نقلت ذات إلى الأرشيف الذي يحتل الطابق الأخير من مبنى قديم مجاور، يصعد إليه درج مظلم وكئيب، وتتصدره صالة طويلة ضيقة غصت بالمكاتب الخشبية والمعدنية المتلاصقة، والمقاعد الخالية، وحملت جدرانها المدهونة حديثا بلون أخضر قاتم، بصمات الأيدي وحواف المقاعد، بالإضافة إلى صورة واحدة، للرئيس الجديد بالطبع، يجلس أسفلها رئيس القسم (من غيره؟) وهو رجل ضئيل الجسم، تخلل شعره الشيب، لم يحلق ذقنه منذ أيام، يرتدي قميصا متسخ الياقة. تأملها بعينين أشبه بالمكحولتين، وأشار لها بيد التوت أصابعها الرفيعة على نفسها نحو الكف كالمخالب؛ لتجلس فوق مقعد قريب منه، ثم دفن رأسه في إحدى المجلات، وتجاهلها تماما، لا عن خجل أو ضغينة، وإنما لأنه لم يكن يعرف ماذا يفعل بها.
هكذا أتيحت لها الفرصة لأن تتأمل، من موقع الرئاسة، مسرح عملها الجديد؛ الملفات المكومة فوق المكاتب تعلوها الأتربة، الصحف والمجلات المتناثرة في إهمال، أرفف المجلدات المصفوفة في نظام يحول دون الاستدلال إلى أحدها، والسدنة؛ شاب هادئ يقرأ كتابا مستعينا بقلم يخطط به السطور؛ مما يقطع بأنه طالب في إحدى الكليات، وعدة نسوة قبيحات الوجوه؛ اثنتان في حجاب الرأس (إحداهما في بلوزة رمادية وجيبة سوداء، والثانية في فستان من قماش مستورد صارخ الألوان كمكياجها وأثقال من الذهب حول رقبتها ومعصميها وفي أصابعها وأذنيها)، والثالثة في حجاب كامل، بمنكبين عريضين وملامح أسيانة، والرابعة في فستان عادي، ماكسي، أسود اللون، سواد الشامة التي تزين خدها، والخامسة بوجه يشبه وجه الأرنب، وجيبة مزركشة مع بلوزة وردية اللون.
مرت لحظة التأمل في صمت، وما إن اكتشف السدنة أن زميلتهم الجديدة، التي سبقتها دعاية واسعة، تبدو (كما ستبدو لهم دائما) ضئيلة الشأن قليلة الحيلة، حتى انصرفوا إلى العمل. انطلقت وجه الأرنب إلى الركن الذي تجلس به الشامة السوداء إلى جوار الطالب الجامعي، ووضعت يدها على قلادة من حلقات كبيرة الحجم تتدلى فوق صدرها، هاتفة: «إيه رأيكم في الإكسسوار ده؟ العقد والحلق. بتوع بنت أختي. عندها شنطة مليانة.» وبسطت صاحبة المنكبين العريضين صحيفة اليوم فوق مكتبها، وأخرجت من أحد أدراجه لفافة السندوتشات وعلبة المخللات، ثم وجهت الدعوة إلى الرئيس، والزميلة الجديدة، والأخريات اللاتي لم يستجب منهن، طبقا لاتفاق سابق، سوى الشامة السوداء ووجه الأرنب، التي انتهزت الفرصة لتقدم عرض الإكسسوار الصباحي في الركن الآخر من الغرفة.
الماكينات العاكفة على مضغ الفول والمخلل، ثم ابتلاع الشاي (الذي أعدته صاحبة المنكبين العريضين فوق سخان صغير على الأرض بجوار ملفات قديمة بالية)، كانت من الكفاءة بحيث لم تتوقف عن البث لحظة واحدة:
الشامة السوداء : «سعد جاب لنا زيتون يقرف.»
وجه الأرنب (متثائبة) : «سعد مين؟»
الشامة السوداء : «الله! جوزي.»
وجه الأرنب : «آه صحيح. لازم جابه من الجمعية.»
المنكبان العريضان : «مرة جبت من بورسعيد زيتون يجنن. غطا العلبة فيه كاوتش.»
من الزيتون إلى أسعار الجوارب، في بورسعيد أيضا، وأفضل أنواع أغطية المائدة، ثم أدوية الصداع وعسر الهضم، والاحتمالات المختلفة لتأخر الدورة الشهرية (بصوت خافت بعض الشيء ونظرات مختلسة إلى معسكر الرجال)، وسر الآلام المباغتة في منطقة بين المعدة والعانة ، وكيفية إجبار الأطفال على شرب اللبن، والأزواج على استبدال الأنتريهات. والأصوات عالية، قوية النبرة، تقطر صحة وعافية، لا تعترف بفترات الصمت أو الراحة، وتربط بينها خيوط غير مرئية من الألفة والتعادي، تستبعد الغرباء، مثل ذات، التي شعرت فجأة برغبة في البكاء، عاودتها عند الانصراف، وبعد أن وقفت أكثر من ساعة في انتظار سيارة السرفيس، وحققتها بمجرد عودتها إلى البيت، وأثناء إعداد الطعام، وعندما تهربت الصغيرة «دعاء» من غسيل الأطباق، وعندما طلب منها عبد المجيد فنجانا من القهوة، وخلال الفرجة على التليفزيون، وقبل النوم، وبمجرد أن اقترب منها عبد المجيد مستثارا (وقد ارتبطت الدموع بمشاعره الشبقية منذ ليلة الصدمة الكبرى، الأمر الذي سيدفعها إلى الالتجاء إلى المرحاض عندما تريد إطلاق العنان لها).
Bilinmeyen sayfa