كما حدثت لي صدمة كبيرة في حرية الفكر في الجامعة، وهي الصدمة الثانية. كانت في امتحان اللغة الألمانية التي كانت مقررة علي في آخر سنتين باعتباري طالب امتياز يأخذ لغة أخرى ومادة زيادة. كان مقررا أن آخذها مع الدراسات العليا في قسم التاريخ بينما وضعتنا إدارة الامتحانات بالكلية مع قسم اللغة العربية. وفي الامتحان وجدت الأسئلة مختلفة، فطلب مني المراقب، وكان قبطيا من حرس الجامعة، أن أكتب طلبا للعميد أشرح فيه الموقف. وبالفعل أخذت اكتب طلبا للعميد وبدأ بعبارة «الأخ الفاضل» عميد كلية الآداب، فانتزع مني المراقب الورقة معترضا: هل يكتب لعميد الكلية بأنه الأخ الفاضل، وليس السيد العميد؟ فقلت له: «إن البشر جميعا إخوة لا سائد فيهم ولا مسود.» ويبدو أنه أراد إخراجي من القاعة فلمس قلم الحبر ذراعه وترك أثر الحبر فيه، وحولني إلى العميد، وكان هو يحيى الخشاب (زوج سهير القلماوي)، فحولني إلى رئيس الجامعة بتهمة «قلة الأدب»، الذي كون مجلس تأديب من خمسة أساتذة من ضمنهم أساتذة حقوق طبقا للقانون. وسألني أحد أعضاء اللجنة: هل العميد أخوك؟ فأجبت بحديث الرسول نعم «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» ثم سأل: هل تعتقد ذلك قولا وعملا، فكرا وسلوكا؟ فأجبت نعم، أنا لا فرق عندي بين رئيس الجمهورية وجامع القمامة في الشارع؛ فكلاهما يؤدي وظيفة طبقا لتقسيم العمل في المجتمع. فسأل: هل ستبقى على هذا الاعتقاد طول العمر؟ قلت نعم. وأنا الآن في طريقي إلى فرنسا لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراه، فطالبوني بالقيام مع التوفيق والنجاح بالموافقة. وعلى هذا الأساس أخذت الورقة البيضاء وهي تعادل تأشيرة الخروج. وبعد عدة استطلاعات وجدت أن أرخص طريقة للذهاب إلى فرنسا هي المركب من الإسكندرية على ظهرها 588222. وكان ثمنها اثني عشر جنيها استطعت توفيرها. وكان معي في ذلك الوقت بهاء طاهر بقسم التاريخ، والسيسي عازف البيانو من قسم اللغة الإنجليزية، وعبد الجليل حسن الذراع اليمنى لتأسيس مجلة «الكاتب»، وكان في قلبه «اليسار الإسلامي»، والذي غادر إلى ليبيا، وربما هو الذي كتب «النظرية الثالثة» بأجزائها الثلاثة للقذافي - وهو تلميذ عبد الناصر - قبل أن يستبد ويتجبر فيعود عبد الجليل إلى القاهرة، ويموت في وطنه. وقد سبقني بدفعة نبيل زكي الكاتب الصحفي بجريدة الأهالي، وجاء بعدي حلمي النمنم الكاتب الصحفي الذي أصبح وزيرا للثقافة، ومكرم محمد أحمد الصحفي الشهير ونقيب الصحفيين السابق، وطه حنفي المليجي الذي كان مدرسا للغة الفرنسية في وزارة التربية والتعليم ثم أصبح موجها عاما لها. جاء لزيارتي بالكلية مرة وأنا أمين اللجنة العامة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين برئاسة الجوهري، وكنا ندرس موضوعا هاما لا أستطيع أن أترك الجلسة، وما إن انتهت الجلسة وخرجت وجدته قد غادر. خطئي أنني لم أطلب منه الانتظار في الغرفة المجاورة للعميد، ولم أخرج لتحيته أولا وسط الجلسة، وحزنت حزنا شديدا لأنني لم أره منذ أن غادرت إلى فرنسا. يبدو أنه شعر بالإهانة لأني لم أخرج على التو. وقرأت نعيه في الأهرام بعد شهر. يبدو أن التاريخ كان يريد أن يجمعنا من جديد، ولكن الإرادة البشرية عاقت دون ذلك. وكان أقرب الأصدقاء إلي في الجامعة في سنوات الدراسة الأربع. ونظر إلى عيني مرة وأنا في المسجد قبل السفر إلى فرنسا وقال لي: «عيناك تبرقان.» وربما كان ذلك من الحزن لما حدث في الجامعة، والفرح للسفر إلى فرنسا. أما أحمد الكاشف فقد بدأ بهيئة التحرير وانتهى إلى سكرتير محافظ القاهرة. ذهبت إليه مرة لأحل بعض مشاكل رخصة بناء بيتي العربي. بعد أن امتلأت شقتي بشارع الحجاز، وملأت الحوائط رفوفا لاستيعاب الكتب، بنيت منزلا عربيا بمدينة نصر الفارغة في ذلك الوقت؛ بناه نجل شقيقتي علية، وهو المهندس محمد عبد المحسن بعد أن جربت مهندسين ومقاولين آخرين؛ منهم من استولى على كتابي عن المدينة العربية ولم يرجعه. وكنت قد اشتريت الأرض من مفتشة في وزارة التعليم التي كانت تمتلك الأرض وتقسمها على موظفيها بستين قرشا للمتر، واشتريتها أنا حسب إعلان الجريدة بقيمة 180 جنيها للمتر، وكانت تريد المبلغ فوريا ونقدا، فأخذت المبلغ، وظلت هي وأختها يعدون هذا المبلغ الكبير في الحجر وأنا أريدهم أن يقوموا بذلك في المنزل، ثم طمعت في المبلغ والأرض معا، وذهبت إلى كل الهيئات الحكومية لإبطال العقد: المياه، الكهرباء، رصف الطرق، تنظيف الأرض. ولما ظلت تماطل رفعت عليها قضية، فكسبتها، وجعلت الدور الأرضي (البدروم) كله لتنظيم مكتبتي في دواليب جديدة، وأضيف إليها قسم من الدور الأول وبينهما سلم خشبي داخلي. وفي هذا القسم العلوي وضعت الفكر العربي والإسلامي المعاصر؛ مصر، والوطن العربي والعالم الإسلامي، ثم في الجانب الآخر العلوم الإسلامية؛ أصول الدين، وأصول الفقه، وعلوم الحكمة. ولم يبق مكان لعلوم التصوف فنزلت إلى الطابق السفلي، وفيه الفلسفة الحديثة والمعاصرة ابتداء من الفلسفة اليونانية ثم العصور الوسطى، المسيحية واليهودية ثم الإصلاح الديني، ثم عصر النهضة؛ القرن السابع عشر، ثم القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر الذي استغرق جناحا بأكمله، ثم القرن العشرين؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم ما زال حيا، ومكتبي وسط هذا التاريخ للفلسفة. وفي طرقة أخرى فلسفة الدين بداية بالاستشراق، ثم الفكر الشرقي القديم ثم المسيحية. وفي آخر الطرقة العلوم الإنسانية؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وما تبقى من العلوم الفلسفية؛ المنطق، وفلسفة العلوم، والفلسفة العامة، وعلم الجمال. وفي الطرقة الأخيرة التي يجلس فيها مساعدي الأول توجد العلوم السياسية والاقتصادية، ومصر والوطن العربي وأمريكا؛ حيث كنت أزمع الكتابة عنها «أمريكا، الحقيقة والأسطورة»، ثم فلسطين وإسرائيل، ثم تأتي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأخيرا بجوار الحديقة الأدب؛ الرواية، والقصة، والشعر، ثم النقد الأدبي. ومنذ عدة سنوات عندما بدأ العمود الفقري يضعف وتغيير بعض مفصلات الفخذ خصصت غرفة بدور السكن، الدور الأول، للبقاء بجوار الأسرة، ولأنني لم أعد قادرا على نزول السلم الخشبي الداخلي أو صعوده. ولما أوشكت أجزاء «التراث والتجديد» على الاكتمال، ولم يبق إلا الجزء الأخير، «الجبهة الثالثة» «النص والواقع»، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي أكتبه في الغرفة المأخوذة من شقة السكن، وبعد إلقاء الأساس الأسمنتي وشرعت في بناء الدور الأول رفض مهندس الحي إعطائي التصريح لأنني بعد أن رخصت الأساس كان يجب أن أرخص الأدوار فوقه، «إلا إذا» ولم أفهم. وأنا لم أكن قد بدأت إلا في البدروم حسب نصيحة المقاول، فجاء معي اثنان للموقع للتحقق من صحة أنني لم أبن بعد الدور الأول، فطلب مساعده أن يدخل دورة المياه، فأشرت عليه في المنزل المقابل، ووقف ينتظرني، يشير بيديه، كما فعل حسن يوسف مع نادية لطفي في فيلم الخطايا؛ لأنه يريد أن يأخذ منها موعدا للقاء حبيبها عبد الحليم حافظ نظرا لاعتراض الأب الذي رباه وليس أنجبه، فلم أفهم ماذا يريد. فهمت بعد ذلك أنه كان يريد رشوة للإمضاء، فلما لم أفعل رفض إعطاء الترخيص. ورفعت الأمر إلى القضاء مرة ثانية. فكسبت القضية وخسر. أما موظفة الحي فقد طلبت مني أن أسعى في منحة من معهد الخدمة الاجتماعية لابنتها، وكنت على صلة بأساتذتها، فسعيت ونجحت، ولم تفعل شيئا، كما أشار مهندس الحي الذي بيده الموافقة من عدمها إلى مفتاح عربته وهزه؛ مما يعني أنه في حاجة إلى تكاليف الطريق من منزله إلى الحي، فلم أفهم الإشارة، ولم يرخص البناء.
وكان معنا كامل يوسف سلامة من كلية الحقوق. وفي الصيف كنا نجلس على المقهى للعب الطاولة، وبمشروب واحد (حاجة ساقعة). نجلس طول المساء نتحدث عما سنفعل بعد التخرج. كامل كانت له رؤية واضحة في أن يصبح وكيل نيابة، وكان هذا اللقب في جيلنا له هيبة كبيرة. وبينت أنا أنني سأصبح معيدا لتكملة الدراسات العليا في الداخل أو في الخارج. وطه لم يكن له رؤية واضحة؛ فالأمر يتوقف على مجموع درجاته حتى التخرج. وقد سكنت الدور الأول ومكتبتي في البدروم، وأبنائي فوقي، لكل دور. وبعد أن اكتمل بناء البيت العربي وانتقلت إليه عام 1994م، كتبت على الحائط في البدروم «المكتبة الفلسفية المتخصصة». وفي يوم من الأيام جاءتني مصلحة الضرائب كي تعرف كم مكسبي في اليوم منها، فشرحت لها أنها خدمة عامة، فطلبوا إزاحة العنوان، كما أتى مندوب الضرائب العقارية الآن كي يبلغني كذبا، مع أنه بذقن واطمأننت إليه، أنه هناك لجنة أتت وقررت ضرائب ألفين وخمسمائة جنيه على كل ساكن، وعلى البدروم الذي به مكتبتي اثني عشر ألفا ونصف جنيه باعتبارها مخزنا، فاستغربت لأن السكن ليس عليه ضرائب عقارية، ومكتبتي أين أضعها بعد أن اتسعت على مدى ستين عاما؟ فأخبرني أن الموضوع في «حاجة إلى فلوس» وفرك إصبعيه، أدفع له النصف والباقي بعد الطعن. ثم جاء مرة ثانية يطلب صراحة الفلوس فطردته من المنزل صائحا «لعن الله الراشي والمرتشي.» وأبلغته أن الأمر في يد المحامي الآن وأعطيته اسمه ورقم تليفونه. فخرج منكس الرأس أن الحيلة لم تنفع بعد أن ظن أنني ميسور الحال وأن مكتبات الجامعة ليس بها مثل مكتبتي. ولم يلق اهتماما إلى أن مصاريف الموظفين عندي؛ الممرض، وربة المنزل، واثنين من السكرتارية، والبواب، تبلغ اثني عشر ألف جنيه ومعاش أربعة آلاف جنيه، غير تكاليف الأدوية والأطباء والحياة اليومية وأنا عاجز لا أتحرك إلا على كرسي متحرك.
وفي يوليو 1956م سنة التخرج، ونحن جالسون في شقتنا بباب الشعرية، وكانت غرفة الصبيان تطل على السطح الداخلي الذي هو سقف مخازن السحار، وكنا ثلاثة: أنا وأخي سيد وصديق العمر محمد وهبي عبد العزيز، إذ سمعنا خطاب عبد الناصر في تأميم قناة السويس، فقفزنا من الفرح، وظل بعضنا يقذف بعضا بالمخدات، ومن يومها أصبحنا ناصريين، ونسينا الخلاف بين الثورة والإخوان. وبدأت المؤتمرات؛ مؤتمر لندن وعلي صبري ممثلا للثورة، ولم تنجح مفاوضات القناة؛ فلا حلول وسط بين ملكية فرنسا وإنجلترا لها، وملكية مصر وهي على أرضها. وبدأت تلوح في الأفق بوادر الحرب.
كانت المرحلة الجامعية هي مرحلة الانفتاح على العالم، ورؤية عدة طرق فأيهما أختار، مرحلة الضوء الجلي والمطلوب سلوك أي طريق فيه، وهي مرحلة اختيار أي الإمكانيات أنا مدفوع إليها؟ لم يكن عندي اختيار حر، بل كنت مدفوعا بمصير تحدد من قبل، من البداية إلى النهاية. لم أكن شقيا بل كنت سعيدا لأن الطريق واضح وما علي سوى السلوك فيه.
الفصل الثالث
السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
عشر سنوات في فرنسا غيرتني كلية، وعمقت تجربتي العلمية والحياتية. كان الإصرار على السفر إلى فرنسا دون بعثة أو تكاليف خاصة يحزن الأسرة كلها، وبالأخص الوالدة، كيف سأعيش؟ ومتى سأرجع؟ وأنا أعد عدة السفر ملأت حقيبة كبرى بكتب السنة، وفي حقيبة أخرى مذكراتي التي كنت قد بدأت كتابتها في الصلة بين الفكر والواقع، وأحلامي التي كنت أدونها بمجرد الاستيقاظ. كتب السنة اشتراها لي أخي سيد حتى قبل أن يعين معيدا، واكتفى بالباحث قبل المعيد بعشرين جنيها؛ فمعاش أبي الخمسة جنيهات كانت لا تكفي حتى لإعاشة الأسرة، وكان هناك جوال به خبز جاف وعلبة جنبة صفراء من المعونة الأمريكية. حاولت الأسرة إقناعي بكل الطرق بعدم السفر، وكان هناك طالب أعرف أسرته بدرب البزازرة بجواري اسمه عبد الحليم، وكان بدينا مثل أمه، وكان عقله كذلك، وأبوه ضعيف الشخصية مقارنة بأمه، وكان يأتيني بين الحين والآخر لأشرح له كل مادة عن طريق وضع نسق له لمذاكرتها، أوحوا إلى أمه لمنعي من السفر، فأخذت الحقيبتين والجوال، وأصررت على السفر. وطلب مجمع التحرير أن يأتي الوالد شخصيا ويوقع أمام الموظف المسئول على موافقته على السفر، فذهب الوالد سعيدا حتى أعلم أنه ما زالت السلطة بيديه؛ فهو رب الأسرة مهما عاق الابن الجامعي المتعلم. وذهب معي إلى ميناء الإسكندرية أخي سيد والوالد قبل السفر بيوم. وكان لنا قريب للأسرة ترزي عربي بالمنشية، وهو أخ جدي حسانين تاجر الدقيق ببني سويف؛ فقد كان النزوح دائما من الجنوب إلى الشمال، كما يتم النزوح الآن من الشرق إلى السعودية والخليج أو إلى الغرب ليبيا أو إلى الشمال والأردن، وكما ينزح الإخوة السودانيون والأفارقة من الجنوب إلى الشمال، وكما ينزح كل العرب الآن إلى الشمال، أوروبا بحرا، وكان له ولد في شبه سني أو أصغر، وكان اسمه رشاد، دخل قلبي من أول لحظة، كان طيبا خجولا مثلي، وكنا نسير إلى الميناء وارتبطنا بصداقة نادرة وأنا على وشك المغادرة. ولما أخبرني أخي سيد أنه على صلة بهم كما كان على صلة بباقي أقاربنا ببني سويف، أعطتني زوجة أخي رقم تليفون وعنوان شركته «أولاد المصري» لمواد البناء عرفت أنني سأستعيد صداقة رشاد والأقارب، فاتصلت فرحب بي وسألت عن أفراد الأسرة فتوفي معظمهم، وسألته عن المواد التي تقاوم رطوبة أكبر فقال بخشونة: «معرفش.» ظانا أنني سأستخدمه مجانا بعد أن صرح لي أنه هو الذي جهز شقة أخي على البحر وأنه تغذى معه، فحزنت.
كانت الأسرة ترى المركب تغادر وأنا أرى الرصيف وعليه الأسرة. وغادرت السفينة يوم 11 / 10 / 1956م وهي تبعد شيئا فشيئا، ووصلت مارسيليا. وكانت الوالدة تريد أن ترمي نفسها في البحر لحاقا بابنها، ولكن منعوها. وفي الليل وبعد التوصية كانت توضع لي ملاية على كنب المطعم لأنام، وكنا نطعم مما تبقى من موائد الأغنياء. وفي الليل أرى النجوم في السماء وهي تتقلب يمينا ويسارا طبقا لحركة المركب. ولما كانت المركب يونانية فإنها تبقى أربعا وعشرين ساعة في ميناء بيريه في أثينا ، يلتقي فيها البحارة مع أسرهم، وينزل من يريد، فنزلت بعدما رأيت شيئا كسائح، الأكربولوس، وسجن سقراط، ورأيت أثينا الحديثة وميدان الشهيد الذي به البرلمان. وكانت منظمة أيوكا تعمل من أجل استقلال قبرص، وكانت جزءا من نضال العالم الثالث، وكنا نهتف باسمها باعتبارنا طلبة وطنيين.
وفي اليوم الثاني مرت السفينة من مضيق مسينا الذي كنت أقرأ عنه في الجغرافيا في الثانوية. وكان همي الوصول من مرسيليا إلى باريس، وتعرفت على فرنسية كبيرة في السن وأقرضتني مائة فرنك، ما قيمته عشرة جنيهات، ثمن تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس. ولما تأخرت عليها في السداد هددتني في خطاب بأنها ستشكوني إلى رئيس جامعة باريس. ورددت إليها ما اقترضته منها في أول دخل لي من تدريس اللغة العربية للإخوة الجزائريين.
ولما وصل القطار محطة باريس نزلت منه وأنا لا أدري أين أذهب. وقابلني أحد الفرنسيين وسألني إن كنت أريد سكنا، فوافقت، وأخذني معه إلى منزله، غرفة صغيرة يؤجرها كي يعيش منها. وأعطاني هذه الليلة طبق شربة ساخن حتى أستمر في السكن معه ومع زوجته العجوز مثله. وبدأ الهوام يهرشني؛ فالملابس ما زالت في الحقيبة لم أغيرها منذ أن غادرت القاهرة. ودفعت له ليلة وطلبت الانتظار للباقي حتى تستقر أموري في الجامعة. وما زلت أذكر الحساء الساخن في الليلة الباردة.
Bilinmeyen sayfa