Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Türler
4
ولا يعني «التخطيط» مجرد وضع برامج عملية كما يحدث في تخطيط التنمية، بل يعني التخطيط الشامل ابتداء من التصورات والرؤى والمقولات والمفاهيم والألفاظ المستعملة، أي إنه تخطيط فكري وذهني أكثر منه تخطيطا عمليا إجرائيا. (4)
أما «الدور»: فإنه يعني أن الفكر الإسلامي وتخطيطه لا يعني مجرد عرض نظري لأفكار القدماء أو حتى لاجتهادات المحدثين اختيارا أو إبداعا، بل يعني أن للفكر دورا يؤديه، ومهمة يقوم بها ، وفاعلية يحققها، وهدفا يسعى إليه. فنحن أمة بدأت بالفكر، وقامت على أساس الفكر ممثلا في التوحيد. وقد كان للتوحيد دور في التاريخ في خلق وحدة فكر الأمة، ووحدة حضارتها، ووحدة شعوبها. وليس دور المفكر الإسلامي إذن التفرج على الفكر القديم أو عرضه أو اختيار حلوله اختيارا عشوائيا طبقا للاختصاص أو للمزاج أو للاهتمام أو للتكسب والتجارة أو بدافع التدرج الوظيفي ارتزاقا بالمهنة وكسبا للجوائز والمنح، بل يعني أن الفكر الإسلامي له دور كما كان للوحي دور، وهو ارتقاء الجنس البشري وتربية الإنسانية حتى ينتهي هذا الدور باكتمال الوعي الإنساني واستقلاله عقلا وإرادة؛ ومن ثم يقوم على خطة مقصودة يهدف إلى تحقيق غاية قصوى في النهاية. وقد ظهرت الغائية في عقيدة الصلاح والأصلح، وفي الشريعة في تعليل الأحكام بغاياتها، وفي التصوف في اعتبار الإنسان قصدا نحو هدف، وفي الفلسفة في إعطاء الأولوية للعلة الغائية باعتبارها علة فاعلة.
5 (5)
والدور هو بالضرورة دور «ثقافي» وليس دورا سياسيا، أو اجتماعيا أو اقتصاديا مباشرا. فالدور يتحدد في الفكر، ويقوم به الذهن، يتعامل مع التصورات العقلية والقوالب الذهنية، فنحن مجتمع يعيش على الفكر، ويتوجه بالتراث. وذلك ليس مثالية وإعطاء الأولوية للفكر على الواقع، بل هو عين الواقعية ووصف الحقائق كما هي عليه. إن التعارض بين الفكر والواقع وأولوية كل منهما على الآخر بالتبادل طبقا للمذاهب الفلسفية إنما أتانا من الفكر الغربي؛ فقد نشأ هذا التعارض في أول العصور الحديثة بعد تعرية الوعي الأوروبي من غطائه النظري الديني القديم، وحين بدأ الفكر يضع ذاته ويستنبط الواقع منه (ديكارت)، أو يكون مجرد رصد للواقع ثم يتم تجريده بالفكر (بيكون)، واشتداد الصراع بين المثالية والواقعية. وهذا كله لا شأن لنا به؛ إذ إن الواقع لدينا ما زال يقبع تحت غطائه النظري القديم لا يحتاج إلى تفسير جديد. كما أن الفكر لدينا، وهو الوحي، قائم على الواقع منذ البداية في «أسباب النزول» وفي «الناسخ والمنسوخ» وفي الاعتراف بالقدرة والأهلية، وعدم تكليف ما لا يطاق، إلى آخر ما هو معروف من مبادئ الشريعة.
وربما كان أحد أسباب الردة في الثورات العربية المعاصرة هي أنها حاولت تخطيط دور في المجتمع بتغيير الأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون تغيير مماثل على مستوى الأبنية الثقافية والقوالب الذهنية، فانقلبت إلى ثورة مضادة، سواء على مستوى الأبنية التحتية (العودة إلى الرأسمالية) أو على مستوى الأبنية الفوقية (الحركة السلفية). وأصبحت الثورة المضادة على المستويين معا تقدم نفسها كبديل حتمي للثورة العربية كلها، وظهرت الحركة السلفية كبديل حتمي مطروح للحركة العلمانية كلها. وضعت الثورة العربية المعاصرة العربة أمام الحصان لدى شعوب تتحكم أبنيتها الثقافية وقوالبها الذهنية في نظمها الاجتماعية وأوضاعها السياسية. فما كان أسهل من تغيير الأوضاع والنظم بقرارات من السلطة، مرة شرقا ومرة غربا، مرة اشتراكية ومرة رأسمالية، والأبنية الذهنية لم تتغير، بل ازدادت رسوخا كرد فعل على تهرؤ المذاهب العلمانية وهزائمها.
الدور الثقافي إذن هو الأبقى، وهو الأقدر على الحفاظ على كل مكتسبات الثورة العربية المعاصرة، بل وعلى مكتسبات النهضة التي بدأناها في القرن الماضي إن كانت ما زالت باقية. الثورة الثقافية هي الثورة الدائمة، الثورة التي تغير مجرى التاريخ، الثورة التي تنبع من «روح التاريخ» أو تنبثق من «تاريخ الروح»، والتي لا تنشب فقط من مجرد انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة، يقوم بها الضباط الأحرار أو التنظيمات السرية سواء كانت إسلامية أو ماركسية.
6
وبطبيعة الحال، يكون ذلك دور المثقفين، فليس المثقف هو المتعلم أو العالم، بل الذي تحولت الثقافة لديه إلى وعي بالذات وبالتاريخ. وليس مصدر الثقافة وحده هو المكتوب بل قد يكون الشفاهي، وبالتالي يكون أيضا للمثقفين العاميين دور من خلال التراث الشفاهي. وقد كان الوحي تراثا شفاهيا قبل أن يصبح مدونا. (6)
والتخطيط لهذا الدور هو الذي سيكشف البعد المستقبلي في وجداننا المعاصر وجذوره في الفكر الإسلامي؛ فالمستقبل هو هم الجميع لا هروبا من الماضي وكرد فعل على الحركة السلفية وعلى نقيض منها، أو هربا من الحاضر وكرد فعل على هزائمه وكأن المستقبل سيأتي معه بحلول للحاضر رجوعا إلى الوراء، بل يعني المستقبل رؤية شاملة تضع الفكر الإسلامي في منظور تاريخي، وكحلقة متصلة من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، دون إخراجه من الزمان أو ابتساره في إحدى لحظاته. ويقوم بهذا الدور عدة أجيال وليس جيلا واحدا لأنه «مشروع رؤية» تتحقق على فترات؛ فالتاريخ مراحل، والأجيال متعاقبة، والأدوار متصلة.
Bilinmeyen sayfa