كم يعاني الإنسان من التعب البدني، وكم يقاسي من مشاق الأسفار، وكم يخاطر بروحه في اقتحام الحروب والمكافحات، وكم يتحمل في الانقطاع عن اللذات، مع التمكن منها، كل ذلك لينال شهرة أو ليكسب فخارا أو ليحفظ ما أتاه الله منه، ما أجل عناية الله بالإنسان! لا يعيش إلا ليشرف فيشرف به العالم، وكل لذة دون الشرف فهي وسيلة إليه، بل الحياة الدنيا هي السبيل الوعرة يسلكها الحي إلى ما يستطيع من المجد، وفي نهاية الأجل يفارقها قرير العين بما قارب منه، آسف الفؤاد على ما قصر عنه.
ما هو المجد الذي يسعى إليه الإنسان بالإلهام الإلهي، ويخوض الأخطار في طلبه ويقارع الخطوب في تحصيله؟ هو شأن تعترف النفوس لصاحبه بالسؤدد، وتذعن له بالاعتلاء، وتلقي إليه قياد الطاعة، يكون هذا له ولكل من يدخل في نسبته إليه من ذوي قرابته وعشيرته وسائر أمته، فتنفذ كلمته إليه وكلمة المتصلين به، والملتحمين معه في شئون من سواهم، وهو أعظم مكافأة من العزيز الحكيم على معاناة الأوصاب لتحصيل ذلك الشأن في هذه الحياة الأولى، فما كان يحسبه طالب المجد عائدا إلى نفسه بالمنفعة، يبارك فيه مدبر الكون فيفيض خيره على بني جلدته أجمعين، واها! تلك حكمة بالغة: إذا نال الواحد من الأمة مطلبه من المجد نالت الأمة حظها من السؤدد، نعم، وهل نال ما نال إلا بمعونة سائر الآحاد منها؟
ذلك تقدير العزيز العليم . ماذا يستطيع المجاهد وحده، وماذا يكسبه من سعيه؟ إن لم يكن له إعضاد من بني قبيله، فمن كان همه أن يصعد إلى عرش العزة، ويرقى إلى ذروة السيادة، فعليه أن يهيئ نفسه والمنتمين إليه لتحصيل كل ما يعد في العالم الإنساني فضيلة وكمال، ما أصعب القيام بخدمة هذا الميل الفطري والإلهام الإلهي! وما أشد ما تحمل النفوس في قضاء بعض الوطر مما يتصل به! وما أعظم الحامل للأنفس على تجشم المصاعب لنيل ما تميل إليه من هذا الأمر الرفيع! ما هذا الباعث الشريف الذي يسهل على الأرواح كل صعب ويقرب كل بعيد، ويصغر كل عظيم، ويلين كل خشن، ويسليها عن جميع الآلام، ويرضيها بالتعرض للتهلكة ومفارقة الحياة، فضلا عن بذل كل نفيس، والسماح بكل عزيز، هذا الباعث الجليل، وهذا الموجب الفعال هو الأمل.
الأمل ضياء ساطع في ظلام الخطوب، ومرشد حاذق في يهماء الكروب، وعلم هاد في مجاهيل المشكلات، وحاكم قاهر للعزائم إذا اعترتها فترة، ومستفز للهمم إن عرض لها سكون، ليس الأمل هو الأمنية والتشهي اللذين يلمحهما الذهن تارة بعد أخرى، ويعبر عنهما بليت لي كذا من المال وكذا من الفضل مع الركون إلى الراحة والاستلقاء على الفراش، واللهو بما يبعد عن المرغوب كأن صاحبهما يروم أن يبدل الله سنته في سير الإنسان عناية بنفسه الشريفة أو الخسيسة، فيسوق إليه ما يهجس بخاطره دون أن يصيب تعبا أو يلاقي مشقة، إنما الأمل رجاء يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وعرك لها في المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، وتهوين كل ملم يعرض لها في سبيل الغرض من الحياة، حتى يرسخ في مداركها أن الحياة لغو إذا لم تغذ بنيل الأرب، فيكون بذل الروح أول خطوة يخطوها القاصد فضلا عن المال الذي لا يقصد منه إلا وقاية بناء الحياة من صدمات حوادث الكون.
وكما كان الميل للرفعة أمرا فطريا، كذلك الأمل وثقة النفس بالوصول إلى غاية سعيها من ودائع الفطرة، غير أن ثبوتهما في فطرة عموم البشر كان داعيا للمزاحمات والممانعات، فإن كل واحد بما أودع في جبلته يطلب الكرامة والتمكن في قلب الآخر، فكل طالب ومطلوب.
ولم تبلغ سعة العقل الإنساني إلى درجة تعين لكل فرد من الأفراد عملا تكون له به المنزلة العليا في جميع النفوس، غير ما يكون به للآخر مثل تلك المنزلة، حتى يكون جميعهم أمجادا شرفاء بما يأتون من أعمالهم، ولكنهم تزاحموا في الآمال والأهواء، ومسالكهم ضيقة، ومشارعهم ضنكة، فنشأت تلك المقاومات والمصادمات بين النوع البشري؛ حكمة من الله ليعلم الذي جاهدوا ويعلم الصابرين.
فإذا توالى الصدام على شخص أو قوم حدث في الهمم ضعف وأصابها انحطاط، وحصل الفساد في هاتين الحليتين الشريفتين «الرجاء وطلب المجد»، كما يحصل الفساد في سائر الأخلاق الفاضلة بسوء التربية وربما يئول الضعف إلى اليأس والقنوط - نعوذ بالله منهما.
ماذا يكون حال القانطين المنقطعة آمالهم، يحكمون على أنفسهم بالحطة، ويسجلون عليها العجز عن كل رفعة، فيأتون الدنايا ويتعاطون الرذائل، ولا ينفرون من الإهانة والتحقير بل يوطنون أنفسهم على قبول ما يوجه إليهم من ذلك - أيا كان - فتسلب منهم جميع الإحساسات والوجدانات الإنسانية التي يمتاز بها الإنسان عن الأنعام، فيرضون بما ترضى به البهائم، فلا يهتمون إلا بحاجات قبقبهم وذبذبهم.
ثم يا ليتهم يكونون هملا وسوائب يرعون النبات، ويتبعون مواقع الغيث، ولكنهم وإن تركوا العمل لأنفسهم فالله تعالى يسلط عليهم من يكلفهم بالعمل لغيرهم، فيكونون كالنمال الحمالة لا تستفيد مما تحمل شيئا، وظيفتها أن تسعى وتشقى ليسعد غيرها ويستريح، فيعالجون العمل في الفلاحة والصناعة وغيرهما من الأعمال الشاقة، ويدأبون بأشد مما يدأب العامل لنفسه، ثم لا ينالون مما يعملون شيئا.
ثمرات كسبهم بأسرها محولة إلى الذين سادوا عليهم بهممهم (هذا الذي يتجشمه الذليل في ذله من مشاق الأعمال ومعاناة المكاره لو تحمل بعضا منه في طلب العزة لأصاب حظه منها) بل تصير درجة القانطين عند من سادوا عليهم أدنى من درجة الحيوانات العاملة، فإن السائدين يشعرون - بحكم البداهة - أن هؤلاء أسقطوا أنفسهم عن منزلة كانوا سيستحقونها بمقتضى الفطرة الإنسانية، ورضوا لها بما دون حقها، بل بما لا يصح أن يكون من شأنها، وكفروا نعمة الله في تكوينهم على الشكل الإنساني وإيداعهم ما أودع في أفراد الإنسان، فيعاملهم أولئك السادات بما لا يعاملون به ما يقتنون من الحيوانات، ولنا على ذلك شاهد العيان في الأمم التي أدركها اليأس وسقطت في أيدي الأجانب.
Bilinmeyen sayfa