Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Türler
والتعرض للمستقبل ليس تبعية للدراسات المستقبلية أو علوم المستقبل المعروفة في الغرب والتي أصبحت بريقا عند المعاصرين منا، ومفتاحا سحريا لمشاكل الجيل، بل ضرورة داخلية للفكر الإسلامي؛ نظرا لامتداد جذوره في الماضي، وتراكمه في الحاضر وترسبه فيه. وبالتالي يكون بعده المستقبلي ضرورة تاريخية نظرا لامتداده في الزمان واتصال أبعاد الزمان الثلاثة. كما أنه لم يغب في تراثنا القديم في أمور المعاد في علم أصول الدين، وفي الاتصال بالعقل الفعال وخلود النفس في علوم الحكمة، وفي تطور النبوة ومستقبلها ودور الولاية والإلهام والغاية في علوم التصوف، وكما ظهر في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه. وبالتالي فإن هم المستقبل موجود في الفكر الإسلامي إلا أنه كان هما بما سيحدث بعد الموت؛ فقد كانت الدنيا عند القدماء تحت سيطرتهم، وكانوا سادتها في حين أن المهم لدينا هو هم الدنيا بعد أن فقدنا سيادتنا عليها، وأصبح غيرنا هم سادتها وسادتنا.
وفي النهاية، يصعب على المفكر في أمثال هذه الموضوعات أن يجد وسطا متناسبا، وميزانا متعادلا بين العلم والحماس، بين العقل والانفعال، بين الموضوعية والغضب، بين التحليل والصرخة، بين الفكر والألم؛ فالمفكر هنا يحلل ذاته، ويصف واقعه، ويعبر عن همه بلغة العقل وبرود المنهج وهدوء الموضوعية. كما أنه يصعب عليه إيجاد لغة متسقة بين التعبير عن الأشياء ذاتها أو عن تجارب الأنا والنحن التي من خلالها تظهر الأشياء، وبالتالي يتردد المفكر بين ضمير الغائب للإشارة إلى الأشياء وبين ضمير المتكلم للإشارة إلى التجارب الذاتية. ومع ذلك فإن تحليل التجارب المعاصرة التي يعيشها الجميع تكشف عن المادة العلمية أكثر مما تكشف عنها المواد المكتوبة في المراجع العلمية القديمة والحديثة. فهذه أيضا كانت تجارب عند أصحابها ثم تحولت إلى تاريخ.
ثانيا : مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه
المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
في حقيقة الأمر، يصعب التمييز بين الأمثلة الثلاثة المطروحة؛ إذ إنها متداخلة فيما بينها؛ فمبادئ الإسلام وروحه التي يمكن للمجتمع العربي استلهامها، لا تعرض إلا في إطار التحديات المعاصرة ولا تنفصل عن قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته (السؤال الثاني). وكلاهما لا ينفصلان عن قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل (السؤال الثالث)، فالمستقبل هو مصير مشكلات الأمة وطرق حلها. ومع ذلك فإن السؤال الأول يغلب عليه التساؤل عن القيم النظرية التي يمكن أخذها كأساس للمجتمع العربي في لحظته التاريخية الراهنة، في حين أن السؤال الثاني يعطي الإجابات العملية على قدرة هذه القيم على قبول الدخول في تحديات العصر. أما السؤال الثالث فإنه يتوجه نحو المنجزات العملية لتحقيق رؤية مستقبلية لتاريخ الأمة طالما أن هذه التحديات ما زالت قائمة منذ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن.
ويمكن تحديد هذه المبادئ والروح العامة التي يمكن أن يستلهمها المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته على النحو الآتي: (1)
العقل: الإسلام دين العقل، وذلك بنص القرآن الكريم والحديث وبإجماع الأمة ورأي العقلاء.
1
وقد قامت الحضارة الإسلامية كلها على العقل. وظهر كأساس في العلوم العقلية وفي العلوم النقلية العقلية؛ فالعقل أساس النقل عند المعتزلة. وإن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه يقيني لما أصبح كذلك وظل ظنيا لا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة بإجماع الأشاعرة. والعقل الصريح موافق للنقل الصحيح عند جمهور الفقهاء، والقياس أصل من أصول الشريعة عند الأصوليين، وإن إيمان المقلد لا يجوز. والحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين متحدتان بالطبع، متحابتان بالغريزة عند الحكماء، والعقل هو الله عند الفلاسفة، والعقل الفعال موطن العلوم والمعارف، وغاية الإنسان الاتصال به والاتحاد معه. بل إن العقل لا يعارض الذوق بل يفهمه ويعقله كما هو الحال في حكمة الإشراق. وعندما ترجمت الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط المسيحي ساعدت على إنماء التيار العقلاني في الفكر المسيحي وفي بدايات العصور الحديثة حتى أصبح الفيلسوف مرادفا للمسلم، والإسلام مرادفا للفلسفة. وقد ظهر ذلك أيضا في معظم كتاباتنا الإصلاحية وأدبياتنا الحديثة التي بها ندافع عن الإسلام ونميزه بها عن غيره من الديانات.
والغريب أن مجتمعاتنا الحالية تشكو من اللاعقلانية، وتئن تحت وطأة الأسطورة، وتجعل الحركة الإسلامية النقل أساس العقل، وتحول علم أصول الدين إلى علم نقلي خالص «على المؤمن أن يؤمن بخمسين عقيدة!» كما يدرس حاليا في معاهدنا وجامعاتنا الدينية، كما تحول علم أصول الفقه إلى علم نصي خالص. ولم يعد الاجتهاد ممكنا إلا في حدود إجماع القدماء واتفاق المذاهب الأربعة. وتحولت الحكمة إلى إشراق، وضاع منها جانبها العقلي، وعم التصوف، وانتشرت الطرق الصوفية. وظهرت مكانة القديسين والأولياء في ممارساتنا الشعبية. يحارب الملائكة مع المسلمين، ويعبرون القناة معهم، ويزداد المحصول معجزة من عند الله، ويظهر النفط توفيقا من الله، وينطوي النبات على نفسه إذا ما نبت في الفضاء خشية من الله، ونكفر كل من يحاول ربط الأسباب بالمسببات. ويتحدث الدعاة أمام أجهزة الإعلام عن قصور العقل عن إدراك الحقائق العليا أو عن عجائب الكون الذي يقف الإنسان أمامه فاقد الوعي والاتزان. وما زلنا ندعو إلى العقلانية منذ فجر النهضة العربية الحديثة ولكنها عقلانية الغرب، عقلانية ديكارت وكانط وهيجل، ونقرأ من خلالها حركة الإصلاح الديني دون أن نحاول تأسيس العقلانية المعاصرة ابتداء من التراث العقلاني الاعتزالي الفلسفي القديم الذي كان وراء عقلانية الغرب. (2)
Bilinmeyen sayfa