وهو يحاول ضبط انفعاله: سأحتاج إلى نقود كثيرة. ولا تنس أمي العجوز. - أمك!
وقهقه عاليا وهو يستخرج من جيبه ورقة من ذات الخمسة الجنيهات، ومد بها يده إليه قائلا: عربون.
فهتف بيومي وهو يلتهمها بعينيه: لا، وشرفك يا سيد الناس.
فحدجه المعلم بنظرة قاسية، فتخاذل قائلا: ليكن العربون عشرة جنيهات. - أتشك فينا يا ابن المجنونة؟ - أبدا يا معلم، ولكنها قد تكون كل نصيبي من الدنيا. - متى تقتله؟
فكر بيومي مليا بسرعة ويقظة، ثم قال: أمهلني أسبوعا .. السبت القادم. - خبرك أسود. - يا سيد الناس أنا مضطر إلى هجر الحسينية؛ كيلا أثير شبهة حولي، ويجب أن أتدبر الأمر وأرسم الخطة، ولا بد أن أعيش هذا الأسبوع عيشة هنيئة؛ فقد يكون آخر أسبوع لي في الحياة.
وأخرج المعلم ورقة أخرى من ذات الخمسة، ومد بالورقتين يده، وهو يتساءل: أتعلم ماذا ينتظرك لو ماطلت أو تأخرت؟
فقال بيومي ضاحكا، وهو يطوي الورقتين: لا أراك الله!
فشد اللجام حتى توقفت الكارتة، وهو يقول: مع السلامة .. لا تقترب ناحيتي أو ناحية أحد منا لأي سبب.
وثب إلى الأرض على حين مضت الكارتة بصاحبها. وقف ينظر إليها متوقعا أن يلتفت الرجل وراءه، فيلوح له تحية ولكنه لم يلتفت. وضغط بيده على الورقتين وكل شيء يدور. رغم الفتونة والمجدعة لم تقبض يده على جنيه بالكامل إلا فيما ندر، لكنه أيضا لم يقتل. ضرب وسرق ولكنه لم يقتل. لم يقتل وإن تكن ضربته قاتلة. وهو يحب الحياة، وإن بدت أحيانا أمقت من الموت ولا يحب المشنقة. ولكن أي جدوى من التفكير وهو سيقتل إن لم يقتل. فليكن حذرا أشد الحذر، وليرسم كل خطوة بأناة. ومهما تكن احتمالات الغد؛ فإنه يدخر له أيضا أربعين جنيها، مبلغ لم يجر له في حسبان. وقد يساعده المعلم الدهل في الاتجار به فتتحقق الأحلام. وأعلن في القهوة أنه سيهاجر من الحسينية سعيا وراء الرزق فقال له كل من سمعه: «مع ألف سلامة» في أصوات عالية وشت بارتياحهم للتخلص منه، فذهب وهو يقول لنفسه: لذلك فأنتم تستحقون القتل. وقصد حمام السوق، دخله هبابا وخرج منه إنسانا. وابتاع جلبابا ولاسة وثيابا داخلية ومركوبا؛ لأنه لم يجد حذاء جاهزا يتسع لقدميه الغليظتين. وجلس في محل «سيدهم الحاتي» يأكل بنهم حتى أذهل النادل. وطاب كل شيء فقال لنفسه ليت ذلك يدوم بلا قتل. ولم يكن يعرف الحاج عبد الصمد الحباني أي نوع من المعرفة. غاية ما في الأمر أنه لمحه مرات في حياته بلا تركيز ولا اهتمام. عليه الآن أن يعرف كل شيء عنه، وبخاصة الضروري، لإنجاز مهمته. اهتدى إلى بيته الكبير القديم بدرب الجماميز، فدرس موقعه والطرق المؤدية إليه. وحام مرات حول وكالته بالمبيضة. وتفحص الرجل عن كثب حتى انطبعت صورته في ذهنه، وبخاصة وجهه الممتلئ المتألق بالحيوية وأناقته السابغة على جبته وقفطانه. والتقت عيناهما مرة فسرعان ما غض الطرف وزاغ عنه كالمطارد. وتساءل ترى ما الأسباب التي تحمل المعلم الدهل على التخلص منه؟ أليس من حقه أن يعرف لماذا استحق هذا الرجل أن يقتله؟ لو كان سأل عن ذلك لسمع كلاما هو الصفع أو الركل. يا لهم من عصابة كأنها القضاء والقدر! وإنه لا يكاد يحل في مكان حتى يلمح أحد رجالهم ذاهبا أو قاعدا أو قادما. وفي المساء سكر، وفي سيرك الحملاوي سهر، وعند عيوشة الفنجرية بات ليلته، وقال لنفسه مرة أخرى ليت الحياة تمضي هكذا بلا قتل، وأن يتزوج من جديد، ويخلف البنات والبنين، ويواصل الاتجار والربح، ويأخذ حذره، فلا يرى لمخبر وجها. ترى ماذا ينتظره غدا؟ ولكن ماذا كان ينتظره مذ انطلق يلعب شبه عار في أزقة الحسينية، ومنذ انضم إلى عصابة زلمة، ومنذ اشترك في معارك الدراسة والجبل والوايلية، ومذ عمل برمجيا في الدروب الساهرة. ومذ غامر بتوزيع المخدرات في المقاهي، ماذا كان ينتظره؟
وجاء يوم السبت الموعود. استيقظ مبكرا؛ ليستقبل أخطر يوم في حياته. ملأ أحد جيبيه قطعا من اللحم البارد، ووضع في الآخر زجاجة، ودس في صدرته سكينا حادة النصل. أما المعلم الدهل ورجاله، فسيلتزمون الدكاكين ويخالطون الناس نفيا للشبهات، وهو أدرى بهذه الحيل الساخرة. هؤلاء الأوغاد المجرمون يجب أن يتلقى منهم أربعين جنيها لا طعنة انتقام غادرة، واستكان وراء شجرة على مبعدة أمتار من بيت الحاج عبد الصمد الحباني. وجعل يختلس النظرات من الباب المغلق، حتى فتح وخرج منه غلامان وبنت يتأبطون الحقائب المدرسية. كان بين الثلاثة شبه ملحوظ، ولكن الذي لفت نظره بصفة خاصة هو الشبه الحاد بين الغلام الأكبر وبين المعلم عبد الصمد نفسه. وتذكر ابنه المتوفي الذي لم يشهد وفاته، وتذكر حزنه الشديد عليه، وأحزان الحياة جملة. وما لبث أن بدا المعلم عبد الصمد، وهو يتقدم من الداخل إلى نقطة وسط الحوش، ثم وقف مستندا إلى عصاه وهو يفتل شاربه. واستدار إلى الوراء وراح يخاطب شخصا لا يراه هو من موقفه ثم لوح له بيده، ثم اتجه نحو الباب متمهلا، ووجهه الممتلئ يتألق بما يشبه الابتسام. وتساءل عما يجعله يبدو مبتهجا بل وطيبا؟! ولكن من أدراه أنه ليس كالآخرين! كلهم مناكيد لا يبتسمون ابتسامة حلوة إلا لذويهم. مأمور السجن مثلا، يا إلهي، هل يمكن أن ينسى هذا الرجل! مع ذلك دعي مرة إلى حجرته، فوجده يمازح ابنه الذي جاء لزيارته، ويغرقان في الضحك معا كأنما هو آدمي كالآدميين! تبع الرجل عن بعد، وهو يشعر بقلق ود معه لو ينتهي كل شيء في غمضة عين. والرجل يسير في اطمئنان عجيب، فلا يمكن أن يخطر له ببال أنه لن يرى أسرته وأولاده مرة أخرى، وأن هذا اليوم هو آخر عهده بالحياة، وأن الرجل المسكين الذي يتبعه وهو غافل عن وجوده .. هذا الرجل هو الذي سيقضي عليه، هو الوحيد الذي يستطيع أن يتنبأ بمصيره القريب، الذي ارتضى أن ينفذ فيه القضاء نظير خمسين جنيها لا غير، فكم يملك الرجل الذي يسير أمامه من مضاعفات هذا المبلغ الذي بيع به؟!
Bilinmeyen sayfa