فقال عبد العظيم بحدة: سيكون حقها كله تحت تصرفها. - طبعا .. طبعا، أنت لا تفهمني يا سي عبد العظيم!
وأخفى عبد العظيم عينيه عن صاحبه وعن القبور بالنظر إلى الأرض. مبلغ كبير بلا شك. وطالما أكرم تفيدة؛ فهي لن تعارضه ولن تحاسبه. وأولاده ما هم إلا أولادها. وثمة وجوه كثيرة للاستغلال بلا شك. الحق أن الفكرة طيبة. وغمغم في حذر: سأفكر في الأمر.
فقال الحاج مصطفى بارتياح: فكر على مهلك، وإذا قررت البيع فأحضر بنفسك أي سمسار كما تشاء، حتى تقبل عن رضى الثمن المعروض، ولك علي بعد ذلك أن أجد لها شاريا بنفس الثمن، والأقربون أولى بالمعروف!
الفكرة وجيهة، وسوف يشاور أصدقاءه. والبيع على أي حال خير من مناكفة المستأجرين، ورعاية بيت قديم من عهد نوح. وقال: اتفقنا يا حاج من ناحية المبدأ.
فلوح الحاج مصطفى بذراعه، كأنما يقول «اتفقنا»، فانطلقت ذراعه في الهواء كشاهد من آلاف الشواهد القائمة حوله فوق القبور. ورأى عبد العظيم ذلك المنظر، فانقبض صدره .. وقام وهو يقول برجاء: آن لنا أن نذهب.
الجامع في الدرب
حان موعد درس العصر، ولكن لم يوجد بالجامع إلا مستمع واحد. ولم يكن هذا بالأمر الجديد على الشيخ عبد ربه الإمام، فمنذ التحاقه بخدمة الجامع، وهو لا يجد مستمعا لدرسه إلا عم حسنين بياع عصير القصب؛ ولذلك دأب المؤذن والخادم على الانضمام إلى الرجل؛ احتراما للدرس ومجاملة للإمام. وحق للشيخ عبد ربه أن يستاء لذلك، لكنه كان اعتاده مع الزمن، ولعله كان يتوقع ما هو أفظع يوم تقرر نقله إلى هذا الجامع الرابض على باب حي الفساد. يومذاك غضب، وسعى إلى إلغاء النقل أو تعديله، لكنه اضطر إلى تنفيذه على رغمه، ولاقى بسبب ذلك ما لاقى من تهكم الخصوم ومزاح الأصدقاء. أين يمكن أن يجد مستمعا لدرسه؟! الجامع يقوم عند ملتقى دربين، درب الفساد الشهير، ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبرمجية وموزعي المخدرات. ويبدو أنه لا يوجد رجل صالح أو حتى رجل عادي في الحي كله إلا عم حسنين بياع العصير. ولبث دهرا يفزع كلما امتد بصره إلى داخل هذا الدرب أو ذاك، وكأنما كان يخشى إذا تنفس أن تتسرب إلى صدره جراثيم الدعارة والجريمة. على ذلك كله واظب على إلقاء درسه مواظبة عم حسنين على الحضور، حتى قال للرجل يوما بلهجة التشجيع: بهذا الاجتهاد ستصير عما قريب إماما يرجع إليه!
فابتسم العجوز في حياء وقال: علم الله لا حدود له!
وكان درس اليوم عن نقاء السريرة بصفته عماد الإخلاص وأس المعاملة الشريفة بين المرء ونفسه وبينه وبين الناس إلى أنه خير ما يستقبل به الإنسان يومه. وأصغى عم حسنين بانتباه كعادته، وكان قليل السؤال إلا أن يكون ذلك عن معنى آية أو استيضاح لشأن من شئون الفرائض. وفي ذلك الوقت من اليوم (العصر) يستهل الدرب حياته. كان الدرب يرى بكامله من نافذة الجامع القبلية، ضيقا متعرجا في بعض أجزائه طويلا، تقوم على جانبيه أبواب البيوت البالية والمقاهي، لمنظره وقع غريب مثير للغرائز. في العصر تدب في الدرب حركة استعداد كأنه يتمطى مستيقظا من سبات، الأرض ترش بالجرادل، الأبواب تفتح وتطرق طرقات غريبة. المقاعد تنتظم في القهوات. نسوة في النوافذ يتزين ويتبادلن الأحاديث. ضحكات متهتكة تلعلع في الجو، البخور يحترق في الدهاليز. ولم يخل الأمر من امرأة تبكي فتحثها المعلمة على التعزي؛ كيلا يضيع الرزق كما ضاع الفقيد. وأخرى تضحك ضحكة هستيرية؛ لأنها لم تنس بعد مصرع زميلتها وهي قاعدة إلى جانبها. وقال صوت غليظ مستنكرا: حتى الخواجات! حتى الخواجات يا هوه! خواجا يضحك على فردوس! يبتز منها مائة جنيه ويهجرها؟!
وثمة أصوات تتمرن على أداء أغنيات مبتذلة فاحشة. وفي نهاية الدرب بدأت معركة بالكلام وانتهت بالكراسي. ثم خرجت لبلبة؛ لتجلس أمام باب أول بيت، وأشعل أول فانوس، وشعر كل بأن الدرب عما قليل سيستقبل الحياة.
Bilinmeyen sayfa