فإن أضفت إليه ما أذاب قلوبهم من تعديات الأجانب عليهم، وما ضاقت به صدورهم من غارات الغرباء على بلادهم، حتى بلغت أرواحهم التراقي، ذهبت إلى أن الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حدا يوشك أن يكون فعلا، وهو مما يؤيد الساعين في هذا المقصد، ويهيئ لهم فوزا ونجاحا بعون الله الذي ما خاب قاصده، وهو ربي إليه أدعو وإليه أنيب.
الفصل الحادي عشر
الأمل وطلب المجد
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . •••
تلك آيات الكتاب الحكيم، تنبئ عن سر عظيم، اختص الله به الإنسان، ورفعه به على سائر الأكوان، ليبلغ به المقام المحمود، ويحوز ما أعدته له العناية الإلهية من الكمال اللائق به، راجع نفسك، وأصغ لمناجاة سرك؛ تجد في وجدانك ميلا قويا، وحرصا شديدا، يدفعك إلى طلب المجد، وعلو المنزلة في قلوب أبناء جنسك، ثم ارفع بصرك إلى سواد أمة بتمامها؛ تجد مثل ذلك في كليتها كما هو في آحادها، تبتغي رفعة المكانة في نفوس الأمم سواها، ذلك أمر فطري جبل الله عليه طبيعة هذا النوع منفردا ومجتمعا.
ليس من السهل على طالب المجد وعلو المكانة أن يصل إلى ما يطلب، ولكنه يلاقي في الوصول إليه وعرا في السبل، وعقبات تصد عن المسير، ومع هذا فلا يضعف حرصه، ولا ينقص ميله، يقطع شعابا، ويعاني صعابا، حتى يرقى ذروة المجد، ويتسنم شاهق العزة، ولو قام في وجهه مانع عن الاسترسال في مسيره والتجأ للسكون؛ رأيته يتململ كأنما يتقلب على الرمضاء، ولو سبر الحكيم الخبير أعمال البشر، ونسب كل عمل إلى غاية العامل منه؛ رأى أن معظمها في طلب الكرامة وعلو المقام، كل على حسبه، وما يتعلق منها بتقويم المعيشة ليس شيئا مذكورا بالنسبة لما يتعلق بشئون الشرف.
هذه خلة ثابتة في الكافة من كل شعب على اختلاف الطبقات من أرباب المهن إلى أصحاب الأمر والنهي، كل ينافس أهل طبقته في أسباب الكرامة بينهم، ويأنف من ضعته فيهم ويحرص على ما يحله من قلوبهم محل الاعتبار، حتى إذا بلغ الغاية مما به الرفعة عندهم، تخطى حدود تلك الطبقة ودخل في طبقة أخرى، ونافس أهلها في الجاه، ولا يزال يتبع سيره ما دام حيا يخطر في بسيط الأرض؛ ذلك لأن الكمال الإنساني ليس له حد، ولا تحده نهاية، وليس في استطاعة أحد من الناس أن يقنع نفسه ويعتقد أنه بلغ من الكمال حدا ليست بعده غاية.
سبحان الله! ماذا أخذت محبة الشرف من قلب الإنسان، وماذا ملكت من أهوائه؟ يعده ثمرة حياته وغاية وجوده، حتى إنه يحتقر الحياة عند فقده والعجز عن دركه، أو عند مسه والخوف من سلبه، أرأيت أن فقيرا ذا أسمال لا يؤبه له إذا اعتدى عليه من تطول يده إليه بفعلة تهينه، أو قذفة تشينه؛ يغلبه الغضب للدفاع عن المنزلة التي هو فيها فيرتكب مخاطرة ربما تفضي به إلى الموت، وإن القذف أو الإهانة ما نقصت شيئا من طعامه ولا شرابه، ولا خشنت مضجعه في مبيته، آلاف مؤلفة من الناس في الأجيال المختلفة والأجناس المتنوعة ألقوا بأنفسهم إلى المهالك، وماتوا دفاعا عن الشرف أو طلبا للكرامة والمجد.
جل شأن الله، لا يهنأ للإنسان طعام ولا شراب، ولا يلين له مضجع إلا أن يلحظ فيه أن ما نال منه أعلى مما نال سواه، مع وقوف بعض من الناس على ذلك ليعترفوا له بالأعلوية فيه، كأن لذة التغذية والتوليد إنما وضعت لتكون وسيلة للذة المباهاة والمفاخرة، فما ظنك بسائر اللذائذ.
Bilinmeyen sayfa