثم لفها حول صدره. وسمع حركة عند الباب، فالتفت نحوه فرآها قادمة. تساءل ترى هل رأته؟ وقرأ في عينيها نظرة ماكرة؛ لذلك طار النوم من عينيه عندما استلقى إلى جانبها على الفراش. ومضى الليل في أرق وفكر، وسمع صوتا حنونا في أعماقه يقول له: أوهبها النقود وسرحها. فقال له: لم تزل لي أيام. فقال له: أوهبها النقود وسرحها. الطفلة الجميلة المشردة! من أبوها؟ .. من أمها؟ قالت له مرة بكل بساطة: لا أحد لي في الدنيا!
كذلك هو! وأحس بشيء يلمسه كثعبان في الظلام. تركز إحساسه في يدها المتلصصة. تسعى إلى سرقته! ألذلك بالغت في إنهاكه الماكرة حتى يغرق في النوم؟! يا للتعاسة! وقبض على يدها. ندت عنها شهقة في الظلام، ثم ساد الصمت. وتساءل بحزن: لم؟
ثم معاتبا: متى رفضت لك طلبا؟
وهوت على يده فعضتها بوحشية، حتى تأوه ودفعها بقوة. كانت أول حركة قاسية تبدر منه نحوها. ووثب إلى مفتاح الكهرباء، فأضاء الحجرة. نظر أول ما نظر إلى معصمه الملطخ بالدم، وقال: صغيرة، وبك هذا الشر كله؟!
رمقته بنظرة مستخزية لحظة، ثم ولته ظهرها. وتساءل: كيف تسعين إلى سرقة مالك؟
فقطبت تقطيبة نمت عن حنق وضيق، لكنها لم تنبس. فعاد يقول: لا مطمع لي في أكثر مما نلت!
وضحك ضحكة مريرة وقال: ليجزك الله عني خير الجزاء!
وفي الصباح أعطاها أكثر ما تبقى لديه من مال، وحزم متاعها ووصلها إلى المحطة.
ومن ثم أقفرت أبو قير. وتغير الحال رويدا وتقاطر المصيفون. وانتقل إلى الإسكندرية ليهيم على وجهه دون مبالاة. ومرة وجد نفسه أمام جامع أبي العباس فدخل. صلى ركعتين تحية للمسجد، ثم جلس موليا وجهه نحو الجدار. كان يعاني حزنا جليلا ويأسا رائعا. وناجى ربه همسا: لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي، ولا ما يحصل في كل مكان. صغيرة وجميلة وشريرة أيرضيك هذا؟! وأبنائي أين هم؟ .. أيرضيك هذا؟ والعالم يطاردني لا لشيء إلا أنني أحبك فهل يرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة .. أيرضيك هذا؟ وأجهش في البكاء. ولما أخذ يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادي: «عم إبراهيم!» فالتفت مندهشا بلا إرادة، فرأى جبارا يتقدم منه في ظفر وتشف، فأدرك من منظره أنه مخبر فتوقف مستسلما. قبض الرجل على منكبه، وهو يقول: أتعبتنا في البحث عنك .. الله يتعبك!
ولما وجده - وهو يسوقه أمامه - مستسلما محمر العينين، قال: تقدر تقول لي ماذا دفعك إلى تلك الفعلة، وأنت في هذا العمر؟!
ابتسم عم إبراهيم، ثم رفع أصبعه إلى فوق وهو يغمغم: الله!
ندت عنه كالتنهدة ...
جوار الله
دق جرس الباب الخارجي، ففتحت الخادم الشراعة، فرأت رجلا يرتدي جلبابا، عاري الرأس، غريب الوجه، كانت بلا ريب تراه لأول مرة، فطالعته بنظرة متسائلة، وإذا به يسأل: بيت سي عبد العظيم شلبي الموظف بالمساحة؟
وجاء عبد العظيم على صوت الرجل، متمهل المشية في جلبابه الفضفاض، مغطى الرأس بطاقية اتقاء للبرد، فنظر إلى القادم باستطلاع كما فعلت الخادم من قبل، ثم سأله عما يريد. فقال الرجل: لا مؤاخذة! أرسلني الحاج مصطفى الدرديري السمسار بالدرب الأحمر؛ لأخبرك بأن الست عمتكم مريضة جدا، ويلزم الحضور.
فانفعل عبد العظيم باهتمام شديد، وتساءل: ماذا حصل لها؟ - لا أعرف يا سيدي، وأنا قلت لحضرتك ما كلفني به الحاج.
ودعاه إلى الدخول من قبيل المجاملة فشكر وذهب. وتحول عبد العظيم إلى الداخل، فوجد أخته تفيدة واقفة تنصت، فقال لها: استعدي للذهاب إلى بيت عمتك نظيرة، الظاهر أنها ستودع ...
وعبد العظيم يقيم في هذا البيت بشارع شبين الكوم بحدائق القبة، هو وزوجته وأولاده الخمسة وأخته الكبرى تفيدة، وهي عانس في الخمسين وكان والده في الأصل من الدرب الأحمر، ولكنه انتقل إلى حدائق القبة منذ أربعين عاما، وعبد العظيم طفل في الخامسة. وانقطعت الأسباب رويدا بين الدرب الأحمر وحدائق القبة فيما عدا زيارات الست نظيرة لهم من حين لآخر. وهي في الحقيقة عمة أبيه لا عمته هو، وفي الثمانين من عمرها، عانس مثل تفيدة، تعيش وحيدة، وتملك بيتا مكونا من أربعة أدوار، عرفت بغرابة الأطوار وحدة الطبع. واكتظ رأس عبد العظيم بذكريات قديمة عما كان يدور في بيته حول ثروة عمة أبيه، وانصهر ذلك كله لحد الاحتراق في خياله بنهم رجل لم يمارس طيلة حياته أي نوع من أنواع الامتلاك. رجل طال به الأمد في الدرجة الخامسة، وتقوس ظهره تحت أعباء الواجبات، ولم يورثه أبوه إلا عبئا ثقيلا هو أخته تفيدة. ودأبت الست نظيرة على زيارتهم، حتى تجرأ يوما على أن يطلب منها قرضا صغيرا، فانقطعت عن زيارتهم. عجوز وبخيلة! تمتلك بيتا من أربعة أدوار إيراده الشهري لا يقل عن عشرة جنيهات. لكنها وحيدة، رغم أنها تعيش في بيئة أهلها القديمة. ومقيمة في حجرة وحيدة فوق سطح بيتها بين الدجاج والغسيل. ولا علاقة طيبة بأحد تؤنس وحشتها؛ إذ ضربت حول نفسها سياجا من سوء الظن والتوجس. وتساءل الرجل، وهو يرتدي ملابسه: ترى هل جاء الفرج أخيرا؟!
وقالت تفيدة، وهما يسيران جنبا إلى جنب في شارع شبين الكوم: ستترك ثروة من غير شك! - سيعرف كل شيء عما قليل. - والبيت أيضا، ترى هل يسهل علينا تحصيل الإيجار؟ إن أهل الأحياء البلدية قوم متعبون!
فابتسم عبد العظيم؛ لعلمه بأنهم من صميم هؤلاء القوم المتعبين، وقال: أراك تتحدثين عنها كما لو كانت قد ماتت!
فامتعضت تفيدة وتورد وجهها النحيل الشاحب العاطل من الجمال، وغمغمت فيما يشبه الحياء: الأعمار بيد الله وحده!
ولما أخذا يشقان سبيلهما في الدرب الأحمر، طالعهما الحي القديم بوجه يغشاه البلى والذبول. بدا مكتظا بالناس والحيوان والمركبات. وذكرت تفيدة صباها بقوة مؤثرة، ورجع عبد العظيم إلى ملعب الطفولة، فنطق كل شيء من حيوان وجماد بلغة القلب. وبدا البيت طويلا على غير المألوف في الحي كله، وبرزت المشربيات كالأحلام، وتناثرت أمام المدخل أكوام من الأتربة والحجارة، على حين تمددت بجوار الجدار جثة قط على حال تعافها النفس. ورقيا في السلم، وهو سلم عالي الدرجات، حتى لهث عبد العظيم، وعندما بلغا الدور الثالث، قالت تفيدة: هنا ولدنا، أنت وأنا، وعلى هذه البسطة كانت تغني الفلاحات: «البحر زاد» في موسم الفيضان.
ووجد عبد العظيم ذكرى أخرى في الدرابزين الذي كان يتزحلق عليه، فأوشك أن يحكيها، لكن رغبته في ذلك فترت فجأة، فلم يخرج عن صمته. ووقفا عند عتبة السطح حتى يستردا أنفاسهما المبهورة. يا له من سطح غطي تماما بالأتربة، وروث الدجاج وقطع الأحجار الحمراء المتناثرة، وامتدت في فراغه فوق ارتفاع القامة حبال الغسيل! وفي الناحية المطلة على الطريق قامت الحجرة الوحيدة، متسلخة الطلاء، باهتة الباب والنافذة، لا يسهل بحال الاستدلال على أصل لونهما. ومضيا إلى الباب، فطرقه ثم دفعه ودخل تتبعه أخته. هاله منظر النسوة المتلاصقات من شدة الزحمة، منهن الجالسات على كنبة ومقعدين قديمين، والباقيات افترشن الأرض. أما السرير ذو العمد السوداء والناموسية المربوطة من الوسط كالبالون؛ فقد بدا بالراقدة عليه وحيدا منعزلا رغم الزحام. ولم يظهر من نظيرة إلا ثلثا وجهها الشاحب، على حين أخفى الغطاء جسمها حتى الذقن، والمنديل البني رأسها وجبينها حتى الحاجبين. والتقت الأبصار عند القادمين. حدجتهما باستطلاع واهتمام، وندت على رغم الحرص همسات، وسرعان ما أخلي المقعدان. واتجه عبد العظيم وأخته نحو المقعدين وهو يرفع يده تحية، ويتلقى في نفس الوقت عشرات التحيات. وشعر بشيء من الاستعلاء لا يعد على أي حال شيئا إذا قيس بما شعرت به أخته. كان على علم تام بتأثير بدلته في النسوة، وكذلك معطف أخته الذي دفع آخر قسط من ثمنه منذ أشهر قلائل. ولم يخفف من غلوائهما انتسابهما آخر الأمر إلى هذا الحي. غير أن ذلك كله لم يدم إلا ثوان؛ إذ ما كادا يستقران على المقعدين، حتى تركز منهما البصر في الراقدة فوق الفراش المنعزل. هذه هي العمة نظيرة. طالما عملت لهذا اليوم ألف حساب. وكان كلما خاطبها أحد في شأن من شئون المال، قالت بحدة: سأموت قريبا وترثونني. وثمة انحراف في جانب الفم يثير الجزع، واستطالة في الذقن المدبب، مع هبوط ملحوظ في اتجاه الفم الفارغ. أما العارض الذابل فما أشبهه بعارض أبيهما عند احتضاره. وعند ذاك تردد عن قلبيهما نفس كالرثاء مفعم بالشجن. ومالت تفيدة نحو أقرب امرأة إليها، وسألتها عما أصاب العمة، فأجاب أكثر من صوت في اختلاط وتسابق: «مسكينة كما ترينها!»، «لكن ربنا قادر على كل شيء»، «جئنا فوجدناها كما ترين». وهزت تفيدة رأسها، كأنما ظفرت بالجواب المطلوب. يا لهؤلاء النسوة، ما أكثرهن! كأنهن يجلسن في مسالك التنفس؛ ساكنات البيت أو من الجيران، ولعل فيهن قريبات لهما. في هذا الحي أقارب لهما يسمعان عنهم ولا يعرفانهم ما عدا الحاج مصطفى الذي يزورهما في بعض المواسم، وهو قريب لأمهما لا لأبيهما. متى وكيف يمكن أن تخلو الحجرة من هذه القناطير من اللحم الآدمي ذي الرائحة المقلقة للأعصاب؟ وأجال عبد العظيم عينيه في الحجرة التي لا يذكر متى رآها آخر مرة، ولا كم كان عمره وقتها. الحق أنها حجرة واسعة، فستقية اللون، يتدلى من سقفها مصباح كبير آن له أن ينطفئ، وتطل بنافذة على الطريق وبأخرى على السطح، وقد أغلقتا بإحكام اتقاء للبرد القارص. وغطيت ببساط باهت منجرد، انحسرت أطرافه عن حصيرة مفروشة تحته. وثمة صوان قديم عكست مرآته الوجوه الكالحة. وصندوق مزركش الغطاء استكان تحت السرير، وترابيزة حملت بموقد كحولي وكنجة قهوة. لكن أين ختم العمة؟ .. وأين نقودها؟ .. أين نقودها بصفة خاصة؟ .. وإلا فمن أين له بنفقات الدفن والمأتم؟ .. وتطلع قليلا إلى صورة للبسملة في إطار فضي معلقة بالجدار المواجه للفراش، ثم عاد يتساءل: ترى أين توجد نقودها؟ وشعر بأن الحجرة رغم برودة الشتاء تفور بروائح المطبخ والعرق وصنان الأطفال. وانزعج انزعاجا خاصا لتطلع الأنظار إليه، تكاد تمضغه مضغا، ولم تكن تخلو من إكبار وإعجاب، ولكنه كان يعلم من ناحية أخرى بأنه لا يملك حتى آخر الشهر سوى النقود اللازمة السجائر والمواصلات.
وتساءل: ألم يكشف عليها طبيب؟
وقبل أن يتحرك لسان للإجابة فتح الباب وامتلأ فراغه بشخص جديد. كان ربعة، يرتدي معطفا غليظا فوق جلباب مقلم، ملفوف العنق بكوفية، مغطى الرأس بطربوش طويل. وسرعان ما ارتطمت الأصوات، وهي تحييه قائلة: أهلا بالحاج مصطفى.
رد الباب ودخل دون أن يرد تحية، لكن ما إن وقع بصره على عبد العظيم وتفيدة، حتى تهلل وجهه وأقبل عليهما مصافحا بحرارة، وهو يقول: أهلا وسهلا، قضى ربنا ألا يرى بعضنا البعض إلا كل حين ومين.
ولما فرغ من المجاملات المعهودة تراجع إلى حافة الفراش، وجلس عليها بتؤدة وحرص؛ خشية أن يصيب الراقدة بأي اهتزاز. وآنس من وجه الأخ تطلعا إلى معرفة كل شيء عن العمة نظيرة، فأنشأ يقول: كان الله في عونها، لآخر لحظة حافظت على نشاطها اليومي المعهود، وحتى هذا السلم المرتفع المخيف لم يكن ليحول بينها وبين الخروج كل يوم إلى السوق، وكم رجوتها أن تستعين على وحدتها بخادمة ولكنها ... على أي حال أنت تعرف كل شيء عن هذا الموضوع، واليوم خرجت للتسوق كالعادة، قابلتها عند عم حسنين البقال وتبادلنا الدعابات، ثم عادت تسير على مهل. ولما صعدت إلى الدور الرابع وقفت تحادث ست حميدة (وأشار إلى امرأة مكومة في الركن) ثم مضت تصعد الدرجات الباقية، ولما بلغت باب السطح ند عنها أنين موجع، فهرعت إليها ست حميدة.
وقاطعته ست حميدة قائلة: لم أكن وحدي! كانت معي أم نرجس، وكانت ست خيرية فوق السطح تطعم الدجاج!
ابتسم الحاج مصطفى ابتسامة غامضة، وقال: هرعن إليها، لكنها أبت أن تستسلم، أبت أن يسندها أحد، حاولت بجهد أن تتم رحلتها وحدها، وجعلت تقول «لا شيء .. لا شيء» .. وما لبثت أن سقطت بين أيديهن! حملنها إلى حجرتها وأنمنها على الفراش، ثم أرسلن في استدعائي من القهوة. جئت مسرعا، ولما اطلعت على الحال عدت إلى الخارج، ثم رجعت بصحبة طبيب حينا، رجل طيب عجوز لا كأطباء هذه الأيام، وكشف عليها باهتمام كبير، استعمل السماعة وأجهزة أخرى، ثم مال علي قائلا: «النقطة» .. ووعد بالحضور مرة أخرى، ولم يأخذ نظير هذا كله سوى خمسين قرشا!
جعلت تفيدة تفكر في مقاطعة ست حميدة، وما ذكر الحاج عن أتعاب الطبيب. أما عبد العظيم فاستغرقه التفكير في الحال التي سقطت بها العمة نظيرة. ما أشبهها بموت أبيه، وموت جده من قبل! ولعل حينه إذا حان أن يجيء على نفس الحال. يا لها من ميتة سريعة لا يدري أحد عنها شيئا! وثبت عينيه على الوجه الشاحب ذي الفم المنحرف، وتساءل: ترى هل تتألم الآن؟ هل تود الاستغاثة فلا تستطيع، أو أنها غائبة عن الوجود كله؟ .. وهي امرأة في الثمانين، كذلك مضى جده في نفس السن، أما أبوه فمات في الستين دون زيادة، وعلى ذلك؛ فلا قاعدة هنالك يركن إليها، والأمر لا يعدو أن يكون طيشا وعبثا. وتمتمت تفيدة: يمكن ربنا يأخذ بيدها!
فرفع الحاج مصطفى حاجبيه الكثيفين بشكل غير عادي، وقال: ربنا قادر على كل شيء.
لكن نظرة عينيه أكدت ما ينقض قوله من أساسه. ولاذوا بالصمت مليا. وكاد الصمت يستقر بالحجرة كلها، لولا كلمات ندت عن امرأة أو أخرى بقصد المجاملة والمداهنة، وجميعها توجه نحو الراقدة، مثل: «الله يأخذ بيدها» و«كانت طيبة وأميرة» و«وجودها بيننا خير وبركة». فابتسم باطن عبد العظيم لسابق علمه ما بين عمته وبينهن من مشاحنات ونقار دائم. وكان الحاج مصطفى أعلم بذلك، غير أنه كان أجرأ من قريبه، فتساءل فجأة بصوت مرتفع: اليوم الثالث من الشهر، فهل حصلت ست نظيرة إيجار الشقق؟
وقلب عينيه في الوجوه الواجمة، حتى ارتفع صوت قائلا: أنا أعطيتها الأجرة، والله شهيد!
وإذا بسيل من التوكيدات ينهمر. كل واحدة أكدت أنها دفعت الإيجار، مستشهدة بزميلة أخرى، أو بمناسبة لم يشهدها أحد، فقال عبد العظيم: طبعا معكن الإيصالات!
فقالت امرأة: نحن تتعامل معها بلا عقود ولا إيصالات، ولكن ليس في ذمتنا مليم واحد.
وقالت أخرى: ومعلوم أيضا أنها لم تكن لتسكت عن متأخرة في الدفع!
فقال الحاج مصطفى منذرا: سأدعو على الكاذبة!
فقال أكثر من صوت: ادع، وبيننا وبينك ربنا.
وكان الشك قويا، ولكن لم يكن لدى أحد حيلة، فرفع الحاج مصطفى يديه ناظرا إلى فوق وقال: أنت أعلم بكل شيء، حسبنا الله ونعم الوكيل!
ثم نظر إليهن قائلا: والآن تفضلن مشكورات؛ حتى ندبر أمورنا.
ومضت الجالسات يقمن ويغادرن الحجرة ، واحدة في أثر أخرى، حتى لم يبق إلا امرأتان على الكنبة، واحدة عجوز والأخرى شابة في العشرين، فابتسم الحاج مصطفى، وقال مخاطبا عبد العظيم: أراهن على أنك لا تعرف هاتين السيدتين! على أي حال هما قريبتاك، الست بنت بنت أخت نظيرة، وهذه ابنتها!
تبودلت نظرات باسمة في فتور. وتوترت أعصاب عبد العظيم وتفيدة بقلق وعدم ارتياح. واندفعت تفيدة قائلة: نريد أن نطمئن على أشياء عمتي!
وقال الحاج مصطفى: لا أحد يدري عنها شيئا، ولكن يحسن بنا أن نفتش المكان.
وقام - والأعين تلاحقه - إلى الصوان ففتحه، ولكنه لم يجد به سوى بعض الفساتين البسيطة والثياب الداخلية. وعاد إلى السرير فأخرج الصندوق من تحته وفتحه، فوجد به أواني نحاسية، وموقد غاز، وأطباقا، وعلبة سمن، وزجاجة زيت، وكيس ملح. وسرعان ما أغلقه وأعاده إلى موضعه .. ونظر إلى تفيدة قائلا: يحسن بك يا ست تفيدة أن تفتشي صدرها.
فجفلت تفيدة، وهي تبادل أخاها نظرات الحرج، ولكن الحاج مصطفى قال: يا جماعة إنها مصابة بنقطة، يعني الشلل، ألا تعرفان ما يعنيه هذا، وبخاصة في مثل سنها؟!
فقالت تفيدة بإشفاق: الأعمار بيد الله، وربما أفاقت وعلمت بما فعلنا.
فقال الحاج مصطفى بعفوية عجيبة: أقطع ذراعي إن طلع عليها الصبح!
ثم بلهجة المعتذر: يجب أن نتدبر أمرنا.
وقامت تفيدة في شيء من التردد فمضت إلى الفراش، ثم أدخلت يدا مرتعشة إلى صدر عمتها وأخرجت ما وجدته، أحجبة وعلبة سجائر ولفافة غليظة، ثم أعادت الغطاء كما كان وعادت إلى مقعدها. وتناول الحاج مصطفى اللفافة وراح يفكها تحت الأعين المحملقة. وتمخض البحث عن كيس صغير وورقة مطوية، بسطها الحاج بعناية، وإذا بالعجوز تصيح: دفتر توفير .. دفتر توفير وحياة ربنا في سماه!
فحدجتها تفيدة بغضب، ومضى الحاج مصطفى يفر صفحات الدفتر، حتى قال: مائة وخمسون جنيها في البريد!
فرددت العجوز: مائة وخمسون جنيها! .. ربنا كريم .. ربنا كريم!
فحدجتها الأعين بنظرات ساخطة حتى أطبقت شفتيها، غير أن شعور عبد العظيم بالارتياح كان أضعاف شعوره بالحنق على العجوز. وتحول الحاج مصطفى إلى الكيس الصغير فأفرغ ما فيه على الفراش، فإذا به مبلغ سبعة قروش! تبادلوا نظرات حائرة، وهتفت تفيدة: سبعة قروش! أين إذن إيجار البيت؟!
فقالت العجوز: جئنا متأخرين للأسف!
وقال عبد العظيم: إما أن الإيجار لم يدفع، وإما أنه سرق.
فهز الحاج مصطفى رأسه متأسفا، وهو يقول: آه من النسوان! حسبنا الله، لا حيلة لنا، وما فات فات!
فقالت تفيدة: ومن يدري؟! فلعلها كانت تملك أشياء أخر. - لعلها، كلام لا طائل تحته، حسبكم العمارة ونقود البريد.
فقال عبد العظيم بقلق وبلهجة شفت عن مخاوفه: لكننا قد نحتاج إلى نفقات عاجلة.
فقال الحاج مصطفى بصراحته المعهودة: نعم فللمأتم تكاليفه، لكن ربنا موجود، وأنا تحت أمركم!
فاطمأن عبد العظيم وأعرب عن شكره بابتسامة وغمغمة. وهمت العجوز أن تتكلم لكن الباب فتح ودخل رجل قصير نحيل ذو نظارة سميكة، وسن جاوزت الستين، فقام الحاج مصطفى وهو يقول: أهلا بالدكتور!
واتجه الطبيب إلى الفراش فوضع عليه حقيبته، وراح يفحص الراقدة، أزاح جفنها محدقا إلى عينيها، وجس النبض، ثم أخرج من حقيبته السماعة، وألصقها بالصدر فوق القلب، ثم استمع إلى دقاته، ثم أعادها إلى الحقيبة وأغلقها، وبسط فوقها ورقة، وكتب على عجل بعض الكلمات وهو يقول: هذه الحقن لازمة.
وألقى نظرة على الموجودين قائلا: السلم متعب!
وابتسم ابتسامة لا معنى لها ثم حمل الحقيبة، ومضى والحاج مصطفى في أثره حتى غيبهما الباب. وما لبث الحاج أن رجع وهو يقول بلهجة ذات معنى: قال لي أن نشتري الحقن حقنة فحقنة، لا دفعة واحدة!
ونظر في عيني عبد العظيم، فأدرك هذا أنهم قد لا يحتاجون إلى الحقنة الثانية!
ومد بصره إلى الراقدة كأنما يلقي عليها نظرة الوداع. ومهما يكن من أمر؛ فلا ينبغي لهذه الجلسة أن تطول في هذا الجو البارد. يا لها من حجرة قامت في خلاء يصفعها هواء الشتاء البارد في كل جانب. وها هو الأصيل يغشى كل شيء، وزفيف الريح يشتد في الخارج، والبرودة تسري في الأطراف. وما زال هذا الوجه الشاحب يذكره باحتضار أبيه فيثير أشجانه. وقرب هذه العجوز منه يؤلمه، كأنه حجر مغروس في جنبه. ومضى الوقت في صمت ثقيل حتى فتح الباب، وترامى صوت ينادي على الحاج مصطفى فهتف به هذا: ادخل يا عليش!
فدخل قزم يحمل لفة ضخمة أكبر من حجمه فتناولها الحاج، ثم وضعها على الفراش عند قدمي الراقدة. وذهب القزم ورد الباب وراءه، دون أن ينبس أو يلتفت إلى أحد.
وتلاقت الأبصار عند اللفة فقال الحاج مصطفى بصوت انخفض قليلا عن درجته المألوفة: لا مؤاخذة .. هذا هو الكفن ولوازمه.
وعكست الأعين جفولا، كأنهم ينظرون إلى ثعبان، فهز الحاج رأسه وقال: وحدوا الله، ما نحن إلا أموات وأبناء أموات، وأنا أعلم من أول الأمر أن كل شيء سينتهي في ساعات، وغرضي الكرامة والستر!
لم يعقب أحد بكلمة، فواصل الرجل حديثه بلهجة من يلقي تعليمات نهائية: رتبت كل شيء بروية، والأعمال بالنيات، فإذا قضى الله قضاءه فسأحضر المغسلة، ثم نكفنها وندفنها ولو آخر النهار، أليس إكرام الميت دفنه؟ وأنت يا عبد العظيم أفندي لا تحب وجع الدماغ ولا الكلام الفارغ، بعد ذلك نجيء بمقرئ، فيقرأ سورتين هنا في حجرتها، ثم فيما بعد نتحاسب، والدار أمان .. وهذا أكرم للمرحومة!
وانتبه من توه إلى أنها لم تصر بعد «مرحومة»، فارتبك لحظة واحدة، ثم صحح نفسه قائلا: لا مؤاخذة أعني ست نظيرة، أستغفر الله العظيم!
ازداد عبد العظيم اطمئنانا بهذا الكلام، فهو رجل لا خبرة له تذكر في هذه الشئون فضلا عن كسله المكتسب من الروتين الحكومي الذي غرق فيه زهرة عمره. وتذكر في ارتياح أن بعض النقود المتوفرة في البريد تفي بالنفقات جميعا، حتى مع إدخال المبالغات المرتقبة من ناحية الحاج مصطفى في الحساب! وهو رجل (الحاج) لن يضيره تأجيل الحساب، حتى تتم إجراءات إثبات الوراثة المعقدة. واستقر الصمت مليا، فالتمسوا فيه شيئا من الاستجمام. واتجهت الأنظار صوب الراقدة، كأنما تسألها عن متى يشرعون في العمل، بعد أن تم الاتفاق على كل شيء. واشتد الإحساس بالبرد، فلذلك تقرفصت القريبة العجوز ابتغاء الدفء، والتصقت بها ابنتها. وإذا بالعجوز تخرق الصمت قائلة، كأنما تخاطب ابنتها: والله لك قسمة يا درية في ميراث كبير على آخر الزمن.
واشتعل انتباه عبد العظيم وأخته بعنف. وعكست عيناهما حنقا كالوهج، على حين هز الحاج رأسه فيما يشبه الأسف. وتساءلت تفيدة بحدة: من أين عرفت هذا؟
فقالت العجوز بعناد: هي خالة أمي، وكل شيء في الورق!
ولم تقنع العجوز بالكلام، فقامت إلى النافذة المطلة على الطريق، ففتحتها غير مبالية بالهواء البارد الذي اندفع إلى الداخل كالسياط، ثم نادت بصوت مرتفع: يا شيخ عويس .. يا شيخ عويس ...
وفتحت نافذة في البيت المواجه لهم عن وجه كهل متلفع بعباءة، مغطى الرأس بطاقية صوفية. نظر إليها وهو يتساءل: مالك يا ست نفيسة؟!
فقالت وهي تحبك الملاءة حول جسدها النحيل؛ خوفا من البرد: ربنا يكرمك، لا تؤاخذني، لكني في حاجة إلى رأيك، إذا ماتت واحدة بلا ذرية ألا ترثها بنت بنت أختها؟
فدهش الرجل وقال: وهل هذه المسائل مما يحل من النوافذ؟ تعالي إلى المكتب، أو شرفي البيت.
فقالت بتوسل: وحياتك وحياة أولادك إلا ما أخبرتني.
فتساءل الرجل: هل الست نظيرة لا سمح الله ... ؟!
وأشار بيده إشارة تعرب عن الانتهاء، لكنها قالت: كلا يا سيدنا الشيخ، ولكني أحب أن أعرف رأيك.
فتراجع الرجل إلى الداخل مقطبا، وهو يقول: يا ست نفيسة، لكل شيء وقته.
ونهض الحاج مصطفى فأزاحها عن النافذة، ثم أغلقها وهو يقول: عودي إلى الكنبة ووحدي الله.
وتمتم عبد العظيم وهو يكظم غيظه: البرد سيقتلنا، والمريضة في حالة خطيرة.
وقالت تفيدة بصوت متهدج: لم يعد في الدنيا ذوق!
فرجعت المرأة إلى مجلسها وهي تقول، بجفاء وتحد: حيلك يا ست هانم، إنها لا تعرف لها أهلا غيرنا، أما أنتم فلم تحضروا إلا عند الوفاة!
وأشار الحاج إلى تفيدة متوسلا أن تسكت، وخاطب نفيسة قائلا: يا ست نفيسة ما معنى هذا كله؟! هه؟ إن كان لك حق فما من قوة تمنعه عنك، أليس في البلد محاكم وقوانين؟ وعبد العظيم أفندي رجل موظف محترم، وكذلك الست أخته؛ فلا لزوم للكلام الفارغ.
وهمت العجوز بالكلام، ولكنه نهرها بحزم فأطبقت شفتيها. وسكت كل شيء، فلم يعد يسمع إلا عويل الريح في الخارج، ولغط بعض المارة في الطريق، وأنفاس الحاج مصطفى المحشرجة.
وشعر عبد العظيم بهواء بارد يتسرب إلى قدميه قادما من عقب الباب، فانكمشت أصابعه في الحذاء. وأخذ جو الحجرة بمرور الوقت يشحب، ثم يغمق رويدا مؤذنا بالمغيب. وركبهم اليأس، حتى الحاج مصطفى أشعل المصباح وهو يقول: «ما زال في العمر بقية، وحتى إذا وافى الأجل اليوم؛ فلا بد من الانتظار إلى الغد.» وتساءل عبد العظيم: «هل قضي عليهم بالبقاء في هذه الحجرة الكئيبة، وعلى مقربة من هذه العجوز الوقحة، طيلة ليل الشتاء البارد؟» ولم يعد مصطفى إلى مجلسه، ولكنه زرر معطفه استعدادا للذهاب، ثم قال: لا لزوم لي الآن، أنا ذاهب إلى بيتي فاستدعوني إذا حصل شيء.
ومضى تاركا عبد العظيم لمزيد من الكآبة والضيق. نظر إلى العمة بوجوم، وكانت راقدة في غير ما اكتراث لشيء في الوجود، أي شيء في الوجود. واشتد هبوب الريح، حتى انقلبت زئيرا، وتجسدت الكآبة كالجدران القاتمة. وشعر عبد العظيم بحنان عارم إلى مجلسه في البيت على كثب من الراديو بين زوجه وأولاده، إلى صخب الأولاد وشقاوتهم وتعلقهم العجيب به. وحملت الريح فيما حملت صوتا يغني في الراديو:
يا امه القمر ع الباب
فحاول أن ينسى فيه ألمه. ومر الوقت أثقل من الخوف، وجثم الليل، وأفصحت طقطقة الكنبة والمقعدين عن تململ الجالسين. وما لبث أن مال رأس العجوز إلى مسند الكنبة، وراحت تشخر شخيرا ضاعف من البلوى. وتمتم عبد العظيم: كيف يمكن أن يمضي هذا الليل الطويل؟
فقالت تفيدة بعطف: ارجع إلى البيت.
فقال بلهفة: تعالي معي! - هبها ماتت أثناء غيابنا؛ فماذا يقول الناس؟!
فأبى أن يذهب وحده. وبدا أن المريضة هي الوحيدة التي ترقد في سلام. ومضى الليل يعد ذرات رمال الدنيا. واضطر الأخ وأخته إلى الانتقال إلى الكنبة؛ التماسا لمجلس أطرى وتمهيدا لنعاس متقطع متعب على مرمى أنفاس الموت المترددة. ولم يجد الرجل ما يتسلى به سوى التفكير في الميراث المنتظر، في نصيبه من مال البريد، ومن إيراد البيت الشهري الذي لا يقل عن عشرة جنيهات. ألا يضمن على الأقل مقدار علاوتين شهريتين؟ لعله يتمكن من شراء معطف، فما يجوز أن يلقى الشتاء كل عام بلا معطف في مثل هذه السن، ولعله يستطيع أن يرفه عن أسرته بشيء من الفاكهة الممتازة من حين لآخر، أو بنوع من الطيور ولو مرة في الشهر. لا شك أن الحياة ستكون أجمل مما كانت حتى الآن. وغلبه النوم وهو يناجي أحلامه، واستيقظ هو وأخته في الصباح الباكر بجسدين متوعكين في أكثر من موضع. واقتربت تفيدة من فراش العمة، وانحنت فوقها متفحصة، ثم عادت إلى أخيها وهي تقول: ينبغي أن نذهب إلى البيت، ولو لبضع ساعات.
فقالت ست نفيسة التي ظناها نائمة: تذهبان وترجعان بالسلامة!
فتلقت مجاملة العجوز كأنها بودرة عفريت رشت في قفاها، وذهبا معا واجمين. وفي الطريق قال عبد العظيم لأخته: لي صديق محام سيحل لي ألغاز الميراث في أقرب وقت.
وعادا قبيل الظهر بقليل. وأرهفا السمع وهما يقتربان من البيت، ولكنهما لم يسمعا شيئا مما كانا يتوقعان. كل شيء هادئ في البيت. والدجاج يتمشى فوق السطح في غبطة ظاهرة ويميل برأسه إلى الوراء؛ لينظر إلى القادمين. ووجدا في الحجرة العجوز وابنتها والحاج مصطفى والفراش المنعزل الصامت، حاملا العمة المصابة وكفنها المكوم عند القدمين. سلما ثم اتخذا مجلسيهما على المقعدين كالأمس، وهما يكابدان إحساسا بالخيبة، وخوفا من أن يتكرر عذاب الليلة الماضية. وخيل إليهما أن الحاج مصطفى هم بالكلام لكنه عدل عنه، ماذا كان يريد أن يقول؟ لعله يشعر بما يشعر به أي سمسار انكشف خداعه! والحق أن الحياة لا يمكن أن تحتمل على هذا النحو الأليم من الانتظار فوق مقعد خشبي على كثب من كفن. وكم من مشلول عاش دهرا طويلا! وربما وجبت عليهم خدمة المريض زمنا لا يدري مداه أحد. وقال الحاج مصطفى بلهجة ذات معنى: نحن نشتري الحقن حقنة بعد حقنة!
ألا خيبة الله! أنت وطبيبك نفسه! ولم يعلق عبد العظيم لا بكلمة ولا بنظرة. وراح الحاج يقص القصص عن الشلل والمشلولين. جدكما مثلا مات بمجرد إصابته. أبوكما لم يلبث إلا ساعات. وصاحب العمارة في أول الطريق سقط في القهوة، ولفظ أنفاسه قبل أن يجد من ينقله إلى البيت. وعشرات غيرهم، أي نعم عشرات. وما لبث أن قام قائلا: استدعوني إذا جد جديد.
وغادر الحجرة. وعقب ذهابه مباشرة أقبلت مجموعة من الجارات، فاستحسن عبد العظيم أن يذهب أيضا. مضى إلى قهوة بالأزهر، ثم تناول غداءه عند العاجاتي، وعاد إلى الحجرة فوجد الحال كما تركه. ولبث دقائق ثم مضى مرة أخرى إلى القهوة، فبقي بها حتى أتى المساء فعاد إلى الحجرة بأمل جديد، ولكنه وجد الحال كما تركه. وقالت له تفيدة بحزم: لن تستطيع المبيت هنا ليلة أخرى، ارجع إلى البيت وسأبقى أنا.
وغمغم بشيء لم يتبينه أحد ثم ذهب. رجع إلى أسرته، واطمأن في مجلسه أمام الراديو بين الأولاد، وتأرجح قلبه بين الطرب وبين عواطف الأبوة الأصيلة العميقة التي يلهمها كل ولد بطريقته الخاصة. وعمقت تجربة الليلة الماضية من مسرته بالمجلس، كأنما هو عائد إليه من مرض أو سجن. وسألته زوجته: أليس من الواجب أن أذهب معك غدا؟
فقال بجد: لا داعي لذهابك مطلقا!
ومضى مع الصباح إلى الدرب الأحمر. وكان كل شيء كما توقع، يجري على مألوفه. وضحك الحاج مصطفى ضحكة فاترة، وقال وهو يشير إلى العمة: كعادتها دائما، ربنا يلطف بها، كانت رغم كل شيء ظريفة!
ثم قص عليهم كيف أنها رغبت أخيرا في إجراء بعض الإصلاحات في دورة المياه، فكلفته بالقيام اللازم، وكيف واظبت على مراجعة حسابه قبل الإذن بالشروع في العمل الذي لم يتم، وكيف لم تخف سوء ظنها بكل رقم، ثم كيف قالت له بكل بساطة: «يا مصطفى، أنت كلك ضلال كالمرحومة أمك.» وضحك الرجل ضحكة عالية، لكنه اضطر إلى قطعها على صوت تفيدة، وهي تهتف: انظروا!
اتجهت الأبصار نحو العمة فرأوا الغطاء وكأنه يتحرك، يقب قليلا فوق يدها اليسرى. اقترب الحاج مصطفى من الفراش وأزاح الغطاء قليلا، فبدت يسراها وهي تتحرك. ارتفعت قليلا، وانبسطت راحتها ثم انقبضت، ثم استكنت فوق الصدر. حملق الرجل في الراقدة بذهول، ثم أعاد الغطاء إلى سابق وضعه وعاد إلى مجلسه. وتوتر الصمت كالشلل. ترى أي قوة خفية تعبث بهم وتعذبهم؟! ألم تكن الحياة محتملة رغم كافة متاعبها؟ .. ماذا رمى بهما إلى هذه التجربة؟ وقالت تفيدة بحدة: ضعوا الكفن تحت السرير!
فرفع الحاج حاجبيه الكثيفين في حيرة، ولم ينبس ولم يتحرك، فعادت تفيدة تقول: رأسي سيتكسر من قلة النوم!
فنظر عبد العظيم نحو الحاج وقال: لنذهب الآن، ثم نعود عصرا.
وشجعهما الحاج بهزة من رأسه، فغادرا الحجرة على الفور. وقالت تفيدة وهما يقطعان الغورية: هذا حرام من أوله إلى آخره، والله يعاقبنا.
فقال عبد العظيم بعصبية: ماذا فعلنا؟ .. البغل وحده الذي أكد أول يوم أنها ستدفن قبل هبوط الليل. - الحق أني كرهت كل شيء، كرهت نفسي يا أخي! - لا اعتراض لنا على مشيئة الله.
ثم بلهجة متطورة إلى الهدوء، وكانا يقتربان من شارع الأزهر: اذهبي إلى البيت، وسأذهب إلى المصلحة.
وقفا في المحطة ينتظران الترام. وحانت من عبد العظيم نظرة نحو مدخل الغورية، فرأى الحاج مصطفى يهرول نحوهما. وقف أمامهما وهو يلهث، ثم قال: الحمد لله على أن أدركتك قبل أن تركب.
ثم مواصلا كلامه بعد لحظات استراحة: البقية في حياتك!
ألجمت الدهشة لسانيهما، وتدفق إلى نفسهما خليط من المشاعر، الخوف والحزن والارتياح والخجل. ورجعوا جميعا وتفيدة تتساءل: ظننت أنها .. رباه! .. كيف حدث هذا؟
فقال الحاج مصطفى، وكان ما يزال يلهث: كما يحدث عادة، لا غريب في الأمر، سعلت قليلا، وبدا أنها تحاول أن تتكلم، ثم شهقت شهقة خفيفة، وخرج السر الإلهي.
وترامى إليهم من ناحية البيت صوات جماعي! .. وقع من نفوسهم موقعا غريبا، ولكنه أحدث تأثيرا غير منتظر، فجاش صدر عبد العظيم بالانفعال، وأجهشت تفيدة في البكاء. وعندما اقتربت من السطح ولولت صائحة: «يا عيني يا عمتي .. يا عيني يا عمتي!»
وجرى كل شيء كما رتب الحاج مصطفى من قبل، فخرجت الجنازة قبيل الظهر. وسار فيها جمع غفير من أهل الحي سواء للمجاملة أم ابتغاء الثواب. وتراءى الشيخ عويس المحامي، وهو يسير بين المشيعين، فشق الحاج مصطفى سبيله إليه ولزمه، حتى صلي على الفقيدة في الجامع. ولما استأنفت الجنازة سيرها إلى باب النصر بالبقية القليلة من المشيعين عاد الحاج إلى جانب عبد العظيم شلبي ولكزه بكوعه قائلا في همس: لن يشارككما أحد.
فسأله عبد العظيم بلهفة: أقال ذلك؟ - تقريبا. المسألة تحتاج إلى مراجعة طبعا، ولكن اطمئن!
فدارى عبد العظيم فرحته بقناع من الجد، وتمتم: نحن راضون بما قسم الله به.
وانتهت الجنازة إلى المدفن القديم، فأنزل النعش على كثب من القبر، وجلس المشيعون في الحوش غير المسقوف على كراسي من الخيزران. ومضى عبد العظيم إلى القبر المفتوح ووقف عند رأسه مذعنا لرغبة غامضة أقوى من الخوف الذي لم يصده. كان القبر ذا منامتين، واحدة للرجال والأخرى للنساء، فأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال. رآهم صفا متراميا إلى الداخل، على رأسهم أبوه الذي استدل عليه بموضعه، وبلون كفنه الكموني المقلم، وتلاه أخوه، ثم جده. وثقل قلبه جدا. وضغط الانقباض على أضلعه ضغطا غير محتمل. لكن عينيه تحجرتا، فلم تذرفا دمعة واحدة. وامتلأت خياشيمه برائحة ترابية نافذة، كأنما تصدر عن الفناء نفسه. ومرت لحظة مات فيها كل شيء، فلم يعد لأمر قيمة ولا معنى. وشعر بيد توضع على كتفه، فالتفت فرأى الحاج وهو يشير إليه أن يتخلى عن مكانه للدافنين، وسرعان ما تراجع. وبدأ العمل فحمل الجثمان ليودع مقره الأخير. وانبعثت آيات من صوت كئيب، كأنما تنبعث من خزانة للأحزان. وبدأ التلقين في رتابة مخوفة مضجرة، ألقته حناجر أشباح شائهة، فحلت به جملة ألغاز الأبد. وقال عبد العظيم لنفسه: يا لها من أسئلة، ولكن كيف يتاح الجواب لمنفرد بظلمة القبر! .. وتتابعت الأصوات في رتابتها تنفث كآبة كالغبار، وفي الحوش تردد صوت السقاء اليائس، وهو يجول بين الجالسين بإبريقه دون أمل . وطار فكر عبد العظيم فجأة إلى ابنه البكري، فعاهد الله على أن يجري له جراحة لاستئصال اللوزتين كما نصح بذلك طبيب الوحدة المدرسية. فهذا خير على أي حال من أن يتهدده روماتيزم القلب فيما بعد. وعاهد ربه أيضا على الإقلاع ما أمكن عن المواد الدهنية كما أشار عليه الطبيب منذ عام بغض النظر عن الثروة المنتظرة. وتلاحقت الأصوات في سرعة موحية بنهاية الحفل، فحن قلبه إلى البيت والأولاد بقوة وجد فيها العزاء عما ساوره من قلق. وتابع الحاج مصطفى وهو يساوم الترابي، وينفح السقاء بشيء من الجود، وكذلك المقرئين، وارتفع صوته الجهير وهو يزجر الطامعين بغلظة. وآمن بأن ذلك الرجل سيخرج من المولد بغنيمة طيبة، ولكنه كان مقتنعا كذلك بأنه لولا خدماته لغرق في الارتباك والخسران حتى أذنيه. ومضى المشيعون ينصرفون حتى لم يبق إلا الحاج مصطفى وعبد العظيم. وكانت الشمس تسطع في سماء خلت تقريبا من السحب، فبثت في الجو دفئا مليحا، فدعا الحاج مصطفى صاحبه إلى الجلوس على دكة عند طرف المدفن؛ ليستريحا قليلا. وتردد عبد العظيم عن قبول الدعوة مقلبا عينيه في الخلاء المكتظ بالقبور إلى ما لا نهاية أمام الدكة وفيما حولها، ولكن الحاج تعلق بذراعه وقال متوسلا: لم أجلس منذ الصباح ولا ثانية، دقائق معدودات ثم نذهب.
وجلس الحاج فجلس عبد العظيم وهو كاره. بدا كأنه يعجب من كثرة القبور حوله، فأراد الآخر أن ينتزعه من كآبة المنظر فقال: غلبني التعب المتراكم، وأمامنا مشوار ليس بالقصير. وأنت رجل ظريف تستحب معاشرته، بالله خبرني ماذا نويت أن تفعل؟
فتساءل عبد العظيم بدوره: فيم؟
فلوح الآخر كأنما يشير إلى القبور وقال: في كل شيء، أعني الأمور الجديدة التي تتطلب أسرع الحلول، طبعا عليك أن تشرع فورا في إجراءات إثبات الوراثة، وقبل ذلك علينا أن نستشير المحامي بصفة رسمية، بعد ذلك تصبح أنت والست أختك المالكين - وحدكما إن شاء الله - للبيت ونقود البريد.
فهز عبد العظيم رأسه بالإيجاب، ولكنه حسب للمجهود ألف حساب. وقرب الآخر فمه من أذنه كأنما يخشى أن يسمعه من في القبور وقال: الحق أن المتاعب ستبدأ بعد ذلك. - المتاعب قبل ذلك. - أتظن هذا؟! ماذا تعرف عن مهمة أصحاب البيوت؟
فقال عبد العظيم بقلق: لا أدري، هل ثمة شيء خلاف تحصيل الإيجار في أول الشهر؟ - وكيف يحصل الإيجار في أول الشهر؟
فابتسم عبد العظيم في حيرة دون أن ينبس فقال الحاج: واحد يدفع وعشرة يتهربون، هذا يجب أن تمهله أسبوعا، وذاك وقعت له مصيبة ويطلب التأجيل إلى الشهر القادم، وثالث لن تجده في مسكنه أبدا، ورابع وخامس، أنت لا تعرف أهل حينا ولا سكان هذا البيت بصفة خاصة، الله يرحم عمتك، كانت مجاهدة عظيمة، ولكن أنت، الموظف المحترم، المؤدب المهذب، ماذا تستطيع أن تفعل؟
فقال عبد العظيم، وهو يشعر بأن جدارا يرتفع أمامه ليخفي عن عينيه أحلامه العسلية: في البلد قانون! - إذن فلتلزم نقطة البوليس، ولتسكن في مكتب محام. - الدنيا ما تزال بخير.
فقال الآخر بتوكيد: البيت كالعروس الجديدة، مرة ترجع إليك؛ لأن زوجها ضربها، ومرة لأن حماتها شتمتها، ومرة لأن المصروف غير كاف، صدقني أن هذا هو حال البيت، الحنفيات خربت، دورة المياه انسدت، السلم تشقق، وهذا هو وجع الدماغ الأصلي.
تجهم وجه عبد العظيم وشعر بضيق شديد، ورمق صاحبه بنظرة استياء، ثم سأله: ماذا تقصد؟
فقال الحاج بصراحة مذهلة: بعه!
فقطب عبد العظيم مستنكرا، ولكن الآخر قال: أنا رجل صريح، لا أخفي عنك أن البيع مفيد لي، كل بيع أو شراء في حينا مفيد لي، ولكن هذه الصفقة مفيدة أكثر لك أنت، هذا هو المهم، أنا لا أكذب عليك فأقول إني أراعي مصلحتك، الحق أني أجري وراء مصلحتي، ولكنها في هذه الحال مصلحتك أيضا، ستأخذ ألفا أو ألفا وخمسمائة، إن شاء الله ألفين، وستستغلها استغلالا أحسن، وبعيدا عن وجع الدماغ.
فكر عبد العظيم في الأمر باهتمام جدي، لكنه تمتم متظاهرا بالجزع: يا لها من خسارة! - أبدا وحياتك! سيكون المبلغ كله بين يديك، بما فيه نصيب أختك، لن تجد معارضة من ناحيتها أبدا، فيمكن أن تستغله باسمك وباسمها، وهي وحيدة، لا أحد لها في الدنيا سواك، وسيئول كل المال إليك وإلى أولادك من بعدك!
فقال عبد العظيم بحدة: سيكون حقها كله تحت تصرفها. - طبعا .. طبعا، أنت لا تفهمني يا سي عبد العظيم!
وأخفى عبد العظيم عينيه عن صاحبه وعن القبور بالنظر إلى الأرض. مبلغ كبير بلا شك. وطالما أكرم تفيدة؛ فهي لن تعارضه ولن تحاسبه. وأولاده ما هم إلا أولادها. وثمة وجوه كثيرة للاستغلال بلا شك. الحق أن الفكرة طيبة. وغمغم في حذر: سأفكر في الأمر.
فقال الحاج مصطفى بارتياح: فكر على مهلك، وإذا قررت البيع فأحضر بنفسك أي سمسار كما تشاء، حتى تقبل عن رضى الثمن المعروض، ولك علي بعد ذلك أن أجد لها شاريا بنفس الثمن، والأقربون أولى بالمعروف!
الفكرة وجيهة، وسوف يشاور أصدقاءه. والبيع على أي حال خير من مناكفة المستأجرين، ورعاية بيت قديم من عهد نوح. وقال: اتفقنا يا حاج من ناحية المبدأ.
فلوح الحاج مصطفى بذراعه، كأنما يقول «اتفقنا»، فانطلقت ذراعه في الهواء كشاهد من آلاف الشواهد القائمة حوله فوق القبور. ورأى عبد العظيم ذلك المنظر، فانقبض صدره .. وقام وهو يقول برجاء: آن لنا أن نذهب.
الجامع في الدرب
حان موعد درس العصر، ولكن لم يوجد بالجامع إلا مستمع واحد. ولم يكن هذا بالأمر الجديد على الشيخ عبد ربه الإمام، فمنذ التحاقه بخدمة الجامع، وهو لا يجد مستمعا لدرسه إلا عم حسنين بياع عصير القصب؛ ولذلك دأب المؤذن والخادم على الانضمام إلى الرجل؛ احتراما للدرس ومجاملة للإمام. وحق للشيخ عبد ربه أن يستاء لذلك، لكنه كان اعتاده مع الزمن، ولعله كان يتوقع ما هو أفظع يوم تقرر نقله إلى هذا الجامع الرابض على باب حي الفساد. يومذاك غضب، وسعى إلى إلغاء النقل أو تعديله، لكنه اضطر إلى تنفيذه على رغمه، ولاقى بسبب ذلك ما لاقى من تهكم الخصوم ومزاح الأصدقاء. أين يمكن أن يجد مستمعا لدرسه؟! الجامع يقوم عند ملتقى دربين، درب الفساد الشهير، ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبرمجية وموزعي المخدرات. ويبدو أنه لا يوجد رجل صالح أو حتى رجل عادي في الحي كله إلا عم حسنين بياع العصير. ولبث دهرا يفزع كلما امتد بصره إلى داخل هذا الدرب أو ذاك، وكأنما كان يخشى إذا تنفس أن تتسرب إلى صدره جراثيم الدعارة والجريمة. على ذلك كله واظب على إلقاء درسه مواظبة عم حسنين على الحضور، حتى قال للرجل يوما بلهجة التشجيع: بهذا الاجتهاد ستصير عما قريب إماما يرجع إليه!
فابتسم العجوز في حياء وقال: علم الله لا حدود له!
وكان درس اليوم عن نقاء السريرة بصفته عماد الإخلاص وأس المعاملة الشريفة بين المرء ونفسه وبينه وبين الناس إلى أنه خير ما يستقبل به الإنسان يومه. وأصغى عم حسنين بانتباه كعادته، وكان قليل السؤال إلا أن يكون ذلك عن معنى آية أو استيضاح لشأن من شئون الفرائض. وفي ذلك الوقت من اليوم (العصر) يستهل الدرب حياته. كان الدرب يرى بكامله من نافذة الجامع القبلية، ضيقا متعرجا في بعض أجزائه طويلا، تقوم على جانبيه أبواب البيوت البالية والمقاهي، لمنظره وقع غريب مثير للغرائز. في العصر تدب في الدرب حركة استعداد كأنه يتمطى مستيقظا من سبات، الأرض ترش بالجرادل، الأبواب تفتح وتطرق طرقات غريبة. المقاعد تنتظم في القهوات. نسوة في النوافذ يتزين ويتبادلن الأحاديث. ضحكات متهتكة تلعلع في الجو، البخور يحترق في الدهاليز. ولم يخل الأمر من امرأة تبكي فتحثها المعلمة على التعزي؛ كيلا يضيع الرزق كما ضاع الفقيد. وأخرى تضحك ضحكة هستيرية؛ لأنها لم تنس بعد مصرع زميلتها وهي قاعدة إلى جانبها. وقال صوت غليظ مستنكرا: حتى الخواجات! حتى الخواجات يا هوه! خواجا يضحك على فردوس! يبتز منها مائة جنيه ويهجرها؟!
وثمة أصوات تتمرن على أداء أغنيات مبتذلة فاحشة. وفي نهاية الدرب بدأت معركة بالكلام وانتهت بالكراسي. ثم خرجت لبلبة؛ لتجلس أمام باب أول بيت، وأشعل أول فانوس، وشعر كل بأن الدرب عما قليل سيستقبل الحياة.
وذات يوم دعي الشيخ عبد ربه بإشارة تليفونية إلى مقابلة المراقب العام للشئون الدينية . وقيل له إنها دعوى عامة للأئمة. ولم يكن ذلك بالأمر غير المألوف وخاصة للظروف التي سبقت الدعوة. ومع ذلك تساءل الرجل عما وراء الدعوة بشيء من القلق. كيف لا والمراقب شخصية خطيرة، تستمد خطورتها من قرابة لموظف كبير ملعون الاسم على كل لسان؟ موظف يجيء بالوزراء ويذهب بهم، ويعبث بكافة المقدسات الشعبية. سيكونون بين يديه خير ممثلين للضياع، وستذروهم رياح الغضب لأقل هفوة. وبسمل الشيخ، وتأهب للاجتماع بخير ما لديه، فارتدى جبة سوداء وقفطانا شبه جديد، وقلوظ العمامة، ثم ذهب متوكلا على الله. وجد الطرقة أمام مكتب المراقب شديدة الزحام، كأنها على حد تعبيره يوم الحشر. وجعل الأئمة يتبادلون الخواطر، ويتساءلون عما وراء الاجتماع من أمور. ففتح الباب الكبير، وأذن لهم بالدخول فدخلوا تباعا إلى الحجرة الواسعة حتى اكتظت بهم. واستقبلهم المراقب بوجه وقور يشع رهبة. استمع كالكاره إلى مقطوعات المديح التي انهالت عليه وهو يداري ابتسامة غامضة. ثم ساد الصمت واشتد التطلع على حين أخذ هو يقلب عينيه في الوجوه، وحياهم تحية مقتضبة. وأعلن ثقته في أنهم سيكونون عند حسن الظن بهم. وأشار إلى الصورة المعلقة فوق رأسه وقال: واجبنا نحوه ونحو أسرته العلية هو ما دعا إلى هذا الاجتماع.
انقبضت صدور كثيرة دون أن يزايل البشر وجوه أصحابها. وقال المراقب: إن العلاقة الوطيدة التي تربطكم به فوق الكلام، إنها مودة تاريخية متبادلة.
أشرقت الوجوه بالتأييد؛ لتداري توعك القلوب، وواصل الرجل الحديث قائلا: وحيال الأزمة التي تجتاح البلاد يطالبكم الإخلاص بالعمل.
اشتد اضطراب القلوب في مسرحها الخفي: بصروا الشعب بالحقائق! اهتكوا أستار الدجالين ومثيري الشغب، كي يستقر الأمر لصاحب الأمر.
وصال المراقب وجال مستنفدا هذه المعاني، ثم تساءل وهو يتفحص الوجوه إن كان ثمة ملاحظات يراد أن تقال! غشي المكان الصمت حتى انبرى إمام جريء، فأكد أن المراقب أفصح عن مكنون القلوب، وأنه لولا الخوف من خرق التعليمات لسارعوا من أنفسهم إلى ما دعاهم إليه من واجب! وانجاب القلق عن الشيخ عبد ربه مذ بدأ المراقب حديثه. أدرك لتوه أنهم لم يدعوا لأي نوع من المحاسبة أو التحقيق، بل أن السلطة تسعى إليهم هذه المرة باسطة يدها. ومن يدري؟ فلعله يعقب ذلك إجراء جدي لتحسين حالهم فيما يتعلق بالمرتبات والمعاشات، غير أنه سرعان ما ارتد إلى القلق كما ترتد الموجة المنبسطة على الساحل الرملي الصافي إلى الزبد. أدرك بوضوح ما يراد بهم، وما سوف يجد نفسه مضطرا إلى قوله في خطبة الجمعة مما يأباه ضميره ويمقته الناس. ولم يشك في أن الكثيرين يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته، ولكن السبيل فيما يبدو مسدود في وجوه الجميع. وعاد إلى الجامع وهو يعمل فكره في همومه الجديدة.
وكان شلضم البرمجي المعروف بالحي مجتمعا بأعوانه في خمارة «أهلا وسهلا» على مبعدة أمتار من الجامع. بدا غاضبا كالنار، وكلما شرب قدحا من النبيذ الأسود ازدادت النار اشتعالا. وقال بصوت كالخوار: البنت نبوية المجنونة تحب الولد الرقيع حسان، لا شك عندي في ذلك.
فقال له صاحب يبغي تهدئته: لعله زبون، مجرد زبون لا أكثر ولا أقل.
فدق شلضم الترابيزة بقبضة من حديد تناثر لها الترمس والفول السوداني، وقال بوحشية: لا، إنه يأخذ ولا يعطي، أعرف ذلك كما أعرف أن طعنة خنجري قاتلة، وهو لا يدفع مليما واحدا، بينما يتلقى الهدايا أشكالا وأنواعا!
فأعلنت الوجوه التقزز والازدراء، وأفصحت الأعين المخمورة عن التأهب والامتثال فقال: الرقيع يجيء عادة حينما ترقص الأفعى، انتظروا مجيئه، ثم اشتبكوا في معركة، وعلي الباقي.
وجرعوا الأقداح وأعينهم تعكس شر النوايا.
وعقب صلاة العشاء زار الشيخ عبد ربه إمامان من زملاء الدراسة، يدعى أحدهما خالد والآخر مبارك. جلسا إلى جانبه متجهمين، وأخبراه بأن بعض الأئمة قد فصلوا من وظائفهم لامتناعهم عن الاشتراك في الحملة المدبرة. وقال خالد متذمرا: لم تخلق دور العبادة للمهاترات السياسية وتأييد الطغاة!
فشعر عبد ربه بأن حديث صاحبه ينكأ جرحه، وتساءل: أتريد أن تتضور جوعا؟
فساد صمت ثقيل. وأبى الشيخ أن يعلن هزيمته، فتظاهر بأنه سيعمل عن اقتناع؛ ليحافظ على كرامته أمامهما، فقال: ما يظنه البعض مهاترات قد يكون هو الحق بعينه ...
ودهش خالد لانقلاب الشيخ فزهد في المناقشة، أما مبارك فقال باندفاع مأثور عنه: سنقتل مبدأ إسلاميا، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فغضب عبد ربه عليه كما يغضب ضميره الذي يعذبه، وقال: بل سنحيي مبدأ إسلاميا هو الدعوة إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.
فتساءل مبارك في استنكار شديد: أهؤلاء من تعدهم أولي الأمر؟!
فتحداه عبد ربه متسائلا: خبرني هل تمتنع عن إلقاء الخطبة؟
قام مبارك متسخطا ثم غادر المكان، وما لبث أن غادره خالد. ولعنهما الشيخ كما يلعن نفسه الثائرة.
وقبيل منتصف الليل امتلأ حوش البيت السابع إلى اليمين بالسكارى. جلسوا على مقاعد خشبية متحلقين دائرة من الأرض الرملية، سلط عليها ضوء كلوب، وانسابت في جنباتها نبوية وهي ترقص في قميص نوم وردي، وتلعب في يمناها نبوتا مكتسيا بخيط حلزوني مرصع بالورد. وصفقت الأكف على الواحدة. وتصاعدت من الأفواه المخمورة تأوهات بهيمية. واندس البرمجية في الأركان يتربصون، على حين لبد شلضم في بئر السلم مركز العينين على مدخل البيت .. وإذا بحسان يدخل مصفف الشعر متألق الثغر، فالتهمته نظرات شلضم النارية. وقف حسان ينظر إلى نبوية، حتى انتبهت إليه فحيته بابتسامة عريضة، وحركة لعوب من بطنها الراقص وغمزة عين.
عند ذاك تسلطن حسان، فمضى إلى مقعد خال وجلس. وغلى الدم في عروق شلضم حتى تقلصت أطرافه، ثم أطلق صفيرا خفيفا. وفي الحال اشتبك اثنان من أعوانه في معركة مفتعلة. وتداخل الآخرون فاشتدت المعركة وترامت، حتى قام السكارى مذهولين، وأخذوا يتدافعون نحو الباب. وطار مقعد نحو الفانوس فهشمه، فانقض الظلام على المكان كالكابوس، واختلط الصراخ بوقع الأقدام، وارتفع الصوات. وفي غمار الزوبعة الدائرة في الظلمة شق الضجيج صراخ امرأة، وما لبث أن أعقبتها على الأثر تأوهات رجل من الأعماق، وسرعان ما خلا الحوش الراكد تحت مثار الغبار إلا من جثتين مطروحتين في الظلمة الصامتة.
وكان اليوم التالي هو الجمعة. ولما حان وقت الصلاة ازدحم الجامع بالمصلين على غير المألوف كل يوم؛ إذ إن صلاة الجمعة تجذب إليه أناسا من الأطراف البعيدة كالخازندار والعتبة. وتلي القرآن ثم وقف الشيخ عبد ربه لإلقاء الخطبة. وبدا أن المصلين فوجئوا بالخطبة السياسية مفاجأة لم تخطر على بال. تلقت آذانهم متململة الجمل المسجوعة عن الطاعة وواجب الولاء بارتياب وضيق. وما إن حملت الخطبة على الذين يغررون بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم الشخصية، حتى سرت في المسجد همهمة، وأصوات احتجاج وسخط، واعترض البعض بأصوات مرتفعة، وسب آخرون الإمام! عند ذاك انقض المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين، وساقوهم إلى الخارج وسط ضجة هائلة من الاحتجاجات والغضب.
وغادر المسجد كثيرون. ولكن الإمام دعا الباقين إلى الصلاة، وكانت صلاة حزينة تعلوها الكآبة.
في أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثاني على اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونا جديدا. جلست سمارة على حافة السرير نصف عارية، وتناولت خيارة من قدح مملوء إلى نصفه بالماء وراحت تأكلها. وعلى كرسي أمام الفراش جلس الزبون خالعا جاكتته، وهو يجرع الكونياك من الزجاجة. جالت عيناه في الحجرة العارية بنظرة غائبة حتى استقرت على سمارة، فأدنى الزجاجة من فيها فتناولت شربة ثم أعادها. وقرعت التلاوة الآتية من الجامع أذنيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد ترى، ونظر إلى الأرض. وتمتم في امتعاض: لماذا يبنون جامعا في هذا المكان؟ .. هل ضاقت بهم الدنيا!
فقالت سمارة دون أن تتوقف عن قضم الخيارة: هذا المكان من الدنيا مثل بقية الأماكن.
فجرع مقدار كأسين، وأحد بصره وهو يتفحص وجهها، وقال: ألا تخافين الله؟
فقالت بشيء من الضجر: ربنا يتوب علينا.
فضحك ضحكة مسترخية، وتناول خيارة فدسها في فيه. وفي تلك اللحظة كان عبد ربه يلقي خطبته، فمضى يتابعه برأس متأرجح، ثم ابتسم ساخرا وهو يقول: المنافق! .. اسمعي ما يقول المنافق!
وجالت عيناه في الحجرة، حتى استقرتا على صورة لسعد زغلول قد بهتت من القدم، فتساءل وهو يشير إليها: هل تعرفين هذا؟ - ومن لا يعرفه؟!
فأفرغ بقية الزجاجة في جوفه، وقال بلسان ثقيل: سمارة وطنية، وشيخ منافق!
فقالت متنهدة: يا بخته! بكلمتين يربح الذهب، ونحن لا نستحق قرشا إلا بعرق جسمنا كله!
فقال ممعنا في السخرية: ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك في شيء، ولكن من يجد الشجاعة ليقول ذلك؟ - وقاتل نبوية معروف للجميع، ولكن من يجد الشجاعة ليشهد بذلك؟
فهز رأسه أسفا وقال: نبوية! .. المسكينة! .. من قاتلها؟ - شلضم الله يجحمه! - يا ساتر يا رب، الشاهد عليه شهيد، من حسن الحظ أننا لسنا المذنبين وحدنا في هذا البلد.
فقالت بضجر حاد: لكنك تضيع الوقت في الكلام!
وصمم الشيخ عبد ربه على استغلال ما وقع له في الجامع لصالحه، فحرر شكوى إلى الوزارة ضمنها ما وجه من اعتداء عليه بسبب خطبته «الوطنية»، وسعى إلى نشر الحادث في بعض الصحف بصورة مبالغ فيها، وبخاصة تدخل رجال البوليس للدفاع عنه، والقبض على المعتدين. وبات عظيم الأمل في أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام. غير أنه عندما حان وقت درس العصر لم يجد مستمعا على الإطلاق. ورمى ببصره من الباب إلى دكان العصير، فرأى الرجل منهمكا في عمله، فظن أنه نسي الدرس، فاقترب من الباب، ونادى بصوت باسم: الدرس يا عم حسنين!
والتفت الرجل على الصوت بلا إرادة، لكنه سرعان ما أبعد رأسه في تصميم، وبحركة نبذ حاسمة. وخجل عبد ربه، وندم على ما بدر منه من نداء، وتراجع وهو يلعنه ألف لعنة.
وحين الفجر صعد المؤذن إلى أعلى المئذنة في ليل ساج رطيب، وبدر ساطع، وسكون مؤثر. وأذن هاتفا «الله أكبر». وفي لحظات الاستعداد لمواصلة الأذان انطلقت صفارة الإنذار في عوائها المتقطع الرهيب، فدق قلبه دقة عنيفة لوقع المفاجأة. واستعاذ بالله وهو يتمالك أعصابه، واستعد من جديد لمواصلة الأذان حالما تتوقف الصفارة عن العواء؛ إذ إن الإنذار بغارة بات عادة ليلية تمر بسلام مذ أعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء. وهتف من الأعماق «لا إله إلا الله»، وغناها بصوت لا بأس به. وإذا بانفجار يدوي مرعدا ارتجت له الأرض فغاص صوته في أعماقه، وتجمد في موقفه وأطرافه ترتعش، وعيناه تحملقان في الأفق البعيد حيث لاح لهيب أحمر. وتراجع إلى الباب مقتلعا قدميه من الأرض، ومضى يهبط السلم بركبتين مخلخلتين. وبلغ أرض الجامع في ظلام دامس، فاتجه نحو الأمام والخادم مستدلا عليهما بتهامسهما، ثم قال بصوت متهدج: غارة جدية يا جماعة .. كيف العمل؟
فقال الإمام بنبرة مبحوحة: المخبأ بعيد، ولعله اكتظ بكل من هب ودب، والجامع متين البنيان وهو خير ملجأ.
وجلسوا في ركن، وسرعان ما انطلقت أفواههم بالتلاوة. وترامت من الخارج أصوات شتى .. وقع أقدام مسرعة، نداءات، تعليقات مضطربة، صرير أبواب وهي تفتح أو تغلق. ومرة أخرى انصبت على الأرض قذائف متلاحقة، فزلزلت الأعصاب وخرست القلوب. وصاح خادم المسجد: الأولاد في البيت، بيت قديم يا سيدنا!
فقال الإمام بصوت متحشرج: ربنا موجود .. لا تتحرك من مكانك!
واندفعت مجموعة من الناس إلى داخل الجامع، وبعضهم يقول: هنا آمن مكان.
فقال صوت غليظ: إنه ضرب حقيقي، لا كالليالي الماضية.
فانقبض قلب الإمام لدى سماعه الصوت. هذا الوحش الآدمي، أليس وجوده بنذير شر؟ وجاءت جماعة جديدة أكثف من الأولى، وندت عنها أصوات نسائية غير غريبة عن الشيخ. وهتف صوت قائلا: طارت الخمر من رأسي.
وأفلت من الإمام زمامه، فهب واقفا وهو يصيح بعصبية: اذهبوا إلى المخبأ، احترموا بيوت الله، اذهبوا جميعا.
فصاح به رجل: اسكت يا سيدنا.
وارتفعت ضحكة ساخرة، غير أن انفجارا شديدا دوى حتى صك الآذان، فضج الجامع بالصراخ، وامتلأ الإمام رعبا، فصاح بجنون كأنما يخاطب القنابل نفسها: اذهبوا .. لا تدنسوا بيوت الله!
فهتفت امرأة: يا عيب الشوم!
فصرخ الإمام: اذهبوا، عليكم لعنة الله!
فاحتدت المرأة قائلة: إنه بيت الله لا بيت أبيك!
وصاح الصوت الغليظ: اسكت يا سيدنا، وإلا كتمت أنفاسك!
وانتشرت التعليقات الحادة والسخريات اللاذعة، حتى همس المؤذن في أذن الإمام: أستحلفك بالله أن تسكت!
فقال عبد ربه بتعثر من يجد مشقة في النطق: أترضى أن يكون الجامع مأوى لهؤلاء؟!
فقال المؤذن بتوسل: ليس لديهم غيره، أنسيت أنه حي قديم قد يتهاوى باللكمات لا بالقنابل؟!
فضرب الإمام راحته بقبضته، وقال: هيهات أن يرتاح قلبي لاجتماع كل هؤلاء الأشرار في مكان واحد، إن الله لا يجمعهم في مكان واحد إلا لأمر!
وانفجرت قنبلة، فخيل إلى حواسهم الملتهبة أنها انفجرت في ميدان الخازندار، والتمع لها بريق خاطف في فراغ الجامع كشف عن أشباح مرتعدة لحظة، قبل أن تبتلعها الظلمة العمياء مرة أخرى، فأطلقت الحناجر عواء مزعجا، وصوتت النساء، والشيخ عبد ربه نفسه صرخ وهو لا يدري. وتطايرت أعصابه فاندفع يهرول نحو باب الجامع. وجرى خادم المسجد خلفه يحاول منعه، لكنه دفعه بقوة متشنجة، وهو يصيح: اتبعاني قبل أن تهلكا!
ومرق من الباب، وهو يقول مرتعدا: لم يجمعهم الله في مكان واحد إلا لأمر!
ومضى مهرولا يخوض ظلاما دامسا. واستمرت الغارة بعد ذلك عشر دقائق، تساقطت في أثنائها أربع قنابل. وشمل الصمت المدينة مقدار ربع ساعة أخرى، ثم انطلقت صفارة الأمان!
ومضت الظلمة ترق أمام البكرة الوانية. ثم تبدت طلائع الصباح في مثل حلاوة النجاة.
لكن الشيخ عبد ربه لم يعثر على جثته إلا عند الشروق!
موعد
أسعد ما في اليوم هو هذا الوقت من الليل. انتهت متاعب الواجبات، استقر كل شيء في موضعه على أحسن حال، حتى المطبخ بات أنيقا نظيفا كأنه معروض للبيع، الخادم آوت إلى غرفتها لتنام، لم يبق إلا جلسة مريحة طويلة يبهجها الحب العائلي حول الراديو المردد لشتى المسرات. ولولو الصغيرة لا تنام، لا تود أن تنام، ولا أن تكف عن اللعب والشقاوة، ولكن هذا السيد، هذا الزوج السعيد، ما باله؟! لولو العزيزة لا تدع لها فرصة للتفكير. إنها ترمي بنفسها عليها بلا نذير، فترتطم الرأس بالرأس، أو تنشب الأظافر الصغيرة بالخد أو الرقبة، وكافة المساحيق لا تنجح في إخفاء آثار هذه الأظافر الصغيرة. بنت لم تجاوز الثالثة، ولكنها عفريتة بكل معنى الكلمة، وكانت هي جديرة بأن تكون أسعد الناس بها لولا ما يبدو على الأب من تغير حقيقي. وها هي تختلس النظرات إليه رغم موقفها الدفاعي الدائم من لولو. وها هو غارق في المقعد الكبير مطروح الرأس إلى الوراء، ينظر إلى السقف تارة، وتارة إلى الراديو من فوق الزجاجة الذهبية السائل القائمة على ترابيزة أمامه. معهم لكنه ليس معهم. في بعض رحلاته التجارية كان أقرب إليهم مما هو الآن. ماذا غيره؟ .. ماذا طرأ عليه؟! وقلبها يحس بالمخاوف وهي بعيدة؛ ولذلك فهو لم يذق الراحة منذ ... منذ كم من الوقت؟! يا إلهي شد ما يبدو الوقت قصيرا أحيانا إذا قيس بالأرقام، على حين تتمزق الأعصاب من طوله تمزقا. وما هذه العادة الوحشية الجديدة!؟ إنه يجلس هذه الجلسة لا ليحادثها ولا ليلاعب لولو، ولكن ليشرب الخمر. ويمعن في الشراب ليلة بعد أخرى، ويفرط في التدخين؛ فدائما تتلوى حول رأسه سحاباته الشاحبة. ألا ما أفظع هذا كله! ويضاعف من الحسرة أنه مثال تغبط عليه في حسن المعاشرة والنجاح في الحياة. كهربائي محترم وصاحب دكان لبيع الأدوات الكهربائية وإصلاحها. ولم يكن يضايقها أن يذهب إلى القهوة الخديوية كل مساء؛ ليلعب الطاولة ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى بيته حاملا ما لذ وطاب من حلوى أو فاكهة. يعود إليها، وإلى لولو، فيحيي جلسة عائلية دافئة بالمحبة والمسرة. هكذا مضت حياتها الزوجية القصيرة السعيدة، إلى ما رصعت به لياليها من سهرات لطيفة في بيوت الأسرة، أو في السينما وما يستتبع ذلك عادة من تعليقات أو مناقشات تزيد الحياة بهجة وحيوية. وأما الخلافات التي كانت تتسرب بعض الأحيان إلى حياتهما فلم تبلغ درجة خطيرة قط، ولم يحدث أن تركت أثرا حتى الصباح. ترى هل ينطوي ذلك كله في ذمة التاريخ؟ .. هل؟ .. يا لهذه الطفلة الصغيرة التي لا تتعب من الشقاوة أبدا! .. إنها تحمل على أبيها، لكنها سرعان ما تصد عنه لفتور استجابته واستسلامه دون دفاع مثير، حتى الكأس التي أراقتها عند تعلقها بالترابيزة لم تغضبه. - يا عزيزي، لماذا تشرب هكذا؟
ليته ينفعل، أو حتى يغضب في سبيل أن يبوح بمكنونه: لا ضرر في ذلك! - لكنه ضار بلا شك! - لا تصدقي ما يقال!
ولم يمهلها لتتكلم فقال باسما: مللت التسكع في الخارج، وأنا سعيد، هكذا بين زوجتي وابنتي! - لكنك تبقى معنا لتشرب ! - بل أستكمل هنائي بشيء من الشراب؛ ليبعث الراحة في القلب!
يحاول أن يبدو طبيعيا، ولكنها تراه بقلبها لا بعينيها، وقلبها كرماد في مهب الريح. - وماذا يتعب قلبك؟ - لعلها متاعب العمل، وأنا لا أسمح لها بأن تفسد جلستنا الطيبة!
هكذا الأسئلة والأجوبة كل مرة. ويبقى لها العذاب الصامت الذي يجد عبثا في البحث عن مبرر لوجوده. وتلوح في عينيه نظرة غريبة يرمق بها لولو. نظرة تذوب حنانا ورقة، نظرة تقبل وتعانق وتسفح الدمع. فكيف لا ترتعد رعبا؟! - ألا يحسن بك أن تنام في الوقت الذي اعتدت أن تنام فيه؟ - لماذا ننام؟
ضحكت ضحكة فاترة، وحدجته بنظرة ارتياب: أنت ولا شك تسخر مني. - معاذ الله! - الحق أنك تعذبني. - لا سامحني الله إن فعلت!
وربتت خده برقة: كل شيء على ما يرام؟ - نعم. - لا شيء يضايقك؟! - مطلقا.
ثم قال برجاء: لا تقلقي نفسك بلا سبب، أؤكد لك أنه لا يوجد في حياتنا ما يدعو إلى القلق، ها أنا أجلس سعيدا في أسرتي الصغيرة، أشرب أحيانا، وأحيانا أقرأ، ماذا يقلق في ذلك؟!
لم تكن القراءة هواية له. كان يلقي نظرة عجلى على الجريدة، وتقرأ هي صفحة، ثم تتركها فتتلقاها لولو، ثم لا تتركها إلا كومة من مزق. لكنه يقرأ الآن كتبا، وأي كتب؟ على حافة العالم. الحاسة السادسة. عالم الأرواح. - أتحلم بأن تكون شيخ طريقة؟! - هل عندك فكرة عن هذه الأشياء؟ - حسب ما وجدته في الدين. - هذا صحيح. - فلماذا تقرأ هذا كله؟ - حب استطلاع وتسلية.
حاولت كثيرا أن تقنع نفسها بأن كل شيء طبيعي، وأن أوهامها هي غير الطبيعية، لكنها كانت كمن يتجاهل إنذارات دمل خفي. - خبرني كيف حال صحتك؟ - عال! - والعمل؟! لا تخف عني شيئا؛ فأنا شريكة حياتك. - ليس في الإمكان خير مما كان! - كيف أعرف سرك؟!
وربت على خدها وقبلها، كما كان يفعل في الليالي السعيدة الخالية. ما أشد الفرق بين الحالين. إنه يمثل ولكنه لا يستطيع أن يخفي أنه يمثل. - لا جديد طرأ عليك؟ - عدا شيء من الارهاق! - ما رأيك في السفر، ولو لأسبوع؟ - فكرة وجيهة ولكن لا داعي للعجلة كما تتوهمين.
وحانت منها التفاتة إلى المرآة، فلمحته وهو يهم بالكلام بحال تدل على أنه استسلم للاعتراف. استصرخته في الأعماق أن يفعل، دعت ربها أن يأمره بالكلام، لكنه استرخى دفعة واحدة بسرعة تثير الحنق، وراح يقرأ. - عدت كما كنت أعزب! - أنا؟ - كأن لا شريك لك، عش وحدك، سأحزن حتى الموت! - ألا يتعب الإنسان أحيانا؟ - ماذا عن رجل يشرب الخمر، ويقرأ كتب الأرواح؟ - الخمر أيضا مشروب روحي، هكذا يسمونها! - نضب معيني من الضحك! - سوف تضحكين من نفسك، عندما تتأكدين من ضلال أوهامك! - قلبي لا يكذبني قط.
وقال لنفسه: ما أصدق قلبها. إنها تنطق عن قلب صادق وا أسفاه. قلب ملؤه خوف حقيقي، قلب يكابد إرهاصات أحزانه ووحدته الآتية. وهو يتعذب أيضا عذابا مضاعفا لنفسه ولها. وقلبه ينصهر ويتطاير شررا، وسيتلاشى في الفراغ. وأفكاره تحوم بجنون حول انحلال المادة وتشعشع الضوء وانتشار الرماد وتبدد الهواء. لعله كان من الأرحم أن يجد مهربا بعيدا عن بيته، أن يشرب في حانة من الحانات، بعيدا عن الجلسة السعيدة التي يتشكل فيها جسده في ثلاثة أجساد حارة محبوبة. ولكن حنينه القاسي وأشواقه الملتهبة ويأسه العميق منعته من الهرب وشدته إلى مأواه الحنون. بل يود أحيانا لو يغلق دكانه ليجلس طوال وقته مع زوجته وطفلته، عصمت ولولو، وأن يقبلهما حتى يكل فوه، أن يضمهما إلى صدره حتى يخذله ساعداه، أن يغرقهما بدموعه، وأن يستحم بدموعهما. وكان بوده أن يمثل دوره بمهارة يخدع بها امرأته، ولكن كان ذلك فوق طاقته. فهو يقرأ ويشرب ويختلس إليها النظر، يتحمل نظراتها المعذبة بصبر، حابسا دمعه، شادا على إرادته. ويصر على ذلك، وهو يشعر بأن كل شيء يخصه هباء. الأبوة هباء، الحب هباء، الزوجية هباء. ويرى كل معنى وهو يتلاشى في النسيان والضياع. وهو في الحقيقة لا شيء يبكي لا شيئا، البكاء نفسه لا حقيقي كالقراءة، كالخمر، كهذه الأنغام الصادرة عن الراديو تنعى الحياة كلها. لم لا يجذبها إليه ويفضي إليها بكل سره ؟ ولكن أي فائدة ترجى من ذلك إلا أن تزيد من تعقيد الأمور واختلاطها وقسوتها ووحشتها؟ ولم يحول جلسة المساء إلى مأتم والغناء إلى حداد؟ لن يؤخر ذلك ولن يقدم، ولكنه سيهدم الأسرة هدما. أجل، إن وحدته تزداد عمقا ويأسا، لكنه لن يذعن للجبن والأنانية، فعلى الأقل عصمت لن تفقد الأمل، وها هي لولو تلعب وتغني وتنطح وتخربش. إنها الوحيدة التي تبدو جديرة بالحياة. تحياها ببساطة وبلا معنى ولا تفكير. وهي الوحيدة أيضا التي لا تعرف الموت ولا اليأس، ويبدر كل شيء لعينيها العسليتين خالدا سعيدا خاضعا. حتى المنغصات البسيطة التي تطرأ على بحبوحتها لا تبقى إلا لحظات. قد تتوارى وراء باب صارخة باكية، ثم سرعان ما تظهر باسمة الثغر، ولما تجف دموعها وفي عينيها نذر مشروعات جديدة للشقاوة والعفرتة. وعصمت لا تدري شيئا عن لياليه، فهي تجالسه حتى يحين موعد النوم، ولما تظن أنه استسلم للنوم تطوي جفونها على أحزانها، لكنه في الحقيقة لا يغمض له جفن، ويظل محملقا في الظلام وخلايا رأسه تحترق بالأفكار المحمومة. وهيهات أن يدري أحد شيئا عن أحاديث الظلام، عن رعب الظلام .. عن التفكير في الهاوية التي ليس لها قرار. في الظلام تطمس معالم كل شيء إلا الموت. الموت وحده يرى بلا ضوء، وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن ميعاده. وإذا جال بالخاطر فقد كل شيء معناه وقيمته وحقيقته. ويتساءل وهو يكاد يحس تردد أنفاس زوجته ما العمل؟ ماذا يطلب من الحياة في الأيام الباقية؟ ويجيء الجواب: كل شيء، ويجيء الجواب: لا شيء، وهنا يستوي كل شيء ولا شيء. ولكن النفس تأبى التسليم وتخشى الفراغ، فتتعلق بالأحلام. يرى أنه لم يعد زوجا ولا أبا. إنه طليق يجوب الآفاق. فوق طيارة تحلق في الفضاء، في سفينة تمخر عباب المحيطات، على مركبات لا حصر لها ولا عدد. ينطلق من غابة إلى بحيرة، ومن جبل إلى سهل، يخوض الرياض والرمال والمدن، يجوب مناطق حارة ينصهر بها الحديد، وبقاعا متجمدة تتجمد فيها النيران، ويرى من الناس أشكالا وألوانا. إن ذلك كله لا يطرد شبح الموت ولا يؤخره، ولكنه يحول الأيام الباقية إلى رحلة شائقة ومشاهد عجيبة وتسلية ساحرة. أو يرى نفسه جاريا وراء نوازعه، يتقلب بين أمواج الشهوات العاتية، وينعم بكل طيب، وينتشي بكل مذهل، ويمتع غرائزه بالمغامرة والإثارة والعربدة، بل وبالانفعالات الرهيبة والعدوان العنيف. لكنها تظل أحلاما؛ لأن الموت نفسه لم يستطع أن ينسيه أنه زوج وأنه أب وأنه بالتالي إنسان؛ لذلك تتبدد الأحلام ويبقى له السهاد، بل ويواصل عمله في الدكان، ويثوب مشتاقا إلى جلسته العائلية المحبوبة، ولكن لم يجد مفرا من الشراب، ومن مطالعة كتب الأرواح؛ سعيا وراء طمأنينة ولو تكن وهمية، وسلام ولو على غير أساس. حتى إيمانه الراسخ انهزم أمام الموت. ليس للشعر كثافة الموت وثقله. وهو يكاد يراه ويلمسه، وفظاعة التجربة حملته على دفن السر في أعماقه، على الانفراد به وحده، وعلى كتمانه عن امرأته تعيسة الحظ، فلتبق في قلق هو على أي حال أهون من اليأس، ولتمرح لولو في جو خال من الحقيقة الرهيبة.
وذهب إلى قهوة ماتاتيا على غير عادة. كان اليوم عطلة الأحد، والوقت عصرا، والفصل خريفا، فاتخذ مجلسا عند رأس المنعطف تحت البواكي. وقلب عينيه في تطلع المنتظر حتى رأى رجلا ريفيا معمما يقبل نحوه في عباءة سوداء. كان يشبهه إلى حد كبير فتعانقا، ثم جلسا حول المائدة والقادم يقول: كيف حالك يا جمعة؟ وما الحكاية؟ لم بالله ضربت لي موعدا في القهوة؟!
فقال جمعة وهو يبتسم في ارتباك: أتعبتك يا أخي، أنا آسف جدا. - ليس المجيء من القناطر بالأمر الشاق، ولكن ماذا تعني مقابلتنا في القهوة؟
وفكر جمعة قليلا فيما ينبغي أن يقول، وكان الآخر يتفحصه بعناية، فلم يمهله حتى يتكلم وقال: خلاف عائلي! يقطعني ربنا إن لم يكن الأمر كذلك، ماذا عن امرأتك؟
فقال جمعة بصوت شاحب: عصمت بخير، لا خلاف بيننا على الإطلاق! - غريبة! ولماذا لم تدعني إلى بيتك؟ - أريد أن أنفرد بك. - بعيدا عن بيتك! - بعيدا عن كل شيء!
وعاد يتفحصه مليا، ثم قال بقلق : جمعة .. أنت لست على ما يرام!
فصمت جمعة، فعاد الأخ يقول بجزع: خبر أخاك عما بك!
رفع إليه عينيه الذابلتين، وقال: أخي، أنا في مسيس الحاجة إليك، سأعترف لك بكل شيء، ويجب أن تصدقني، الحق أني سأموت في خلال أشهر قلائل!
تجمدت قسمات الشيخ، وعكست عيناه جميع صيغ الدهشة، ثم غمغم: ماذا قلت؟! مريض؟ كيف عرفت هذا؟ هل ذهبت إلى طبيب؟
قال جمعة بهدوء نسبي بعد أن أزاح الاعتراف عن صدره هما ثقيلا: شرعت في التأمين على حياتي. - وبعد؟ - رفض الطلب، ذهبت إلى عدد وفير من الأطباء، وإني على يقين الآن من خطورة الحال.
فندت عن الأخ ضحكة هازئة، وقال: لا أحد يمكن أن يكون على يقين من ذلك إلا الله!
فقال جمعة بفتور: طبعا .. طبعا، إنه فوق كل شيء، ولكني على يقين من حالي. - كلام فارغ، أستطيع أن أحكي لك ألف حكاية تثبت أن كلام الأطباء ما هو إلا هراء.
فقال متنهدا: وأستطيع أن أحكي لك ألفا أخر تؤكد العكس.
واستقر صمت ثقيل. وجاء ماسح أحذية يدق صندوقه، ولكن سرعان ما صرف، وهبت نسمة رطيبة تحت البواكي على حين بدت العتبة كأنها تدور إلى الأبد مع المركبات والناس. ثم قال الأخ بصوت عميق: يجب أن تقتلع من رأسك هذه الأفكار السود، هي مرضك الوحيد، وإذا أردت أن تطمئن حقا على نفسك فسافر معي إلى القناطر؛ لتزور شيخا عجيبا يقصده الأطباء أنفسهم في الشدائد!
فقال جمعة في بلاهة: نعم. - أراك تشك فيما قلت!
فاعتدل جمعة في جلسته وقال: فلنؤجل هذا إلى حين، إنما دعوتك لأمور هامة وعاجلة. - لكني لا أحب لك أن تعايش أفكارك المدمرة. - لندع هذا الحديث جانبا، الآن خذني على قد عقلي، وأصغ إلي.
فتمتم الأخ بمرارة: نعم!
فقال جمعة بإشفاق ووجوم: عصمت ولولو. - عارف، عارف أنك ستتحدث عنهما.
وهم بالاعتراض، ولكن جمعة أشار إليه بالسكوت، وقال: لي شريك في الدكان، وهو رجل طيب مثلك، ولكن العمل سيتطلب منك رعاية، ولا بد لي من الاطمئنان على مستقبل أسرتي ، أنا آسف أن أحملك مسئوليات جديدة في الحياة، ولكن لا حيلة لي، ثم إن لي نقودا في البنك فلن أتركهما. - تتركهما؟! - خذني على قد عقلي من فضلك، لن يحتاجا إلى نقود، ولكنهما ستكونان دائما في حاجة إلى رعايتك.
ندت عن الأخ ضحكة أعرب بها عن استهانته، أو عن تظاهره بذلك. وشرع في الكلام ولكن أوقفه عنه خروج سنجة الترام من السلك الكهربائي، محدثة أزيزا حادا وتوهجا خاطفا، فأخذ لحظة ثم قال: ها أنا أجاريك في أوهامك ما دمت تريد أن آخذك على قد عقلك، أتحسب أنني في حاجة إلى هذه الوصية؟! يا لك من طفل! أنت أعلم الناس بمكانتك عندي، فاطمئن إلي كل الاطمئنان، والآن وقد صارحتك فأرحني بدورك، لا بد من سفرك إلى البلد ولو لأسبوع! - بكل سرور، في بحر أسبوع على الأكثر، ستجدني عندك إن شاء الله، والآن هيا بنا إلى البيت.
ولكن الأخ كان يعاني من الحديث اضطرابا باطنيا، فانصدت نفسه عن كل شيء، وأبى إلا أن يعود من فوره إلى المحطة، وأصر على ذلك. وأراد أن يوصله ولكن الآخر قرر أن ينتهز فرصة وجوده في القاهرة؛ ليقوم ببعض زيارات هامة قبل السفر فتوادعا أمام القهوة، ومضى الشيخ إلى الناحية الأخرى من العتبة. واتجه جمعة رأسا إلى محطة الأوتوبيس. واستقل سيارة فدارت به دورتها ولكنها اضطرت إلى التوقف عند الأزبكية أمام زحام اعترض الطريق .. ونظر جمعة فرأى جمعا حاشدا - وآخذا في التزايد أكثر فأكثر - حول سيارة متوقفة. أدرك لتوه أن حادثة وقعت. وأجال عينيه في الجمع المحتشد، لكنه جفل من إمعان النظر، فحول رأسه بعيدا. وما لبث الأوتوبيس أن تفادى من الزحام، فشق سبيله إلى ميدان الأوبرا.
وكان في الجمع المحتشد حول الحادثة مساح أحذية، وكان ينظر إلى الجثة الممددة أمام السيارة بتفحص ودهشة، ثم قال بصوت مرتفع لمن حوله: أنا رأيت هذا الشيخ منذ نصف ساعة فقط، كان يجلس في قهوة ماتاتيا مع واحد أفندي.
قاتل
ما المخرج من هذه الوكسة؟!
منذ خروجه من السجن وهو يعيش متسولا، قرش من هنا وقرش من هناك، بلا عمل، وبلا أمل. وهو ليس بأول سجن، ولا آخر سجن فيما يبدو، ولكن الدنيا مصممة هذه المرة على مقاطعته. رفضه كل دكان عرض نفسه عليه، وأعرض عنه كل رجل مأمول، حتى تجار المخدرات أبوا أن يمنحوه ثقتهم. وتمضي الأيام يوما بعد يوم وهو يتدهور ويجن. ويجلس في القهوة إذا هده الإعياء، طمعا في معرفة قديمة، ولكنه ينسى حيث جلس، لا يكلمه أحد، ولا يقرب منه نادل، وتلاحقه نظرات المعلم الممتعضة، حتى يرق له قلب الصبي فيجيئه خلسة بشيء من نفايات المعسل المحروق، وغرق في الأحلام كما لم يغرق من قبل. أطعمة الخلفاء وحسان الحريم وبحور الشراب وجبال السطل. واسترجع أخيلة القصص التي كانت ترويها الرباب في قهوة خان جعفر منذ ربع قرن أو يزيد .. وهوم برأس متلبد الشعر، وليس على الجسد المتورم بالأقذار إلا جلباب متهرئ كالخيش تعشش فيه حشرات شتى. وكان يسكن في جحر بدرب دعبس بالحسينية، حجرة في حوش ربع قديم، حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة، وهي عجوز تعيش على صدقات الفقراء من الجيران، هناك يأوي آخر الليل، وتمضي الأيام وهو لا يلتفت إليها. أما هي فلا تشعر له بوجود، ولعلها لم تعد تذكره على الإطلاق، ولكنه لا يكف عن مغازلة الأحلام، الأميرة والبحر والجبل وبحبوحة عيش لا يحسن تصورها ولو في الخيال. وتساءل كثيرا عن المخرج من وكسته، أين يذهب؟ وماذا يفعل؟ وهو ذو الماضي الحافل بالأعمال. اشتغل شيالا، وموزع مخدرات، ولصا. أما العراك فبسببه دخل السجن أول مرة. واستوفى الأربعين من عمره دون أن يهن له عضل، وكان بوسعه أن يقتلع بيتا من أساسه، ولكنه لا يأكل لقمة إلا حسنة الوجه الله. وهذه ثالث مرة ينطلق فيها بعد سجن، ولكنه لم يجد الدنيا من قبل مغلقة الأبواب كما يجدها هذه المرة. حتى لتحدثه هواتف نفسه اليائسة أحيانا بأن يعود إلى السجن؛ ليستقر فيه بقية العمر. وقبيل خروجه من السجن أول مرة مات ابنه في مستشفى الحميات ، وحينما كان في السجن آخر مرة اختفت زوجته، لا يدري أين ذهبت ولا مع من هربت، وقليل من النساء من يسعهن الإخلاص لزوج هوايته السجن. ترى ما هي المعجزة التي يمكن أن تجعل منه هارون «الرشيدي»؟ إن رأسه يدور من نشوة الأحلام الكاذبة. والدنيا فيما يظهر لم تعد بحاجة إلى العضلات القوية. ولكن هل ضاع حقا وانتهى؟!
وكان يسير في الزحام شبه نائم، عندما ناداه صوت قوي قائلا: ولد يا بيومي!
انتبه بعنف نحو الصوت، كأنما يستجيب للسعة سوط. ثم وثب نحو صاحبه باستماتة، وهو يبتسم ابتسامة عريضة توددا وتذللا. ها هو إنسان يناديه أخيرا. وهوى على يده ليلتها وهو يقول: أهلا وسهلا بالحسيب .. أهلا بالمعلم علي ركن سيد حينا كله.
فسحب المعلم علي يده بخشونة، وقال وهو يحبك جبته: دعك من التواشيح يا ابن الذين، لعلك تتحسر الآن على السجن وأيامه الحلوة.
فقال بيومي في ملق: لولا وجود أمثالك في الدنيا لتحسرت فعلا! - ها أنت تعود إلى التواشيح!
وأشار إليه أن يتبعه، ثم مضى إلى الكارتة فاستقلها، والآخر في أثره وهو لا يصدق. وحرك المعلم اللجام، فانطلقت الفرس إلى طريق الجبل في خلاء وأمن. وأدرك بيومي أنه مقبل على شيء كبير، فلا يمكن أن يحل في هذا المقام لغير ما سبب. وكانت الكارتة تنطلق في سرعة هادئة مستعرضة جناح الجبل المتجهم، مثيرة وراءها ذيلا من الغبار. وكان المعلم علي ركن يلقي ناظريه إلى الأفق، مقطبا، مشدود عضلات الوجه، ثم تساءل بلا اكتراث: هل تقتل الحاج عبد الصمد الحباني؟!
استطال وجه بيومي من الدهش وتمتم: أقتل؟!
فقال الآخر ببرود: نعم يا ابن القديمة.
يتكلم بكل استهانة، وأقل ما يعنيه تفاهة الثمن! - القتل شيء لم أجربه!
فشد اللجام، وهو يقول ببرود: اذهب مع السلامة.
لم يتحرك، ولكنه تساءل بوجه متجهم: لحسابك يا سيد الناس؟
فأرخى اللجام، وهو يداري ابتسامة قاسية، ثم قال: لحسابي أو لحساب المعلم الكبير، ماذا يهمك؟
المعلم الكبير! الدهل محمود! صاحب وكالة الجيش وكبير تجار الكيف! إنه يبالغ هذه المرة في إبعاد الشبهة عن نفسه وعن رجاله وقد أحسن الماكر الاختيار! - أنا خادم المعلم الكبير وخادمك. - دعنا من الثرثرة، هل تقتله؟
فضحك بيومي ضحكة كالزفرة، وقال: في الجنة ونعيمها! - الله يجحمه ويجحمك.
واعتبر بيومي الدعوة نوعا من المودة فضحك، أما المعلم علي، فتساءل بخبث: لعلك لم تر النقود منذ خرجت من السجن؟ - ولا قبل ذلك. - خمسون جنيها! - خمسون! - كلمة واحدة. - ولكنه قتل! - يا ابن القديمة، أنا لا أساوم.
وهو يحاول ضبط انفعاله: سأحتاج إلى نقود كثيرة. ولا تنس أمي العجوز. - أمك!
وقهقه عاليا وهو يستخرج من جيبه ورقة من ذات الخمسة الجنيهات، ومد بها يده إليه قائلا: عربون.
فهتف بيومي وهو يلتهمها بعينيه: لا، وشرفك يا سيد الناس.
فحدجه المعلم بنظرة قاسية، فتخاذل قائلا: ليكن العربون عشرة جنيهات. - أتشك فينا يا ابن المجنونة؟ - أبدا يا معلم، ولكنها قد تكون كل نصيبي من الدنيا. - متى تقتله؟
فكر بيومي مليا بسرعة ويقظة، ثم قال: أمهلني أسبوعا .. السبت القادم. - خبرك أسود. - يا سيد الناس أنا مضطر إلى هجر الحسينية؛ كيلا أثير شبهة حولي، ويجب أن أتدبر الأمر وأرسم الخطة، ولا بد أن أعيش هذا الأسبوع عيشة هنيئة؛ فقد يكون آخر أسبوع لي في الحياة.
وأخرج المعلم ورقة أخرى من ذات الخمسة، ومد بالورقتين يده، وهو يتساءل: أتعلم ماذا ينتظرك لو ماطلت أو تأخرت؟
فقال بيومي ضاحكا، وهو يطوي الورقتين: لا أراك الله!
فشد اللجام حتى توقفت الكارتة، وهو يقول: مع السلامة .. لا تقترب ناحيتي أو ناحية أحد منا لأي سبب.
وثب إلى الأرض على حين مضت الكارتة بصاحبها. وقف ينظر إليها متوقعا أن يلتفت الرجل وراءه، فيلوح له تحية ولكنه لم يلتفت. وضغط بيده على الورقتين وكل شيء يدور. رغم الفتونة والمجدعة لم تقبض يده على جنيه بالكامل إلا فيما ندر، لكنه أيضا لم يقتل. ضرب وسرق ولكنه لم يقتل. لم يقتل وإن تكن ضربته قاتلة. وهو يحب الحياة، وإن بدت أحيانا أمقت من الموت ولا يحب المشنقة. ولكن أي جدوى من التفكير وهو سيقتل إن لم يقتل. فليكن حذرا أشد الحذر، وليرسم كل خطوة بأناة. ومهما تكن احتمالات الغد؛ فإنه يدخر له أيضا أربعين جنيها، مبلغ لم يجر له في حسبان. وقد يساعده المعلم الدهل في الاتجار به فتتحقق الأحلام. وأعلن في القهوة أنه سيهاجر من الحسينية سعيا وراء الرزق فقال له كل من سمعه: «مع ألف سلامة» في أصوات عالية وشت بارتياحهم للتخلص منه، فذهب وهو يقول لنفسه: لذلك فأنتم تستحقون القتل. وقصد حمام السوق، دخله هبابا وخرج منه إنسانا. وابتاع جلبابا ولاسة وثيابا داخلية ومركوبا؛ لأنه لم يجد حذاء جاهزا يتسع لقدميه الغليظتين. وجلس في محل «سيدهم الحاتي» يأكل بنهم حتى أذهل النادل. وطاب كل شيء فقال لنفسه ليت ذلك يدوم بلا قتل. ولم يكن يعرف الحاج عبد الصمد الحباني أي نوع من المعرفة. غاية ما في الأمر أنه لمحه مرات في حياته بلا تركيز ولا اهتمام. عليه الآن أن يعرف كل شيء عنه، وبخاصة الضروري، لإنجاز مهمته. اهتدى إلى بيته الكبير القديم بدرب الجماميز، فدرس موقعه والطرق المؤدية إليه. وحام مرات حول وكالته بالمبيضة. وتفحص الرجل عن كثب حتى انطبعت صورته في ذهنه، وبخاصة وجهه الممتلئ المتألق بالحيوية وأناقته السابغة على جبته وقفطانه. والتقت عيناهما مرة فسرعان ما غض الطرف وزاغ عنه كالمطارد. وتساءل ترى ما الأسباب التي تحمل المعلم الدهل على التخلص منه؟ أليس من حقه أن يعرف لماذا استحق هذا الرجل أن يقتله؟ لو كان سأل عن ذلك لسمع كلاما هو الصفع أو الركل. يا لهم من عصابة كأنها القضاء والقدر! وإنه لا يكاد يحل في مكان حتى يلمح أحد رجالهم ذاهبا أو قاعدا أو قادما. وفي المساء سكر، وفي سيرك الحملاوي سهر، وعند عيوشة الفنجرية بات ليلته، وقال لنفسه مرة أخرى ليت الحياة تمضي هكذا بلا قتل، وأن يتزوج من جديد، ويخلف البنات والبنين، ويواصل الاتجار والربح، ويأخذ حذره، فلا يرى لمخبر وجها. ترى ماذا ينتظره غدا؟ ولكن ماذا كان ينتظره مذ انطلق يلعب شبه عار في أزقة الحسينية، ومنذ انضم إلى عصابة زلمة، ومنذ اشترك في معارك الدراسة والجبل والوايلية، ومذ عمل برمجيا في الدروب الساهرة. ومذ غامر بتوزيع المخدرات في المقاهي، ماذا كان ينتظره؟
وجاء يوم السبت الموعود. استيقظ مبكرا؛ ليستقبل أخطر يوم في حياته. ملأ أحد جيبيه قطعا من اللحم البارد، ووضع في الآخر زجاجة، ودس في صدرته سكينا حادة النصل. أما المعلم الدهل ورجاله، فسيلتزمون الدكاكين ويخالطون الناس نفيا للشبهات، وهو أدرى بهذه الحيل الساخرة. هؤلاء الأوغاد المجرمون يجب أن يتلقى منهم أربعين جنيها لا طعنة انتقام غادرة، واستكان وراء شجرة على مبعدة أمتار من بيت الحاج عبد الصمد الحباني. وجعل يختلس النظرات من الباب المغلق، حتى فتح وخرج منه غلامان وبنت يتأبطون الحقائب المدرسية. كان بين الثلاثة شبه ملحوظ، ولكن الذي لفت نظره بصفة خاصة هو الشبه الحاد بين الغلام الأكبر وبين المعلم عبد الصمد نفسه. وتذكر ابنه المتوفي الذي لم يشهد وفاته، وتذكر حزنه الشديد عليه، وأحزان الحياة جملة. وما لبث أن بدا المعلم عبد الصمد، وهو يتقدم من الداخل إلى نقطة وسط الحوش، ثم وقف مستندا إلى عصاه وهو يفتل شاربه. واستدار إلى الوراء وراح يخاطب شخصا لا يراه هو من موقفه ثم لوح له بيده، ثم اتجه نحو الباب متمهلا، ووجهه الممتلئ يتألق بما يشبه الابتسام. وتساءل عما يجعله يبدو مبتهجا بل وطيبا؟! ولكن من أدراه أنه ليس كالآخرين! كلهم مناكيد لا يبتسمون ابتسامة حلوة إلا لذويهم. مأمور السجن مثلا، يا إلهي، هل يمكن أن ينسى هذا الرجل! مع ذلك دعي مرة إلى حجرته، فوجده يمازح ابنه الذي جاء لزيارته، ويغرقان في الضحك معا كأنما هو آدمي كالآدميين! تبع الرجل عن بعد، وهو يشعر بقلق ود معه لو ينتهي كل شيء في غمضة عين. والرجل يسير في اطمئنان عجيب، فلا يمكن أن يخطر له ببال أنه لن يرى أسرته وأولاده مرة أخرى، وأن هذا اليوم هو آخر عهده بالحياة، وأن الرجل المسكين الذي يتبعه وهو غافل عن وجوده .. هذا الرجل هو الذي سيقضي عليه، هو الوحيد الذي يستطيع أن يتنبأ بمصيره القريب، الذي ارتضى أن ينفذ فيه القضاء نظير خمسين جنيها لا غير، فكم يملك الرجل الذي يسير أمامه من مضاعفات هذا المبلغ الذي بيع به؟!
وتخلص من أفكاره منتبها إلى الطريق فتساءل أين يمضي الرجل؟ ليس هذا هو السبيل إلى المبيضة، لعله يقصد إلى درب سعادة، لم لم يذهب إلى وكالته؟ إنه ذاهب إلى هذا البيت الذي يقيمون سرادقا أمامه. جاء الرجل ليشيع جنازة. هذا واضح، فيا له من صباح!
وفعلا قصد الحاج عبد الصمد بيت الميت فعزى أهله بحرارة، ثم توارى وراء الباب. واستمر بيومي في سيره نحو نهاية الطريق، وعيناه تفتشان عن مكان يستقر فيه إلى حين. وامتدت يده إلى اللحم البارد المكوم في جيبه كالتين المجفف، فتناول قطعة وراح يمضغها. ونازعته نفسه إلى جرعة كونياك، ولكنه قاوم ذلك وأجله إلى الساعات الحاسمة. وترامى إليه الصوات في موجات متقطعة، وبدرجات متفاوتة بين الشدة والاعتدال، لكنه اشتد جدا حوالي الحادية عشرة، منذرا باختفاء إنسان نهائيا من الدنيا. وخرج النعش محمولا على الأعناق، ومشى الحاج عبد الصمد وراءه في الصف الأول، وهو يجفف عينيه بمنديل كبير، وتوقف بيومي عن التفكير مأخوذا بشدة الصراخ واكفهرار الوجوه ورهبة المنظر.
وتخفف من مشاعره في الطريق، ونظر إلى صاحبه وهو ما زال يجفف عينيه، ثم تساءل مرة أخرى لم يريدون قتله؟! لو مات الآن لكفاه قتله، لكن تضيع الأربعون، بل وربما طولب بالعربون! ولم يشأ أن يتبع النعش حتى المدفن، فوقف عند أول الطريق.
ووردت على ذهنه فكرة غريبة، وهي أن يعمل ترابيا. هي مهنة رابحة فيما يظن، ولن يسأل - فيما يظن أيضا - إذا تقدم لها عن ماضيه، ولن يجد صعوبة في زيادة دخله بتجارة الكيف، وما أروجه بين القبور! ومضى يحلم من جديد مستعينا بذلك على قتل الوقت، حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعا، ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة، فمال إلى قهوة عند رأس الطريق وجلس . احتسى الشاي ودخن أكثر من جوزة، وأكل عددا من قطع اللحم، وهو يراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبا. ورأى شخصا يغادرها فلم يصدق عينيه. المعلم الدهل محمود نفسه! الرجل الرهيب الذي لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة، رآهما يتبادلان الضحكات، وتواصل ذلك حتى استقر المعلم الرهيب في عربته وانطلقت به. إذن لم تنقطع بينهما المودة! يا له من وغد ذلك الجبار الرهيب! هو جبار بلا ريب، لكنه لا ريب كذلك في أنه يفكر فيه - هو المسكين - طيلة وقته. ينتظر على قلق نتيجة عمله، يتمنى له النجاح والتوفيق، يجري اسمه على لسانه مرات، ويطوف بذهنه عشرات المرات، ألا ما أخطر شأنك يا بيومي هذه الأيام! واليوم أخطرها جميعا وهو آخرها أيضا، أما الغد؟! وشدت قبضة على قلبه. غدا سيكون شيئا من آلاف الأشياء، من ملايينها، أو لا شيء! وإذا فشل سيجد نفسه هدف نقمة وانتقام، وستضيق به الأرض. والمسألة في حقيقتها العارية أنه سيقتل رجلا لا يعرفه، ولم تتصل بينه وبينه الأسباب على أي وجه كان لحساب أناس يمقتهم لحد المرض.
لبث في القهوة حتى الرابعة مساء، وهنالك صدرت عن الوكالة حركة تنذر بالختام. دخلت إليها عربات اليد، وتتابع خروج العمال، وأغلقت النوافذ، ثم خرج الحاج عبد الصمد يتبعه أربعة من الموظفين. تأهب بيومي للقيام، ولكنه رأى الجماعة مقبلة نحو القهوة، ثم جلسوا على بعد أذرع من مجلسه والحاج يقول: فكرة، أستريح هنا قليلا، قبل أن أذهب إلى المأتم.
وجاءت المشروبات وراحوا يحتسون القهوة والشاي، ثم تنهد الحاج عبد الصمد وقال: الله يرحمك يا سي عبده، من يتصور أنك دفنت اليوم!
فقال أحد رجاله وهو يتحلب ريقه: كان بالأمس يجلس بيننا في مثل هذه الساعة. - وكان ذلك كل يوم.
واسترق بيومي إليه نظرة، فرآه حزينا مكتسبا من الذكرى كآبة واضحة، غير أن صحته بدت قادرة على جرف الأحزان جميعا. وله وجه مليء وعنق مكتظ وكرش ضخمة، فلن يجد صعوبة في إصابته. سينتهي كل شيء آخر الليل، عند عودته من المأتم، وفي الموضع الذي اختاره بعناية بعد معاينة مسكنه، والطريق المفضية إليه.
وتساءل أحد رجاله: أسافر غدا إلى الصعيد؟
فقال الحاج: نعم إنها صفقة تزن ثقلها ذهبا، ولم نكن نحلم بها. - ولحد كم أدفع؟ - كما اتفقنا بصفة عامة، ولك أن تزيد حتى المائة. إنها صفقة مضمونة.
وابتسم ابتسامة متألقة، وكأنما نسي الحزن. وإذا برجل يقوم، وهو يقول في اعتذار: آن لي أن أذهب؛ حتى لا تفوتني المغرب.
فقال له: مع السلامة، حرما، ولا تنس موعدنا غدا. - الساعة الخامسة! - الساعة الخامسة، وإن تأخرت لا تقلق، سألحق بك حتما.
واضطرب بيومي كلما تكلم الحاج عن يقين، أو ضرب موعدا، أو عكست عيناه الطمأنينة والثقة. لماذا يقتل هذا الرجل؟ إنه لا يعرفه، لم تكد تستقر صورته في ذهنه، لا يكرهه، ولا يحنق عليه، ولا يأتيه أي ضرر من ناحيته، فلماذا يقتله؟ لكنه إذا لم يقتله قتل، وإذا قتله ابتسمت له الدنيا، أو هكذا وعد. يحسن به ألا يستسلم للأفكار المثبطة للهمة. وليطمئن إلى أنه سينجو من الاتهام تماما. أي سبب يدعوهم إلى الاشتباه في أمره؟ أي سبب هناك يدعوه إلى قتل هذا الرجل؟ الحق أن اختياره لقتله هو في ذاته عمل بارع يدل على عراقة المجرمين في الإجرام.
وقال الحاج عبد الصمد: في رمضان القادم وعليكم خير، سيرتفع حظنا بإذن الله إلى مداه الأعلى.
رمضان القادم؟ شد ما يؤثر صوت الرجل في أعصابه. إنه يخشى أن يظل يسمعه حتى بعد الموت.
ووقف الحاج وهو يقول: آن لي أن أذهب إلى المأتم، سلام عليكم ورحمة الله.
وتبعه عن بعد حتى دخل السرادق بدرب سعادة، فذهب بعيدا عن أضواء المصابيح، ثم قبع في ركن مظلم. كان على ثقة من أن صاحبه لن يغادر السرادق إلا في آخر زمرة تغادره، فمضى يأكل قطع اللحم ويحتسي الكونياك. وهو إذا شرب توهجت أعصابه وتوثب قلبه، وفارت جراثيم العدوان في دمه. وترامت إليه التلاوة من مقرئ حسن الصوت، فأمعن في الأكل والشرب وغرق في دوامة من الهذيان الباطني. وجاء شرطي يتبختر فانقبض صدره. إنه يستطيع أن يعرفه بأكثر حاسة، بالعين والأذن وبالأنف أيضا. ذلك أنه ينفث رائحة جلدية خاصة تذكره بنقطة البوليس، والصفع واللعنات، وزنزانة السجن، والجرادل، والبرش، والظلمة المغرقة. مر به، ثم عاد، وتريث قبالته لحظة، ملقيا بثقله على ساق واحدة، ثم تأبط بندقيته وذهب. وتتابع الوقت حتى لم يبق في السرادق إلا آحاد. عند ذاك نهض، وكل شيء يبدو أحمر في عينيه، ومضى في سبيل درب الجماميز وهو يتحسس السكين في صدرته. البيت وما حوله خال نائم، لا دكاكين ولا مارة، وثمة حارة بين شارع السمهري والدرب، غير قصيرة، ضيقة، مظلمة، خالية، فعند أولها لبد، وفي مخبأ يرى بوضوح شارع السمهري والقادمين منه، على حين تخفيه الظلمة عن الأعين، وقف يتربص ويده قابضة على السكين، والوقت يمر كحز الألم.
وعندما دقت ساعة قديمة الواحدة لاح الحاج من بعيد، ولكن كان بصحبته آخر. فترت دقات قلبه. وقال لنفسه إنه إذا لم يجهز عليه الآن؛ فلن يعود إلى المحاولة مرة أخرى، وسيطارده الموت إلى الأبد. تقدم الرجلان حتى توسطا شارع السمهري، وما زالا يتقدمان حتى غص بالقنوط. أوشك أن يتقهقر من مكمنه مغلوبا على أمره، ولكن الرجلين توقفا عن السير، ثم تصافحا، ومال الآخر إلى عطفة جانبية، وتقدم وحده عبد الصمد. شد على أعصابه مرة أخرى، وهو يسدد نحوه النظر، وتحفز بكل قوة وجارحة. وكان الحاج يسير متمهلا، يد قابضة على العصا، والأخرى تعبث بسلسلة الساعة، والهدوء يكسو وجهه وما يشبه التعب أو الضجر. وخيل إليه أن ابتسامة خفيفة انسابت لحظة بين شفتيه. وما زال يتقدم حتى دخل الحارة المظلمة فاختفت معالمه، واستحال شبحا يسير في الظلام. ولم يعد يفصل بينهما إلا خطوة. استل السكين من صدرته، واشتدت عليها قبضته، واستجمع كل قواه، ثم انقض عليه بسرعة خاطفة، وطعنه طعنة قاسية، لا مهادنة فيها ولا أمل، ندت عن الرجل صرخة خافتة، وترنح جسده الضخم مرة ثم سقط.
واندفع بيومي هاربا وهو ينتفض، ناسيا السكين في صدر الرجل، ملوث العنق والجلباب - وهو لا يدري - بالدم.
ضد مجهول
لم يكن بالشقة شيء غير مألوف يلفت النظر، أو يمكن أن يفيد منه المحقق. كانت مكونة من حجرتين ومدخل، وبصفة عامة كانت غاية في البساطة. أما ما استحق الدهشة حقا فهو بقاء حجرة النوم في حال طبيعية واحتفاظها بنظامها العادي، رغم أن جريمة قتل فظيعة ارتكبت بها. حتى الفراش ظل عاديا، أو لم يتغير إلا بالقدر الذي يطرأ عليه عقب النوم، غير أن الراقد عليه لم يكن نائما، كان قتيلا لما يجف دمه. وهو قد مات مخنوقا كما يدل على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه، وتجمد الدم حول أنفه وفيه. ولا أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة، سواء في الفراش أو في الحجرة أو في بقية الشقة، كل شيء طبيعي ومألوف وعادي. وقف ضابط المباحث ذاهلا، يقلب عينيه المدربتين في الأنحاء، يلاحظ ويتفحص، ولا يخرج بطائل. إنه يقف أمام جريمة بلا شك، والجريمة لا توجد إلا بمجرم. والمجرم لا يستدل عليه إلا بأثر. وها هي النوافذ مغلقة جميعا بإحكام. فالقاتل جاء من الباب، ومن الباب خرج. ومن ناحية أخرى، فالرجل مات مخنوقا بحبل؛ فكيف تمكن القاتل من لف الحبل حول عنقه؟ لعله تمكن من ذلك وضحيته نائم، فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أي أثر للمقاومة. وثمة تفسير آخر، أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه، ثم أنامه في فراشه وسجاه وأعاد كل شيء إلى أصله، وذهب غير تارك أي أثر! أي رجل؟! أية أعصاب؟! يعمل بأناة وروية وهدوء وإحكام كما يقع في الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجريمة وعلى المكان كله، ثم يذهب في سلام! أي قاتل هذا؟! ورتب خطوات التحقيق في ذهنه، الباعث على الجريمة، التحقيق مع البواب، والخادمة العجوز، وافترض افتراضات شتى، وقاوم ما استطاع انفعالاته الشديدة، ثم عاد إلى التفكير في المجرم الغريب، الذي تسلل إلى الشقة، وأزهق روحا، ومضى بلا أثر، كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس. وفتش الصوان والمكتب والثياب، فوجد حافظة نقود وبها عشرة جنيهات، كما وجد الساعة وخاتما ذهبيا. يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة، فما الباعث إذن؟!
واستدعى البواب لاستجوابه، وهو نوبي طاعن في السن، يعمل في العمارة الصغيرة بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين. وقد أدلى بأقوال لها أهميتها، فقال عن القتيل إنه مدرس بالمعاش، يدعى حسن وهبي، فوق السبعين، يعيش وحده مذ توفيت زوجته، وله بنت متزوجة في أسيوط وابن طبيب يعمل في بور سعيد، وهو أصلا من دمياط. وتقوم على خدمته أم أمينة فتجيئه حوالي العاشرة صباحا، وتغادره حوالي الخامسة مساء. - وأنت ألا تؤدي له بعض الخدمات أحيانا؟
فقال العجوز بسرعة وتوكيد: ولا مرة في السنة، أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه. - خبرني عن يوم أمس! - رأيته وهو يغادر البيت في الثامنة. - ألم يكلفك بتنظيف الشقة؟
فقال الرجل بشيء من العصبية: قلت ولا مرة في السنة، ولا مرة في حياته، أم أمينة تجيء في العاشرة، فتطهو طعامه وتنظف الشقة وتغسل الثياب. - هل ترك نوافذ شقته - أو بعضها - مفتوحة؟ - لا أدري! - ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟ - شقته في الدور الثالث كما ترى، فالأمر غير ممكن، ثم إن العمارة محاطة بالعمارات من ثلاث جهات، والجهة الرابعة تطل على شارع البراد نفسه! - استمر في حديثك. - غادر البيت في الثامنة ثم رجع في التاسعة، وهذه هي عادته كل يوم منذ أكثر من عشر سنوات، ويبقى بعد ذلك في شقته حتى صباح اليوم التالي. - ألا يزوره أحد؟ - لا أذكر أني رأيت أحدا يزوره عدا ابنه أو ابنته. - متي زاراه لآخر مرة. - في العيد الكبير. - ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟ - الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح، أما الزبادي فتتسلمه أم أمينة عصرا. - هل تسلمته أمس؟ - نعم، رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة، ورأيته ذاهبا. - متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟ - حوالي المغرب. - ومتى جاءت اليوم؟ - حوالي العاشرة، ودقت الجرس فلم يفتح الباب. - هل خرج اليوم كعادته ؟ - كلا! - متأكد؟ - لم أره خارجا، وكنت بمجلسي عند الباب، حتى جاءت أم أمينة .. ثم عادت إلي بعد ربع ساعة لتخبرني بأنه لا يجيب فصعدت معها، ودققت الجرس وطرقت الباب، ولما لم يجب ذهبنا إلى القسم.
وقال الضابط لنفسه: إن هذا البواب لا يستطيع أن يخنق دجاجة، ولا أم أمينة، ولكنهما قد يسهلان إدخال شخص ما وإخراجه، لكن لم قتل الأستاذ حسن وهبي؟ هل ثمة سرقة ثمينة خافية؟ .. هل تركت الحافظة سليمة للتضليل؟! وهل وجود مفتاح الشقة بدرج المكتب لعبة أخرى؟
وقالت أم أمينة إنها خدمت في بيت المدرس منذ ربع قرن، خمسة عشر عاما، على حياة زوجه، وعشرة أعوام بعد وفاتها، ولكن المرحوم قرر أن تبيت في منزلها منذ ترمله. وهي أرملة، وأم لست من النساء، كلهن متزوجات من عمال وأصحاب حرف، وأدلت بعناوينهن جميعا. - كان أمس بصحة جيدة، قرأ الجرائد، وتلا جزءا من القرآن بصوت مسموع، وعندما تركت الشقة كان يستمع إلى الراديو. - ماذا تعرفين عن أهله؟ - من دمياط لكنه منقطع الصلة بهم تقريبا، ولا يزوره أحد إلا ابنه وابنته في المواسم والإجازات. - هل تعرفين له أعداء؟ - أبدا! - ألا يزوره أحد في بيته؟ - أبدا، وفي أحوال نادرة كان يجلس صباح الجمعة في القهوة مع بعض زملائه، أو مع بعض تلاميذه القدامى.
وتساءل الضابط: هل يمكن أن تقع جريمة بلا باعث ودون أثر؟ واستكمل الإجراءات الواجبة ففتش بمساعدة معاونيه مسكن البواب، وبيوت أم أمينة وبناتها الست، ثم استدعى أصحاب المرحوم القلائل، ولكن لم يدل أحد منهم بشيء ذي بال، وبدا مصرع الرجل لغزا محيرا للألباب. وشاع الخبر في الشارع، ثم نشر في الجرائد، فعلمت به العباسية كلها وأسف له كثيرون. وأكد الطبيب ابن القتيل أن والده لا يملك شيئا ثمينا على الإطلاق، وأن حسابه في البنك لا يتجاوز المائة جنيه، وفرها لحاجة طارئة ثم لخرجته آخر الأمر. وأكد أيضا أنه ليس له أعداء، وأن قتله قد يكون نتيجة طمع في ثروة وهمية، خمن المجرمون وجودها في مسكنه. وجرى تحقيق دقيق مع البواب وأم أمينة، لكنه لم يؤد إلى شيء فأفرج عنهما بلا ضمان. ووجد ضابط المباحث نفسه في حيرة ضبابية، وعانى إحساسا بالهزيمة لم يمر به من قبل. كان ذا تاريخ مشرف في مكافحة الجرائم شهد به الريف والبنادر، وفي الجملة كان من الضباط ذوي السمعة العالية. وهذه أول جريمة ينهزم أمامها هزيمة مطلقة بلا بارقة أمل، ولا عزاء. وبث عيونه في أوساط المشبوهين في الجبل وأطراف الوايلية وعرب المحمدي، لكنهم لم يرجعوا بفائدة. وقرر الطبيب الشرعي أن الأستاذ حسن وهبي مات خنقا، وتفحص جميع ما يخصه من أشياء؛ بأمل العثور على بصمة أو شعرة أو أي أثر مما يتركه المجرمون، ولكن مجهوداته ضاعت هباء، ووقف الجميع أمام فراغ صامت.
ومن شدة الهزيمة شعر الضابط محسن عبد الباري بالخجل، وتنغص عليه صفوه. وكان يقيم بشارع يشبك غير بعيد من القسم، فلما لاحظت زوجته كربه، قالت له برقة: لا يجوز أن تحرق دمك بلا سبب!
فلاذ بالصمت ومضى يسلي همه بالقراءة. وكان مغرما بقراءة الشعر الصوفي كأشعار سعدي وابن الفارض وابن العربي، وهي هواية نادرة بين ضباط المباحث؛ ولذلك أخفاها حتى عن خاصة الأصدقاء. وظل الحادث حديث العباسية، لغموضه المحير؛ ولأن المرحوم كان مدرسا لكثيرين من شباب العباسية وكهولها. ولكن بمرور أسبوع أو نحوه غاص الخبر في بحر النسيان المخيف، وحتى محسن عبد الباري قيده ضد مجهول، وقال لنفسه وهو يزدرد هزيمته المرة «مجهول! .. هذا هو حقا المجهول!»
وبعد شهر دعي الضابط إلى سراي قديمة بشارع العباسية العمومي؛ بسبب جريمة مشابهة! كأن الجريمة الأولى وقعت من جديد، فلم يكد محسن يصدق عينيه. وكان القتيل لواء قديما من رجال الجيش، وكان يعيش مع أسرته المكونة من زوجة في الستين، وأخت أرملة في الستين أيضا، وابنه الأصغر وهو طالب جامعي في العشرين من عمره، وكان يقيم في السراي أيضا البواب والبستاني وسائق السيارة وطاهية وخادمتان.
وجد اللواء صباحا في فراشه كالنائم، شأنه كل يوم، إلا أن الوقت تأخر به عن المألوف مما دفع بزوجته إلى تفقد حاله، لكنه لم يكن نائما، بل مخنوقا، وأثر الحبل محفور حول عنقه، وفي عينيه جحوظ فظيع، وحول الفم والأنف دم لزج. أما الحجرة فلم يختل بها نظام، ولا الفراش نفسه، ولم يسمع صوت في الليل ليوقظ النائمين في الطابق معه من أهله، وجملة القول أن الضابط وجد نفسه مرة أخرى أمام اللغز القاتل الذي سحقه منذ شهر في مسكن المدرس حسن وهبي، أمام المجهول بصمته وغموضه وغرابته وقسوته، وسخريته واستحالته. - هل وقعت سرقة؟ - كلا! - له أعداء؟ - كلا! - والخدم، أكانت علاقته بهم طيبة؟ - جدا. - أتشكون في أحد؟ - أبدا!
ومضى الضابط في الإجراءات بلا أمل، عاين السراي معاينة دقيقة، واستجوب الأهل والخدم. وكان يتوجس خيفة من مجهول، ويشعر بأن مؤامرة تدبر في الظلام للقضاء على ضحايا كثيرين، وعلى سمعته وكافة القيم في حياته، وشعر أيضا بأن ثمة لغز يوشك أن يخنقه بثقل غموضه، وأنه إذا مني بالفشل مرة أخرى؛ فلن يصلح للحياة ولن تصلح الحياة لأحد. ولخطورة شأن القتيل جاء نفر من كبار رجال المباحث؛ للإشراف على التحقيق بأنفسهم. وقال أحدهم باستغراب: توجد جريمة بلا شك، ولكن كأنها ترتكب بلا مجرم! - بل المجرم موجود، ولعله أقرب إلينا مما نتصور. - كيف ارتكب جريمته؟ - يطوق العنق بحبل دقيق، ثم يشد عليه حتى يزهق الروح، ولكن كيف يصل إلى مكان جريمته، وكيف يذهب دون أن يترك أثرا؟ - وما الباعث على القتل؟ - بواعث القتل متعددة تعدد البواعث على الحياة! - هل يمكن أن يقتل أحد بلا سبب؟ - إذا كان مجنونا فإنه يقتل بلا سبب، أو بلا سبب مما نقتنع به. - ما العلاقة بين المدرس واللواء؟ - كلاهما قابل للموت!
ونشر الخبر في الصفحات الأولى من الجرائد في عناوين مثيرة، فاهتز له الرأي العام، وبصفة خاصة أهل العباسية. وكان اللواء معروفا منذ عهد الانتخابات حيث رشح نفسه مرارا، فانتخب مرة عضوا بمجلس الشيوخ. وجند محسن جميع المخبرين للبحث والتحري، وأصدر إليهم تنبيهاته المشددة، وانكب على العمل برغبة محمومة في الظفر. وعاد إلى بيته آخر الليل خائر القوى والنفس. وصمم على كتم همومه عن زوجته التي بدأت في ذلك الوقت تعاني متاعب الحبل. وكان أخشى ما يخشاه أن ينقل من قسم الوايلي موصوما بالهزيمة؛ ليحل محله آخر كما كان يحل هو محل آخرين في الريف على عهد التوفيق والنصر. وعبثا حاول أن يسري عن نفسه بمطالعة الشعر؛ إذ ثبت ذهنه على الجريمة التي أمست رمزا على هزيمته.
من يكون هذا القاتل الرهيب؟ لا هو لص ولا هو منتقم ولا هو مجنون. المجنون قد يقتل ولكنه لا ينفذ جريمته بهذا الإعجاز الساحق. إنه يقف أمام لغز قوي قهار لا نجاة من عبثه، فكيف يتحمل مسئولية حماية الأرواح حياله؟!
ومل الناس - وبخاصة أهل العباسية - الخوض في الموضوع، وفتر اهتمامهم به، وهدأت النفوس بعض الشيء، واستحال جزع الضابط حزنا رزينا منطويا في أعماق النفس.
وإذا بالجريمة الثالثة تقع!
وجاء وقوعها بعد مصرع اللواء بأربعين يوما، وكان مسرحها بيتا متوسطا بين الجناين، وضحيتها شابة في الثلاثين، زوجة لمقاول صغير وأما لثلاثة أطفال. وكالعادة وجد كل شيء على مألوف حاله، عدا أثر الحبل الملتهب حول العنق والدم حول الفم والأنف وجحوظ العينين، ولا أثر بعد ذلك لشيء. وأدى محسن واجبه الروتيني بروح خامد يائس، وقد آمن بأن عذابه لن ينتهي أبدا، وبأنه نصب هدفا لقوة لا ترحم. وقالت أم القتيل وكانت تقيم معها: دخلت في الصباح لأتفقد حالها فوجدتها ...
وخنقتها العبرات، فسكتت حتى انحسرت عنها موجة البكاء، وقالت: كانت المسكينة مريضة بالتيفود منذ عشرة أعوام.
فهتف محسن داهشا: مريضة؟! - نعم، وكانت حالتها خطيرة، لكنها ... لكنها لم تمت بالتيفود! - ألم تشعري بحركة في الليل؟ - أبدا، كان الأطفال نائمين في هذه الحجرة، ونمت أنا على هذه الكنبة على مقربة من حجرتها لأسمعها إذا نادت، وكنت آخر من نام في البيت وأول من استيقظ، فدخلت الحجرة فوجدتها يا كبدي كما ترى!
وجاء الزوج عند الظهر عائدا من الإسكندرية على حال شديدة من الحزن. ومضى وقت قبل أن يجد نفسه في حال تسمح له بالإجابة على أسئلة الضابط. ولم يكن لديه قول يمكن أن يفيد التحقيق. كان بالإسكندرية لبعض الأعمال، أمضى نهار الأمس في القهوة التجارية مع أناس سماهم، وبات ليلته عند أحدهم بالقباري؛ حيث تلقى البرقية المشئومة. وصاح الرجل وهو يتأوه: يا حضرة الضابط، هذه حال لا تطاق، ليست الأولى، قتل المدرس واللواء قبل ذلك، أين البوليس؟ الناس لا يقتلون بلا قاتل، وكان عليكم أن تقبضوا عليه!
لم يتحمل محسن الطعنات فانفجر هاتفا: لسنا سحرة! .. ألا تفهم؟!
وسرعان ما ندم على ما بدر منه. وعاد إلى القسم وهو يقول لنفسه: «الحق أني أول ضحية للمجرم!» وود لو يستطيع أن يعلن عجزه. هذا المجرم كالهواء، وحتى الهواء يترك في البيوت أثره، أو إنه مثل حرارة الجو، ولكنها أيضا تترك أثرها. وحتام تقيد الجرائم ضد مجهول؟! وطوق العباسية الفزع، وزادته الصحافة اشتعالا. ولم يعد للمقاهي من حديث غيره، جرائم الخنق ومرتكبها الرهيب المجهول، إنه خطر داهم وليس أحد بمأمن منه، وتبددت الثقة برجال الأمن، وانحصرت الشبهة في المنحرفين والمجانين باعتبارها موضة هذه الأيام. وتبين من البحث أن أحدا من نزلاء مصحة الأمراض العقلية لم يهرب. ووردت على القسم رسائل من مجهولين، ففتشت بسببها بيوت كثيرة، ولكن لم يعثر فيها على أحد ذي خطورة، وكان أكثر المصابين من الطاعنين في السن. أبلغ البعض عن شاب معروف بالهوس والشذوذ من سكان شارع السرايات، فألقي القبض عليه وسيق إلى التحقيق، ولكن ثبت أنه في ليلة مقتل اللواء كان مقبوضا عليه في قسم الأزبكية لتحرشه بفتاة في الطريق، فأطلق سراحه. ضاع كل مجهود هباء، وقال محسن في أسى: المتهم الوحيد في هذه القضية هو أنا!
هكذا كان أمام نفسه، وأمام أهل العباسية، وأمام قراء الصحف. وتطايرت إشاعات لا يدري أحد كيف تطايرت. قيل إن المتهم معروف لدى رجال الأمن ولكنهم يتسترون عليه؛ لصلته القريبة بشخصية هامة. وقيل أيضا إنه لا يوجد متهم في الحق والواقع، ولا جريمة، ولكنه مرض خطير مجهول، وأن معامل وزارة الصحة تعمل ليل نهار في الكشف عن سره. وتفشت الحيرة والبلبلة بين الناس.
ويوما - وكان قد مضى على مقتل السيدة شهر أو نحوه - أبلغ الشرطي الديدبان بقسم الوايلي أنه عثر على جثة في العطفة الملاصقة للقسم. خبر لم يسمع عن مثله من قبل. وهرع الضابط محسن عبد الباري إلى مكان الجثة، وكان بوسعه - لو أراد - أن يعاينها من نافذة حجرته، وجد جثة رجل شبه عار، متسولا عن يقين، ملقى لصق جدار القسم، وكاد يصرخ من شدة الانزعاج حين وقعت عيناه على أثر حبل الخنق حول الرقبة! رباه! .. حتى هذا الشحاذ؟! وتفحص جلبابه كأنما ثمة أمل في العثور على شيء. ودعي شيخ الحارة للتعرف عليه فقرر أنه متسول من الوايلية الصغرى، بلا مأوى، ويعرفه الكثيرون. وجرى التحقيق مجراه لا سعيا وراء أمل، ولكن تغطية للهزيمة المزرية. وسئل سكان البيوت القريبة من مكان الجريمة، ولكن أي جديد ينتظر؟ .. ولم لا يسأل المقيمين في القسم أيضا وهو الملاصق للجريمة؟! وانتشر المخبرون في مواطن الشبهات، ولكنهم كانوا يبحثون عن لا شيء، عن خيال، عن روح. وكرد فعل للحنق الذي غمر النفوس سيق المشبوهون والمنحرفون بالعشرات إلى الحجز، حتى خلت منهم العباسية جميعا، ولكن ما الفائدة؟ وزيد عدد الشرطة بالشوارع وتضاعف عددهم بالليل. ورصدت الداخلية ألفا من الجنيهات مكافأة لمن يرشد إلى القاتل الخفي. وتناولت الصحافة الموضوع بقوة مثيرة في صفحاتها الأولى. وتضخم هذا كله في نفوس أهل العباسية، حتى استحال إلى أزمة مروعة. ركبهم الفزع، وعذبتهم الأوهام، وانقلبت أحاديثهم إلى هذيان، وهجر القادر منهم حيه، ولولا أزمة المساكن وظروف المعيشة القاسية لخلت العباسية من أهلها. ولكن لعل أحدا لم يتعذب كما تعذب الضابط محسن عبد الباري أو زوجته الحبلى السيئة الحظ. وقد قالت له على سبيل العزاء والتشجيع: لا لوم عليك، هذا شيء يعجز خيال البشر! - لم يعد لبقائي في وظيفتي معنى!
فقالت بجزع: دلني على تقصيرك! - يستوي المجهود الضائع والتقصير، ما دام لا يحفظ روحا ولا يدفع أذى! - ستنتصرون في النهاية كالعادة. - أشك في ذلك، فهذا شيء خارق للعادة.
ولم ينهم تلك الليلة. ظل ساهرا يفكر، ونازعته رغبة في الهرب إلى عالم شعره الصوفي. حيث الهدوء والحقيقة الأبدية .. حيث تذوب الأضواء في وحدة الوجود العليا، حيث العزاء عن متاعب الحياة وفشلها وعبثها. أليس عجيبا أن ينتسب إلى حياة واحدة عابد الحق وهذا المجرم الضاري؟ إننا نموت؛ لأننا نفقد حياتنا في الاهتمامات السخيفة. ولا حياة ولا نجاة لنا إلا بالتوجه إلى الحق وحده!
ولم يكد يمضي أسبوعان حتى وقع حادث لا يقل غرابة عن سابقة؛ إذ سقط جسم من آخر عربة للترام رقم 33 أمام شارع عشرة آخر الليل. وأوقف الكمساري الترام، ومضى نحو مصدر الصوت، ولحق به السائق، فرأيا أفنديا ممددا على الأرض. ظنا أنه سكران أو مسطول أو عثرت به القدم، وسدد السائق نحوه بطاريته اليدوية، وسرعان ما ندت عنه صرخة، ثم صاح وهو يشير إلى عنق الرجل: انظر ...
فنظر الكمساري فرأى أثر الحبل المشهور. وارتفع صوتاهما فهرع إليهما عدد من الشرطة والمخبرين المنتشرين في الزوايا والأركان. وفي الحال تم القبض على شخصين تصادف مرورهما قريبا من مكان الحادث وسيق الجميع إلى القسم. وكان للحادث رجة فظيعة، وكان على محسن أن يبذل مجهودا عنيفا يائسا آخر للضياع. وأفرج عن أحد المقبوض عليهما؛ إذ تبين أنه ضابط جيش بملابس ملكية، وجرى التحقيق مع الثلاثة الآخرين دون أن ينتهي إلى شيء. وذاق محسن مرارة الهزيمة والخيبة للمرة الخامسة، حتى خيل إليه أن المجرم يتقصده هو بالذات بألاعيبه الجهنمية. وذكرته شخصية المجرم برجل الروايات الخفي، أو مخلوقات الأفلام السينمائية التي تهبط إلى الأرض من الكواكب الأخرى. وقال لزوجته وهو يغلي بأحزانه: من الحكمة أن تذهبي إلى بيت والدك بالهرم، بعيدا عن هذا الجو المشحون بالعذاب والرعب.
لكنها تساءلت في احتجاج: أليس من المخجل أن أتركك على هذه الحال؟
فقال وهو يتأوه: ليتني أجد سببا وجيها لإلقاء اللوم على نفسي، أو على أي من معاوني!
ونوقشت المسألة في الصحف على نطاق واسع في مقالات مسهبة بأقلام علماء النفس ورجال الدين. أما العباسية فقد اجتاحها الذعر، وأمست تقفر مع المغرب من سكانها سواء في المقاهي أو في الطرق، وبات كل وكأنه ينتظر دوره. وبلغت الأزمة ذروتها عندما وجدت طفلة بمدرسة البنات الابتدائية مختنقة في دورة المياه.
وتابعت الأحداث بصورة مرعبة، وتلقاها الناس بذهول. لم يعد أحد يهتم بالتفاصيل المملة عن التحقيق والبحث وآراء الباحثين في الصحف. انحصر التفكير في الخطر الداهم الذي يزحف غير مكترث لشيء، ولا يفرق بين شيخ وشاب، وغني وفقير، رجل وامرأة، صحيح ومريض، في بيت أو في الترام أو في الطريق. مجنون؟ .. وباء؟ .. سلاح سري؟ .. خرافة من الخرافات؟! وغشي الحزن الحي شبه المهجور، وأنهكه الذعر، وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذها، ولم يعد لأحد من حديث غير الموت.
وكان محسن عبد الباري يتجول في الحي كالمجنون، يتفقد الشرطة والمخبرين، ويتفحص الوجوه والأماكن، ومضى في يأس تام. ويناجي يأسه طويلا، وهزيمته المريرة، ويود لو يقدم عنقه إلى المجرم شرط أن يعفي الناس من حبله الجهنمي. وزار مستشفى الولادة حيث ترقد زوجته. جلس إلى جانب فراشها قليلا وهو يرنو إليها وإلى الوليد، مفتر الثغر عن ابتسامة. ابتسامة لأول مرة منذ عهد غير قصير، ثم لثم جبينها وذهب. عاد إلى الدنيا التي يود ألا يراه فيها أحد، ووجد ما يشبه الدوار. الحياة التي يقضي عليها حبل مجهول فتصبح لا شيء. لكنها شيء بلا ريب وشيء ثمين، الحب والشعر والوليد. الآمال التي لا حد لجمالها. الوجود في الحياة .. مجرد الوجود في الحياة. أهناك خطأ يجب أن يصلح؟ ومتى يصلح؟ واشتد الدوار كما يحدث عند يقظة مفاجأة عقب نوم عميق.
ونمت أنباء إلى مأمور القسم بأنه تقرر نقل الضابط محسن عبد الباري، وإحلال آخر محله. استاء المأمور استياء شديدا، ومضى من فوره إلى حجرة الضابط الذي يقدره خير قدره. رآه مستلقي الرأس على المكتب كالنائم، فاقترب منه، وهو يقول بلطف: محسن ...
ناداه فلم يرد، وكرر النداء ولكنه لم يرد، هزه ليوقظه فمال رأسه ميلة غريبة. عند ذاك لمح المأمور نقطة دم فوق السومان. نظر نحو زميله بفزع فرأى أثر الحبل الجهنمي حول العنق، وزلزل القسم ومن فيه!
وحدثت سلسلة اجتماعات خطيرة في المحافظة، واتخذت قرارات هامة وعاجلة. واستدعى المدير العام جميع معاونيه وقال لهم بقوة وحماس: سنعلن حربا لا هوادة فيها، حتى يقبض على المجرم!
وتفكر قليلا ثم استطرد: هنالك شيء لا يقل خطورة عن المجرم نفسه، وهو الذعر الذي اجتاح الناس. - نعم يا أفندم! - يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة.
وتجلى التساؤل في الأعين المستطلعة فقال المدير: لن تنشر كلمة واحدة عن الموضوع في الصحف.
وآنس من الأعين فتورا، فقال: الحق أن الخبر يختفي من الدنيا إذا اختفى من الصحف.
وقلب عينيه في الوجوه ثم قال: لن يدري أحد بشيء ولا سكان العباسية أنفسهم.
ثم ضرب مكتبه بقبضته، وقال: لا حديث بعد اليوم عن الموت، يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة، ولن نكف عن البحث.
زينة
ازدحم مدخل العمارة رقم 115 بشارع رمسيس بالمنتظرين أمام أبواب المصاعد، وهو مدخل لا يخلو من ازدحام، كما يجدر بعمارة جميع شققها مؤجرة للشركات. وكان بين المنتظرين ثلاثة أشخاص جاءوا في وقت واحد على وجه التقريب، رجلان وفتاة، وكأكثر الحاضرين لم يكن يعرف أحدهم الآخر. وبطبيعة الحال لم ينتبه أحد إلى الرجلين، على حين تسللت نظرات الاهتمام إلى الفتاة لشبابها وجمالها وأناقتها. وبينا بدا أحد الرجلين كمن يناقش نفسه مناقشة حادة حتى جعل يقضم ظفره من حين لآخر، لاحت في عيني الآخر نظرة حالمة وحزينة، وعندما صادفت عيناه الفتاة دبت فيهما حياة متألقة كالزهرة.
قصد أول الثلاثة الشقة رقم 18 بالدور الثالث، فمضى إلى السكرتارية وحيا السكرتيرة اللطيفة هناك، وقال برقة ممزوجة بالثقة: محمد بدران.
ولم تكد الفتاة تغيب وراء باب المدير، حتى عادت وهي تقول: تفضل.
دخل محمد بدران حجرة المدير، فمد له هذا يده من وراء مكتبه وهو منهمك في مكالمة تليفونية، ثم أشار إليه بالجلوس، فغاص في مقعد جلدي كبير أمام المكتب. وبسرعة سحرية سرى في جلده وأعصابه الهواء المكيف فأنعشه وهدهده، وأخذ يجفف عرقه ويرطب لهيب الحر الذي عاناه في الطريق واختنق به في المصعد. وسرعان ما وعد نفسه بتركيب جهاز تكييف في حجرة مكتبه حالما تتحسن الأحوال عما قريب إن شاء الله، ولو يشاركه فيها الأبناء في بعض أوقات المذاكرة، بل ولا بأس من أن يتحول جزء منها إلى مكان لجلوس الزوجة في أشهر القيظ. وكالعادة انثالت على ذهنه أحلام الثراء بلا تحفظ، فأكملت ما ينقص حياته من الرفاهية. شقة جديدة في حي راق بعيدا عن روض الفرج طبعا، أثاث فاخر، مطبخ أمريكاني، بار أمريكاني أيضا، سخان، فريجيدير كبير، سيارة، شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف في الصيف ولعطلات المواسم في بقية الفصول. ولسبب ما خطرت بباله الفتاة الجميلة التي رآها في مدخل العمارة أمام المصعد. ما أجمل أن «يملك» الإنسان صديقة مثلها! فائقة الجمال حقا، ولجمالها أثر بهيج مثير لأحلام الشباب في الحب والنشوة السامية. ترى أما زال يذكر عهد الشباب الأول بأحلامه ومثالياته؟! وإذا به يستيقظ على صوت المدير وهو يقول: كيف حالك يا أستاذ محمد؟
فخرج من أحلامه قائلا: بخير ما دمت بخير يا سعادة المدير.
وضحكا معا بلا مناسبة ظاهرة، وإن أحنقه صوته الجهوري ذو النبرة الشديدة والجلجلة، ثم رفع إليه عينيه، كأنما يقول «في خدمتك يا أفندم»، فقال المدير الذي اعتمد مكتبه بمرفقيه: كيف الأحوال؟ - ماشية! ليس في الرأس إلا مشروعات. - كل شيء بأوانه، أراهن على أنك ستحقق مشروعاتك، أنا خبير بالرجال.
فابتسم قائلا: لنا زميل لعلك تعرفه، كنا نعمل منذ ثلاثة أعوام في جريدة واحدة بثلاثين جنيها، هل تصدق أنه يعمل اليوم بثلاثمائة جنيه؟ - ستجيء فرصتك أيضا (ثم وهو يضحك) وأنا ماذا كنت منذ خمسة أعوام؟ - لكنك رجل أعمال!
وضحكا مرة أخرى. وإذا بوجه المدير يسترد هيئته الجادة ويقول داخلا في موضوعه: أنا ارتأيت طريقة ستوفر عليك تعبا كثيرا.
ورمقه محمد بقلق كأنه خاف أن يعقب التوفير في التعب توفير في الأجر، ثم قال بعجلة: أنا لا يهمني التعب، إلي بنقط الموضوع، وسوف تقرأ مقالا لن يشك قارئه في أنه بقلم أخصائي من العلماء!
فلم يبد على المدير أنه اكترث لاعتراضه، وأخرج من درج مكتبه مقالة مسطورة على فرخين من الورق، فتساءل محمد في شبه انزعاج: كتبتها كلها؟ - لا ينقصها إلا إمضاؤك!
فتناولها الآخر في فتور، وهو يغمغم: لكن ...
فقاطعه قائلا بلهجة مرحة: اقرأ ولا تخف، متى وجدتني بخيلا يا جاحد؟!
فاسترد شيئا من طمأنينته، وهو يقول كالمحتج: ولكنك ستعودني على الكسل!
وراح يقرأ: «عزيزي القارئ، ماذا تعرف عن العقار الجديد «س. أ. ب»؟ لعلك تسمع عنه لأول مرة. ولم تسمع بطبيعة الحال عن الثورة العلمية التي أحدثها في أمم الشمال بصفة خاصة، وفي القارة الأوروبية بصفة عامة؟ في الأسطر القادمة ستعرف كل شيء عنه، مؤيدا بأقوال جمهرة من كبار العلماء. ولما كانت مجلتنا علمية قبل كل شيء؛ فإنا نرجو ألا يطوح الخيال بأحد قرائها، فإن اعتقادنا ألا قوة تستطيع أن تعيد الشباب إذا ولى، ولكن عقارا يؤخر الشيخوخة عشرة أو خمسة عشر عاما ليس مما يستهان به ...»
واستمر في قراءة المقال، والمدير يتابعه في اهتمام لا يخلو من سخرية، حتى أتمه، وتبادلا النظر في صمت مليا، ثم سأله المدير: ما رأيك؟ - مدهش، ثمة أخطاء في اللغة أو النحو ستصحح بطبيعة الحال، ولكنه مقال هام ومثير. - يجب نشره في صفحة مهمة.
فقال محمد بدران بشيء من المكر: أنت تعرفني من قديم، ولكن هناك معلومات قد تحتاج إلى تحقيق علمي، أو إلى تعديل على الأقل، إن مجلتنا ذات صفة علمية معترف بها!
فقال المدير ببرود: لن أزيد مليما على المبلغ المتفق عليه! - لا أقصد هذا. - بل تقصده! لا تكن طماعا، ستأخذ المجلة أجرة إعلان ممتاز جدا، وستأخذ أنت مكافأتك كما اتفقنا، فلا داعي للمشاغبة!
فدارى محمد هزيمته الخفيفة بضحكة، وقال بحرارة زائفة: أخاف أن يؤدي الإفراط في تناول العقار إلى ... - ما أجمل تلاوتك للآيات الإنسانية! لكنني أزعم أنني إنساني أكثر منك، هذا العقار إذا لم يفد فلن يضر، وهو مفيد قطعا ، والإنسان يعيش على الأوهام ويسعد بها.
وتناول من جيبه مظروفا صغيرا، ووضعه على المكتب أمام الأستاذ محمد، وكان هذا يعرفه كما يعرف وجه طفله، فأخذه وهو يبتسم قائلا: ألف شكر يا إكسلانس، ربنا ما يحرمني منك. - ولا منك يا أستاذ محمد!
وقاما في وقت واحد فتصافحا، ثم ذهب. وشملته حركة سريعة، أشبه بالاندفاع، هي طابعه في السير، وكان عليه أن يذهب إلى المجلة دون إبطاء. ولم يكن في ذهنه إلا المشكلات الخاصة بالمجلة التي عليه أن يحلها قبل هبوط الليل. في زمن بعيد نسبيا كان يفكر طويلا بعد تناول مثل هذا المظروف. على الأقل كان يقارن بدهشة بين حاله حين تخرجه في الجامعة والتحاقه بالعمل مخمورا بأسمى الآمال، وبين حاله التي صار إليها حين لم يعد لشيء قيمة إلا السيارة وجهاز التكييف، وتعليم الأولاد في الكلية الأمريكية. •••
وقصدت الفتاة الشقة رقم 33 بالدور الخامس. سارت بقامتها الرشيقة، ووجهها الجميل، وعينيها اللوزيتين اللتين تشعان حيوية، حتى انتهت إلى مكتب السكرتير، فقام بحماس وصافحها بحرارة، ثم أشار إليها بالجلوس وهو يقول: المدير مشغول، خمس دقائق، كيف حالك؟
جلست وهي تبتسم في تحفظ ماكر، وتشاغلت عن الشاب المحدق فيها بالنظر إلى الحجرة البديعة المعدة لاستقبال أهل الأهمية والمال. وعلق بصرها بلوحة من الفن الحديث لم تميز بوضوح من أشيائها إلا تفاحة استقرت في مكان غمازتها عين بشرية هالعة، على حين اكتنفتها خطوط وألوان فاقعة وأجزاء متناثرة من أعضاء الجسم الإنساني، وبصفة عامة خيل إليها أنها ترى ركن حجرة -كانت مأهولة بالبشر - أثر زلزال عنيف مدمر. استردت عينيها وهي ترفع حاجبيها المقرونين في شبه احتجاج ساخر، فرأت الشاب وهو يشير إلى الكرسي الجالس عليه، ويقول باسما: ستجلسين هنا بعد أيام. - متى تسافر إلى ألمانيا؟ - في نهاية الأسبوع على الأكثر، ولكن متى أراك ثانية؟
ودق جرس التليفون الخاص بالمدير، فرفع الشاب السماعة لحظة، ثم أعادها ومضى إلى الحجرة، وما لبث أن خرج مصحوبا بخواجا طاعن في السن، فأوصله حتى الباب. وعاد إلى الفتاة وهو يقول: تفضلي يا آنسة زينب!
وهي تمر أمامه في طريقها إلى الحجرة، همس في أذنها: أظن من الممكن أن نتقابل الليلة؟
فظلت تنظر فيما أمامها، وإن وشى عارضها بابتسامة، حتى غيبها باب الحجرة. تقدم المدير ليلاقيها في المنتصف، بقامته المترهلة، وصلعته الوضيئة، وانحنى نحوها بوجهه المجدور، يتقدمه أنف كالكف المبسوطة بين هالتين من سوالف بيضاء، فتناول يدها، وضغط عليها بحنان مريب، ومضى بها حتى أجلسها على المقعد الوثير أمام المكتب، ثم جلس على كرسيه، وعيناه لا تتحولان عن وجهها: خطوة عزيزة يا زوزو، كيف حال والدتك وأخواتك؟ - عال. متشكرة جدا يا فندم!
وكانت رغم مطاوعة الأمور تجد قلقا، وإحساسا كأنه التقزز، لكنها ابتسمت إلى عينيه المكللتين بحاجبين أشيبين، عينيه الحادتين رغم الكبر، وقاومت النفور المستقر في شعورها، والذي جاء معها من الطريق، بل من البيت، رغم محاولاتها القوية في مغالبته بالأحلام الخيالية المتألقة كالماس. - ستشرفين السكرتارية في نهاية الأسبوع.
اتسعت الابتسامة المغتصبة من شفتيها، فتحركت قسمات الرجل في نشوة كالطرب، وقال بحرارة: أنت ضوء الحياة يتسلل إلى قلبي المظلم من جديد، وسوف ينعكس على حياتك بالسعادة.
ذكرها هذا بما رددته جدران بيتها الصماء في غير حياء، وبأمها التي تبدو أحيانا كنمرة متوثبة، وإن تكن تنقلب قطة مستكينة عندما تندى جفونها بدمعة ما. وغمغمت في حرج: أرجو أن تجدني عند حسن ظنك!
فابتسم ابتسامة اقشعر لها بدنها، فندمت على ما فرط منها دون تدبر. وإذا به يتساءل: وقريبك؟
فقالت بامتعاض خفي: انتهى الأمر، فسخت الخطبة. - ماذا قلتم؟ - لم تعوزنا المبررات الوجيهة.
فقال بنبرة مبتهجة: لن تندمي على ما فات، أمك حكيمة، وأنت كذلك، إن متاعب الحياة لا تفض كما يزعم الحمقى في الصحف، ولكنها تفض بالإرادة الحية، إرادة شخص ذكي مثلك.
ما أبشع خجلها، أو ما أبشعه في بعض الأحيان على الأقل! لكنها لم تندم على فسخ الخطبة .. لم تعدها بحياة تستحق هذا الاسم، وتوعدت أسرتها بمتاعب جديدة، وهي لم تكن تحب قريبها. الآن لن يفصل بينها وبين من تحب شيء. حتى لو علم بحقيقة ما تمضي إليه؛ إذ من حسن الحظ أن الطيور على أشكالها تقع. وسألته باستهانة: ماذا يزعم الحمقى في الصحف؟ - أحاديث كألف ليلة وليلة عن إصلاح المجتمع والكون، ماذا تفيدين من ذلك أنت؟!
فرفعت كتفيها في استهزاء، فعاد يقول: لولا الدين لتزوجت منك بلا تردد!
فغضت البصر حتى شعر بأنه ينبغي أن يبرر موقفه، فقال: إن تغيير الدين كفيل بالقضاء على مركزي، وبالتالي على الوسائل التي يمكن أن أسعدك بها.
فقالت بارتياح خفي: هذا مفهوم وواضح.
فقال بحماس: ولو هيأت لك فيلا كاملة لأحرجتك، لكنك ستكونين السكرتيرة، شيء عادي وطبيعي، وستكون متع الدنيا بين يديك: صدقيني إن المال هو سر بهجة الحياة، وإني مصمم على جعلك أسعد مخلوقة في هذا الوجود. - متشكرة جدا! - فهز رأسه بارتياح وقال: سأرسلك إلى حمدي رجب مدير الإدارة ليمتحنك، مجرد إجراء شكلي؛ كي تسير الأمور في مجراها الطبيعي. - متشكرة جدا. - وخبري والدتك بأن تستعد للانتقال إلى مصر الجديدة. - سيجيء هذا في وقته!
وندمت مرة أخرى على ما أفلت منها من قول. باتت سريعة الغضب حقا، وإن ظل وجهها باسما هادئا. وأوشكت أن تغضب على طموحها المجنون نفسه.
وقامت وهي تقول: سأذهب إلى مدير الإدارة.
فقام أيضا ومضى حول مكتبه، وسارت نحو الباب فتبعها، وهو يرنو إلى رسم ظهرها البديع، حتى وقفا وجها لوجه وراء الباب. تناول يدها وانحنى كأنما ليقبلها، ولكنه مد وجهه عند منتصف المسافة إلى خدها فلثمه. ولبث داني الوجه من وجهها، وأنفاسه ترعش الأهداب الحريرية المسدلة من كلفة الفستان أعلى الصدر، ثم تساءل برغبة محمومة: أما من قبلة؟
فأومأت إلى الأحمر في شفتيها وتساءلت: و ... هذا؟ - ولو!
فلثمت جانب فيه، ثم استدارت نحو الباب. •••
وقصد ثالث الثلاثة الشقة رقم 50 بالدور الثامن. كانت صورة الفتاة الجميلة ما تزال تعايش خياله معايشة لطيفة، مخالطة أفكاره ومشاعره وأنفاسه، وكان يتصور في نشاط حار خلاق الحياة العريضة التي يمكن أن يصنعها ذلك المثال من الجمال الحي. لكنها انطوت في ركن مجهول أمام السكرتيرة الدميمة الذكية التي ابتسمت لاستقباله. حياها برقة وهز رأسه هزة المتسائل، وهو ينظر نحو باب المدير، فقالت على الفور: إنه ينتظرك يا أستاذ.
ودخل فقام المدير باسم الوجه وهو يقول: أهلا أستاذ وديع، جئت في وقتك!
وتصافحا، ثم جلس وديع. أما المدير فمال نحو صوان قريب، فمد يده داخله مليا، ثم قدم إلى الأستاذ لفافة ماسية أدرك هذا لأول وهلة أنها «قرش»، ثم قال: هدية لك! لم أعرف إلا مصادفة أنك من أهل الكيف!
وابتسم وديع في شيء من الارتباك، وهو يدسها في جيبه، وجلس المدير وهو يقول: قرأت القصة، جميلة، نعم جميلة، لي عليها بعض الملحوظات سأحدثك عنها عندما يبدأ الاجتماع (ونظر في الساعة) .. وإذا كان لدى الآخرين ملحوظات أخرى، فرجائي أن تفرغ من إعادة كتابتها قبل نهاية الشهر، حتى يجد كاتب السيناريو مهلة لكتابته، وحتى ندخل الاستديو في الميعاد المتفق عليه.
القصة تتغير، ولكن قصة القصة وقصة جميع القصص، واحدة. هذه هي المسألة التي يتكرر وقوعها عند مناقشة أي من قصصه. قصتك جميلة يا أستاذ .. ولكن! هي جميلة ولكن يجب أن تؤلفها من جديد. وتساءل من خلال تنهدة لم تسمع عن ذلك الركن من الدنيا الذي تجري فيه الأمور على طبيعتها وتنطلق الطيور مغردة، بلا خوف ولا جهل ولا طغيان، ولم يداخله شك في أنه سيجد هنالك الفتاة الجميلة التي عايشت خياله حتى أثملته. وتحرك حركة لا معنى لها، وقال على سبيل الدفاع عن النفس: يا أستاذ مجدي، أنت سألتني إن كان عندي قصة فقدمتها، ثم أخبرتني أنك قبلتها، أليس كذلك؟ - طبعا، لكن القصة ليست إلا مشروعا، وعلينا أن نبدأ من أساس متين حتى نضمن إنتاج فيلم نظيف، شركتي عنوان الإنتاج النظيف، ألا تعلم أنهم يطلقون علي اسم المنتج المجنون لهذا السبب؟!
كان يتابع صوته بغيظ مكتوم، وينظر بغرابة إلى وجهه المطل عليه من وراء مكتبه، متضمنا جميع آيات الصحة والعافية والتحدي. كانت ملامحه جميعا تنطق بالتحدي، عيناه الجاحظتان، أنفه المدبب، فكاه العريضان القويان، وكانت عنايته بالأناقة فائقة الحد، ورائحة المسك تفوح منه رغم علم جميع المقربين إليه من أنه يتدهن بها لرأي قرأه عن إثارتها في أحد الكتب الجنسية. هذا المدير الكبير الذي قضى زهرة العمر مندوبا لشركة تأمين، وما زال يباهي بطلاقته في الفرنسية، ويستعمل منها الألفاظ والعبارات لمناسبة ولغير مناسبة، إلى درايته بأشياء كثيرة في الحياة العملية، وإن يكن الشيء الوحيد الذي لم يفقه فيه حرفا هو الفن بصفة عامة، والقصة بصفة خاصة. وتساءل وديع عن اللعنة الغريبة التي قضت عليه طوال حياته الفنية بأن يقف موقف المستأذن بفنه أمام أناس لا يربطهم سبب واحد بهذا الفن. وتنهد من الأعماق تنهيدة خفية حارة كمعركة في أعماق المحيط.
وفي تمام السادسة مساء جاء المخرج الأستاذ محمد طنطاوي، وتبعه بعد قليل الموزع مسيو دزرائيلي، ثم قامت الحجرة لاستقبال النجمة عواطف زهدي. وهلت المرطبات ألوانا وضج المكان بالأحاديث والنكات والتعليقات، على حين انكمش الأستاذ وديع في كرسيه ينتظر أن تبدأ محكمة التفتيش عملها. وجعل يسترق إلى وجوههم النظرات.
وتساءل متى تتقوض سيطرة الطغاة. متى يمكن أن يفكر محمد طنطاوي كإنسان؟ متى يحل في رأس مسيو دزرائيلي شيء غير الأرقام والنقود؟ متى تقلع عواطف زهدي عن العادات المتأصلة التي اكتسبتها في بيت الهوى التي انتشلت منه إلى عالم الفن؟ متى يكف مجدي السيد عن إنتاج أفلام كعربون لعشق جديد؟ متى تقف هذه العوامل كلها عن التدخل في فبركة القصص؟ .. ووجد نفسه تستعيد صورة الفتاة الجميلة التي عايشته منذ قليل، وحلم مرة أخرى بالحياة العريضة التي يمكن أن يصنعها جمالها الحي.
وارتفع صوت المدير وهو يقول: هه، لندخل في الموضوع، الأستاذ وديع عبد الرازق هنا ليسمع آراءكم في قصته، فيجب أن ننتهي الليلة من المناقشة حتى يشرع فورا في تعديل القصة.
واتجهت الأنظار نحو مسيو دزرائيلي باعتباره رأس المال، وكان ضائعا في المقعد الضخم لقصر قامته وضآلة جسمه فتزحزح إلى الأمام حتى استوى على طرف المقعد، وقال باهتمام: القصة تبدأ ساخنة ولكنها تنتهي باردة، هذا شيء خطير جدا.
تركزت عليه الأبصار في انتباه واحترام، وتجلت مقدمات الموافقة دون كلام، ولما هم المخرج بفتح فيه قاطعه الخواجا قائلا: لا مؤاخذة يا محمد، أنا عندي موعد، ولا بد أن أذهب حالا، فاتركني حتى أتم كلامي، قلت ساخنة وباردة، وشخصية البطل غير محبوبة؛ لأنه غني، والمتفرجون في بولاق والسيدة زينب لا يحبون الأبطال الأغنياء، ولا مجال في القصة للضحك، الجمهور يحب الضحك، وجو الضحك فرصة لخلق رقصة أو أغنية، ابحثوا هذه النقط، وإذا تعذر تعديل القصة؛ فعندي لكم سيناريو جاهز قابل للتصوير فورا.
وتساءل وديع بحدة: سيناريو؟!
فابتسم إليه ملاطفا وقال: أنا وكيل توزيع أفلام أجنبية، وعادة أستحضر جميع السيناريوهات؛ لأختار على أساسها الأفلام التي أوزعها، وأشتري ما أشاء من الأفلام، ولكني أستبقي سيناريوهات الأفلام الأخرى حتى تسعفني في مثل هذه الزنقة، ولن يضيع حقك كمؤلف، فسيكتب اسمك على القصة الجديدة، ولن تتهم بالسرقة لأن الفيلم المصور عن هذا السيناريو لن يرد إلى الشرق الأوسط، فكروا فيما قلت، وسأتصل تليفونيا بك يا مجدي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ لأعرف النتيجة.
ووقف رافعا يده بالتحية فوقفت الحجرة، ثم ذهب.
وتغيرت تعبيرات الوجوه بعد ذهابه وانطلقت على سجيتها مما دل على أنه كان ثمة توتر غير ملموس ثم زال، وقلب مجدي ناظريه في الوجوه، وهو يقول بنبرة ملؤها التشجيع. - لا تهتموا بما قال، أنا عارفه، كلامه كثير لكنه يقتنع في النهاية برأيي، والحق أن هذه القصة صالحة تماما لعواطف.
فقالت عواطف: السيناريو الذي أشار إليه لخصه لي بالتليفون، وهو غير مناسب لي على أي حال، أنا لا أصلح لتمثيل الزوجة الخائنة، وسيغضب هذا غالبية جمهوري.
فقال محمد طنطاوي وهو يشعل سيجارة: فلنتكلم في قصة الأستاذ وديع. - خبرني عن رأيك فيها؟ - أنا أوافق دزرائيلي على أنها تنقصها الفكاهة.
فقال وديع بحرارة: الموضوع جاد، إذا أردت اللمسات الفكاهية هنا أو هناك، فهذه أمرها غير عسير، وهو يجيء في العلاج دون إفساد الفكرة الأصلية. - لا أقصد هذا، أنا أريد خلق شخصية مضحكة؛ لتلعب دورها في الفيلم كله، كتابع أو صديق للبطل.
فاستمات وديع في الدفاع قائلا: لكنها تبدو شخصية ملزوقة، وقد تكررت في أفلامنا حتى باخت.
فقالت عواطف: بالعكس هذه الشخصية تنجح دائما، ودورها مناسب لحمودة!
ولم يكن حمودة إلا أخاها؛ ولذلك لم يجد وديع في المعارضة جدوى، فعدل عنها قائلا: سأجد لها مكانا في القصة.
فعاد المخرج يقول: وسخن النهاية أكثر، إنها ليست باردة كما يقول دزرائيلي، ولكن تسخينها لا بأس به، اختمها بمعركة بين البطل وغريمه. - لا .. لا، هذه نهاية لا تناسب موضوعا نفسيا، ولا تناسب موضوعنا بحال، فكر في هذا من فضلك، إنها نهاية مناسبة لفيلم رعاة بقر أو ما يشابهه. - المعركة لعبة ناجحة، وأنا متخصص في المعارك.
فقال مجدي ضاحكا: يا أستاذ وديع، لا تظلم مخرجنا، كيف تحرمه في فيلم طويل، ولو من معركة واحدة؟ أتريده أن يضرب المتفرجين أو يضرب المنتج!
وضجت الحجرة بالضحك عدا وديع الذي مضى يجتر غمه صامتا، وإذا بعواطف تقول: ودوري مناسب بلا شك، ولكنه في النصف الأول من الفيلم سلبي.
فقال وديع اليائس من تتابع الضربات: دورك في الأول هو دور امرأة عادية، نموذج متكرر من نسائنا في البيت، ولكن دورك الحقيقي يبدأ بزواجك من البطل. - ليس هذا بدور بطلة فيلم! - ولكن هكذا القصة تسير. - ولو!
وتساءل ترى ألا يمكن أن يجد عملا آخر غير التأليف؟ وتأوه دون صوت. وعند ذاك قال مجدي: هذه ملاحظات بسيطة لن تغير جوهر القصة، وطبعا أنت موافق يا أستاذ وديع؟! - الحق أني غير موافق.
فضحك ضحكة مترعة بصحة وعافية، وقال: هكذا يكون موقفك كل مرة، وتستمر المناقشات حتى منتصف الليل، ثم تجبر بخاطرنا.
وقال المخرج: الأستاذ وديع عنيد ولكنه يسايرنا في النهاية، وفنان السينما يجب أن تذوب شخصيته في المجموع!
وندت عن مجدي آهة كأنما تذكر فجأة شيئا ذا بال، واستخرج من درج مكتبه شيكا وهو يقول: القسط الثاني حل منذ أسبوعين، لعن الله المشاغل!
ومد له يده به، فتناوله وهو يستشعر أول نسمة باردة في هذه الجلسة الجهنمية. وبدا منه أنه يستعد لمواصلة المرافعة، ولكن مجدي قال: ممكن أن نلخص ما تم الاتفاق عليه بما يأتي: خلق شخصية مضحكة لحمودة، تسخين النهاية بمعركة، خلق حوادث مهمة لعواطف قبل الزواج من البطل.
ثم ضحك ضحكة عالية وهو يقول: ولكن لا نريد حوادث قبل زواجها من المنتج.
وضجوا جميعا بالضحك، واستأذن المخرج ووديع فذهبا معا، ودعاه المخرج إلى سيارته الكبيرة ليوصله إلى محطة التروللي باس، فانسابت بهما السيارة كالعروس. وقال المخرج: مطلوب مني قصة لشركة أبو الهول سأخرجها بعد هذا الفيلم مباشرة، فهل عندك فكرة؟
عذاب جديد في سبيل رزق جديد. كم يسره هذا الطلب وكم يحزنه! وفكر مليا، ثم قال متسائلا: ما رأيك في موضوع عن المال؟ - قصة بوليسية؟ - كلا، إني أود أن أكتب عن المال باعتباره غولا مخيفا يلتهم القيم الجميلة بلا رحمة كالخلق والجمال والروح.
ففرقع محمد طنطاوي بأصبعيه فرحا، وقال بحماس: اشرع في كتابتها وقابلني يوم الجمعة لكتابة العقد، فكرة عظيمة، وهادفة، وصالحة جدا للاشتراك في جائزة وزارة الثقافة.
زعبلاوي
اقتنعت أخيرا بأن علي أن أجد الشيخ زعبلاوي.
وكنت قد سمعت باسمه لأول مرة في أغنية:
الدنيا ما لها يا زعبلاوي
شقلبوا حالها وخلوها ماوي
وكانت أغنية ذائعة على عهد طفولتي، فخطر لي يوما أن أسأل أبي عنه كعادة الأطفال في السؤال عن كل شيء، سألته: من هو زعبلاوي يا أبي؟
فرمقني بنظرة مترددة كأنما شك في استعدادي لفهم الجواب، لكنه قال: فلتحل بك بركته، إنه ولي صادق من أولياء الله، وشيال الهموم والمتاعب، ولولاه لمت غما.
وفي السنوات التي تلت ذلك سمعته مرات، وهو يثني أطيب الثناء على الولي الطيب وكراماته.
وجرت الأيام فصادفتني أدواء كثيرة، وكنت أجد لكل داء دواءه بلا عناء وبنفقات في حدود الإمكان، حتى أصابني الداء الذي لا دواء له عند أحد، وسدت في وجهي السبل وطوقني اليأس، فخطر ببالي ما سمعته على عهد طفولتي، وتساءلت لم لا أبحث عن الشيخ زعبلاوي؟! وذكرت أن أبي قال إنه عرفه في بيت الشيخ قمر بخان جعفر، وهو شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية، فقصدت بيته، وأردت التأكد من أنه ما زال يقيم فيه، فسألت بياع فول أسفل البيت، فنظر الرجل إلي باستغراب وقال: الشيخ قمر؟! ترك الحي من عهد بعيد، ويقال إنه يقيم اليوم بجاردن ستي، وأن مكتبه بميدان الأزهار.
واستدللت على عنوان مكتبه بدفتر التليفون، وذهبت إليه من توي في عمارة الغرفة التجارية. واستأذنت، ثم دخلت الحجرة على أثر خروج سيدة حسناء منها أسكرتني برائحة زكية كالسحر المخدر. استقبلني باسما، وأشار إلي بالجلوس، فجلست على مقعد جلدي فاخر، وأحست قدماي رغم غلظ النعل بغزارة السجادة ونفاستها. وكان الرجل يرتدي البدلة العصرية ويدخن السيجار، ويجلس جلسة المعتد بنفسه وماله، وينظر إلي بترحاب حار لم أشك معه في أنه يظنني زبونا، فركبني الحرج والضيق؛ لتطفلي على وقته الثمين. قال يستحثني على الكلام: أهلا وسهلا!
فقلت لأضع حدا لموقفي الحرج: أنا ابن صديقك القديم الشيخ علي التطاوي!
فمرت بنظرته رنوة فتور، لا الفتور كله؛ لأنه لم يفقد الأمل كله، وقال: الله يرحمه، كان رجلا طيبا!
فتشجعت على البقاء بقوة الألم الذي ساقني إلى المجيء، وقلت: كان حدثني عن ولي طيب يدعى زعبلاوي، قابله عند فضيلتكم، إني يا سيدي أريده إن كان ما يزال على قيد الحياة.
استقر الفتور في العينين. ولم أكن لأدهش لو طردني أنا وذكرى أبي معا، وقال بلهجة من صمم على إنهاء الحديث: كان ذلك في الزمان الأول، وما أكاد أذكره اليوم.
فقمت لأطمئنه إلى اعتزامي الذهاب، وأنا أسأله: أكان وليا حقا؟ - كنا نراه معجزة.
فسألته وأنا أتحرك لأزيد من طمأنينته: وأين يمكن أن أجده اليوم؟ - مدى علمي أنه كان يقيم بربع البرجاوي بالأزهر.
وأكب على أوراق على مكتبه بحركة قاطعة بأنه لن يفتح فاه مرة أخرى، فحنيت رأسي شكرا، واعتذرت عن إزعاجه مرات، وغادرت مكتبه وأنا لا أسمع للدنيا صوتا من وش الخجل في رأسي.
وذهبت إلى ربع البرجاوي الذي يقوم في حي مأهول لحد الاكتظاظ، فوجدته قد تآكل من القدم، حتى لم يبق منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل، رغم الحراسة الاسمية، مزبلة. وكان له مدخل مسقوف اتخذه رجل محلا لبيع الكتب القديمة من دينية وصوفية، وكان قميئا ضئيلا كأنه مقدمة رجل، فلما سألته عن زعبلاوي نظر إلي بعينين ملتهبتين ضيقتين، وقال باستغراب: زعبلاوي؟! يا سلام! والله زمان! كان يقيم في هذا الربع حقا عندما كان صالحا للإقامة، وكان يجلس عندي كثيرا، فيحدثني عن الأيام الخالية، وأتبرك بنفحاته، ولكن أين زعبلاوي اليوم؟!
وهز كتفيه في أسى، وسرعان ما تركني لزبون قادم. ورحت أسأل أصحاب الدكاكين المنتشرة في الحي، فاتضح لي أن عددا وافرا منهم لم يسمع عنه، وآخرين تحسروا على أيامه الحلوة، وإن جهلوا مكانه، والبعض سخر منه بلا حيطة، ونعتوه بالدجل، ونصحوني أن أعرض نفسي على دكتور كأني لم أفعل. ولم أجد بدا من العودة إلى بيتي يائسا.
ومضت الأيام مثل عكارة الجو، واشتد بي الألم، فأيقنت بأنني لن أصبر على هذه الحال طويلا، وعدت أتساءل عن زعبلاوي وأتعلق بالآمال التي بعثها اسمه القديم في نفسي. عند ذاك خطرت لي فكرة وهي أن أقصد شيخ حارة الحي، والحق أني عجبت كيف لم أفكر في هذا من أول الأمر. وكان مكتبه عبارة عن دكان صغير غير أن به مكتبا وتليفونا، وكان يجلس إلى مكتبه مرتديا جاكتة فوق جلباب مقلم، ولم يقطع دخولي حديثه مع رجل يجلس إلى جانبه، فوقفت أنتظر حتى انصرف الرجل، ثم نظر إلي ببرود، فقلت أفض مغاليقه بالقواعد المتبعة، فسرعان ما جرت البشاشة في وجهه، ودعاني إلى الجلوس وهو يسألني عن مطلبي، فقلت: إني في حاجة إلى الشيخ زعبلاوي.
فرمقني بدهشة كما رمقني السابقون من قبل، وابتسم عن أسنان مذهبة وهو يقول: على أي حال فهو حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا على غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثا عنه دون جدوى. - حتى أنت لا تستطيع أن تجده! - حتى أنا؟! إنه رجل يحير العقول، ولكن احمد ربنا على أنه ما زال حيا.
ونظر إلي مليا ثم تمتم: الظاهر أن حالتك شديدة. - جدا. - كان الله في عونك، لكن لم لا تستعين بالعقل؟
وبسط ورقة على المكتب ومضى يخطط عليها بسرعة ومهارة غير متوقعتين، حتى رسم للحي خريطة شاملة أحياءه وحواريه وأزقته وميادينه. نظر إليها بإعجاب، ثم قال: هذه مساكن، وهنا حي العطارين، وحي النحاسين، خان الخليلي، القسم والمطافئ. الرسم خير مرشد، وخذ بالك من المقاهي وحلقات الذكر والمساجد والزوايا والباب الأخضر؛ فقد يندس بين الشحاذين فلا يميز منهم. أنا في الواقع لم أره من سنوات، وشغلتني عنه شواغل الدنيا، وقد أعادني سؤالك عنه إلى أجمل عهود الشباب.
وجعلت أنظر في الخريطة بحيرة. ودق جرس التليفون فرفع السماعة وهو يقول لي بأريحية: خذها، ونحن في خدمتك.
غادرته وأنا أطوي الخريطة، ورحت أقطع الحي، من ميدان إلى شارع إلى عطفة، وأنا أسأل من آنس فيه إلماما بالمكان، حتى قال لي كواء بلدي: اذهب إلى حسنين الخطاط بأم الغلام؛ فإنه كان صديقه.
وذهبت إلى أم الغلام. وجدت عم حسنين يعمل في دكان ضيق عميق الطول، مليء باللوحات وحقاق الألوان، وتنبعث من أركانه رائحة غريبة هي خليط من رائحة الغراء والعطر. وكان عم حسنين متربعا فوق فروة أمام لوحة مسنودة إلى الجدار قد نقش في وسطها باللون الفضي اسم الله. وكان مكبا على زخرفة الحروف بعناية تستحق الاحترام، فوقفت وراءه متحرجا من إزعاجه أو قطع فيض الإلهام عن يده المنسجمة في ملكوتها، وطال انتظاري وإشفاقي، وإذا به يتساءل في لطف بلدي: نعم!
أدركت أنه كان على علم بوجودي فعرفته بنفسي، وقلت: قيل لي إن الشيخ زعبلاوي صديقك، وأنا أبحث عنه.
كفت يده عن العمل، وتفحصني متعجبا، ثم قال بنبرة تنهدية: زعبلاوي؟! يا سبحان الله!
فتساءلت بلهفة: هو صديقك، أليس كذلك؟ - كان يا ما كان، الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك، ويختفي فكأنه ما كان، لكن لا لوم على الأولياء!
انطفأ الأمل كما ينطفئ المصباح بغتة لانقطاع التيار، وقال الرجل: لازمني عهدا حتى خلت أنني أرسمه فيما أرسم، ولكن أين هو اليوم؟ - لعله ما زال حيا! - هو حي بلا ريب، وكان له ذوق لا يعلى عليه، وبفضله صنعت أجمل لوحاتي!
فقلت بصوت يكاد يطمسه رماد الأمل: يعلم الله أنني في مسيس الحاجة إليه، وأنت أدرى بالمتاعب التي يقصد من أجلها! - نعم .. نعم، شفاك الله، والحق أنه رجل كما يقال عنه وأكثر.
ثم وهو يبتسم مشرقا: وفي وجهه جمال لا يمكن أن ينسى، ولكن أين هو؟!
واقتلعت قدمي وأنا أصافحه ثم ذهبت. ومضيت أشرق في الحي وأغرب سائلا عنه من آنس فيه طول عمر أو خبرة، حتى أخبرني بياع ترمس بأنه قابله في بيت الشيخ جاد الملحن المعروف منذ زمن وجيز. وذهبت إلى بيت الموسيقار بالتمبكشية. ووجدته في حجرة بلدية، أنيقة، تتردد في جنباتها أنفاس التاريخ، وكان يجلس على كنبة، وعوده الشهير منطرح إلى جانبه منطويا على أجمل أنغام عصرنا، على حين ورد من الداخل صوت هاون ولغط صغار. وحالما سلمت وقدمت نفسي أشعرني بحلاوة استقباله وانطلاقه على سجيته بأنني في بيتي. ولم يسألني عما جاء بي سواء بالكلام أو الإشارة. ولم أشعر بأنه يداري السؤال أو يضمره حتى عجبت للطفه وإنسانيته. وقلت مستبشرا خيرا: يا شيخ جاد، أنا من عشاق فنك، طالما طربت له في أفواه المطربات والمطربين.
فقال باسما: تشكر!
فقلت في حياء: لا مؤاخذة على إزعاجك، قيل لي إن زعبلاوي صديقك، وأنا في أشد الحاجة إليه.
فقطب في اهتمام وقال: زعبلاوي؟! أنت في حاجة إليه؟ الله معك، ترى أين أنت يا زعبلاوي؟
فتساءلت في لهفة: ألا يزورك؟ - زارني منذ مدة، قد يحضر الآن، وقد لا أراه حتى الموت!
فتنهدت بصوت مسموع وتساءلت: لم كان كذلك؟
فتناول العود وهو يضحك، وقال: هكذا الأولياء؛ وإلا ما كانوا أولياء! - ويتعذب عذابي من يريدهم؟ - هذا العذاب من ضمن العلاج!
وأمسك بالريشة وراح يعابث الأوتار، فينطقها نغما عذبا، فتابعته شارد اللب، ثم قلت وكأنني أخاطب نفسي: إذن ضاعت زيارتي سدى!
فابتسم وهو يلصق خده بجنب العود، وقال: الله يسامحك، أيقال هذا عن زيارة عرفتني بك وعرفتك بي؟!
فخجلت أيما خجل وقلت معتذرا: لا تؤاخذني، أخرجني شعور الخيبة عن حدود الأدب. - لا تستسلم للخيبة، هذا الرجل العجيب يتعب كل من يريده، كان أمره سهلا في الزمان القديم، عندما كان يقيم في مكان معروف. اليوم الدنيا تغيرت، وبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام، بات البوليس يطارده بتهمة الدجل، فلم يعد الوصول إليه بالشيء اليسير، ولكن اصبر وثق بأنك ستصل.
ورفع رأسه عن العود، واتنظم العزف حتى صار مقدمة موسيقية واضحة، وإذ به يغني:
أدر ذكر من أهوى ولو بملامي
فإن أحاديث الحبيب مدامي
وعلى جمال اللحن والغناء تابعته بقلب غافل مكدود. ولما فرغ من الأداء قال: لحنت هذه القصيدة في ليلة واحدة، وأذكر أنها كانت ليلة عيد الفطر. وكان هو ضيفي طوالها، وهو الذي اختار لي القصيدة، وكان يجلس حينا بمجلسك هذا، وحينا يلاعب أولادي كأنه أحدهم، وكلما غلبني الفتور أو استعصى علي الإلهام لكمني مداعبا في صدري وضاحكني، فيجيش قلبي بالنغم وأواصل العمل حتى اكتمل لي أجمل لحن صنعته.
فتساءلت في دهش: أله في الطرب؟ - هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء، وتهيج أريحية الخلق في صدرك. - وكيف يشفي من المتاعب التي يعجز عنها البشر؟ - هذا سره، ولعلك تظفر به عند اللقاء.
لكن متى يجيء اللقاء؟! ولذنا بالصمت، فعادت ضوضاء الصغار تملأ الحجرة. ومضى الشيخ في الغناء مرة أخرى، وجعل يردد: «ولي ذكرها» في ألوان من طبقات النغم ومحاسنه حتى رقصت الجدران من سكرة الطرب. وأعربت عن إعجابي بكل جوارحي، فشكرني بابتسامته العذبة، ثم قمت مستأذنا فأوصلني إلى الباب الخارجي، وعندما صافحته قال لي: سمعت أنه يتردد هذه الأيام على الحاج ونس الدمنهوري، ألا تعرفه؟
فهززت رأسي بالنفي، وانتفاضة أمل جديد تدب في قلبي، فقال: هو من الوارثين، ويزور القاهرة من حين لآخر، فينزل في فندق ما، ولكنه يسهر كل ليلة في حانة النجمة بشارع الألفي.
وانتظرت الليل ثم ذهبت إلى حانة النجمة. سألت نادلا عن الحاج ونس، فأشار إلى ركن شبه منعزل لموقعه وراء عامود مربع ضخم تقوم بأضلعه المرايا في كل جانب، وهنالك رأيت رجلا يجلس إلى مائدة وحيدا، وأمامه فوق المائدة زجاجة فارغة إلى ثلثها، وأخرى فارغة تماما، وعدا ذلك لا يوجد شيء من مزة أو طعام، فأيقنت أنني حيال سكير خطير. وكان يرتدي جلبابا فضفاضا حريريا وعمامة مقلوظة، ويمد ساقيه حتى أصل العامود ناظرا إلى المرآة في ارتياح وانسجام. وقد توردت صفحة وجهه المستدير الوسيم - رغم دنوه من الشيخوخة - بحمرة الخمر. اقتربت منه في خفة حتى توقفت على مبعدة ذراعين من مجلسه، ولكنه لم يلتفت نحوي ولم يبد عليه أنه شعر بوجودي، فقلت برقة متوددة: مساء الخير يا سيد ونس!
فالتفت نحوي بشدة كأنما أيقظه صوتي من سبات، وحدجني بنظرة إنكار، فقدمت إليه شخصي معتذرا عن إزعاجه، وهممت توضيح السبب الذي جاء بي إليه لكنه قاطعني قائلا بلهجة شبه آمرة وإن لم تخل من لطف عجيب: تفضل بالجلوس أولا، واسكر ثانيا!
ففتحت فمي لأعتذر لكنه وضع إصبعيه في أذنيه، وقال: ولا كلمة حتى تفعل ما قلت.
أدركت أنني حيال سكران ذي نزوات، فقلت أسايره حتى منتصف الطريق، فجلست وابتسمت وقلت: أرجو أن تسمح لي بسؤال واحد.
لم يرفع أصبعيه من أذنيه، وأشار إلى الزجاجة وقال: في مجلس كمجلسي هذا لا أسمح بأن يتصل بيني وبين أحد كلام، إن لم يكن سكران مثلي، وإلا خلا المجلس من اللياقة وتعذر فيه التفاهم.
أفهمته بالإشارة أنني لا أشرب فقال بقلة اكتراث: هذا شأنك، وهذا شرطي!
وملأ لي كوبه، فتناولته في رضوخ وشربته، وما إن استقر في جوفي حتى اشتعل، فصبرت عليه حتى ألفت عنفه، وقلت: إنه لشديد، وأظن آن لي أن أسألك عن ...
لكنه أعاد إصبعيه إلى أذنيه، وقال: لن أصغي لك حتى تسكر!
وملأ الثاني فنظرت إليه مترددا، ثم تغلبت على احتجاجي الباطني، وشربته دفعة واحدة، وما إن استقر في موضعه حتى فقدت إرادتي. وعلى أثر الثالث ضاعت ذاكرتي، وعقب الرابع اختفى المستقبل، ودار بي كل شيء، ونسيت ما جئت من أجله. أقبل علي الرجل مصغيا، ولكني رأيته محض مساحات لونية لا معنى لها، وهكذا كل شيء بدا. ومر وقت لم أدره حتى مال رأسي إلى مسند الكرسي وغبت في نوم عميق، وفي أثناء نومي حلمت حلما جميلا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها، تنتثر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية، فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعانقة، ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم. وكنت مستلقيا فوق هضبة من الياسمين المتساقط كالرذاذ، ورشاش نافورة صاف ينهل على رأسي وجبيني دون انقطاع. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء، وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا، فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون. ولم يدم ذلك إلا فترة قصيرة فتحت بعدها عيني. أخذ الوعي يلطمني كقبضة شرطي، ورأيت ونس الدمنهوري ينظر إلي بإشفاق، ولم يكن بقي في الخانة إلا بضعة أشخاص كالنيام. وقال الرجل: نمت نوما عميقا، لا شك أنك جائع نوم.
فأسندت رأسي الثقيل إلى راحتي، ولكنني رددتها في دهشة ونظرت فيها، فرأيتها تلمع بقطرات ماء، وقلت محتجا: رأسي مبتل!
فقال بهدوء: نعم، حاول صاحبي أن ينبهك! - أرآني أحد على هذه الحال؟! - لا تغتم، إنه رجل طيب، ألم تسمع عن الشيخ زعبلاوي؟
فانتفضت قائما وأنا أهتف: زعبلاوي؟!
فقال بدهشة: نعم، مالك؟! - أين هو؟ - لا أدري أين هو الآن، كان هنا ثم ذهب.
هممت بالجري، ولكن إعيائي كان فوق ما قدرت، فما لبثت أن تهاويت فوق الكرسي، وصحت بيأس: ما جئتك إلا لألقاه، ساعدني على اللحاق به أو أرسل أحدا في طلبه!
فدعا الرجل بائع جمبري، وأمره بالبحث عن الشيخ وإحضاره، ثم التفت إلي قائلا: لم أكن أدري أنك مصاب، آسف جدا!
فقلت بغيظ: لم تدعني أتكلم. - يا خسارة! كان يجلس على هذا الكرسي إلى جانبك، وكان يتغزل طيلة الوقت بعقد من الياسمين حول عنقه أهداه إليه أحد المحبين، ثم عطف عليك، فراح يبلل رأسك بالماء لعلك تفيق!
فسألته وعيناي لا تفارقان الباب الذي ذهب منه بائع الجنبري: هل يقابلك هنا كل ليلة؟ - كان معي الليلة، وليلة أمس، وأول أمس، ولم أكن رأيته منذ شهر!
فقلت وأنا أتنهد: لعله يأتي غدا. - لعله! - أنا على استعداد لأعطيه ما يريد من نقود.
فقال أنس بإشفاق: العجيب أنه لا تغريه المغريات، ولكنه سيشفيك إذا قابلته! - بلا مقابل؟ - بمجرد أن يشعر بأنك تحبه!
وعاد بائع الجنبري بالخيبة، وكنت قد استعدت بعض نشاطي، فغادرت الحانة وأنا أترنح. وعند كل منعطف ناديت «يا زعبلاوي» لعل وعسى، ولكن لم يفدني النداء، ولفت إلي غلمان السبيل فتطلعوا نحوي بأعين هازئة، حتى لذت بأول عربة صادفتني.
وساهرت أنس الدمنهوري الليلة التالية حتى الفجر، ولكن الشيخ لم يحضر. وأخبرني ونس بأنه سيسافر إلى البلد، وبأنه لن يعود إلى القاهرة حتى يبيع القطن. وقلت علي أن أنتظر، وأن أروض نفسي على الصبر، وحسبي أني تأكدت من وجود زعبلاوي، بل ومن عطفه علي مما يبشر باستعداده لمداواتي إذا تم اللقاء. ولكنني كنت أضيق أحيانا بطول الانتظار فيساورني اليأس، وأحاول إقناع نفسي بصرف النظر نهائيا عن التفكير فيه. كم من متعبين في هذه الحياة لا يعرفونه، أو يعتبرونه خرافة من الخرافات، فلم أعذب النفس به على هذا النحو؟
ولكن ما إن تلح علي الآلام حتى أعود إلى التفكير فيه، وأنا أتساءل متى أفوز باللقاء؟ ولم يثنني عن موقفي انقطاع أخبار ونس عني، وما قيل عن سفره إلى الخارج للإقامة، فالحق أنني اقتنعت تماما بأن علي أن أجد زعبلاوي!
نعم، علي أن أجد زعبلاوي!
الجبار
أخيرا تراءت القرية، والليل يهبط من ذروة الأفق. والقوم عائدون وراء البهائم ينوءون بالإعياء. والخلاء المدثر بالمغيب يترامى إلى ما لا نهاية. تقدم أبو الخير بقدمين متورمتين نحو القرية. من شدة الخوف تجمد قلبه فلم يعد يخفق بالخوف. ومن شدة الألم لم يعد يشعر بالألم. ولمحه العائدون فاتسعت الأعين دهشة وفغرت الأفواه، وراحوا يتهامسون ويشيرون نحوه. وغض أصدقاؤه بينهم الأبصار. وجعل يشق طريقه بعيدا عنهم ماضيا نحو مصيره. وتابعته الأعين وهو يبتعد رويدا رويدا، حتى لم يبق منه إلا ما يبقى في الخاطر من حلم. وهزوا الرءوس وقالوا: ضاع الرجل .. انتهى أبو الخير! •••
وقعت مأساة أبو الخير فيما يشبه المصادفة. غلبه النعاس ذات ليلة في مخزن الغلال بدوار سيده الجبار. واستيقظ على حركة، لكنه للوهلة الأولى لم يشعر إلا بأنه شيء غارق في الظلام، أي مكان؟ أي زمان؟ لم يدر شيئا في الوهلة الأولى، ثم ردته رائحة الغلال إلى وجوده. وانتبه إلى الحركة التي أيقظته، فمد نحوها بصره في الظلام، وإذا به يسمع صوتا يقول في ضراعة ورعب: لا .. لا .. يا سيدي!
هذا الصوت يعرفه، صوت زنوبة بنت عليوة. مذعورة كأن وحشا يأكلها، توثب أبو الخير ليعرب عن شهامته بعمل ما، لكن صوتا غليظا عميقا سبقه هاتفا في نبرة محمومة: اسكتي!
تسمر في مكانه وخارت قواه، هذا الصوت يعرفه أيضا. صوت سيده، عبد الجليل، الجبار، السلطة، القانون، الحياة والموت. نسي زنوبة وانحصر تفكيره في وجوده غير المبرر في هذا المكان، في المأزق الذي خلقته غفوة خائنة، وبم يجيب لو استجوب! وفي لحظة اقتنع بأن الورطة ورطته هو لا ورطة زنوبة وحدها، وبأن الذنب ذنبه هو لا ذنب الجبار الذي لا يسأل عما يفعل، وظل يحملق في الظلام حتى تراءى له كائن ضخم كالشبح يضطرب بالحركة. لعله الجبار مستوليا على البنت كالفرخ بين مخالب الحدأة. واستمرت الضراعة الباكية تلطمها الزجرة المحمومة كما تلطم الزوبعة ورقة الشجر. وتولاه فزع وتقزز ويأس حتى أحب لو يستجيب الله مرة أخرى إلى دعاء نوح. وندت عن الأرض خشخشة مكتومة نمت عن تحركات الأقدام المتوترة، ولم تتعد دائرة الشرك الرهيب، وأنين متوجع أعقبته همهمة كلفحة نار. وخيل إليه أن الظلام يعوي تحت وطأة ثقيلة، وأن عروقه ستنفجر. وتوثب ليصرخ لأنه لم يعد يتحمل الألم، غير أن صرخة من الجبار سبقته، صرخة ألم مباغت، بدأت حادة ثم غلظت وانتهت كالزئير، ثم صاح: يا مجرمة!
وسمع وقع لطمة شديدة تبعت بأنين مستسلم يائس وسقوط جسم، جسم رقيق خفيف الوزن. وقال الجبار بحنق ملتهب: يا مجرمة! .. خذي!
وانهالت مطرقة القدم الغليظة على المتأوهة. خذي .. خذي .. خذي. وتواصل الأنين آخذا في الهبوط حتى اختفى، وتلته زفرات هامسة، أما الغضب فاشتعل جنونه إلى ما لا نهاية، خذي .. خذي .. خذي، وصاح أبو الخير بلا وعي: اتق الله!
فتلقى صوتا كالقذيفة متسائلا: من؟
فاندفع أبو الخير نحو الباب، وشده إليه. انفتح الباب وتدفق ضوء القمر، فمرق أبو الخير منه، وإذا بالجبار يصيح: عرفتك، أبو الخير، قف!
جرى كالرصاصة بقوة التقزز والفزع واليأس، والصوت في أعقابه: ولد يا أبو الخير .. يا مجرم .. قف يا مجرم!
وتردد صوت السيد فهرعت نحوه الأقدام، وأرهفت الأسماع. وما لبثت أن استيقظت القرية، وجعل أبو الخير يجري شوطا ويهرول آخر، حتى انتهى إلى كوخ صديقه حارس حقل بطيخ بزمام العماري. ارتمى إلى جانبه وهو يلهث من الجهد والكلال، فأقبل الآخر عليه مرحبا ملاطفا ومواسيا. قدم له كوز ماء ليشرب ويبلل وجهه، وراح يصغي إلى مأساته في جوف الليل. وتنهد أبو الخير أخيرا وتساءل: أتكلم في النقطة؟
فهز صاحبه رأسه محذرا وقال: يقتلونك ولو في المحكمة!
فتساءل في حيرة: والعمل؟ - اختف! - طول العمر؟
فرفع الحارس رأسه إلى السماء دون كلام، فقال أبو الخير: الولية والبنت في القرية تحت رحمة الجبار بلا معين! - فكر في حياتك!
فتنهد في كرب شديد وتساءل: أين القانون؟
فضحك الحارس ضحكة جافة، وقال: تجده نائما في بطن بطيخة!
في اليوم التالي جاءه الحارس بأخبار. قال له إنه ذاع في القرية أن أبو الخير اغتصب البنت وقتلها ثم هرب. شهد بهذا السيد نفسه، والجميع يصدقونه دون مناقشة. وأهل الضحية في حريق من الحزن، كذلك الأهل والجيران. ورجال كثيرون توعدوا بالانتقام. والحكومة تجري التحقيق وتسمع أقوال الشاهد الوحيد. وحق الخزي على امرأته وابنته وأخرسهما الحزن. - جريمتي أنني رأيت جريمة الآخر! - لم نمت في المخزن؟ - أمر ربنا!
فرمقه بأسف قائلا: اختف!
ومر بالحارس رجال من رجال السيد يبحثون عن أبو الخير. ومر به رجال من أهل البنت الضحية. سمع أبو الخير من مخبئه أصوات المجدين في البحث عنه، ولمح وجوههم الكالحة ونذر الموت المتطايرة من محاجرهم. - سأهرب. - نعم، ربنا معك! - ليس معي مليم!
فقال وهو يداري خجله بغض البصر: ولا أنا!
وانطلق أبو الخير عند جثوم الظلام بلا هدف ولا معين. لم يكن جاوز طيلة حياته السوق بحال، ولا يعرف عن الدنيا شيئا. وتجنب القرى القريبة لعلمه بأنها في متناول الجبار، إلا أن الحكومة نفسها تجد الآن في أثره. ولا سبيل إلى تبرئة نفسه، وسيكون دائما عرضة في هذه البقاع، وفي أي لحظة إلى رصاصة تنطلق فتقضي عليه. وظلام هذا الليل لن يمتد إلى الأبد، سرعان ما ينقشع عن ضوء النهار، ويبدو هو للأعين كعقرب تستبق إليها الهراوات والنعال، ومن لامرأته وابنته؟ من لهما في جو ينضح بالمقت والرغبة في الانتقام؟ وجد في السير على غير هدى. ووجد الأشياء تعلن في حذر عن ذواتها، فوضحت نوعا ما أشجار الصفصاف والنخيل، والزرع المنتشر تتخلله المماشي، وترعة ابتسم ماؤها وتلألأت أطراف من موجاته، فخرج من ذهوله متعجبا، والتفت لخاطر برق في رأسه المكدود نحو الأفق إلى يساره، فرأى القمر صاعدا فوق الأرض بأذرع متجليا كأكبر ما يرى، وأسهم الضياء تنطلق منه وانية. ضايقه على غير عادة القمر، وجعل يلتفت إلى الوراء كلما أوغل في السير. وترامى نباح من أطراف الصمت الثقيل، ومرة تعالى عواء فارتعدت فرائصه. أين منه مصر الكبيرة، ليذوب في زحمتها ويجد مخبأ ولقمة؟ كم يلزم من الوقت للقدم المتورمة لتقطع ما يقطعه القطار السريع في أربع ساعات؟ وانطلقت زعقة غفير كصفير القاطرة فتوقف لها قلبه. لعله يعترض سبيله متسائلا عن هويته ومذهبه. وخاف أن يتقدم خطوة. ومال نحو شجرة جميز فلبد عند أصلها كأنه نتوء في سحائها. لن يتعرض له غفير في ضوء النهار، ولكن من للمرأة والبنت؟! يمكن أن يبلغ بعد العذاب مصر، ولكن من يحمي المرأة والبنت؟ وكيف تطيب الحياة لمن يعيش مطاردا إلى الأبد محروق القلب على امرأته وابنته؟ ولبث يحملق في الفضاء، أفكاره تتلاطم، والساعات تمر، حتى سرقه النوم. واستيقظ وهو يحلم بأنه يتهاوى من قمة جبل. فتح عينيه فرأى الأقدام الغليظة تضرب من حوله حلقة محكمة.
وقف فزعا وهو يلمح الرجال يرمونه بنظرات كالأحجار المدببة، وجيادهم وراء ظهورهم تصهل. وهتف من الأعماق: أنا في عرض النبي!
فلطمه أحدهم لطمة أردته على الأرض وصاح به: تهرب يا ابن التيس؟!
فهتف مرة أخرى: أنا في عرض النبي!
فغرس الرجل قدمه في بطنه وهتف: تغتصب البنت وتقتلها! - أنا ...
أوشك أن يقول أنا بريء، ولكنه تذكر لحسن حظه أنه يخاطب رجال الجبار فأمسك، ورمق الرجل بنظرة ذليلة خرساء فقال الرجل: ارجع واعترف.
فقال بنبرة باكية: يشنقونني!
فركله بقسوة وقال: السيد لن يتركك لحبل المشنقة! - يسجنونني!
فركلة ركلة أشد من الأولى، وقال: ويعيش أهلك في أمان!
تأوه يائسا ولم ينبس فزمجرت الحناجر تتعجله، فقال بصوت مهموس: سأرجع!
ورجع يقطع الطريق على قدميه، وهم يتبعونه عن بعد.
وأخيرا تراءت القرية. والليل يهبط من ذروة الأفق. والقوم عائدون وراء البهائم ينوءون بالإعياء. والخلاء المدثر بالمغيب يترامى إلى ما لا نهاية. تقدم أبو الخير بقدمين متورمتين نحو القرية. من شدة الخوف تجمد قلبه، فلم يعد يخفق بالخوف. ومن شدة الألم لم يعد يشعر بالألم. ولمحه العائدون فاتسعت الأعين دهشة وفغرت الأفواه. وراحوا يتهامسون ويشيرون نحوه، وغض أصدقاؤه بينهم الأبصار. وجعل يشق طريقه بعيدا عنهم ماضيا نحو مصيره. وتابعته الأعين وهو يبتعد رويدا رويدا، حتى لم يبق منه إلا ما يبقى في الخاطر من حلم، وهزوا الرءوس وقالوا: ضاع الرجل ... انتهى أبو الخير!
كلمة في الليل
أخيرا انزاح، وأصبحت إحالته على المعاش حقيقة واقعة. وانتشر الخبر في المراقبة مشيعا الارتياح العميق في كل إدارة. وكان ثمة تهامس كالأنين بأن في النية مد خدمته عامين جديدين. وبسبب ذلك نجح سكرتيره الخاص في جمع التبرعات لإقامة حفل تكريم له، ثم جاء الخبر اليقين كالشفاء بعد المرض. وتبادل الموظفون التهاني بلا حرج، وفرح حتى أتعسهم كادرا، وحق لمحمد الفل رئيس المحفوظات أن ينقر على مكتبه الكالح جذلا ويقول: ألم يكفنا أننا تحملناه أربعين عاما؟! اللهم إن لنا الجنة بغير حساب!
وروح يسري طاهر كاتب القيودات العجوز بدفتر القيد على وجهه، وقال: في ألف داهية يا حسين يا ضاوي!
ولم يكن في سيرة الرجل المحال على المعاش شيء يخفى، ولكنهم أقبلوا عليها كأنما تؤرخ لأول مرة. وأبرز يسري طاهر القابع تحت رفوف المحفوظات المكدسة رأسه - من بين صفين عاليين من الملفات فوق مكتبه - كرأس السلحفاة وقال: دخلنا الخدمة في يوم واحد، قرار تعيين واحد شمل يسري طاهر وحسين الضاوي وعلي الكفراوي وعبد السلام زهدي ورغيب إسكندر (وكان يشير بأصبعه إلى الثلاثة الآخرين) ثم أعطاه ربنا، أو أعطاه الشيطان وهو الأصدق، حتى تقلد منصب المراقب العام في سرعة مذهلة، ماذا فعل لنا؟ كان يمر بنا وكأنه لم يعرفنا، لم يمد لأحد يدا، داسنا كأننا حشرات حتى اكتظت ملفات خدمتنا بالعقوبات، ومضى يترقى حتى بلغ القمة ونحن ما زلنا في القاع، عليه اللعنة!
فطوى رغيب إسكندر وكيل الصادر الجريدة التي كان يتفحصها، وتزحزح إلى الوراء قليلا؛ ليتفادى من شعاع الشمس المنعكس على ضلفة النافذة الزجاجية، وضحك ضحكة مقتضبة كالنذير، ثم قال بنبرة ممطوطة تناسب الجري وراء الذكريات البعيدة: الله يسامحك يا حسين يا ضاوي، كنا جميعا من ساقطي الابتدائية، وعملنا معا عمالا في المطبعة، وكان سعادته يجيء أحيانا بالجلباب والقبقاب ألا تذكرون؟ ليس الفقر عيبا طبعا، ولكن العيب في الطرق الملتوية الشاذة المهينة التي يرتفع بها بعض الناس بغير الحق، ويوما انتقل عامل المطبعة كاتبا بسكرتارية المدير! كيف ولم؟ وبعد سنة عين سكرتيرا للمدير، ثم مديرا لمكتبه، ثم زوجا لابنته، ثم انطلق كالصاروخ الذي نسمع عنه في هذه الأيام! يا خبر أبيض يا حسين يا ضاوي! ولا الأحلام!
فقال محمد الفل رئيس المحفوظات مكايدا: كانت الفرصة أمامكم فلم خبتم؟!
وتجاوبت ضحكاتهم الملتوية المائعة كأنما تحكي فضيحة، وقال يسري طاهر: لا يتيسر الوثوب الخاطف إلا لمن حاز مؤهلات خاصة!
وتساءل محمد جاد، وهو كاتب حديث الخدمة: ألم يكن المراقب من حملة الليسانس؟
فقال رغيب إسكندر بتسليم: حصل على الابتدائية والكفاءة والبكالوريا، وليسانس الحقوق من منازلهم!
فارتسمت الدهشة في وجه الشاب، حتى قال علي الكفراوي مدير الدفترخانة: لا تدهش، كان قوة نشاط عجيبة، لكنه لم يرتفع بفضل شهاداته، بل إنه لم يحصل عليها إلا حين وجد نفسه في مركز لا يليق أن يستمر فيه دون شهادة عالية، كان قذرا بكل معنى الكلمة، ولكنه في القدرة على العمل فاق إبليس نفسه!
فعاد محمد الفل يقول، وهو يكور راحته على السبحة: العمل؟! ذكرتني يا سي علي، كانت حياته عملا خالصا، عمل .. عمل .. عمل، أيمكن أن يعد ذلك فضيلة؟! ما قيمة العمل إذا لم يختم يوم الإنسان بساعة صفاء ومحبة تجعل للحياة طعما؟ هه؟ أما مديرنا العام - السابق والحمد لله - فلم يتمتع بحياة على الإطلاق، دوسيهات .. ملفات .. مذكرات .. تلك كانت حياته، حتى يوم الجمعة كان يواصل العمل في بيته، وكان يعمل كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وحتى في الأعياد والمواسم الرسمية، ولم يقم في إجازة اعتيادية في حياته كلها مرة واحدة، عمل .. عمل .. عمل، وكان هدفه من العمل خدمة وكيل الوزارة أو الوزير؛ ليتقاضى في النهاية علاوة أو درجة، حياة كاملة مضت على وتيرة واحدة بين مسكنه في الحدائق وميدان لاظوغلي .. أعوذ بالله!
فقال عبد السلام زهدي وكيل الوارد ووجهه يتقلص اشمئزازا: حتى الطعام كان يتناوله شطائر في مكتبه بسرعة ولهوجة، وانقطعت أسبابه بأسرته أو كادت، حتى بناته المتزوجات لا يراهن إلا خطفا، وامرأته قضت حياتها في شبه فراغ مخيف، إنه مجرم ولكنه قضى على نفسه بالعقوبة التي يستحقها، ذلك الرجل البغيض الذي لم يعرف من الدنيا إلا الملفات والمذكرات والتعاليم المالية.
وهز رغيب إسكندر رأسه في أسى وقال: لكنه لم يكن عدو نفسه فقط، كان أيضا عدو الآخرين.
وسرعان ما سال الامتعاض من زوايا الأعين، وقال محمد الفل بنبرة مغيظة محنقة: لم أر موظفا كذلك، الرجل استغل جهود جميع مرءوسيه ليفيد هو منها وحده، ويمنع الخير عن الآخرين، كما لو كان سيؤخذ من لحمه ودمه!
فأردف عبد السلام زهدي قائلا: وحتى هذا شر سلبي، أما مقالبه وغدره ونميمته ووقيعته؛ كل أولئك فشر إجرامي، كم أحرق قلوبا هذا الرجل! - قل كم خرب بيوتا! - الله يرحمه فريد قناوي مات، وهو يدعو عليه على فراش موته! - وحسني غنيم مدير الحسابات السابق شل بسببه!
فقال يسرى طاهر كاتب القيودات: لا حصر لضحاياه، لكنه لم يفكر إلا في شيء واحد هو مصلحته، وترك الوزارة بلا صديق، أؤكد لكم أنه لا صديق له في الدنيا.
وحوالي الساعة السادسة من مساء الخميس، وقف تاكسي أمام نادي «فينكس»، فنزل منه حسين الضاوي. جاء ليشهد الحفل الذي يقام لتكريمه فوق حديقة السطح لمناسبة إحالته على المعاش.
كان قضى في المعاش يوما واحدا، يوم الأربعاء، يوم لن ينسى في الأيام. أقل ما يقال فيه إنه جعله يتساءل فيما يشبه الرعب: هل حقا يستطيع أن يتحمل يوما آخر كذلك اليوم؟! وحيرته في مسكنه صباحا تحت أعين امرأته المشفقة هم آخر لا ينسى. والراديو تسلية لم تخلق له، لا يكاد يعرفه، ولم يجد الفرصة ليتعرف به. والكون كله بدا أنه كف عن الحركة. وارتدى بدلته التي لم يعد لها معنى كأنها بدلة عسكرية لضابط متقاعد، وغادر البيت غارقا في الكرب، ومشى حتى أدركه الإعياء سريعا، فاستقل عربة إلى وسط المدينة. أزعجه الازدحام كأنما سد مسالك تنفسه. وتريث قليلا أمام معارض المحال التجارية، ولكن عينيه لم ترغبا في رؤية شيء ولم يكترثا لشيء، وخشي أن تقع عليه في تخبطه عين أحد من معارفه، أي من الأعداء، فلاذ بأول مقهى صادفه، ومضى إلى آخر ركن فيه. لم يكن ارتاد مقهى منذ أربعين عاما، مذ كان يجالس يسري طاهر وعلي الكفراوي ورغيب إسكندر وعبد السلام زهدي في مقهى المالية في الزمان الأول. وقال لنفسه إنه يأوي أخيرا إلى ملجأ الكسالى والعجزة، فعصرته حسرة.
وتصفح جريدة، ولكن ماذا يقرأ؟ لم يهمه في الجريدة فيما مضى إلا أخبار الوفيات والدواوين. وسرعان ما تململ في مجلسه فكرهه وكره من فيه، وطوقته الوحدة كالقبر، وشعر في انفصاله عن الوزير والوكيل والمذكرات بضياع أبدي. غادرة القهوة ليسير بلا هدف على ما في ذلك من جهد لم يعتده، ووجد نفسه يمر بسينما فدخل. والسينما كذلك مكان لم يطرقه طوال الأربعين عاما إلا مرات معدودات في مناسبات الاحتفالات التقليدية بخطبة بناته، ولم يلبث فيها إلا نصف ساعة، ثم غادرها وهو يزفر مللا ويأسا، وعاد إلى البيت ذليلا. وجد ابنتيه المقيمتين في القاهرة في زيارته، فجالسهما طويلا لأول مرة منذ عهد لا يذكره، واستقر بنفسه أول إحساس بالارتياح في يومه الجهنمي. ثم وجد نفسه منفردا بزوجته في جلسة مرهقة، والراديو يواصل ضجيجه لا يهمه منه شيء ولا يهزه شيء. وساءل نفسه: ألا يعد امرأته في معسكر أعدائه المزدحم؟ هي لم ترض يوما عن أسلوب حياته، واحتجت المرة بعد المرة على إهمالها وفراغها وجفاف حياتها، ولولا أن وجدت ملاذا في بيتي ابنتيها لحطمت حياتها بيديها. ترى هل ارتاحت إلى هذه النهاية الخانقة؟! .. هل تحلم بشيء من الأنس تجده في وحشته المنكسرة؟! وحين استلقى في فراشه تساءل في رعب: كيف يتحمل يوما آخر كهذا اليوم؟!
أما حفل التكريم هذا؛ فهو آخر ما يربطه بالماضي، بالناس. وهو حدث له أهميته، على الأقل لتعلم الوزارة خطورة الرجل الذي تقاعست عن مد مدة خدمته، وليعلم أعداؤه من كبار الموظفين وصغارهم أي رجل هو! سوف يقف أمامهم مهيبا جبارا مستهينا باسما، ولن يدري أحد بالذل الذي كابده أمس. إنهم يمقتونه مقتا ولكن خطباءهم سيستبقون إلى الإقرار بمزاياه التي لا يمكن إنكارها، وسيرد على تحياتهم بتحية بارعة يؤكد بها تلك المزايا بطريقته الخاصة، وسيجد فرصا للتهكم من كبار أعدائه بلياقة شيطانية. إنها آخر حلبة ملاكمة يخوضها، ملاكمة بقفازات حريرية لكنها مبطنة بالحديد ، وليخرجن منها ظافرا. استقل المصعد إلى سطح النادي، ومضى نحو مدخل الحديقة في مشيته التقليدية التي كانت تفسح له الطريق في أروقة الوزارة كأنه قاطرة. وامتد بصره إلى الداخل فرأى الموائد على هيئة صدر وجناحين، ولكن المقاعد كانت خالية، أو شبه خالية! وعلى وجه الدقة لم ير إلا السادة: صلاح الدين كامل مدير المستخدمين، وإبراهيم شافعي مدير الحسابات، وأمين هنداوي مدير المخازن، وزيادة عبيد المراقب العام الذي حل محله، أربعة من أعدى أعدائه، وبخاصة الرجل الأخير. ثقلت قدماه وطاف به ما يشبه الدوار. حلوى وورود ولكن أين الآدميون؟! كادت تخذله إرادته لولا الاستماتة في مدافعة الشماتة بأي ثمن. الأوغاد الجبناء قاطعوا الحفل. ترى أهي مكيدة مدبرة؟ ومن المدبر؟ لكنه ابتسم. أجل ابتسم حسين الضاوي كما كان يبتسم في فترات الهزائم الوقتية التي تعقب استقالة وزير صديق، وتقدم نحو أعدائه يصافحهم واحدا واحدا، ثم ألقى نظرة على المقاعد الخالية، وقال وهو ما يزال يبتسم: فيكم الكفاية، تفضلوا بالجلوس.
جلسوا. وجاء الخدم ليؤدوا الخدمات المألوفة، وانتظر الرجل حتى ابتعد الخدم، ثم أطلق ضحكة ميتة، وقال مداريا حرجه: يبدو أن الختام ليس مسكا ولا كالمسك!
فقال مدير المخازن في دهشة بلهاء: لعله وقع خطأ ليس في الحسبان.
فقال مدير الحسابات: ننتظر على أي حال.
ولكن حسين الضاوي قال باستهانة: الانتظار لن يجدي.
فقال صلاح الدين كامل، وكان أقربهم جميعا إلى روح المهادنة، قال وهو ينظر إلى المقاعد الخالية: لم أر في حياتي قلة ذوق كهذه!
فحسا الضاوي حسوة شاي باللبن، ثم قال والغضب يشتعل تحت قبضة إرادته: لا أدري شيئا عما وقع، ولا يهمني كثيرا أمره، وسأصارحكم برأيي كما عودتكم. هنالك طراز واحد من الرجال أحترمه؛ طراز الرجل القوي، وهو غير المحبوب بطبيعة الحال، ولو كنت ممن يلتمسون الحب ما أعجزني!
وعكست عينا زيادة عبيد المستديرتان الصغيرتان الحادتان نظرة ساخرة، سرعان ما فجرت الغضب الكامن في عروق الضاوي، فقال وهو يحدج خصمه في حنق: أنا لا يهمني شيء، لم يوجد رأس لم ينحن لي طويلا.
فتظاهر زيادة بالدهشة لغضب الرجل، وقال ببرود كالموت: طول عمرك مناضل ملاكم، ولكنني لا أذكر أني رأيتك غاضبا مرة واحدة!
فقال الضاوي بصوت ملتهب: لم يحدث أني وجدت أمامي من يستحق أن يثير غضبي!
فتساءل صلاح الدين كامل برجاء: ألا يمكن أن تمر الجلسة بسلام؟!
فأشار الضاوي إلى المقاعد الخالية، وهتف بصوت متهدج: مؤامرة دنيئة!
فرمقه زيادة عبيد بهدوء ساخر، وقال ببروده المعتاد: أنت مخطئ، لم نعمل على منع أحد من الموظفين من الحضور، وما جئنا إلا لظننا بأنهم موجودون في الحفل؛ حتى نحافظ أمامهم على كرامتنا كموظفين كبار!
ثم بهدوء مركز كالسم: وإلا ما كان هناك باعث واحد يدعونا إلى المجيء!
امتقع لون الضاوي وتحركت شفتاه حركة عصبية كحركة ذيل البرص المقطوع، وركز في خصمه عينيه، وعشرات الاحتمالات الجنونية تتلاطم في رأسه، لكنه كظم الطوفان في اللحظة المناسبة، وقال بحقد وتحد: أنا غير نادم على أنني عاملت كل شخص بما يستحقه!
فتساءل زيادة بسخرية: ماذا جنيت من حياتك؟! الدرجة ها أنت تتركها في مكانها، الدرجة التي نبذت كل شيء في سبيلها، وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضا.
وعاد صلاح الدين كامل يقول برجاء: سيسمعنا الخدم!
فوقف الضاوي وهو يقول دون مبالاة: لا يهمني، المراقب العام لا يهمني بتاتا، كذلك الخدم، كل شيء يبدو حقيرا لا يستحق الأسف! .. السلام عليكم.
ومضى دون أن يصافح أحدا. وما لبث أن سافر إلى المنصورة ليمضي أياما عند كبرى بناته .. قضى أسبوعا في صحة أقرب إلى الاعتلال، ولكنه رجع إلى الحدائق على حال لا بأس بها. وخيل إليه أنه نسي حفل التكريم وآلام الهزيمة ولكن الحزن لم يفارقه، ولا الخوف من المستقبل، من الملل والفراغ. وكان أعجب ما وقع له أنه اكتشف عند صلاة الصبح أنه لم يكن يفقه معنى للفاتحة. حقا لم ينقطع يوما عن الصلاة، ولكنه كان يؤديها كما يحلق ذقنه، وكما يعقد رباط رقبته بفكر مشغول بأمر أو بآخر، بمذكرة يعدها، ببند من التعاليم المالية، بمعركة يتوثب لها، بأي شيء إلا الصلاة.
ولأول مرة وجد نفسه أمام هذه العبارة «باسم الله» بلا شاغل يشغل قلبه عنها، فاكتشفها لأول مرة في حياته. وشعر بدوار وغرابة، وتساءل كيف مر ذلك العمر الطويل؟! ومن شدة انفعاله غادر مسكنه إلى الطريق، وسار فيه إلى الداخل لا إلى الشارع العمومي كما ألف أن يفعل كل يوم في عشرات الأعوام الماضية. لم يتفق له أن يسير في هذا الاتجاه أبدا منذ زمن بعيد جدا، وبخاصة فيما وراء المنعطف، ولا كان ثمة ما يدعوه إلى ذلك، فظل يحتفظ له بصورته القديمة إذ كان طريقا مقفرا تحدق به الحقول من الجانبين. باسم الله، بها تبدأ كل سورة، والحق يجب أن يبدأ بها كل شيء، ولعل هذا هو المراد حقا. وكلما أوغل في الطريق بدت له كائنات جديدة لم تكن لتخطر له على بال. امتدت على الجانبين الفيلات بحدائق مخضرة منسقة، وتراءت وراءها الحقول. وقامت على الطوارين الأشجار بجمالها الرزين، كأنها في صمتها تتناجى بلغة تنتظر من يكشف عن سرها كما كشف هو عن سر آخر. وبدا الطريق ممتدا إلى غير نهاية، فعجب غاية العجب، وتساءل متي خلق هذا العمران كله؟! وخيل إليه أنه سيخجل كثيرا عند البوح بكشفه لأحد من الناس. ولكن أي أحد من الناس يعرفه ليبوح له بكشفه؟ إن العمران لم يدخل بعد قلبه؛ قلبه المقفر من كل شيء. «وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضا»، كما وجدها يوم الأربعاء أول أيام المعاش، ماذا جنى من حياته الماضية؟ ماذا جنى غير الفراغ والدوار؟ قدمت من الجهد فوق ما يطيق البشر، ولكنه جهد مضى باسم الطموح الجنوني، باسم الجشع، باسم الأنانية، باسم الكراهية، باسم الحقد، باسم العراك، ولا عمل واحد باسم الله. وتأوه في موقف اختاره تحت ظل شجرة غير مبال بأنظار المارة. ترى هل فات الأوان وضاعت الفرصة؟ وامتد بصره مع الطريق، فتراءت أشجاره المتباعدة كأنها سياج شبه متصل من الخضرة اليانعة، تتخللها رءوس المصابيح الكهربائية البيضاء. كل هذا العمران والجمال قائم في الطريق الذي يعيش فيه من قديم، وهو لا يدري به! ماذا يعرف من هذه الدنيا العجيبة؟! وماذا يفعل ماضيه المثقل؟ وتنهد في حزن كأنه بنيان يتقوض. ورجع إلى مسكنه وهو يلهث من الانفعال فوجد امرأته جالسة تتشمس فجلس إلى جانبها، وهو يقول: لم أكن أتصور أن شارعنا على هذا القدر من الجمال!
فتساءلت: ماذا حدث له؟ - شارع جديد، ممهد ونظيف، والفيلا والأشجار!
فقالت بدهشة: هو كذلك طول عمره. - لكنني لم أره إلا اليوم!
فرمقته بنظرة فاترة، لكنها ناطقة بأمر انتقاد وتأنيب فتقبلها خاضعا، وتساءل في لهفة: ترى هل في العمر بقية لإصلاح الماضي الفاسد؟ للاعتذار عن كل هفوة، والتكفير عن كل جريمة، وتحويل الأعداء والضحايا إلى أصدقاء؟! وفكر مليا، ثم قال بحماس طفلي: ألا يمكن أن يبدأ الإنسان حياة جديدة، ولو في مثل عمري؟ - أي حياة؟! - جديدة بكل معنى الكلمة، أرجو أن تجيبي بأن هذا ممكن.
فساورها حب استطلاع مشوب بقلق، وقالت: لا أفهم، ماذا تعني؟ - سوف تفهمين.
جديدة بكل معنى الكلمة. وإلا فكيف يحتمل العمر الباقي؟ .. هل ينسى يوم الأربعاء؟ وأغمض عينيه كمن يتذكر أشياء مستعصية. وكانت تتابعه بعينين قلقتين، فما لبثت أن ساءلت نفسها: ترى لم يبتسم هكذا؟
وكان حقا يبتسم، ابتسامة جديدة، لا نفاقا ولا تشفيا ولا استفزازا ولا سخرية ولا مكرا ولا تحريضا ولا ولا.
ابتسامة صافية.
حادثة
كان يتكلم في تليفون الدكان بصوت مرتفع، ليسمع صوته رغم ضوضاء شارع الجيش الصاخبة. وجعل يميل بنصفه الأعلى داخل الدكان ليبتعد ما أمكن عن الضوضاء، ثم ختم حديثه بقوله «انتظرني، سأحضر فورا»، وأعاد السماعة إلى موضعها وتناول علبة سجائر هوليود من فوق الطاولة، ونقد البائع نقوده (ثمن العلبة والمكالمة) واستدار فوق الطوار متجها نحو الطريق. كان في الستين أو نحوها، طويل القامة نحيلها، كروي الجبهة والعينين، مكور الذقن، وأما صلعته فلم يبق فوق مرآتها إلا جذور شعر أبيض مثل منابت شعر ذقنه. وقد أفصح مظهره عن إهمال صريح نتيجة للسن أو الطبع أو نسيان الذات . على ذلك كان يتمتع بحيوية مرحة، وتلتمع عيناه بنشاط وابتهاج، فأشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا، وبدا أنه ينظر إلى الداخل لا إلى الطريق، ثم مال يمنة بمحاذاة صف من اللوريات الواقفة لصق الطوار، حتى وجد منفذا إلى الشارع. ونفض السيجارة وهو يبتسم، ثم مرق من المنفذ ليعبر الشارع إلى ضفته الأخرى، وما كاد يجاوز مقدمة اللوري الأخير حتى شعر باندفاع سيارة فورد نحوه بسرعة فائقة. وقال أحد الشهود فيما بعد إنه كان عليه أن يتراجع بسرعة، وإنه لو فعل ذلك لنجا رغم سرعة السيارة، لكنه لسبب ما - لعله المفاجأة أو سوء التقدير أو القضاء - وثب إلى الأمام وهو يهتف: «يا ساتر يا رب». وجرت الحوادث متلاحقة. ندت عن الرجل صرخة كالعواء، وفي ذات الوقت انطلقت صرخات الفزع من المارة والواقفين على الطوار وفوق إفريز محطة الترام. ورئي الرجل وهو يرتفع في الفضاء أمتارا ثم يهوي فوق الأرض كشيء غير آدمي. وصدر عن فرملة الفورد صوت محشرج متشنج ممزق وهي تزحف على الأرض بعجلات متوقفة جامدة. وهرع نحو الضحية في ثوان عشرات وعشرات كأسراب الحمام، حتى تكون منهم سور غليظ منيع، وانتشر في المنطقة الهرج. ولم ينبض جسم الرجل بحركة واحدة، وكان منكفئا على وجهه، ولا يجرؤ أحد على لمسه، وإحدى رجليه ممدودة إلى آخرها، والأخرى منثنية منحسرة البنطلون عن ساق نحيلة غزيرة الشعر، وقد فقدت فردة حذائها، وتغشاه صمت بخلاف كل شيء حوله كأن الأمر لا يعنيه ألبتة. وألصق سائق الفورد ظهره بالسيارة من باب الحيطة، وراح يخاطب مجموعة من الحفاة أحدقت به على سبيل المراقبة: لا ذنب لي، اندفع هو من أمام اللوري فجأة، وبسرعة، ودون أن ينظر إلى يساره كما يجب.
وإذا لم يجد وجها مستجيبا عاد يقول بلهجة خطابية: لم يكن في الإمكان أن أتجنب صدمه!
وند عن المصاب صوت كالزفير المكتوم، وتحرك حركة شاملة مباغتة، ثانية واحدة، ثم غرق في اللامبالاة! - لم يمت! حي. - لعلها إصابة بسيطة. - لكنه طار في الهواء، والعياذ بالله! - ولو، عفو ربنا كبير. - لا يوجد دم؟ - عند فمه، انظر! - كل ساعة حادث من هذا النوع!
وجاء شرطي مسرعا ففتح له وقع قدميه ثغرة في السور الآدمي، نفذ منها وهو يصيح بالناس أن يبتعدوا. فابتعدوا خطوات، خطوات فقط، وأعينهم لا تتحول عن الرجل ولا تخف حدة تطلعها وإشفاقها. وقال إنسان: سيبقى هكذا حتى يموت، ونحن لا نفعل شيئا!
فأجابه الشرطي بلهجة رادعة: أول لمسة قد تقتله، وبوليس النجدة والإسعاف في الطريق إليه.
واعترض الحادث جانب الطريق، فاضطرت السيارات إلى الالتفاف حول السور البشري، مشاركة الترام في ممشاه، فضاق بها حتى تحركت في بطء شديد وتجمعت في صفوف ممتدة ومتداخلة، وهي تصرخ وتعوي بلا فائدة، ومن ركابها تطلعت أعين إلى الضحية في اهتمام، وأعين تجنبت النظر في جزع. وجاء بوليس النجدة وراء صفارته الحلزونية فاتسعت الحلقة، وغادرت القوة السيارة إلى الرجل الملقى، وكان الضابط حاسما وحازما، فأصدر أمرا بتفريق المتجمعين، وتفحص الرجل بنظرة شاملة، وسأل الشرطي: ألم تحضر الاسعاف؟
وإذا لم تكن ثمة ضرورة إلى السؤال؛ فإنه لم يلق بالا إلى الجواب، وتساءل مرة أخرى: هل من شهود؟!
فتقدم ماسح أحذية وسائق لوري وصبي كبابجي كان عائدا بصينية فارغة. وأعادوا على مسمع الضابط ما حدث منذ كان الرجل المجهول يتكلم في التليفون. وجاءت سيارة الإسعاف، وأحاط رجالها بالرجل، وتفحصه رئيسهم بعناية وحذر وهو يجلس القرفصاء، ثم نهض متوجها إلى الضابط، فبادره هذا قائلا: أظن يجب نقله إلى الإسعاف؟
فقال الآخر بلهجة ذات أثر لا يختلف عن الأثر الذي يحدثه عادة جرس سيارته: بل يجب نقله إلى مستشفى الدمرداش.
وأدرك الضابط ما يعنيه ذلك، على حين استطرد رجل الإسعاف قائلا: أعتقد أن الحالة خطيرة جدا!
وعندما أرقد الرجل بحجرة الفحص بمستشفى الدمرداش، كانت طلائع الليل تزحف كالجبال. وفحصه مدير القسم بنفسه، ثم التفت إلى مساعده قائلا: إصابة خطيرة في الرئة اليسرى، تهدد القلب مباشرة! - عملية؟
فهز رأسه قائلا: إنه يحتضر!
وصدقت فراسة الطبيب؛ فقد تحرك الرجل حركة شاملة كالرعشة، واضطرب صدره اضطرابا متلاحقا محشرجا، ثم شهق شهقة خفيفة واستكن. وكان الطبيبان يراقبانه، فالتفت المدير نحو مساعده وهو يقول: انتهى!
وجاء ضابط النقطة، وكان الرجل ما يزال راقدا بكامل ملابسه، عدا فردة الحذاء المفقودة. وقال الطبيب: هذه الحوادث لا تنتهي!
فقال الضابط وهو يومئ إلى الفقيد: وشهادة الشهود ليست في صالحه!
ثم وهو يقترب من السرير: أرجو أن نستدل على شخصيته!
وشرع في عمله على حين بسط الشاويش المرافق له ورقة فوق منضدة، وتأهب بدوره لتسجيل المحضر. ودس الضابط يده برفق في جيب الجاكتة الداخلي، فاستخرج حافظة نقود قديمة متوسطة الحجم، ومضى يفتشها جيبا جيبا ويملي على الشاويش: خمسة وأربعون قرشا من العملة الورقية.
روشتة للدكتور فوزي سليمان.
وألقى نظرة عابرة على أسماء الأدوية، ولكنه لاحظ وجود كتابة على ظهرها أيضا، فجرى بصره عليها بلا إرادة فإذا بها: المواد الكحولية والبيض والدهنيات ممنوعة، ويستحسن تجنب المنبهات كالشاي والقهوة والشيكولاتة. وابتسم الضابط ابتسامة باطنية؛ إذ إن تعليمات مماثلة صدرت إليه من طبيبه في نفس الشهر! ثم واصل إملاءه وأصابعه تستخرج من الحافظة محفوظاتها: مجلد صغير من السور القرآنية.
ولما لم يجد شيئا آخر في الحافظة، قال بضيق: لا توجد بطاقة تحقيق شخصية!
وانتقل إلى الجيب الداخلي الصغير، وما لبث أن قال بفتور: ثلاثة قروش ونصف عملة معدنية.
ووجد أيضا حقا صغيرا فرفع غطاءه المحكم، فرأى مادة غريبة كالبن المسحوق، وامتلأ أنفه برائحة مسكية، ثم ما لبث أن عطس عطسة من الأعماق، فأعاد الغطاء إلى موضعه، وقال بعين دامعة: حق نشوق.
وتوالى التفتيش وتتابع الإملاء: منديل، علبة سجائر هوليود، سلسلة مفاتيح، ساعة يد.
وكان آخر ما عثر عليه صفحة مطوية من كراسة، فبسطها فوجدها رسالة لم تغلف بمظروف بعد، فأمل أن يصادف فيها ما يمكن أن يستدل به على شخصية الرجل. نظر أول ما نظر إلى الإمضاء، ولكنها لم تزد عن «أخوك عبد الله»، فعاد إلى رأس الصفحة، ولكن الرسالة كانت موجهة إلى «أخي العزيز أدامه الله». فاستاء من هذه المعاندة ولم يجد بدا من قراءتها!
أخي العزيز أدامه الله
اليوم تحقق أكبر أمل لي في الحياة.
اضطر إلى التوقف رافعا عينيه إلى تاريخ الرسالة، وكان تاريخ اليوم نفسه 20 فبراير، وامتد بصره فوق الأسطر إلى الوجه الباهت المشوب بزرقة مخيفة، المغلق كسر، الجامد كتمثال، ذلك الذي تحقق أكبر أمل له في الحياة. وتساءل الطبيب: عثرت على شيء؟
فانتبه إلى نفسه وابتسم ابتسامة استهانة ليدل على اعتياده أي شيء، وقال: اليوم تحقق أكبر أمل لي في الحياة، بذلك بدأت الرسالة!
وعاد إلى القراءة متجنبا النظر إلى عيني الطبيب: «فقد انزاحت عن صدري الأعباء المريرة، انزاحت جميعا والحمد لله، أمينة وبهية وزينب في بيوتهن، وها هو علي يتوظف، وكلما ذكرت الماضي بمتاعبه وكدحه وقلقه وشقائه، أحمد الله المنان، وهذا هو النصر المبين.»
واسترق النظر مرة أخرى إلى الإنسان الراحل، الذي لا يدري أحد مقره، الذي يثير الدهشة بصمته وانعزاله وارتداده العميق إلى المجهول. المتاعب والقلق والشقاء والأمل الكبير والنصر المبين! «وبعد تفكير طويل قر رأيي على ترك الخدمة.» فعلا. «فهيهات أن تتحسن صحتي طالما بقيت في المدينة، وحسبت الحسبة، فوجدتني أخدم في الحكومة بثلاثة جنيهات هي الفرق بين المرتب والمعاش، لذلك قررت أن أطلب إحالتي على المعاش، وقريبا أعود إلى البلدة إن شاء الله، وسوف أنضم إلى مجلسك الظريف عند عبد التواب شيخ الخفر، أما الآن فكل شيء بخير، وليس في الإمكان خير مما كان.»
وطوى الضابط الرسالة وهو يقول: إنه موظف كما يفهم من خطابه، ولكن ليس به ما يمكن الاستدلال على هويته!
فقال الطبيب: سنتخذ الإجراءات المألوفة، وغالبا ما يجيء أهله في الوقت المناسب، فيتسلمون الجثة من المشرحة!
حنظل والعسكري
هذه الأقدام الثقيلة تبعث وقعا له في صدره صدى مخيف، والنحنحة الصادرة عن صاحبها نذير بالمتاعب والآلام، إنه الشاويش قادم في ظلمة الليل. تمنى أن يفر من وجهه لكنه لم يستطع، وبكل مشقة قام وهو يلقي بثقله على الجدار في أول المنعطف، وكان يترنح، وحاله تنذر بالانهيار في أية لحظة. وفتح عينيه بجهد صوب القادم كالقدر، حاول كثيرا أن يتحرك فتبددت محاولاته في الظلام، كما بعثرت ذكرياته، ولاح على شعاع الفانوس وجهه الكالح المغبر الفظ كالنائم، ولم يكن على جسده إلا بقايا جلباب ممزقة، وباطنه المجنون يحترق رغبة في الحقنة المحرمة. - حنظل .. تعال!
آه .. هذا النداء المشئوم تعقبه الصفعات واللكمات. وبصوت يائس مكروب توسل قائلا: رحمة الله يا حضرة الشاويش!
وقف أمامه حاجبا عنه شعاع الفانوس، شابكا بندقيته بكتفه، فاشتد التصاق حنظل بجدار عطفة شنافيري. كان يعاني الخوف ويدافع الغيبوبة ويعلن المسكنة، ولكن ما بال الشاويش لم يهدر ولم يلعن ولم يصفع؟! - أخذت الحقنة؟ - لا، وربك. - لكنك نائم أو كالنائم! - لأني لم آخذها! - تعال معي، المأمور يطلبك!
فتنهد من صدر مجنون جائع، وهتف: أنا في عرضك!
فوضع على منكبه يدا آدمية، لا حديدية ولا عسكرية، فتعجب حنظل دون أن ينبس، فقال الشاويش: تعال ولا تخف! - لم أفعل شيئا!
مضى به برفق وهو يهمس له: ستجد أن كل شيء طيب، لا تخف!
وقف في حجرة المأمور على مبعدة متر من بابها الذي أغلق وراءه، لا يتقدم خطوة، ولا يرفع عينيه إلى النظرة التي تستقر عليه من وجه محنك، والضوء الساطع مسلط على جسده الطيني الذي لا يكاد يستره شيء، وقد بدا بين الجدران البيضاء الملساء والأثاث الوقور شيئا متخلفا عن الزمن. توقع حنظل صاعقة، ولكن جاءه صوت المأمور في نبرة آدمية غير منتظرة ككل شيء في تلك الليلة: اجلس يا حنظل، مساء الخير!
يا رب السموات! ماذا جرى للدنيا؟! - أستغفر الله يا حضرة المأمور، أنا خادمك!
ولكنه حدجه بنظرة تأنيب وهو يشير بإصبع آمر إلى مقعد جلدي، فتردد كثيرا، ثم لم ير بدا من الإذعان، فجلس على طرف المقعد وهو ينظر إلى قدميه الترابيتين، في ضخامة قدمي تمثال، المطمورتين تحت طبقات من القشرة الأرضية. ورغم ذلك لم يصدق شيئا، فقال في ذل: يا حضرة المأمور، أنا رجل مسكين، كثير الخطايا، ولكن بؤسي أفظع من خطاياي، والرحمة عند الله مفضلة على العدل.
فقال المأمور بنبرة جادة ورقيقة في آن: اطمئن يا حنظل، أنا عارف أنك أخطأت كثيرا ولكنك قاسيت أكثر، وأنت أدرى بذنوبك، والشاويش معذور في قسوته عليك؛ فالقانون هو القانون، ولكن جدت أمور أوجبت تغيير المعاملة، تغير كل شيء، ونحن كما أن لنا جانبا عسكريا؛ فلنا في ذات الوقت جانبنا الإنساني.
وجعل ينظر إلى المأمور بذهول، وهو يغالب بمشقة سلطان الغيبوبة، فرمقه الرجل برثاء وقال: صدقني يا حنظل، صدق كل ما تسمع وما ترى، رأسك لا يقوى على التركيز؛ لأنك لم تحقن؟ نفد آخر نقودك ولم تحقن، وتاجر السم لا يرحم ويطالب بالدفع المقدم، لكنك ستشفى من هذا كله.
فقال حنظل بصوت باك: أنا مسكين، حياتي حظ عاثر، كنت قويا فضعفت، وبياعا فأفلست، وأحببت فتلوعت، وأدمنت، ثم تسولت. - ستخرج من المصحة رجلا جيدا، ولي معك لقاء آخر.
وفي باحة القسم أحاطت به مجموعة من العساكر، فبحكم العادة تكور جسده كأنما يتلقى ضربة، ولكنهم ابتسموا إليه، انفرجت الشفاه الغليظة تحت الشوارب الثائرة. - أنتم؟! - نعم يا حنظل، كل شيء تغير! - بالشفاء يا حنظل. - ليعف الله عما سلف!
وحمل وهو بين النوم واليقظة، وسرعان ما استسلم للنوم في عربة راحت تتأرجح به إلى ما لا نهاية. وفتح عينيه على حجرة غريبة، رآها بياضا ناصعا وضوءا باهرا كما رأى وجها حانيا. وشعر بضعف وتقزز وغثيان ووحدة في الأعماق وخوف، فتوسل قائلا: الحقنة، الحقنة يا عم متبولي!
وداعبت أذنه ضحكة رقيقة، وسطعت أنفه رائحة نفاذة، وعانى جوعا منهكا في الرأس وفي الحواس، وتشققت أركان رأسه، ثم غاب عن الوجود. وغادر حنظل المصحة رجلا جديدا كما وعد المأمور. تجلت صورته الطبيعية لأول مرة، ورفل في جلباب أبيض فضفاض، وحلق ذقنه فتبدت قوة شاربه وانتعل مركوبا أصفر فاقعا، ووضح وشم الأسد فوق معصمه ووشم العصفورة عند سوالفه تحت لاسة مزركشة. ومضى به شاويش كالصديق، كل شيء صديق، فتراءت بشرته سمراء صافية تحت الشمس، وما تمالك أن ضحك، وقال لنفسه إن وزنه سيخف بعد النظافة، وكان صاحيا واعيا يرى الأشياء، ويسمع الأصوات ويحب الشاويش، ولا يستشعر في جوفه الألم. وامتلأ ثقة بالنفس حتى خال أن بقدرته أن يطير، وصدق ما يحيط به، فلم يدهش عندما أقبل عليه العساكر مهنئين، وتصافحوا بحرارة ومودة في شبه مظاهرة في باحة القسم. ولم يدهش كثيرا عندما رأى المأمور يقف لاستقباله، ولكنه تأثر جدا، وبروحه المتواضعة ارتمى على يده يريد أن يقبلها، ولكن المأمور تلقاه بين ذراعيه وشد عليه برحمة، فتذاوب خجلا وامتنانا وفاضت عيناه بالدمع. وأجلسه الرجل على المقعد وعاد إلى كرسيه وراء المكتب، وهو يضحك ضحكة رطيبة صافية، وقال: مباركة عليك الصحة والعافية.
فاغرورقت عيناه فاستطرد المأمور قائلا: الآن تستطيع أن تبدأ من جديد.
فقال بدموعه المنهمرة: بفضل الله وبفضلك. - لا تبالغ! فالفضل لله وحده.
وفتح المأمور دفترا بين يديه، وأمسك بالقلم وخط عبارة في رأس صفحة بيضاء، ثم قال بهدوء وهو يرمقه بنظرة هادئة وعميقة كضوء القمر: اطلب ما تشاء يا حنظل!
فارتبك الرجل ولم يحر جوابا. تحركت شفتاه فتحرك شاربه الفطري ولكنه لم يحر جوابا، فحثه المأمور قائلا: اطلب ما تشاء يا حنظل، هذا أمر! - ولكن ... - لا لكن، اطلب ما تشاء!
فقال بعد تردد: أطلب الستر. - أفصح، اطلب ما تشاء، هذا أمر!
تذكر حنظل دعاء أمه وحكايات الليل وأنغام الرباب، ثم ضحك قائلا: كنت أسرح بعربات الفاكهة!
فقال المأمور ويده تكتب في الدفتر: دكان فاكهة بالحسينية، رفوف مزدوجة، كهرباء لحسن العرض.
فتساءل في ذهول: والنقود؟ - لا تشغل بالك، هذا أمر يخصنا ويخص الجميع، تكلم ماذا تتطلب .. إنه أمر!
ووجد حنظل شجاعة جديدة، مستمدة من شخصه الجديد ودكان الفاكهة، فقال بصوت متهدج: سنية بيومي بياعة الكبدة، الحق أني ...
فقال المأمور ويده لا تكف عن التسجيل: لا داعي للشرح، كله معلوم، يعرفه عسكري النقطة، وكل عسكري، وخفير السوق. سنية شابة مليحة وجريئة، ولم تتزوج بعد رغم ما كان، وفي وقت ما كانت أفتك بك من الهوريين، وتمادت في قسوتها فاشتدت حالتك سوءا. وهجرتك، لكنها ستعود إليك، لتكن دكان فاكهة وكبدة، سيكون ذلك شيئا فريدا في الحسينية على مثال محال البقالة الراقية جدا، غيره؟!
مال رأسه من التأثر. وحلمت عيناه بأديم أخضر تنبثق منه ورود حمراء مطوقة بدوائر من البنفسج، وطنت في أذنه نعمة تردد: «يا منية القلب قل لي»، لكنه رأى بقعة سوداء كسحابة من الذباب، فاقشعر بدنه وقال بإشفاق: أخشى ألا تدوم صداقة العساكر يا سيدي المأمور، وإنه وإن يكن لشقائي الماضي أسباب كثيرة؛ فإن العساكر كانوا من الأسباب الهامة في ذلك، طالما طاردوا عربتي لسبب ولغير ما سبب وصادروا رزقي وضربوني، وفي مسألة سنية بالذات؛ فإن أول من لعب بعقلها كان العسكري حسونة!
فارتفعت الضحكة الرطيبة الصافية مرة أخرى، وقال المأمور بلهجة لا تدع مجالا لشك: لن تجد في العساكر عدوا واحدا لك، هم من اليوم وإلى الأبد أصدقاؤك المخلصون، اطلب ما تشاء يا حنظل، هذا أمر!
وثمل حنظل بسكرة شجاعة لم ينعم بها حتى أيام الفتونة، شجاعة مؤيدة بدكان فاكهة وكبد، وحب سنية، وصداقة العساكر، فقال: أمثالي من الفقراء كثيرون لعلك يا حضرة المأمور لا تعرفهم.
فقاطعه قائلا، ويده تكتب دون انقطاع: أعرف كل شيء، دلنا عليهم، وسيكون لكل دكانه وامرأته وصداقة العساكر، سيتحقق هذا كله فاطلب ما تشاء. إنه أمر!
فضحك حنظل ضحكة مجلجلة وشبك راحتيه، وشد عليهما وهو يقول: كأنني في حلم! - الواقع نوع من الحلم، والحلم نوع من الواقع، اطلب ما تشاء، إنه أمر!
فتنفس في ثقة وامتلاء وتساءل: كم من المسجونين من يستحق السجن حقا؟!
فقال المأمور ويده تجري على الصفحة: سيخرج من السجن كل من لا يستحق السجن حقا، ولو فرغت السجون!
فهتف حنظل في نشوة: ليحيا العدل، ليحيا المأمور!
وشهد حوش بيت حنظل بعطفة الشنافيري حفلا فريدا حضره المأمور والعساكر والفقراء وطلقاء السجون. وارتدت سنية فستانا برتقاليا، وتلفعت بشال أخضر فلم يظهر من جسدها البض إلا معصم محلى بأسورة ذهبية، وأسفل ساق مطوقة بخلخال فضي بشراريب من أهلة. وكانت تقدم بنفسها الشراب، شراب التمر هندي والكاركاديه. وثمة فرقة موسيقية عليها مسحة من شارع محمد علي، احتلت ركنا وراحت تحيي القادمين. واستمتع كل شخص بحريته حتى العساكر غنوا ورقصوا تحت بصر المأمور. ثم وقف مقرئ بين مذهبجية، ومضى يتغنى بمديح الرسول مترنما:
لما بدا لاح منار الهدى
فتصاعدت آهات الطرب من صدور الفقراء والمساجين والعساكر، وزغردت سنية زغرودة كأنما تصدر عن ناي. وفي ختام الحفل وقف المأمور وخاطب الجميع قائلا: أول الغيث قطر، ثم ينهمر، طاب ليلكم!
وزغردت سنية مرة أخرى. وأخذ المدعوون في الانصراف عند الفجر، والديكة تسبح الله، والصمت يسبح!
واستلقى حنظل على الأريكة؛ ليرتاح بعد عناء، فجلست سنية عند رأسه وراحت تداعب قصة شعره. كان سعيدا مطمئنا راضيا لا يريد لشيء نهاية. وقال برقة: أنت أصل الخير كله.
فامتدت أصابعها إلى سوالفه، كأنما تزقق عصفورة الوشم، فعاد يقول: جميع ما حصل لا أعتبره معجزة، المعجزة أن قلبك لان بعد ما كان!
وانسابت يدها إلى خده فذقنه، ثم استكنت على حنجرته. واستسلم لمداعباتها، وود في أعماقه ألا يكون لشيء نهاية، غير أنه انتبه على إحساس غريب، يشبه الضغط على حنجرته، واشتد بدرجة خرجت عن مألوف كل مداعبة. وقرر أن يطلب إليها أن تخفف من ضغط يدها ولكن صوته لم يخرج واشتد الضغط. ومد يده ليزيح يدها عن عنقه ولكنه شعر بكابوس يرزح فوق صدره، وبثقل سمج، زكيبة رمل، أو قطعة جدار هوت فوق رأسه. أراد أن يتأوه، أن يقوم، أن يتحرك، فلم يستطع. وحرك رأسه بعنف ليتخلص من الكرب فاحتكت بالأريكة. بشيء يشبه الأرض، التراب، بل ثمة طين أيضا، وغمره شعور جديد في درجته وطعمه وكآبته، وسمع صوتا يعرفه يصيح به متهكما: لم يبق إلا أن تنام في عرض الطريق!
ما أشبهه بصوت العسكري! العسكري القديم بصوته الخشن المنذر بالمتاعب. ثم إنه يختنق. يد سنية لا تريد أن ترحمه. وفجأة رفع الجدار عن صدره، فاعتدل جالسا وهو يئن في الظلام. تخايل لعينيه شبح عملاق يحجب عنه ضوء الفانوس، كأنما يمتد في الفضاء حتى النجوم. وديكة الفجر تصيح، والبندقية تطل من فوق كتف الشبح. وفوق صدره هو ينداح الألم في الموضع الذي تخلى عنه الحذاء الغليظ. وهتف: أين عهد المأمور يا شاويش؟!
فركله بلا رحمة وصاح به: عهد المأمور! يا مجنون يا مدمن، قم ع القسم!
ونظر حوله في ذعر وذهول فوجد طريقا نائما، وظلمة شاملة، وصمتا، ولا حفل، ولا أثر لحفل، ولا سنية، ولا شيء!
مندوب فوق العادة
كنت أراجع الصحف اليومية، وهو ما أبدأ به عملي عادة كل صباح، عندما فتح الباب دون استئذان عن رجل غريب. كان هائل المنظر لطوله وضخامته، فخم البدلة، وطربوشه الطويل الغامق يضفي على وجهه الأبيض نصاعة، وفيه وجاهة تؤكدها نظارة كحلية وشارب غزير مربع كساه المشيب. كان أيضا في الستين أو نحوها، لكنه تقدم من مكتبي في حركة قوية ثابتة قابضة يمناه على منشة عاجية بيضاء، وهو يقول بصوت حلقي غليظ: صباح الخير، مكتب الصحافة؟
فأجبته ولما أفق من صدمة اقتحامه: نعم، صباح النور! - أظنه تابع لمكتب الوزير؟ - نعم!
فأخرج حافظته، واستخرج منها بطاقة أعطاها لي. نظرت فيها فقرأت:
إسماعيل بك الباجوري
مستشار برياسة مجلس الوزراء
انفجرت «الرياسة» في رأسي، ولم يكن قد مضى على خدمتي إلا عام أو دون ذلك بأشهر، ووقفت باحترام وأنا ابتسم كالمعتذر، وقلت بتأثر ظاهر: تفضل بالجلوس يا أفندم، أنا في خدمتك!
لكنه مشى موغلا في الحجرة الصغيرة المستطيلة، حتى وقف وراء النافذة في نهايتها يطل على ميدان الأزهار، ثم عاد إلى مكتبي وهو يسأل: ألم يحضر معالي الباشا؟ - كلا، معاليه يحضر حوالي العاشرة. - ولا مدير مكتبه؟ - المدير يحضر حوالي التاسعة.
فانحرف جانب فيه الأيسر في امتعاض، ثم مد يده إلى سركي الوارد، وراح يفره بسرعة ثم قال: خانات كثيرة لم تسدد، هاك شكوى لم يرد عليها منذ عشرين يوما!
فانقبض صدري وأنا أتساءل على وجه من أصبحت اليوم، ثم قلت: إني أوزع الشكاوى المنشورة في الصحف على الإدارات المختصة في يوم ظهور الجريدة، والإدارات هي التي تتأخر في الرد. - ولم لا تستعجلها؟ - أستعجلها طبعا، ولكن بعض الردود يستدعي التحرير إلى التفاتيش في الأقاليم.
فهز رأسه في امتعاض ، ثم أشار إلى الباب وهو يقول بلهجة آمرة: اتبعني من فضلك.
وسار في ردهات الوزارة، وأنا أسير إلى جانبه متأخرا عنه خطوة من باب التأدب، من ردهة إلى ردهة، حتى أخذنا في طريق العودة وهو لا يمسك عن نثر الملاحظات: مكاتب خالية، أين الموظفون؟! حتى السعاة، والفراشون كالذباب الغائم! ما هذه الزكائب المحشوة بالأوراق؟! وهذه الزبالة؟ وتلك الأكداس المكدسة من الملفات كالمقابر؟! ورائحة الزيت والبصل؟ ما شاء الله .. ما شاء الله!
وجعلت أبدي عن أسفي بهز الرأس والتبسم الحزين، وأنا أسأل الله أن ينهي اليوم على خير، وإذا به يقول: كل شيء في غير محله! .. لو يعلم دولة الباشا!
وعدنا إلى الحجرة، فوقفت وراء مكتبي على حين جلس على الكنبة في شبه استلقاء، ثانيا ساقه فوق ركبته، والظاهر أنه رحم ارتباكي فقال لي: اجلس!
فجلست متشجعا بنبرة رقيقة انتزعتها انتزاعا من غلظة صوته، ومضى يتفحصني من وراء نظارته الكحلية في غير مبالاة، ثم سألني: من الجامعة؟ - نعم. - لم توظفت؟
فلم أحر جوابا. فقال: قل لأعيش! كلنا يريد أن يعيش، لكن الحياة تجري على غير ما يجب!
فخفضت رأسي موافقا، ولا شيء أحب إلي من أن يحضر مدير المكتب ليخلصني من موقفي الرهيب. - أنا مكلف بعمل بحث شامل، مهمة شاقة، ولكن هل ثمة فائدة؟
تأثرت جدا لتعطفه بالبوح بمهمته الخطيرة، وازددت في الوقت نفسه حرجا فقلت: ستجيء الفائدة حتما على يديك!
فتثاءب لدهشتي، وحل صمت مقلق، وكان يبدو عظيما جدا، ولعله ضاق بالصمت والانتظار، فراح يتحدث وكأنما يحدث نفسه هذه المرة: على المرء أن ينشد الطمأنينة والصفاء، ولكن كيف يتأتى هذا؟!
فقلت وأنا في شك من سلامة تدخلي في الحديث: ربنا يهب سعادتك الصحة!
فأنزل ساقه عن ركبته قائلا: الصحة! ما هي الصحة؟ هي كمال التوازن والتوافق والتعاون في الكائن، ولكن هيهات أن تتحقق إذا كانت الصحة العامة معتلة، خذ مثلا صحة الوزارة! خانات لم تسدد، موظفون لا يحضرون، روتين، وما الرأي فياغرا هذا الغلاء الفاحش؟
فقلت وأنا أتابعه بجهد وأي جهد: شيء لا يطاق!
العالم أيضا صحته معتلة، هتلر ورم خبيث، والحلفاء ورم آخر، والأوقاف عندكم لماذا يستحق بعض الأوباش هذه الألوف المؤلفة؟!
فقلت رغم دبيب الدوار في رأسي: فلنأمل خيرا ما دام دولة الباشا مهتما بهذه المسائل!
فنهض بغتة وهو يقول: ولكن متى يأتي الوزير؟ .. الساعة العاشرة! ومتي يأتي مدير مكتبه؟ .. الساعة التاسعة.
ونظر في الساعة ثم جلس مكفهر الوجه، واتجهت عيناه نحو التقويم المثبت بالجدار، الأربعاء 2 يونيه، 29 جمادي الأولى، 25 بشنس، وتساءل في ملل: كم ورقة يجب أن تمضي حتى تصبح الصحة على ما يرام؟
ثم حدجني بنظرة متحرشة هرب لها قلبي، ولكن سرعان ما حلت محلها نظرة دعابة وهو يسأل: ماذا تريد من الدنيا؟
فارتبكت مؤثرا الصمت، ولما آنست انتظاره لجوابي تكلمت يدي بإشارات مبهمة سابقة لساني، ثم قلت: أشياء كثيرة! - تكلم!
فاستجمعت شجاعتي قائلا: مرتب حسن. - والصحة؟ - لا بأس بها! - وكم من النقود تريد؟ - ما يكفيني. - يكفيك لأي شيء؟ - حسبي الضروريات، والكماليات الهامة، وأن أتمكن من تكوين أسرة. - والآخرون ألا ينبغي لهم ذلك أيضا؟ - نعم، لم لا؟! - عند ذاك ترتاح النفوس من الانفعالات الخبيثة.
فقلت بارتياح حقيقي: نعم يا أفندم.
فقال بحدة ساخرة: كلا! لا يكفي هذا كله، سيظل هناك هتلر، وتشرشل أيضا، هذه هي العقدة المحيرة، لقد كلفت بالبحث، ولكنني كلما وجدت حلا لمشكلة عرضت مشكلة أخرى، وكلما أزلت دملا ظهر دمل جديد، كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم كله!
فغمغمت بذهول: العالم! - نعم، العالم! راقب آثار الحرب في بلادنا إن كنت في حاجة إلى دليل، أمور كثيرة معقدة، ومشاكل لا حصر لها، فكر في أن تنعم بالجبال في سويسرا؛ فسيقال لك إنها مهددة باجتياح الجيوش الألمانية، أو أن تستظل بشجرة بوذا في الهند؛ فستجد جوا مشحونا بالتعصب والانفجار، وقد تتطلع إلى زيارة موسكو، ولكنك لن تعود، والغلاء؟ ألم يبلغ حدا لا يتصوره عقل؟!
ولهث خيالي في إعياء، ولم أعد أفهم شيئا، ولكني عكفت على النزر اليسير الذي وجدت له معنى فقلت: الغلاء فاحش جدا، والطماطم نادرة الوجود، أما البطاطس فبات أسطورة.
ولاح في نظرته الكحلية تفكير، وشيء من الحزن والفتور، فتساءل: أتحل هذه المشاكل إذا حددنا المرتبات؟ - أي مرتبات يا فندم؟ - يصدر مرسوم بأن أعلى مرتب لا يجوز أن يزيد عن كذا. - كذا؟ - ألا تنتشر تبعا لذلك الطماطم؟ ويظهر البطاطس، وتهبط أجور المساكن؟ - ولكن الدنيا ليست موظفين فحسب، هناك تجار، ورجال صناعة وأصحاب أراض، وهناك أيضا الأجانب!
فهز رأسه كالمتعب وقال: ويوجد هتلر وموسوليني وتشرشل، وأكاذيب لا حصر لها، وصرخات زنوج تصم الآذان.
يا له من شخص غريب، ليس له جبروت المستشارين، ولا جلال الرياسة المخيف، بل وفيه جانب لطيف لا يكاد يفصله عن ... ماذا أقول؟ عن التهريج إلا خطوة؟! بيد أني قررت أن أستمسك بالحذر الشديد حتى النهاية. وقلت برقة ورجاء: هذه أمور محيرة، ولا سبيل إلى حل مشاكلها، أو أنه سبيل طويل لا يعلم مداه، ولكن هناك سبيل ميسور قريب المنال لو أقنعت صاحب الدولة مثلا بزيادة علاوة الغلاء؟!
فحدجني بنظرة استغراب وهو يقول: أتريد أن تحول مهمتي الخطيرة إلى مجرد مسعى شخصي لتحسين حالتك؟
فاحترق وجهي بالخجل وقلت متلعثما: لا أقصد ذلك، ولكن ...
فقاطعني بقوة: ولكن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا ولا شيء غير أنفسنا .. ونظر في الساعة وهو يقول متسخطا: الوزير في الساعة العاشرة، مدير المكتب في التاسعة، ضاع سدى جميع ما قصدته من التبكير!
وتذكرت بغتة واجبا فاتني لشدة ارتباكي، فهتفت: لم أطلب لسعادتك القهوة!
ومددت يدي نحو الجرس، ولكنه أوقفها بحركة آمرة وساخطة، وقال بحدة: نحن في مقبرة لا قهوة!
ثم بشيء من الهدوء: قلت إن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا، ولا شيء غير أنفسنا، الحق أن لي من القدرة ما أستطيع به أن أبلغ الصفاء، علي فقط أن أعتزل العالم وهمومه، وهو صفاء حقيقي أسمع في سكونه الأبيض موسيقي النجوم، علي فقط أن أعتزل العالم وهمومه، لكني لا أستطيع، لا أريد، للهموم أيضا أنغامها التي يلتقطها القلب، فإما صحة عامة أو لا صحة على الإطلاق. هذه هي عقيدتي النهائية، ولذلك كلفت بالمهمة!
وراح يعبث بشعر المنشة فداخلني شعور بالحيرة، وتساءلت عما يعني الرجل، ماذا وراء هذه النظارة الكحلية؟ وعند ذاك فتح الباب وظهر الساعي، وهو يقول لي كعادته: البك المدير وصل.
واستأذنت من المستشار، فمضيت من فوري إلى المدير، وقلت له: إسماعيل بك الباجوري المستشار برياسة مجلس الوزراء في مكتبي.
وانتفض المدير واقفا وهو يتساءل: إسماعيل بك الباجوري؟
وفي اللحظة التالية كان يصافحه باحترام بالغ مقدما نفسه إليه، ثم ذهبا معا إلى حجرة مدير المكتب. ولبثت وحدي أفكر، ولما يذهب عني روع المقابلة وشجونها.
وواصلت عملي في مراجعة الصحف وأنا مشتت الفكر، لا يتركز انتباهي في شيء مما بين يدي. ومضت نصف ساعة أو نحوها، وإذا بالباب يفتح ويدخل مدير المكتب مهرولا. أقبل نحو التليفون وهو يسألني: هل تعرف هذا المستشار؟
فأجبت نفيا. وأدار قرص التليفون: آلو، رياسة مجلس الوزراء؟ أنا علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، من فضلك هل يوجد في الرياسة مستشار اسمه إسماعيل الباجوري؟ - ... - سعادتك متأكد يا فندم! عندنا شخص بهذا الاسم وهذه الصفة، كما هو واضح في بطاقته. - ... - آسف على إزعاجكم، وسأفعل ما أشرتم به.
ووضع السماعة دون أن ينظر إلى وجهي الضائع، ثم أدار القرص ثانية: آلو، سعادتك المأمور؟ - ... - علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، عندنا شخص ينتحل شخصية مستشار بالرياسة، يتحدث حديثا غريبا ويطلب مقابلة معالي الوزير، وبالنظر للظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد؛ فأخشى أن يكون من الإرهابيين. - ... - الواقع أن مظهره مخالف لهذا النوع من الشباب، ولكني أخاف المفاجآت. - ... - في انتظارك يا فندم، أرجو السرعة.
وأعاد السماعة وغادر الحجرة وأنا في حال، ووضح الأمر في القسم. لم يكن الرجل إرهابيا، ولكن كان به لطف. واستدعيت أسرته، واتخذت الإجراءات المتبعة، وقد سمعته وهو يقول للمأمور في كبرياء غاضب: الحق علي، ما كان أسهل أن أنعم براحة البال، والحق علي!
صورة قديمة
فكرة ومضت فجأة، فوعدته بالخلاص من حيرته. ومضت في رأسه عندما مرت عيناه بالصورة المدرسية القديمة. كان يعاني حيرة البحث عن موضوع جديد للمجلة، كما ينبغي لصحفي مطالب بجديد كل يوم. وفجأة ومضت فكرة، وكانت الصورة معلقة بمكانها من حجرة الجلوس منذ أكثر من ثلاثين عاما، لا تنطق ولا توحي بشيء ولا تكاد ترى، ولكن بدا أنه آن لها أن تتكلم. ركز انتباهه بحماس في الصورة التي كاد يمحوها طول البقاء. صورة السنة النهائية بالقسم الأدبي من الجيزة الثانوية عام 1928م، ما الرأي في دراسة صحفية عن أصحاب هذه الوجوه الفتية؟ المدرسة والحياة، 1928 و1960م؟ فكرة طيبة من ناحية المبدأ، فهل يستطيع أن يظفر بحقائق تصلح أساسا لبحث طريف؟! كم من أعوام مضت دون أن يلقي نظرة على هذه الصورة! وكم من معالم فيها انطوت إلى غير رجعة، كهذه الطرابيش، وهؤلاء المدرسين الإنجليز والفرنسيين! وكانت مجرد نظرة إلى أي وجه كافية غالبا لتذكيره بصاحبه، وإن غاب عنه اسمه، وإن جهل كل الجهل مصيره. ولا أحد بينهم تربطه به اليوم علاقة، حتى ولا هذا الفتى المثير الذي جاوره في المسكن زمنا طويلا، وتفحص الوجوه مبتدئا بالصف الأعلى، فمر بوجهين لا معنى لهما، ثم وقف عند فتى كان من أبطال كرة القدم، ولقي حتفه في مباراة بين الجيزة ومدرسة أخرى، حادث لا ينسى، وتراءى ضحيته في الصورة براق العينين معتدا بنفسه منحرف جانب الفم في شبه ابتسامة، وهو اليوم عظام. وواصل مسيره من وجه إلى وجه حتى وقف عند وجه نحيل مستطيل، ذكره بموقف صاحبه فوق سلم سكرتير المدرسة، وهو يخطب خطبة ملتهبة داعيا الطلبة إلى الإضراب احتجاجا على تصريح 28 فبراير! وإلى جانبه مباشرة برز وجه وجيه يحمل طابع الأناقة والسلالة الممتازة، فورد اسم الأسرة على ذاكرته بسرعة - الماوردي - فسجله في مذكرته واثقا من سهولة الاهتداء إليه، فضلا عن أنه كان نجما لامعا في الحياة السياسية منذ عشرة أعوام، فهذا أول عنصر هام في مشروع بحثه. وجرت العينان على الوجوه واحدا بعد آخر، فلم ينطق وجه أو يبين حتى بلغتا وجها ليس من السهل نسيانه، فهو رمز التفوق المدرسي بكل سحره، أول الفصل، أول كل فصل ، وأول المدرسة، الأورفلي وبفضل التفوق وغرابة الاسم بقي في الذاكرة. وفي كلية الحقوق كان له شأن، ثم عين في النيابة العمومية أيام كان التعيين فيها حدثا هاما، سيسهل عليه الاهتداء إليه بالرجوع إلى وزارة العدل، وهو ثاني عنصر هام في دراسته، الأورفلي بعد الماوردي. وتحداه وجه جديد بذكرى دامية، مشاجرة نشبت بينه وبين صاحبه في حوش المدرسة، وإن لم يذكر من أسبابها شيئا على الإطلاق. وتتابعت الوجوه صامتة صمت الحجر حتى جاء الوجه المثير، الجار القديم، حامد زهران مدير شركة «الهرم الدرج». ابتسم ابتسامة باردة. هذا هو فتى العصر، ما زال يذكر بوضوح كيف ترك الجيزة الثانوية ساقط بكالوريا، وكيف التحق بخدمة وزارة الحربية بالكفاءة، ولم تنقطع علاقته به إلا منذ عشرة أعوام حين ترك هو عطفة أبو خوذة، بعد أن فتح الله عليه في الصحافة. وترامت إليه أخبار عن استقالته من الحكومة؛ ليشغل وظيفة سكرتير لمدير شركة الهرم المدرج، ثم علم آخر الأمر بتوليه منصب المدير بمرتب 500 ج.م في الشهر. يا له من معجزة، سواء في طفرته الجنونية أو في تفاهته التي لا يشك هو فيها! على أي حال سيكون عنصرا هاما وذا دلالة في دراسته. دراسة طريفة كما يأمل، وستعتمد على تحليله واستنباطاته أكثر من اعتمادها على أحاديث أبطالها المجهولين؛ إذ إن الطريف حقا ليس أشخاصهم، ولكن دلالتهم الاجتماعية. ومهما يكن من أمر فليؤجل تقرير الصورة النهائية للبحث حتى يجمع مواده.
وبدأ بطلب مقابلة عباس الماوردي في عزبته بقليوب، بعد أن علم بإقامته فيها عن طريق دائرة الماوردي بميدان الأزهار. وفي الموعد المحدد كان يقطع الممشى المحفوف بأصص الورد على الجانبين إلى السلاملك. كان القصر تحفة من طابقين وسط حديقة، مساحتها فدانان اكتظ أديمها بأشجار المانجو والبرتقال والليمون وأعراش العنب ومربعات ومثلثات ودوائر لا عد لها من الأزهار والخضرة والجداول. وهو قائم كالمارد وسط فضاء من الحقول يترامى حتى الأفق، يغشاه الصمت والهدوء والامتثال، وتتراءى عن بعد فوق سطحه أجساد منحنية، بدت ضائعة في النبات والفضاء. وأقبل عليه عباس الماوردي يرفل في عباءة فضفاضة، بوجه ممتلئ مورد وشعر لامع منسرح فوق رأس مستدير كبير، وفي طوله وعرضه امتداد هائل جعله أشبه بتمثال متلفع بستار قبل إزاحته. حدجه بنظرة باسمة، لم تخل من دهشة حذرة واستطلاع، وقال مرحبا: أهلا وسهلا بالأستاذ حسين منصور.
وتصافحا ثم جلسا وهو يقول: إني أتابع نشاطك الصحفي بإعجاب، وأذكر به زمالتنا المدرسية وإن كنا لم نلتق منذ افتراقنا في الجيزة الثانوية.
فقال حسين باسما: تقابلنا مرة خطفا في البرلمان عام 1950 أو 1951م.
فتساءل بحاجبيه «حقا؟» واستسلما مليا لذكريات المدرسة، ثم فاتحه بمقصده من الزيارة.
فقال عباس برجاء: أليس المستحسن أن تتركني في حالي؟!
ولكن حسين قال متحمسا: لست من رأيك، هي دراسة قد تكون خطوة أولى لمتابعة جيل بأسره، ولن أنشر كلمة عنك قبل الرجوع إليك، أعدك بهذا، ولعلي أستغني عن ذكر الأشخاص كلية.
لم يعترض وإن لم يبد متحمسا. ولم يعلن وجهه عن شيء حتى تساءل حسين منصور بقلق عما وراءه. ترى هل آلمه الموقف وما أثار من ذكريات؟! مهما يكن من أمر ثرائه اليوم؛ فقد كان بالأمس مليونيرا بلا جدال، وكان نجما سياسيا بازغا، نجح في الانتخابات بالتزكية بفضل جاهه، ورشحته الأقاويل للوزارة في أواخر 1950م. - إني أقيم هنا بصفة دائمة، ولذلك أرسلت ابني الجامعي إلى عمته بالقاهرة، ولا أكاد أغادر العزبة إلا فيما ندر!
ولانت فرامله فاستفاض حديثه. قال إنه يزرع أرضه بنفسه مستعملا أحدث الآلات الزراعية، وإنه يعنى عناية خاصة بتربية الماشية والدواجن، وإنه أعد لأوقات الفراغ مكتبة كبيرة، واختار ركوب الخيل هواية ورياضة. إنه قابع في مملكة صغيرة استغنى بها عن العالم كله، ويود لو يمضي عمره في حدودها لا يجاوزها. وإذا بالآخر يسأله عن الفلاحين! - أنا فلاح أيضا، وكذلك كان أبي، ولا أجد صعوبة في التعامل معهم، إنهم قوم طيبون.
وعاد حسين يتساءل، ولكنه عدل عن الموضوع بلباقة: ألم ترشح نفسك للاتحاد القومي؟
فقال بتوكيد: اقترح علي كثيرون ذلك، ولكنني سعيد هكذا!
تخيل حسين تلك الحياة الجامعة للفطرة والحضارة معا، المنعمة بكل طيب، المنطوية في عزة وكبرياء، المتعزية باللذائذ الدنيوية والفكرية، الهائمة بالليل والقمر والبار الأمريكاني والغرزة البلدي. - وأصدقاء الماضي؟ - من؟! الخاصة يمضون عندي نهاية الأسبوع، أما الآخرون فلا أدري عنهم شيئا.
وأبى أن يتكلم كلمة واحدة عن أمر من الأمور العامة، فلم يلح عليه وسأله: ألا تشتاق أحيانا إلى السينما مثلا؟ - عندي صالة عرض خاصة، لا ينقصني شيء!
وعرض عليه الصورة المدرسية القديمة؛ لعله يدله على أحد منها فتصفحها باسما. ثم أشار إلى وجه قائلا: علي سليمان، أصيب برصاصة في صدره على عهد صدقي، وبسببها عين في السلك السياسي بعد تخرجه، ثم خرج أخيرا في التطهير.
وأشار حسين إلى صورة حامد زهران فهز الآخر رأسه نافيا، فقال: حامد زهران، مدير شركة، 500 ج. م. شهريا!
فتساءل بحاجبيه: «حقا؟» ولم ينبس، والتمعت عيناه بنظرة ارتياب حائرة، فأنهى الآخر الحديث.
وفي وزارة العدل اهتدى إلى مقر أول المدرسة الأستاذ إبراهيم الأورفلي المستشار بالجنايات. رصده أمام بناء المحكمة حتى خرج متبوعا بالحاجب الذي راح ينادي التاكسي، فأقبل نحوه مبتسما. رمقه المستشار بنظرة داهشة، ثم ما لبث أن تعرف عليه، فمد إليه يده مصافحا. ولما أدرك مقصده بصفة أولية دعاه إلى الغداء معه، فحملهما التاكسي إلى مسكنه بشارع ماهر. دخلا مسكنا محترما لكنه عادي في جملته مما أدهش حسين منصور، ولكن عندما تحلق السفرة معهما ثمانية من الأبناء متقاربي السن زايلته الدهشة. - نشاطك الصحفي يلفت الأنظار حقا!
فشكره وهو يسترق النظر إلى جسده النحيل وعينيه اللامعتين المتعبتين. كم تمتع في المدرسة بصيت التفوق الساحر! اليوم لا يعلم باسمه أحد خارج دائرة القضاء. ولما ألمح على مهمته بشيء من التفصيل قال الأورفلي بسرعة: لا شأن لعملي بالصحافة! عندما كنت رئيس نيابة، وفي أثناء التحقيق في قضية مشهورة، حاولت الصحافة دفعي إلى الأضواء، ولكنني أبيت عليها ذلك، الشهرة لا تعني شيئا للقاضي، والمتهمون إما أبرياء يجب صيانتهم أو مذنبون تعساء لا يجوز التشهير بهم!
فقال حسين بثقة: لا تخش النشر، إني أقوم بدراسة عن المدرسة والحياة، وإذا شئت رمزت إلى اسمك بحرف، وقد أستغني حتى عن هذا! - وهو الأفضل، ولكن ماذا تريد على وجه التحديد؟
فحدجه بنظرة إغراء صحفية، وهما يحسوان القهوة في الصالون منفردين، ولم يبق من الأولاد إلا طنين يقتحم باب الحجرة المغلق من آن لآن. - أريد أن أسجل رأيك في جيلنا وفي هذا الجيل، أهم القضايا التي فصلت فيها، فلسفتك عن عملك والحياة.
ومضى يفصح عن آرائه في تمهل وفي شيء من الحياء! .. كان متحيزا للجيل الماضي كأفراد، وللحاضر كفلسفة. وبدا معجبا بمهنته راضيا عنها رغم ما تقتضيه من جهد متواصل، ثم أخذ يروي عجبا من القضايا التي صادفته. - أنت كنت الأول علينا دائما! - وكنت أول البكالوريا في القطر كله.
ففكر مليا، ثم قال: أرى في وجهك صفاء غريبا رغم كل شيء! - رغم ماذا؟
فقال برقة: إن من يحكم بالإعدام على إنسان ...
فقاطعه بتوكيد: ما دمت مرتاح الضمير؛ فإني لا أعرف للقلق معنى! - الحق أن صفاءك غير عادي!
فضحك عاليا وهو يقول: اعتبرني من الصوفية إذا شئت!
فتجلت الدهشة في عيني حسين، وتوثب إلى مزيد من المعرفة، ولكن سرعان ما بدا على الآخر ما يشبه الندم على ما فرط منه، وأبى أن يزيد كلمة واحدة. - يبدو أن عملكم شاق حقا. - حياتنا تفنى بين أوراق القضايا.
واضح جدا أنه مرهق بالعمل، كما كان وهو طالب، رهبنة نبيلة وكفاح متصل، وثمانية أولاد، وتصوف! - مع ذلك يرى الموظفون في كادر القضاء جنة النعيم!
فقال مبتسما: لنا الجنة!
وعرض عليه الصورة المدرسية، فنظر فيها باهتمام، فأشار حسين إلى حامد زهران متسائلا: ألا تذكر هذا الطالب؟ - كلا! - حامد زهران، من ساقطي البكالوريا، مدير شركة، 500 ج. م. شهريا.
فحملق في الصورة كأنما يحملق في طبق طائر، فقال حسين: ظننت الخبر لا يهز الصوفي!
وانطلقا معا يضحكان. وسأله عمن يعرف في الصورة من زملاء الدراسة، فجرى ببصره عليها، ثم وضع إصبعه على وجه في الصف الثاني، وهو يقول: محمد عبد السلام، كاتب بالنيابة، وعمل معي أول عهدي بالخدمة في أبو تيج، ولا أدري الآن عنه شيئا!
واضطر إلى السفر إلى المنيا؛ ليقابل محمد عبد السلام في مقر عمله الأخير. بدا له أكبر من سنه بعشرة أعوام على الأقل، ووجد في هيئته الرثة وشعره الأبيض الأشعث وثنيتيه المفقودتين ما يذكر بالخرابات. ولم يتذكره الرجل ولم يقتنع بدعواه حتى أطلعه على الصورة القديمة. وجلسا في حجرة استقبال سائبة المفاصل في شقة قديمة مكتظة بالذرية. - لا أعرف أحدا في هذه الصورة، طول مدة خدمتي، وأنا أتنقل من بلد إلى بلد.
ووجد حسين في قلبه نغز ألم، وشعر نحو الرجل برثاء واحترام عميقين، وسأله عن درجته، فقال: الدرجة الخامسة منذ عام، اكتب هذا يا أستاذ، ويا حبذا لو تنشر صورتي مع الأولاد، ست بنات وأربعة أولاد، ما رأيك؟ أليس من الجائز أن يكون الله قد أرسلك لي فرجا بعد الشدة؟!
ووعده بكل خير! واستدرجه للحديث عن ذكريات العمل، ورجاه أن يكتب له بالتفصيل ميزانية أسرته في عام مثلا. وأشار إلى صورة حامد زهران قائلا: هذا الزميل القديم يتقاضى اليوم 500 ج. م. شهريا.
فذهل الرجل حتى خيل إليه أن وجهه ازداد شحوبا، وتساءل: ماذا يعمل؟ - مدير شركة. - ولكن الوزير لا يقبض نصف هذا القدر! - هذا شيء وذاك شيء! - فتساءل في دهشة: كيف وفيم ينفقها؟
فابتسم حسين ولم يجب، فسأله الآخر: وما شهادته؟ - الكفاءة! - يا خبر أسود، أنت تمزح. - كلا، العبرة ليست بالشهادة. - العبرة بماذا؟ دلني كيف يصل إنسان إلى هذا الحظ؟ .. ها هو يقف معي في صف واحد في الصورة، فخبرني كيف بلغ هذه المرتبة؟!
فقال ملاطفا: هنالك شيء اسمه الحظ.
فهز الآخر رأسه في حزن وقال بيقين: لا يوجد عمل في بلادنا يستحق هذا القدر من المال، وإلا فلماذا لم نصل إلى القمر؟
وضحك حسين قائلا: على أي حال أنتم أحسن حالا من الملايين.
فقال محتجا: الملايين! أنا عارف هذا، ولكن حامد زهران هو المشكلة.
ولم يجد صعوبة في الاتفاق على مقابلة مع جاره القديم حامد زهران. ولما كانت الشركة ليست بالمكان المناسب للمقابلة الحرة؛ فقد دعاه إلى مسكنه بالدقي. وتطلع حسين إلى الفيلا القائمة في أحضان الصفصاف بإعجاب، وسرعان ما ذكرته بقصر عباس الماوردي في عزبة قليوب، الهندسة الرائعة والحديقة السابغة وأنفاس العز العطرية. ترى أي صورة يتراءى فيها اليوم ذلك الجار القديم؟ .. فإنه لا يحتفظ منه إلا بالعود النحيل والوجه الشاحب، العابث في ضحكه، شبه الجائع، وهي صورة لا تتلاءم بحال مع هذه الفيلا المثيرة. الله يرحم أيام زمان يا حامد، أيام الشلن تقترضه بشتى الحيل، ولا ترده ولا بالطبل البلدي، ليت الزمن لم يفرق بيننا، إذن لرأيت عن كثب كيف تقع هذه الزلازل البشرية! - أهلا حسين، أين أنت يا رجل؟
كان في كامل زيه كالكبراء في بيوتهم، وكان الصالون يخطف الأبصار بالأضواء والمرايا والتحف، أما هو فقد اخضر عوده وجرى فيه ماء الحياء. - أنا أحتج على هذه الزيارة النفعية، كان يجب أن يكون هذا البيت بيتك، حتى التهنئة الواجبة لم أتلقها منك في حينها!
وارتبك حسين قليلا، لكنه قال بلباقة: لن يشفع لي عذر! .. لذلك أطلب العفو!
وضحك حامد قانعا. ونسيا في حديث الذكريات الحاضر وقتا غير قصير، ثم تحفز الصحفي للعمل. وتجنب حسين الأسئلة التي قد يشتم فيها تعريض أو سخرية، قاصرا تحرياته على النجاح وكيف تيسر له، وعن سياسته في الشركة وآرائه في جيله ... إلخ. - كانت تربطني بالمدير السابق علاقة العمل، قبل أن يتولى إدارة الشركة فاختارني سكرتيرا له ثم مديرا لمكتبه، فهو قد اختارني عن خبرة سابقة.
خبرة سابقة! الحق أنك فتحت بيتك القديم نادي قمار للسادة من رؤسائك، نادي قمار وغرزة أيضا، ولكن من المقطوع به أنك ذكي نهاز للفرص! - وفي مدة خدمتي في مكتبه درست كل كبيرة وصغيرة مما يتصل بالعمل، وتعرفت على جميع الكبار من المتعاملين مع الشركة. - في هذا يوجد الفرق بين العبقري والعادي من السكرتاريين. - ومديري هو الذي رشحني للوظيفة عند نقله منها إلى الخارج. - نعم الترشيح! ولكن ما هي السياسة التي رسمتها للمستقبل؟
وأفاض في الحديث عن ذلك بثقة واعتداد، ودون الآخر خلاصة وافية للكلام، وهو يراقبه عن كثب، ويسجل في ذاكرته حركاته وسكناته، وعندما انتهى التحقيق قام زهران، وقال وهو يتجه إلى الداخل: انتظر حتى أقدمك إلى زوجتي!
آه .. فايقة! .. الجارة القديمة! .. ترى كيف أصبحت اليوم؟! تزوجها زهران أيام التلمذة، وكان جارا لأبيها عم سلامة سائق الترام. ترى كيف تتبدى اليوم في هذه الفيلا؟!
ورجع حامد زهران يسير بين يدي فتاة في العشرين، حلية براقة، ووجه مستعار السمات من الشرق والغرب. رباه أهي زوجة جديدة؟!
وتم التعارف، وجرى الحديث بالإنجليزية أكثر الوقت، وكانت المباهاة تصرخ في وجه زهران الضاحك. ولكن أين فايقة؟ .. ماتت أم طلقت؟!
لم تكن الصورة لتتم حتى يتأكد من هذه النقطة. ومضى من توه إلى عطفة الكرماني بباب الشعرية، إلى مسكن عم سلامة القديم. وفي أول العطفة علم من كواء بلدي بأن عم سلامة توفي من سنوات، وأن ابنته فايقة فاتحة دكان سجائر وحلوى أسفل البيت. واقترب من البيت منفعل الصدر، وهو يحاذر أن تراه حتى وقع عليها بصره وهي جالسة وراء الطاولة، لا يبدو منها سوى وجهها وعنقها. وكانت تدخن سيجارة وقد بدا وجهها أكبر من سنه بعشر سنوات على الأقل، كوجه محمد عبد السلام كاتب نيابة المنيا. بدت شاردة الطرف متجهمة ومستسلمة للمقادير. وتذكر كم كانت مثالا للصبر والحيوية. والأمل فشعر بأن أنبل ما في صدره ينحني لها رثاء واحتراما.
وغادر عطفة الكرماني ضيق الصدر بعكارة الجو. ومضى يفكر فيما جمع من مواد لدراسته، ويحللها تحليلا أوليا وهو يتساءل: ترى أي معنى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة؟!
Bilinmeyen sayfa