وأخيرا تراءت القرية. والليل يهبط من ذروة الأفق. والقوم عائدون وراء البهائم ينوءون بالإعياء. والخلاء المدثر بالمغيب يترامى إلى ما لا نهاية. تقدم أبو الخير بقدمين متورمتين نحو القرية. من شدة الخوف تجمد قلبه، فلم يعد يخفق بالخوف. ومن شدة الألم لم يعد يشعر بالألم. ولمحه العائدون فاتسعت الأعين دهشة وفغرت الأفواه. وراحوا يتهامسون ويشيرون نحوه، وغض أصدقاؤه بينهم الأبصار. وجعل يشق طريقه بعيدا عنهم ماضيا نحو مصيره. وتابعته الأعين وهو يبتعد رويدا رويدا، حتى لم يبق منه إلا ما يبقى في الخاطر من حلم، وهزوا الرءوس وقالوا: ضاع الرجل ... انتهى أبو الخير!
كلمة في الليل
أخيرا انزاح، وأصبحت إحالته على المعاش حقيقة واقعة. وانتشر الخبر في المراقبة مشيعا الارتياح العميق في كل إدارة. وكان ثمة تهامس كالأنين بأن في النية مد خدمته عامين جديدين. وبسبب ذلك نجح سكرتيره الخاص في جمع التبرعات لإقامة حفل تكريم له، ثم جاء الخبر اليقين كالشفاء بعد المرض. وتبادل الموظفون التهاني بلا حرج، وفرح حتى أتعسهم كادرا، وحق لمحمد الفل رئيس المحفوظات أن ينقر على مكتبه الكالح جذلا ويقول: ألم يكفنا أننا تحملناه أربعين عاما؟! اللهم إن لنا الجنة بغير حساب!
وروح يسري طاهر كاتب القيودات العجوز بدفتر القيد على وجهه، وقال: في ألف داهية يا حسين يا ضاوي!
ولم يكن في سيرة الرجل المحال على المعاش شيء يخفى، ولكنهم أقبلوا عليها كأنما تؤرخ لأول مرة. وأبرز يسري طاهر القابع تحت رفوف المحفوظات المكدسة رأسه - من بين صفين عاليين من الملفات فوق مكتبه - كرأس السلحفاة وقال: دخلنا الخدمة في يوم واحد، قرار تعيين واحد شمل يسري طاهر وحسين الضاوي وعلي الكفراوي وعبد السلام زهدي ورغيب إسكندر (وكان يشير بأصبعه إلى الثلاثة الآخرين) ثم أعطاه ربنا، أو أعطاه الشيطان وهو الأصدق، حتى تقلد منصب المراقب العام في سرعة مذهلة، ماذا فعل لنا؟ كان يمر بنا وكأنه لم يعرفنا، لم يمد لأحد يدا، داسنا كأننا حشرات حتى اكتظت ملفات خدمتنا بالعقوبات، ومضى يترقى حتى بلغ القمة ونحن ما زلنا في القاع، عليه اللعنة!
فطوى رغيب إسكندر وكيل الصادر الجريدة التي كان يتفحصها، وتزحزح إلى الوراء قليلا؛ ليتفادى من شعاع الشمس المنعكس على ضلفة النافذة الزجاجية، وضحك ضحكة مقتضبة كالنذير، ثم قال بنبرة ممطوطة تناسب الجري وراء الذكريات البعيدة: الله يسامحك يا حسين يا ضاوي، كنا جميعا من ساقطي الابتدائية، وعملنا معا عمالا في المطبعة، وكان سعادته يجيء أحيانا بالجلباب والقبقاب ألا تذكرون؟ ليس الفقر عيبا طبعا، ولكن العيب في الطرق الملتوية الشاذة المهينة التي يرتفع بها بعض الناس بغير الحق، ويوما انتقل عامل المطبعة كاتبا بسكرتارية المدير! كيف ولم؟ وبعد سنة عين سكرتيرا للمدير، ثم مديرا لمكتبه، ثم زوجا لابنته، ثم انطلق كالصاروخ الذي نسمع عنه في هذه الأيام! يا خبر أبيض يا حسين يا ضاوي! ولا الأحلام!
فقال محمد الفل رئيس المحفوظات مكايدا: كانت الفرصة أمامكم فلم خبتم؟!
وتجاوبت ضحكاتهم الملتوية المائعة كأنما تحكي فضيحة، وقال يسري طاهر: لا يتيسر الوثوب الخاطف إلا لمن حاز مؤهلات خاصة!
وتساءل محمد جاد، وهو كاتب حديث الخدمة: ألم يكن المراقب من حملة الليسانس؟
فقال رغيب إسكندر بتسليم: حصل على الابتدائية والكفاءة والبكالوريا، وليسانس الحقوق من منازلهم!
Bilinmeyen sayfa