وكانت القضية الثانية أين سأقضي الليلة، فذهبت إلى بواب السفارة المصرية في الحي السادس عشر؛ فهو لن يرفض أن أسكن معه عدة ليالي حتى أجد مسكنا لي. وأخبرني أنه ممنوع لأن بواب السفارة موظف في الخارجية، ولا يجوز استضافة أحد عند بواب السفارة. وهناك بيت السفير المجاور المكون من عدة غرف، ولكن سيكون نفس الرد، فاستغربت، ألا يقبل بواب السفارة طالبا سيغير العالم بأفكاره، وهو مشروع «التراث والتجديد». فذهبت إلى مسجد باريس كي أقيم فيه على عادة الطلاب القدامى، فأخبرني الإمام أنه ممنوع؛ فهو مستخدم للصلاة فقط، وسلمني إلى أحد الجزائريين كي أنام معه، وكانت غرفة في فندق في الحي العشرين الذي يقطنه العمال الجزائريون ، ستة على سرير واحد. وطلبوا مني أن أعطيهم دروسا في اللغة العربية؛ فقد كانت فرنسا تريد فرنستهم، استعمار اللغة بعد استعمار الأرض. وكنت أشرب فنجانا من القهوة كل صباح حتى لا يشعر صاحب الفندق أنه لا يستفيد مني شيئا ببقائي مع الإخوة الجزائريين. وكان في وجه أحدهم حب الشباب يهرشها طوال الوقت، وتواعدنا مرة في محطة لوكسمبورج، وفجأة رأيته قبل الموعد بيوم، وأخبرني أنه ظن أنني قد آتي اليوم؛ أي قبل الموعد بيوم؛ فالزمن ليس له مسار، الأمس واليوم والغد يتساوون.
وكنت قبل المغادرة من مصر، أعطاني أحمد فؤاد الأهواني خطابا لأحد تلاميذه في باريس يوصيه مخ بي خيرا، فذهبت إليه وأعطيته الرسالة، فكتب هو رسالة إلى مدام رامبارك مديرة مكتب البعثات التعليمية الفرنسية بالسفارة المصرية بباريس. ولما قرأت الخطاب وضعته على مكتبها مستغربة أنها لا تملك أي سلطة في ذلك، هي فقط مديرة إدارية تنفيذية لما يأتي إليها من تعليمات من إدارة البعثات في مصر. وأدركت ما أسهل الكلام الشفهي أو المدون وما أصعب الأفعال، فأحسست بالحرج أمامها وهي تقول لي إنها لا تستطيع فعل شيء. وقد كنت أضع أملا كبيرا فيها وفي خطاب التوصية الذي كنت أخشى أن يضيع ويضيع معه مستقبلي.
وفي الطريق إلى السفارة أوقفني شرطي طالبا أوراقي، فأخرجت له جواز السفر فنظر إلي مستغربا وهو يقول: ولكن وجهك الآن «معضم» أو بتعبيرنا الشعبي «مقفع» أو «مفقع». فقلت له: لأني وصلت هذا الأسبوع، ولم أستقر بعد، فأرجع إلي جواز السفر مستغربا، بعد أن اطمأن أنني لست من المهاجرين غير الشرعيين كما يحدث الآن.
وبعد أسبوع في 25 / 10 / 1956م وأنا ما زلت في مرحلة الاستقرار بدأ العدوان الثلاثي على مصر حيث تجمعت أساطيل الدول الكبرى في البحر الأبيض المتوسط. وبالاتفاق مع إسرائيل بدأ العدوان في أكتوبر، وهاجمت إسرائيل من الشرق، فاحتلت سيناء وذلك لحصار الجيش المصري بين فكي الكماشة، إسرائيل في سيناء والقوات البريطانية والفرنسية في قناة السويس بدعوى تأمين حرية الملاحة البحرية، وشهد الجيش تدميره. وقد طالب الشيوعيون والإخوان عبد الناصر وهم في السجون بإخراجهم وتسليحهم للدفاع عن بورسعيد التي لم يكن قد تم احتلالها نظرا للمقاومة الشعبية في القضاء على جنود المظلات، ففعل عبد الناصر، ثم طالبوا بإعادتهم إلى السجون من جديد ففعل أيضا. وكان الشعب معه لا فرق بين إخوان ووفد وماركسيين ومصر الفتاة؛ فالكل واحد لإنقاذ الوطن. وغادر معظم الطلاب الدارسين في فرنسا، بعد أن اجتمعوا في السفارة المصرية بباريس لمعرفة ماذا عليهم أن يفعلوا؟ البعض قال يعود إلى مصر للدفاع عنها، فيرد السفير عبد النبي مع المستشار الثقافي ثروت عكاشة: هناك من هم أقدر منكم على الدفاع. وقال البعض الآخر نغادر هذه الدولة الاستعمارية، وندرس في ألمانيا. وبالفعل حزموا أمتعتهم، وغادروا إلى ألمانيا. وفريق ثالث فضل استمرار الدراسة في فرنسا؛ فهذا أكبر رد فعل على الدولة الفرنسية. أما أنا فلم يكن عندي إمكانيات للعودة إلى مصر ولا إلى السفر إلى ألمانيا، ففضلت البقاء في فرنسا. وذهبت إلى اللوفر ورأيت آثار مصر ومسلة الكونكورد في الواجهة وسط الميدان المسمى باسمها، وأنا أبكي مصر والعدوان عليها. وكنت أسير في الشوارع وأنا أغني «لك يا مصر السلامة». وتذكرت تدمير الأسطول المصري غرب الإسكندرية بعد حصاره من القوات البحرية الفرنسية والبريطانية في موقعة نوارين الشهيرة لإسقاط محمد علي بعد أن أصبح قوة تهدد القوى الغربية، تريد تجديد روح الإمبراطورية العثمانية والغرب طامع في إرث الرجل المريض؛ فالتاريخ يعيد نفسه. ولم نسترح نفسيا إلا بعد أن انسحبت جيوش الدول الثلاث من مصر. البعض يقول بفضل التهديد الأمريكي بالتدخل أو تهديد بولجانين، أو قرار الأمم المتحدة بإيقاف العدوان، كل طرف يريد أن يأخذ الحق في جانب الانسحاب الذي تم في ديسمبر من نفس العام. والبعض الآخر يقول بفضل الإنذار الروسي. وفي كلتا الحالتين يظل رنين خطب عبد الناصر في الأزهر «سنقاتل». وطالب صلاح سالم عبد الناصر بتسليم نفسه لقوات الاحتلال واتهام زملائه له بالخيانة العظمى.
وكان هناك أحد الأنظمة الإسكانية للطلاب؛ ففي 15 شارع سوفلو
Souflant
في الحي اللاتيني هناك مكتب جامعي يقدم خدمة سكنية للطلاب يقوم على أساس التبادل
Au Pair
سكن مجاني في مقابل خدمة طلابية لأحد أطفال الأسرة، وهي غرفة فوق السطح كانت مخصصة للشغالات. ولما لم يعد نظام الشغالات يتبع كل شقة سكنية قائما قدمت الأسرة غرفة السطح إلى أحد الطلاب أو الطالبات. وكنت أستيقظ في الصباح الباكر وأسير من الحي العشرين حيث كنت أسكن مع الجزائريين كي أكون أول من يقرأ قائمة الغرف المعطاة للطلاب في مقابل التدريس لأحد أطفال الأسرة أو مقابل أجر زهيد لا يتعدى فرنكات في الشهر للطلاب الفقراء. ونجحت مرة في الحصول على غرفة السطح مقابل تدريس العربية والإنجليزية لطفل الأسرة. وفي يوم وأنا عائد من الجامعة وجدت غرفة السطح قد كسر بابها، ونقل عفشها وكتبها إلى غرفة أخرى في فندق مع دفع ليلة واحدة! فاستغربت، وذهبت إلى صاحب الشقة، فأخبرني أنهم في مصر طردوا أخاه، وكان موظفا في شركة قناة السويس، وليس من المعقول أن يبقى مصري في غرفة تبعه، وأنا مصري وأخوه مطرود من مصر، مع أن الطفل فرح بمدرس له مصري. وبعد الفرح بحل قضية السكن المجاني حزنت، وسألت مكتب الطلاب في الجامعة ما العمل؟ فأخبروني أن هذا عمل غير قانوني، وعلي أن أرفع قضية على صاحبها في قصر العدالة
في الحي. وبالفعل بالرغم من أنه لم يكن معي إلا أربعون فرنكا وهو ثمن القضية، كسبتها، وأخذني صاحب الشقة جانبا واعتذر، وعلي بعد ذلك أن أذهب إلى المحكمة، وهذا يتوقف على مهارة المحامين، عندي وعنده! وأنا ما زلت أبحث عن الطعام والسكن. وحدث ذلك في إليزيا
Bilinmeyen sayfa