سندع كل هذه اللحظات المصيرية جانبا، الآن على الأقل، ونتوقف عند واحدة لا تقل عنها أهمية.
ففي زمان بركة البط في حديقة الميريلاند أعلنت ذات، التي كانت تستعد للمرة الثانية لامتحان أول سنة في كلية الإعلام، أنها تنوي مواصلة الدراسة لتعمل بعد التخرج، في إحدى الصحف، أو إذا ما أسعدها الحظ، في التليفزيون.
اصطدم إعلان النوايا الثاني بالرفض القاطع من جانب عبد المجيد، الذي كان قد نجح لتوه في عدم التقدم لامتحان التخرج من كليته، وأعلن بلهجته الحاسمة، وهو يصوب إليها نظرة صارمة ذكرتها بأبيها فألجمتها، أن البيت سيحتاج إلى كل وقتها خصوصا بعد أن تبدأ المفرخة عملها، فضلا عن أنه قادر على تلبية كل احتياجاتهما من الآن، فما بالك بعد أن يحصل على الليسانس الموعود؟ ومن جديد رسم عبد المجيد الحدود؛ داخل البيت لها وخارجه له.
استقبلت ذات الحدود المقترحة بشيء من الارتياح؛ فقد استكانت إلى المظلة المتينة المهداة إليها والتي مثلت امتدادا طبيعيا لمظلة أبيها. ووجدت فيها فرصة لتسجيل نقطة على ابنة خالتها التي أجبرها زوجها على العودة إلى العمل منذ اليوم الأول لزواجهما كي يتمكنا من الصعود إلى سطح الأرض، كما أنها لم تكن متحمسة كثيرا لمواصلة الدراسة، فبسبب محدودية العملية التقاليدية التي أجريت لها في طفولتها، كانت تجد صعوبة بالغة في التركيز، وتنتابها حالة غريبة عند القراءة أو الكتابة، تمتطي فيها الكلمات ظهر بعضها البعض، فتختلط الألفاظ والمعاني.
انقطعت ذات عن الكلية، واستراحت من مشاكل المواصلات ومضايقات الزحام، وتفرغت لرعاية بيتها وتشغيل الحضنة، وواصل عبد المجيد عدم التقدم لامتحان التخرج السنوي، بينما لم تتوقف تكاليف المعيشة عن الارتفاع، إلى أن جاء اليوم الذي أعلن فيه بنفس اللهجة القاطعة أن بقاءها في المنزل ليس له «ميننج»، وأنها لا بد أن تعمل كالأخريات.
كيف؟! وهي لم تعد مؤهلة لأي عمل، بل وأوشكت أن تنسى مبادئ القراءة والكتابة، ولا تجيد غير أعمال المنزل، بل إن هذه كثيرا ما تختلط عليها تحت وقع نظرات عبد المجيد الصارمة (فتضع الملح بدلا من السكر، أو الخل بدلا من ماء الورد، أو تتجمد أمام حلة اللبن أو كنكة القهوة، مترددة بشأن اللحظة الملائمة لإبعادهما عن النار إلى أن تفور محتوياتهما).
لكن مجيد، كما ألفت أن تدعوه في لحظات الصفاء، القادر على كل شيء، أوجد لها عملا في صحيفة يومية، عن طريق أحد مديريها الذي كان من عملاء البنك، وفي قسم لا يتطلب أي موهبة على الإطلاق؛ لأنه كان مسئولا عن متابعة وتقويم عمل الجريدة كله.
كان عمل القسم يتلخص في مراجعة المواد المنشورة لاكتشاف الأخطاء المطبعية واللغوية والسياسية والمهنية، ثم مقارنتها (المواد لا الأخطاء) بما تنشره الصحف الأخرى لتعيين أوجه السبق أو التقاعس، وإثبات هذا كله في تقرير يومي يرفع إلى رئيس التحرير ليرفعه إلى رئيس مجلس الإدارة. ولما كانت الصحف اليومية كلها تستقي أنباءها من نفس المصدر، والأخطاء المطبعية واللغوية، فضلا عن غيرها، أفدح من أن يكتشفها العاملون في القسم الذين لا يتعدى تعليمهم مرحلة الجامعة، والذين جاءوا إلى القسم من مناح شتى، كما جاءت ذات فيما بعد، ولما كان رئيس مجلس الإدارة يلقي بالتقارير في سلة المهملات بيده اليسرى؛ لأن اليمنى لا تفارق سماعة التليفون التي يتلقى عبرها التعليمات الخاصة بما يجوز وما لا يجوز نشره من أقل العاملين شأنا في مكتب وزير الإعلام أو رئاسة الجمهورية بعد أن يبلغه بآخر الأنباء والإشاعات، فإن رئيس القسم، وهو رجل أربعيني طيب القلب يحمل اسما مصريا صميما له عبق التاريخ، هو أمينوفيس فلتس قلته، ويعمل منذ سنوات في إعداد موسوعة ضخمة للشخصيات المعروفة التي زارت القاهرة (بصفتها عاصمة حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية)، توصل إلى طريقة عملية لإنجاز مهام القسم تسمح له بالتفرغ لسجله الهام، فأعد بنفسه سبعة تقارير نموذجية لأيام الأسبوع السبعة، وبينما ينهمك معاونوه في قراءة الصحف والتلفنة والثرثرة، وازدراد السندوتشات والشاي والقهوة، ثم يتسللون إلى الخارج واحدا بعد الآخر، يعمل هو في صمت، فيخرج أحد التقارير السبعة النموذجية من حقيبته، وينسخه في الورق المخصص لأعمال القسم (فلم تكن ماكينات تصوير المستندات قد انتشرت بعد)، ثم يضع عليه تاريخ اليوم ويبعث به إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة، وينصرف إلى مؤلفه الجليل. وفي اليوم التالي يختار تقريرا آخر حتى ينتهي الأسبوع ويبدأ أسبوع جديد، فيعيد الكرة بنفس التقارير مبدلا في ترتيبها بحيث لا يتكرر أحدها في يوم معين إلا مرة كل 49 يوما، طبقا لجدول دقيق أعده لذلك.
أحرزت خطة أمينوفيس نجاحا باهرا ، وأصبح القسم مضرب المثل في الإنجاز، إلى أن استدعاه رئيس مجلس الإدارة في أعقاب الانقلاب الذي قام به السادات ضد أعوان عبد الناصر، وقال له وهو يتفحصه بإمعان: «أوشى بك أحدهم يا أمينوفيس.»
بوغت الرجل الطيب وظن أن خطته افتضحت، لكن رئيس مجلس الإدارة أضاف أن المباحث استفسرت عنه وعما إذا كان عضوا في التنظيم السري الذي شكله عبد الناصر، في السنوات الأخيرة قبل وفاته، من أعضاء تنظيمه العلني ليجعلهم في حيرة من أمرهم.
Bilinmeyen sayfa