تأليف
نجيب محفوظ
دنيا الله
دبت الحياة في إدارة السكرتارية بدخول عم إبراهيم الفراش. فتح النوافذ واحدة بعد أخرى، ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلب شارد ودون اكتراث. واهتز رأسه بانتظام وبطء، وتحرك شدقاه كأنما يلوك شيئا. فقلقت تبعا لذلك منابت الشعر الأبيض في ذقنه وعارضيه، أما صلعته فلم تكن بها شعرة واحدة. وعاد إلى المكاتب ينفض عنها الغبار ويرتب الملفات والأدوات، ثم ألقى على الحجرة - الإدارة - نظرة شاملة، ثم نقل بصره بين المكاتب وكأنما يرى شخوص أصحابها، فلاح الارتياح في وجهه حينا والامتعاض حينا، ومرة ابتسم ثم ذهب، وهو يقول لنفسه: «الآن نذهب لإحضار الفطور.»
وكان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول من حضر، جاء بكاهل ينوء بخمسين عاما، ووجه نقش على صفحته امتعاض ثابت، كأنه سجل لقرف الزمن. وتبعه السيد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة، الذي يضحك كثيرا؛ لكنه ضحك متوتر يداري به همومه اليومية. ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يدعى في الإدارة، والجندي الذي ينم تطلق أساريره على أنه لم يخرج بعد من نعمة الطفولة. ودخل يتبختر السيد مصطفى، أنيقا ذهبي الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة، ولحق به حمام رقيقا نحيفا منطويا على نفسه. وأخيرا حضر سيادة مدير الإدارة، الأستاذ كامل، محوطا بهالة من وقار، وفي يده مسبحة. وضجت الإدارة بالأصوات وخشخشة الأوراق. ولكن أحدا لم يشرع في عمل، حتى المدير انهمك في مكالمة تليفونية، وانطلقت صفحات الجرائد في الجو كالأعلام. وقال لطفي وهو يتابع الأخبار بعينيه: ستكون السنة نهاية العالم.
وعلا صوت المدير وهو يقول متهللا في التليفون: وهل يخفى القمر؟
وتساءل سمير: لماذا نشقى بالزواج والأبناء، ها هو شاب يقتل أباه تحت بصر أمه!
كذلك تساءل أحمد بصوت متحشرج: ما فائدة كتابة روشتة إذا كان الدواء غير موجود بالسوق!
ولبث الجندي يرمي ببصره من مجلسه إلى عيادة دكتور في العمارة المواجهة، يرصد ظهور ممرضة ألمانية شقراء في النافذة، ثم عاد لطفي يقول مؤكدا: صدقوني، نهاية العالم أقرب مما تتصورون.
ووضع المدير يده على السماعة، وقال لحمام آمرا: جهز الملف
Bilinmeyen sayfa