ثم قال الصفاقسي: (ودليل قبول الخزم أنه زيادةٌ غير مخلة بوزن البيت ولا بمعناه، فيقبل قياسًا على النثر في نحو قوله تعالى: (فيما رحمةِ من الله)، على أنا يقول: زيادتها أول البيت أولى لضيق الوزن عن الوفاء بالمعنى. لا يقال: لا نسلم عدم إخلالها إذ قد تكون شديدة الاتصال بالبيت على ما مر، لأنا نقول، مرادنا بعدم إخلالها أي في حال زيادتها بخروجها عن الوزن لا حالة حذفها. سلمناه، لكن مرادنا زيادتها في الحكم لا في المعنى، كحكمهم بزيادة (لا) في قولهم: جئت بلا زاد، وغضبت من لاشيء، مع أن حذفهما مخل. لا يقال: يلزمكم عدم جواز الخزم بأكثر من حرفين أو ثلاثة، لأنه لم تقع الزيادة في النثر بأكثر منها، وهو أصلكم الذي قسم عليه، لأنا نقول، الجمع بينهما إنما وقع بمطلق الزيادة لا بزيادة حرف أو حرفين أو ثلاثة. سلمناه إلا أنه إذا جاز في النثر بحرفين أو ثلاثة جاز في النظم بأكثر لضيق الوزن عن الوفاء بالمعنى والله أعلم انتهى كلامه.
قال:
وحذفٌ وقطفٌ قصرٌ القطعُ حزه ... وصلمٌ ووقفٌ كشفٌ الخرم ما انفرى
مواقُعها إعجازُ الأجزاء إن أتت ... عروضًا وضربًا ما عدا الخرم فابتدا
أقول: لما أنهى الناظم الكلام على أنواع الزيادة أخذ في أنواع النقص إجمالًا ثم تفصيلًا، فعددها هنا أولًا، ثم فسرها، وذكر محال وقوعها على التعيين ثانيًا، كما تراه بعد هذا، فقوله هنا «ما انفرى» مبتدأ مؤخر وخبره مقدم، وهو قوله «حذف وقطف إلخ» وثم حرف عطف محذوف، أي وقصرٌ والقطع وكشفٌ والخرم. ومعنى قوله «انفرى» انقطع، ولاشك أن في كل من هذه التغييرات حذفًا من اللفظ فهو اقتطاع لبعضه.
ثم أخبر أن مواقع هذه الألقاب أعجاز الأجزاء على شريطة أن تقع عروضًا وضربًا، وأن ذلك حكم ثابت لجميعها، إلا الخرم فإنه يقع ابتداء وهو أعم من ابتداء الصدر وابتداء العجز، وإن كان وقوعه في أول العجز قليلًا، وربما أباه بعضهم. وسيأتي الكلام عليه. فإن قلت: مما ذا استثنى الخرم؟ أمن الجملة الأولى، وهي الإسمية أم من الثانية وهي الفعلية؟ قلت: هو مستثنى من كلتا الجملتين، فإن الخرم لا يقع في عجز جزء ولا في عروض ولا في ضرب، ولعل في قوله «فابتدا» إشعارًا بذلك، أي إنما يكون الخرم ابتداء في كل وجه فهو في ابتداء الجزء الواقع في ابتداء البيت، ولا يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط لأن حكم الجملة الأولى يكون منسحبًا عليه، وهو وقوعه في عجز الجزء وذلك باطل، وكذا لا يجوز أن يكون الاستثناء من الجملة الأولى فقط لأنه يلزم حينئذٍ وقوع الخرم في العروض أو الضرب وهو باطل أيضًا.
قال الشريف: وكلها يعني التغيرات اللاحقة للأجزاء تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يلحق ثواني الأسباب ولا يكون إلا في حشو الأبيات، وهو الزحاف. وقسم يلحق الأوتاد خاصة وتنفرد به المبادئ وهو الخرم. وقسم يلحق الأوتاد والأسباب معًا تنفرد به أعاريض الأبيات وضروبها وهي العلل. قلت: وفي هذا تصريح بأن قبض عروض الطويل مثلًا علةٌ لا زحاف فتأمل.
قال:
ففي حاسبوك الحذف للخف واقطفن ... به أثر سكنٍ بد والأثقل انتفى
أقول: اشتمل هذا البيت على تبيين المراد بالحذف والقطف وعلى تعيين الآخر التي يدخلانها. فالحذف عبارة عن لإسقاط السبب الخفيف من أخر الجزء، فيدل عليه قوله قبل ذلك «مواقعها أعجاز الأجزاء»، ويدخل في ستة أبحر، وهي الثامن وهو بحر الرمل المرموز له بالحاء من قوله «حاسبوك»، والأول وهو هو بحر الطويل المرموز له بالألف، والخامس عشر وهو بحر المتقارب المرموز له بالسين، والثاني هو بحر المديد المرموز له بالباء، والسادس هو بحر الهزج المرموز له بالواو، والحادي عشر وهو بحر الخفيف المرموز له بالكاف، «والخف» هو الخفيف. قال امرؤ القيس:
يزلّ الغلام الخفُ عن صهواته ... كما زلّت الصفواء بالمتنزّل
وتسمية هذا التغيير بالحذف أمر ظاهر وكأنهم سموه باسم الأعم.
1 / 32