وكان لإرادة الراهب سلطان على المركيز كما لها على أخيه، وكان الراهب صعلوكا لا مال له؛ لأنه ليس أكبر أولاد أبيه، وكان الميراث للأكبر في الأولاد شريعة ذاك الزمن، فرأى أخاه المركيز قد استولى على ثروة أبيهما، وضاعفتها ثروة زوجته، وعن قريب تضم إليهما ثروة جدها نوشير؛ إذ هي وريثته بعد موته. فطمع القس في ذلك المال واحتال للوصول إليه، فأفهم أخاه أنه لا بد له من معين في إدارة شئون بيته وأمواله، وقدم له نفسه مستعدا لهذه الخدمة، فتقبل المركيز هذا الاقتراح بالارتياح؛ خصوصا لملله الإقامة مع زوجته، وليس لديه في القصر رفيق.
وهكذا تمت للراهب أولى أمانيه؛ فحضر للقصر يرافقه أخوه الفارس مرافقة الظل أينما تسير يتبعك وأنت لا تهتم به ولا تفكر فيه.
وطالما أسرت المركيزة لصاحباتها أنه داخلها شيء من الفزع عند رؤية أخوي المركيز، ولو أن ظاهرهما يؤخذ منه ما يجعل لسوء الظن بهما سبيلا، إلا أنه عادت لها ذكرى تكهن الساحرة بعد أن كانت تناستها، وأبت أن تنصرف عنها.
أما أخوا المركيز فاندهشا لأول وهلة من جمال امرأة أخيهما؛ فوقف أمامها الفارس مبهوتا لحسنها معجبا به كرجل يعجب بتمثال من رخام لا يستطيع تحويل نظرة عنه؛ لإتقان صنعه، ولم يتعد إعجابه بها هذا الحد، بحيث لو تمهد له السبيل إليها لما زاد عن هذا الإعجاب شيئا، ولم يخف الفارس عن امرأة أخيه ما شعر به منها، فهنأها على ما أوتيت من اللطف والجمال.
أما الفارس فما كاد يقع نظره على امرأة أخيه حتى اشتهاها، وتمكنت منه هذه العاطفة الحيوانية، فعقد عليها نيته، لكنه أخفى - لخبثه ولؤمه - ما خالج فؤاده، وكان كتوما لعواطفه بقدر ما كان أخوه الفارس بائحا بها، فلم يلفظ في حضرة المركيزة إلا كلمات أوحى إليه بهن الرياء والدهاء، فلا فضح أمره ولا كشف سره، ولا جعل لامرأة أخيه سبيلا إلى الارتياب فيه، وخرج من حضرتها - لعنه الله - موطد العزم على اغتيال أقدس ما منحها الله: وهو شرف العرض.
أما المركيزة فقد علمنا ما خالج قلبها من الوسواس عند رؤية سلفيها، إلا أن مجاملات الراهب وجهل الفارس طمئناها نوعا؛ فأمنت جانبهما. وكانت المركيزة من أولئك الذين لا يتصورون ابن آدم قادرا على الشر لطيب قلبها، ويغترون بالظواهر فيظنون النفاق إخلاصا، ويترقبون ولو كلمة لتردهم إلى حسن الظن إذا شاب قلبهم الريب أو داخله الشك ممن يظنون فيه الصلاح، ولو كان من المجرمين.
مناصبة العداء
وعاد للدار البشر عند مقدم الأخوين؛ فابتسمت فيها الثغور، وأشرقت الوجوه، وعجبت المركيزة لما طرأ من التغير حتى في أحوال زوجها؛ فإنه عاد إليها مقبلا عليها كأنه نادم على ما فرط منه، وحسنت ألفاظه في محادثتها بعد أن كان يغلظ لها في القول، فطابت عشرته، وفرحت زوجته، ولم يكن قلبها في تلك الفترة تغير عليه، بل ما فتئت المركيزة مخلصة له الود، باقية على العهد؛ فقابلت هجره بالجلد والصبر، وقابلت إقباله عليها بالفرح والشكر، ومضى عليهما مؤتلفين ثلاثة شهور ذكرتهما بشهور القران السعيدة الأولى، بعد أن كادت تمحو الحوادث أثر ذكراها من قلب المركيزة الكليم.
وإذا ابتسم الدهر لامرئ في مقتبل العمر تعلق بالدنيا وأحب الحياة؛ فتراه فرحا طروبا يطلب المزيد من السرور، ولا يهمه في الحياة إلا أن يكون سعيدا. وكانت تلك حال المركيزة؛ فإنها رأت أن نجمها أشرق بعد الأفول، وأقبلت عليها السعادة، وصادفها القبول، فلم تهتم بالبحث عن الأسباب التي صفا بها عيشها وانصلح أمرها.
ودعيت المركيزة ذات يوم لتقضي بضعة أيام عند جارة لها ذات ضيعة، ودعي معها زوجها وسلفاها، فرافقوها إلى مكان الدعوة. وكانت صاحبة الضيعة قد جهزت معدات القنص إكراما لمدعويها، فما أقبل المدعوون حتى أخذوا يستعدون لما يقتضيه الصيد من أعمال.
Bilinmeyen sayfa