3
الحروب، والمستهام بها بيضاء منعمة من قوم فسدة الأخلاق مترفين.
ذلك هو الغرض الأساسي العام الذي رمى إليه شكسبير فأصاب به دقائق الحقائق إصابة كانت في جملة ما جمل أكابر المفكرين وأعاظم الكتبة على الشهادة له بأنه أخبر خبير بخفايا القلوب، وأمهر كشاف لخباياها.
ثم إنه أدار حول هذا المحور غرضين ثانيين: أحدهما إثبات أن العفة لا تنتفي من مدينة مهما فسقت بل قد تزداد تمكنا من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها وفي عشيرتها والثاني تبين الاحتيال ونهاية ما يبلغه من نفس رجل ذكي مطماع خسيس أصم الضمير، مستبيح كل محرم، مستهين كل منكر في سبيل غايته.
كيف صرف شكسبير قريحته العجيبة في ألوف الجزئيات التي تؤدي إلى تصوير الغرض الكلي والغرضين الملحقين به؟ ذلك ما يقف عليه القارئ أول وهلة من مطالعته للقصة فإنه يشعر قليلا قليلا أن الأسماء تمحى ويستبدل بها أشخاص مقومون في أصلح تقويم لكل منهم. ويدخل متدرجا من الوهم في الحقيقة فيرى وهو يسمع ويسمع وهو شاهد مشاهد مما ألفه في الحياة لا يرده إلى كونه قارئا سوى انتهائه إلى دفة الكتاب.
ومن جهة هذا التصوير الأخاذ الذي يصور به شكسبير الحقيقة رأى بعض جهابذة النقاد أن ذلك الأستاذ العظيم يبالغ فيه مبالغة قد يجاوز معها الحدود التي يرسمها الفن. صدقوا ولكن هل كانت عبقرية هذا الرجل لتحد بحدود، وهل مثل العقل الذي رزقه كان مما يقيد بقيود؟
الشاعر الذي افتتن «فكتور هوجو» بغرابة شعره، وجد عند فراسته وطلاقته وقوة تمثيله للمعنويات بالحسيات. مبدأ المذهب الحر الذي ذهب إليه فيما بعد هو وأضرابه وأصبح سنة الكتاب في العالمين.
الكاتب المنقب المتعمق في مظاهر الخلائق ومضمراتها مع قدرة على المحاكاة ومهارة في الاختيار وبراعة في التأليف وسلطة على اللفظ يستدني به أبعد المعاني ويقيد أوابد الوجدانات الذي أعجب به المؤرخ الفيلسوف «تاين» وناهيك بألوف المعجبين غيره من قبله ومن بعده.
الأديب الذي تترجم مكتوباته على وفرتها إلى كل لغات الدنيا، وفي بعض اللغات كالفرنسوية تكثر تلك الترجمات وتتنوع ويجيز أحاسنها المجمع الأدبي الأكبر كما أجيزت ترجمة «مونتيجو» و«ليتورنور» وغيرهما فتطلع الأمم المختلفة الألسنة والأجناس والأذواق والملل والنحل على مكتوباته سواء في أصلها أو في غير أصلها، وتقرها في أعلى منزلة عندها لجمعها المذهب والمطرب إلى المفكه والمفيد والمبكي والمضحك إلى الزاجر والمؤنس.
أهذا الذي يطلب منه أن يكون أسير اصطلاح وعبد لفظة ورقيق أوضاع سبق الاتفاق عليها. خرج شكسبير عن ذلك الطوق ونعما فعل. ولو أبقاه في عنقه لما اشرأب صعدا إلى مناجاة أجرام السماء، ولا أطاق الإكباب إلى أبعد أغوار الأسرار في الطبائع البشرية.
Bilinmeyen sayfa