وكان الراهب - لدهائه - قد تمكن من اجتذاب القلوب إليه، فصار في مقدمة المدعوين إلى كل حفلة أو مأدبة، فلما دعي إلى هذا القنص ووزعت الأعمال على المدعوين، طلب أن يكون رفيق المركيزة. ومن عادات الغربيين أن يلازم كل رجل منهم في الصيد سيدة؛ حتى لا تضل السبيل أو تعرض بنفسها إلى خطر إذا تفرق القوم عند مطاردة الصيد، فلما قدم الراهب نفسه لهذا الغرض لم يسع المركيزة - للطفها المعهود - إلا أن تقبله زميلا لها مبتسمة شاكرة، واختار كل من المدعوين زميلة له، ثم انطلق القوم إلى حيث تواعدوا على الملتقى. والصيد عند وجهاء الغربيين من ضروب اللهو التي تقام إكراما للزائرين، وقد يدعى إليه من لا يستطيع أن يصيد عصفورا أو أرنبا؛ فيحضر الصيد ولا يصطاد، بل تطلق الكلاب وراء الفريسة إذا لاحت، ويتبعها بعض غواة الصيد من الحضور، ويتفرق وراءهم القوم، فيقضون اليوم في مطاردة الوحوش والتجول في الفلوات أو الغابات.
وهكذا تم في الصيد الذي دعي له آل جنج، فأرسلت الكلاب، وتفرق الحضور في كل وجهة وطريق.
أما الراهب فلم يفارق المركيزة لحظة؛ لأنها زميلته، واحتال بدهائه حتى انفرد بها عن الناس، وكان ذلك ما يسعى وراءه منذ شهر ولا تيسر له المركيزة أسبابه. ولما أدركت المركيزة أن انفرادها مع الراهب كان حيلة منه، أرادت أن تفسد تدبيره بأن تطلق لجوادها العنان في طريق غير التي ساقها إليها الراهب؛ فأدرك قصدها، وأمسك بلجام الجواد.
ولم ترد المركيزة أن تقابل سلفها بالعداء، فصبرت وسكتت منتظرة أن يفاتحها الكلام، وتظاهرت أمامه بالكبرياء والشمم؛ لتظهر له بوقفتها احتقارها له، وتفهمه أنها ليست ممن تذل إلى مثله أو ممن تعالى إليها المطامع.
وساد بينهما السكوت لحظة، فقطع حبله الراهب قائلا: مولاتي، أسألك العفو إذا اتخذت هذه الوسيلة لأحدثك على انفراد، ولقد كنت أود بصفتي أخا لزوجك أن تيسري لي ذلك السبيل إذا طلبته، إنما وجدتك تتقينه وتقيمين دونه الحوائل، فرأيت أن خير واسطة لنيل هذا الغرض أن أسعى لتدبيره بنفسي، حيث لا تستطيعين أن ترفضيه إذ ذاك ...
فأجابته المركيزة قائلة: يلوح لي يا سيدي أنك ما ترددت في مفاتحتي على انفراد بالحديث الذي تريده، ولا عمدت إلى كل هذه الوسائل لتجبرني على سماعه إلا لأنك عالم أنه حديث لا يليق بي سماعه؛ ولهذا أرجوك أن تطيل التفكر والتأمل فيه قبل أن تفاتحني به. واعلم أنني حافظة حقي في إسكاتك، سواء كنا هنا أو في أي مقام، حينما أشعر أنك خرجت في حديثك عن حد الاحتشام.
فقال الراهب: أظن يا مولاتي أني حر أقول ما أريد، وأيا كان حديثي فستسمعينه لنهايته، ومع ذلك فليس حديثي مما يدعوك إلى هذا التحفظ والاحتراس؛ فالموضوع بسيط، وكل ما أريد معرفته منك هو: هل لاحظت تغيرا في سلوك زوجك نحوك؟
قالت: نعم، ولا يمضي يوم إلا أشكر فيه عناية الله على هذا التوفيق الذي عاد بيننا.
فتبسم الراهب ابتسام الجاحد، وقال - لعنه الله: لقد أخطأت يا مولاتي؛ فليس لله يد في هذا الأمر، فلك أن تشكريه على أنه حباك صفات الجمال وكملك في معاني الحسن؛ فكنت من أبدع ما خلق وصور، إنما لا تبخسيني حقي وتشكريه على فضل كان مني.
فأجابته المركيزة ببرود قائلة: إني لا أفهم ما تعنيه.
Bilinmeyen sayfa