على أن الضربة القاصمة لقرارات المؤتمر جاءت من جهة غير متوقعة بالمرة؛ ففي أثناء ممارسة عم صادق لمهامه في الإشراف على تنفيذها، لاحظ أن تفريغ صفيحة الجبن القذرة الصدئة التي اتخذتها زوجة ضابط الشرطة لقمامتها، (والتي لم يكن البرنامج الزمني للاستبدال قد لحق بها بعد) يترك حولها كمية من القمامة أكثر من التي يحدثها عبث القطط بها وهي مليئة، فقرر أن يصاحب الزبال أثناء قيامه بتفريغها، ظانا أن إهماله هو السبب. وعندما وقف إلى جواره يتابعه بدقة وهو يرفع الصفيحة ليفرغها في مقطفه، فوجئ بمحتوياتها تتساقط من تلقاء نفسها على السلم؛ لأنها كانت بلا قعر.
وجد عم صادق أن الصلاحيات المخولة له في الاجتماع الذي عقد تحت مظلة ضابط الشرطة، تعطيه الحق في التخلص من الصفيحة المهترئة، ففعل باندفاع لا يتفق وحكمة سنه، ودون حساب للنتائج.
فعندما اكتشفت زوجة الضابط فعلته اتصلت بزوجها بالتليفون اللاسلكي أثناء وجوده في سيارة الشرطة، فحضر بها على الفور، ومن مدخل العمارة، حيث وقف يحيط به جنوده، أصدر أمره بإعادة الصفيحة إلى مكانها.
لم يفكر أحد من السكان في الاجتماع مرة أخرى؛ إذ أدركوا بالتليباثي عبث التغلب على القطط، فعادوا يقدمون إليها بقايا الدجاج والأسماك على أوراق خاصة مفضضة، ويهيئون للحوامل منها أقفاصا موسدة، وأنزلوا صفائح القمامة من عليائها، بل وانتزعوا المسامير الملوية، واستأنفوا التدرب على شد ذيول البنطلونات والفساتين، والتسلل بحذق بين القاذورات. أما ذات فوجهت اهتمامها إلى قضية أخطر، ونقصد بها مسيرة الهدم والبناء.
فقد أبدى السكان - شأنهم شأن بقية المصريين - انصياعا تاما للتوجيه الذي تلقوه عبر جهاز البث المركزي في صورة ربة منزل تنهال بالمطرقة على جدران مطبخها المغطاة إلى منتصفها بطلاء زيتي قاتم، فتحطمها هي والدواليب الخشبية المليئة بالصراصير، أو دواليب الصاج التي أكلها الصدأ، وما إن تنتهي حتى يظهر المطبخ في صورة أخرى زاهية وقد اكتست جدرانه وأرضيته بالسيراميك الملون المستورد، ودار بها تشكيل متناسق من الدواليب والرفوف، تحتضن فيما بينها الثلاجة والأفران وأحواض الصلب الذي يصدأ، ثم تمتد يد المطرقة إلى جدران الحمام وأرضيته؛ ليتغطيا بعد ذلك بالسيراميك الفتان، وإلى حوض الاستحمام المستطيل الضخم، فتستبدله بآخر مربع صغير أو العكس، وإلى حوض الاغتسال فتضع مكانه واحدا ذا قاعدة انسيابية، يؤلف مع المرحاض وصندوق السيفون وحدة واحدة متناغمة مادة ولونا. وخلال ذلك بالطبع يتم استبدال المواسير والحنفيات البالية، محلية الصناعة، بأخرى إيطالية، ذات لمعان سوبر ديوتي أو طويل المفعول.
بدأت مسيرة الهدم والبناء في العمارة على يد موظف الزراعة عندما فتح الله عليه إثر اشتعال المنافسة بين شركات المبيدات الحشرية الأجنبية الموردة للوزارة، وانتقلت الراية من بعده إلى المدرس العائد من الكويت، ثم الحاج فهمي، الجزار الذي انضم إلى سكان العمارة في مرحلة متأخرة وبالأسلوب العصري؛ أي الامتلاك لا الاستئجار، إلى أن تلقفها العسكر؛ ضابط الشرطة بعد عودته من مهمة أمنية في سلطنة عمان، وضابط الجيش بعد عودته من مهمة تدريبية في الولايات المتحدة. على أن القائد الحقيقي كان باشمهندسا مهذبا ناعم الملمس، ليست له مهنة محددة غير زواجه من مدرسة سليطة اللسان، عظيمة الصدر، يسكن معها فوق شقة ذات مباشرة، قام بزيارة موظف الزراعة عندما لاحظ فتح الله عليه، مرتديا أفخر ملابسه، مدليا من رقبته سلسلة ذهبية، ومؤرجحا في يده مفتاح سيارة (عهد بها صاحبها إليه ليتولى بيعها) ليعرض عليه خدماته بوصفه مهندسا للديكور. وبفضل جهود الباشمهندس انضمت العمارة كلها إلى المسيرة، عدا الطابق الذي تقيم به ذات (والذي يضم شقة مفروشة، وأخرى مغلقة، وثالثة سكنها حديثا زوجان منعزلان)، وذات نفسها التي تابعتها باهتمام، من خلال المعالم الواضحة؛ شكائر الأسمنت والجبس والرمل وعلب الطلاء، وضجة التكسير التي تزود السيمفونية المؤلفة من نداءات الباعة وزمامير السيارات وتكبير المؤذنين بالإيقاع الخلفي الضروري، ثم أحواض المياه ولفائف الموكيت وألواح الأخشاب، وأخيرا المخلفات؛ علب فارغة، وأحواض مكسورة، ومواسير ملوية، وبقايا طوب وخزف وخشب وأسمنت وأتربة، تتكوم فوق السلالم حتى تتولى الأقدام توزيعها على الجيران المنتظرين لدورهم في تلهف.
حافظ سكان العمارة على الجدول الزمني للمسيرة بنجاح؛ فلم يحدث أن التحقت بها شقتان في آن واحد، أو تغير موعد انطلاقها (تم ذلك دون اتفاق مباشر وبنوع من التليباثي)؛ فهي تبدأ كل عام مع حلول موعد رش القطن؛ إذ يقوم موظف الزراعة بتغيير ورق الحائط بلون أكثر حداثة، أو تدعيم نظام التكييف، وعندما ينتهي يتلقف المدرس العائد من الكويت الراية، فيستبدل الموكيت، أو يضيف جهازا كهربائيا جديدا إلى مجموعته النادرة، ثم يتلوه الذي إلى جواره أو فوقه، حسب الجدول. وعندما يحل موعد الرش التالي تكون الجولة قد اكتملت وعادت الراية إلى موظف الزراعة، فيستبدل ورق الحائط بالأخشاب، وهلم جرا.
كانت هناك، بالطبع، حالات استثنائية محدودة، انتقلت فيها المبادرة من موظف الزراعة إلى ضابط الشرطة (مرة واحدة عندما أعير مؤقتا لمباحث مكافحة المخدرات)، وإلى ضابط الجيش (مرتين؛ الأولى عندما حصل على شقة جديدة من مشروع إسكان تابع للقوات المسلحة وباعها في الحال بضعف ثمنها، والثانية عندما انتقل إلى جهاز الخدمة المدنية العسكري، حيث أصبح على احتكاك مباشر بسوق البناء العظيم)، وفيما عدا ذلك حافظت المسيرة على دورتها المنتظمة التي تقفز فيها دائما من الطابق الثالث إلى الطابق الخامس دون أن تتوقف عند ذات؛ مما يؤدي إلى هياج غددها، وخاصة عندما تضطر إلى لف قطعة من القماش حول ماسورة الحمام لمنع تسرب المياه، أو عندما تقع عيناها على طبقات الدهون والدخان المترسبة فوق جدران المطبخ، وبوجه أكثر خصوصية عندما تعلق أختها زينب على السيفون القديم المصنوع من الحديد الزهر والمعلق قرب السقف، تتدلى منه سلسلة معدنية تستقر عادة على رأس الجالس فوق المرحاض، قائلة ببراءة مصطنعة: «معقول يا ذات! .. إنت لسه عندك حاجة زي كده؟»
لم تغفر ذات لزوجها مسئوليته عن أمثال هذا الموقف؛ فبطريقته القاطعة رفض عبد المجيد الالتحاق بالمسيرة دون إبداء الأسباب، ثم تعطف بعد قليل وشرح لها الاعتبارات العملية التي تحتم الانتظار إلى ما بعد الحصول على الليسانس الذي لا يتقدم لامتحانه أبدا، أو عقد العمل في رأس الخيمة الذي لم يأت أبدا.
تعددت الزيارات الليلية التي تتلقاها ذات والتي كانت قاصرة على أبيها وجمال عبد الناصر؛ فقد انضم إليهما زوج منال بعد حصوله على الدكتوراه، وزوج هناء بعد انتقالها إلى شقة الهرم، وزائر قديم من أيام الجامعة، بلا مناسبة، هو عزيز، زوج صفية، بالإضافة إلى زيارة مفاجئة لم تتكرر من منير زاهر، الصحفي البدين. وتميزت هذه الزيارات بدرجة كبيرة من الرقة والعذوبة، إلى أن تسلل إليها العنف؛ فقد دأب جمال عبد الناصر على أن يتحول عنها فجأة وينطلق إلى المطبخ فيتناول مطرقة وينهال بها على جدرانه ودواليبه، ثم ينتقل إلى الحمام. وتهب ذات من نومها مفزوعة وهي تهتف: «المطبخ .. الحمام ..» فيهرع عبد المجيد ليجلب لها كوبا من الماء، منزعجا من فكرة تردد جمال عبد الناصر على شقته، متبينا في سلوكه إزاء الجدران إضافة منطقية لسجله الحافل بالجرائم والاعتداءات على حقوق الغير وأملاكهم. وعندما يعود بالكوب يكون بعض الأمل قد خامره، فيسأل زوجته: «أنت متأكدة أنه عبد الناصر وليس السادات؟»
Bilinmeyen sayfa