إهداء
هذا الكتاب
مقدمة
الكتاب الأول: التشخيص
1 - الأغنيات التي كنت أكتبها1
2 - «الفلسفة» تلتفت إلى المؤلف
3 - «الفلسفة» تقبل التحدي
4 - مكائد السياسة
5 - اضطرابه الانفعالي1
6 - التشخيص
7 - النجوم المغيبة في الغيوم
الكتاب الثاني: الحظ والسعادة
1 - الطبيعة المتقلبة للحظ
2 - الحظ يدافع عن نفسه
3 - حظوظه السعيدة
4 - الحظ والسعادة
5 - الخيرات المادية
6 - المنصب والسلطة
7 - المجد والشهرة
8 - الشدة خير من الحظ
الكتاب الثالث: الفلسفة والسعادة
1 - الفلسفة تعد بالسعادة
2 - الخير الأسمى
3 - الثروة والحاجة
4 - المناصب والتبجيل
5 - الملك والسلطة
6 - المجد والحسب
7 - اللذة والأسرة
8 - الدوافع الزائفة إلى السعادة
9 - وحدة الخير الحقيقي
10 - الله هو الخير والسعادة
11 - كل شيء يبتغي الخير
12 - الله يدبر العالم بالخير
الكتاب الرابع: الخير والشر 1
1 - لماذا يزدهر الأشرار؟
2 - الأخيار وحدهم الأقوياء
3 - الخير مثاب والشر معاقب
4 - المفلت من العقاب في شقاء
5 - المثوبات والعقوبات تبدو كالمصادفة
6 - العناية والقدر
7 - كل قدر خير
الكتاب الخامس: حرية الإرادة (الإنسانية) وشمول العلم (الإلهي)1
1 - «الفلسفة» تناقش مسألة المصادفة
2 - تفاوت حرية الإرادة
3 - ماذا عن سابق العلم والحرية؟
4 - فكر الله يوفق بينهما
5 - الفكر الأعلى
6 - السرمدي يعرف الكل
عزاء الفلسفة
حياة بوئثيوس وأعماله
تقلبات السياسة
الجنس الأدبي1 في «عزاء الفلسفة»
مشروعية الشعر
التوقيت، والسياق الكوني للفعل
شاعرية بوئثيوس
موقع الضبط
مسيحية بوئثيوس
نزع الطابع الأسطوري
مآخذ وانتقادات
تأويل «العزاء»
رواج في العصر الوسيط وكساد في العصر الحديث؟!
قطوف من «عزاء الفلسفة»1
إهداء
هذا الكتاب
مقدمة
الكتاب الأول: التشخيص
1 - الأغنيات التي كنت أكتبها1
2 - «الفلسفة» تلتفت إلى المؤلف
3 - «الفلسفة» تقبل التحدي
4 - مكائد السياسة
5 - اضطرابه الانفعالي1
6 - التشخيص
7 - النجوم المغيبة في الغيوم
الكتاب الثاني: الحظ والسعادة
1 - الطبيعة المتقلبة للحظ
2 - الحظ يدافع عن نفسه
3 - حظوظه السعيدة
4 - الحظ والسعادة
5 - الخيرات المادية
6 - المنصب والسلطة
7 - المجد والشهرة
8 - الشدة خير من الحظ
الكتاب الثالث: الفلسفة والسعادة
1 - الفلسفة تعد بالسعادة
2 - الخير الأسمى
3 - الثروة والحاجة
4 - المناصب والتبجيل
5 - الملك والسلطة
6 - المجد والحسب
7 - اللذة والأسرة
8 - الدوافع الزائفة إلى السعادة
9 - وحدة الخير الحقيقي
10 - الله هو الخير والسعادة
11 - كل شيء يبتغي الخير
12 - الله يدبر العالم بالخير
الكتاب الرابع: الخير والشر 1
1 - لماذا يزدهر الأشرار؟
2 - الأخيار وحدهم الأقوياء
3 - الخير مثاب والشر معاقب
4 - المفلت من العقاب في شقاء
5 - المثوبات والعقوبات تبدو كالمصادفة
6 - العناية والقدر
7 - كل قدر خير
الكتاب الخامس: حرية الإرادة (الإنسانية) وشمول العلم (الإلهي)1
1 - «الفلسفة» تناقش مسألة المصادفة
2 - تفاوت حرية الإرادة
3 - ماذا عن سابق العلم والحرية؟
4 - فكر الله يوفق بينهما
5 - الفكر الأعلى
6 - السرمدي يعرف الكل
عزاء الفلسفة
حياة بوئثيوس وأعماله
تقلبات السياسة
الجنس الأدبي1 في «عزاء الفلسفة»
مشروعية الشعر
التوقيت، والسياق الكوني للفعل
شاعرية بوئثيوس
موقع الضبط
مسيحية بوئثيوس
نزع الطابع الأسطوري
مآخذ وانتقادات
تأويل «العزاء»
رواج في العصر الوسيط وكساد في العصر الحديث؟!
قطوف من «عزاء الفلسفة»1
عزاء الفلسفة
عزاء الفلسفة
تأليف
بوئثيوس
ترجمة
عادل مصطفى
مراجعة
أحمد عتمان
إهداء
إلى صاحبة الجلالة/الفلسفة
وحواريها الشهيد سيفيرينوس بوئثيوس «الروح المباركة» و«آخر الرومان»
الذي لم يقل «حال الجريض دون القريض»
1
واستطاع، بفضلها، أن يغرد بين شدقي الموت،
ويسطر «عزاءه» لكل العصور؛ «عزاءه» الذي صحبته أشهرا وتعلمت منه
ثم علمته العربية،
وها هو الوليد حيا لم تقتله الترجمة
يصرخ بعذوبة،
ويكلم الناس في المهد.
عادل مصطفى
عزاء الفلسفة سفر ذهبي خليق بأن يشغل وقت أفلاطون أو توللي.
1
جيبون، تاريخ أفول الإمبراطورية الرومانية وسقوطها
بوئثيوس هو الروح المباركة التي تكشف زيف العالم لكل من يصغي إليها.
دانتي، الكوميديا الإلهية
الكوميديا الإلهية برمتها يمكن اعتبارها توسعا عظيما لتصور بوئثيوس عن صعود الروح إلى تأمل عقل الله وعودتها إلى وطنها الحقيقي في مخطط العالم.
فيكتور واطس، مقدمة ترجمته لعزاء الفلسفة
عزاء الفلسفة هو الكتاب الذي أنقذ فكر العصور الوسطى.
و. ب. كير، العصور المظلمة
لم يؤثر فيلسوف قط في كتاب العصور الوسطى، ويسر منهم مسرى الدم في العروق، مثل بوئثيوس: خذ أي كاتب شئت ولسوف تجد فيه وجدانات بوئثيوس، بل ستجد أن كلماته ذاتها هي كلمات ذلك الروماني القديم العلم.
ريتشارد موريس، مقدمة ترجمة تشوسر لعزاء الفلسفة
هذا الكتاب
هذا الكتاب ترجمة كاملة لنص «عزاء الفلسفة» لسيفيرينوس بوئثيوس، عن الترجمات الإنجليزية التالية: (1)
Boethius, The Consolation of Philosophy. Trans. W. V. watts. Revised Edition, New York: Penguin Classics, 1999. (2)
Boethius, The Consolation of Philosophy. Trans. W. V. cooper. New York: The Modern Library, Random House, 1943. (3)
Boethius, The Consolation of Philosophy. Trans. S. Beck. Athenaeum Reading Room, 1996.
ملاحظة: جميع العناوين، والعناوين الفرعية، ليست من نص بوئثيوس الأصلي، وهي مستقاة من ترجمة (المشار إليها)، وجميع الشذور الافتتاحية ليست من النص الأصلي، وقد أشرنا في كل شذرة إلى صاحبها.
تصدير
الزواج المقدس بين التراث الكلاسيكي
والمسيحية
بقلم أ.د. أحمد عتمان
يثير النص المترجم، والذي نقدم له، تساؤلات كثيرة ومشكلات عويصة، المؤلف نفسه أنيكيوس مانليوس سيفيرينوس بوئثيوس
Anicius Manlius Severinus Boethius (480-524م) قد أصاب مجدا وعزا بالغين في حياته، التي انتهت بالسجن والإعدام، فهو رجل سياسة ومفكر مسيحي، صاحب منصب عال وثراء فاحش ومقرب لرجال السلطة الإمبراطورية.
أما مؤلفه الذي نحن بصدد الحديث عنه عزاء الفلسفة
Consolatio Philosophiae ، أو في مخطوطات أخرى في عزاء الفلسفة
De Consolatione Philosophiae
فهو من المؤلفات المحيرة، حيث أربك الكثير من النقاد والدارسين وما زال حتى اليوم يثير الحيرة والدهشة والتساؤلات.
بالنسبة للعنوان ومغزاه، فلم يكن الأول من نوعه، إذ سبقته مؤلفات عدة في تاريخ الأدب الإغريقي واللاتيني، نذكر منها على سبيل المثال مؤلفات الشاعر الفيلسوف سينيكا بالعناوين التالية:
عزاء إلى ماركيا
Ad Marciam de Consolatione .
عزاء إلى بوليبيوس
Ad Polybium de Consolatione .
عزاء إلى هليڨيا
Ad Helviam de Consolatione .
ويحمل العنوان الأخير اسم هليڨيا أم سينيكا التي يعزيها المؤلف في نفي ابنها أي سينيكا نفسه.
أما إذا كان الهدف الرئيس من مؤلف بوئثيوس هو الحث على أن يصمد الفيلسوف في وجه الشدائد، فإن هذا بالضبط كان القصد من مؤلف سينيكا بعنوان «في صمود الحكيم»
De Constantia Sapientis .
لكن الشكل الأدبي الذي صيغ فيه عمل بوئثيوس يختلف تماما عن «تعازي» سينيكا، التي جاءت أشبه ما تكون برسائل تخاطب الشخص المنكوب، هذا الشكل الأدبي هو الأكثر إثارة للحيرة والدهشة فهو ليس رسالة، ولا هو مقالة، ولا هو دراسة أو مجرد تأملات، وإنما هو عمل أدبي قح يفيد من دراية المؤلف بعدة أشكال أدبية، منها تعازي سينيكا المشار إليها، ومنها محاورات أفلاطون، ومنها الساتورا التي بعد قليل سنتحدث عنها، ولكن من الخطأ أن ننسب عزاء الفلسفة إلى شكل أدبي واحد من هذه الأشكال، دون أن ننفي تأثرها بهذه الأشكال جميعا.
ولا يتفق كاتب هذه السطور مع ما ذهب إليه بعض النقاد والدارسين، حين رأوا في عزاء الفلسفة ساتورا مينيبية، واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على حقيقة شكلية فعلية، ونعني أن العمل يخلط الشعر بالنثر، ومع اعترافنا الواضح بهذا التشابه الشكلي، إلا أنه شتان ما بين عزاء الفلسفة والساتورا المينيبية، ومن حق القارئ الكريم أن نوضح له أولا ماهية الساتورا المينيبية أو الهجائية المينيبية
Satura Menippea ، فهي نسبة إلى مينيبوس من جادارا في سوريا (النصف الأول من القرن الثالث ق.م)، وهو مبدع الأسلوب الهزلي الساخر من ناحية، والجدي من ناحية أخرى (
Spoudogelation )، والذي يخلط بين الشعر والنثر، علما بأن كلمة ساتورا
Satura
اللاتينية تحمل في معناها الأصلي الخلط في الأساليب والموضوعات، وهذه سمات عامة في شعر الهجاء اللاتيني ابتداء من لوكيليوس وحتى يوڨيناليس، وأثر مينيبوس في مواطنه ملياجروس
Meleagros
ولوكيانوس
Lucianus
وفارو
Varro
صاحب هجائيات مينيبية
Saturae Menippeae .
وإذا أردنا أن نضرب مثلا على «الهجائية المينيبية» من الأدب اللاتيني فلن نجد أفضل من مؤلف سينيكا الشهير الذي حفظت المخطوطات عناوين له كثيرة، نذكر منها العنوانين التاليين: «أبو كولوكينتوسيس (= التقريع أي مسخ الإنسان إلى نبات القرع»
Apocolocyntosis )، وهو عنوان له صلة بمبدأ تناسخ الأرواح في الفكر الفيثاغوري وانتقال روح الإنسان بعد الموت إلى تقمص أحد النباتات ك «القرع» وما إلى ذلك، أما العنوان الثاني فهو «سخرية من موت كلاوديوس»
Ludus de Morte Claudii ، ذلك أن هذا المقال عبارة عن هجائية مينيبية
Satura Menippea
تسخر من تأليه الإمبراطور كلاوديوس بعد موته وتجمع بين الشعر والنثر.
1
فأين عزاء الفلسفة من تلك السخرية المضحكة في عمل سينيكا «التقريع»؟ من الجلي إذن إننا لا يمكن أن نعتبر «عزاء الفلسفة» عملا هجائيا أو هزليا، فليس فيه من «الساتورا» سوى سمة الخلط بين الشعر والنثر.
الواقع أن هذا المزج بين الأجناس الأدبية المختلفة في عزاء الفلسفة لا يضاهيه سوى المزج الواضح كذلك في المضامين الفكرية والفلسفية في ثنايا العمل نفسه، ففي هذا العمل تجد إشارات واضحة أحيانا وتلميحات خفية أحيانا أخرى لكل مفردات التراث الإغريقي واللاتيني من هوميروس إلى يوريبيديس وأريستوفانفيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو ... إلخ.
معظم المدارس الفلسفية الإغريقية ممثلة تمثيلا مقصودا في هذا العمل من الأبيقورية إلى الرواقية، ومن الكلبية إلى الغنوصية، ففكرة الأسرار والكشف عنها للمخلصين الأصفياء وراء ظهور آلهة الفلسفة أو الفلسفة مجسدة لواحد من صفوة أتباعها ألا وهو بوئثيوس .
ويقودنا هذا الحديث إلى أخطر مشكلة في هذا النص، فنحن أمام مفكر مسيحي لاهوتي له أكثر من مؤلف في اللاهوت المسيحي، يمر بلحظات عمره الأخيرة ويودع الدنيا بعمل سماه عزاء الفلسفة، ولا يذكر كلمة واحدة عن العقيدة المسيحية، أليس هذا أمرا غريبا؟ والأغرب أن هذا المسيحي - وهو أحد الشهداء بحق - يركز حديثه تماما في التراث الكلاسيكي الوثني، ومن النظرة الأولى يستوقفنا العنوان «عزاء الفلسفة» فالفلسفة مجسدة هي اللاعب الأول
في هذا العمل الأدبي الإبداعي، هي التي توجه كل صغيرة وكبيرة، وهي التي تقود المؤلف إلى بر الطمأنينة ورباطة الجأش بعد الجزع الذي استولى عليه تماما في السجن، ومنذ القدم عرف أن الفلسفة تأتي على حساب الفكر الأسطوري والعقائدي؛ ولذا عمد السوفسطائيون إلى هدمها، وكان أفلاطون ميالا للهجوم على الأسطورة والشعر - وهما صنوان - إلا أنه لم ينج منهما تماما لأنه بطبعه شاعر، ولما جاءت المسيحية حاربت التراث الوثني برمته ونفته من مملكتها تماما، فألغت الدورات الأوليمبية والمسارح وكل ما يمت للوثنية بصلة، ولا سيما الفلسفة فهي العدو الأول للدين والعقيدة، والمثل الصارخ على ذلك ما فعله مسيحيو الإسكندرية المتطرفون والمنتقمون بالفيلسوفة والرياضية هيباتيا حيث مزقوها إربا إربا، أما في «عزاء الفلسفة» فتظهر إلهة الفلسفة وقد نزلت من عليائها لتواسي الفيلسوف في أزمته الطاحنة، هنا تبدو إحدى مخلفات التراث الوثني - الفلسفة - وهي تعالج أحد معتنقي المسيحية ومفكريها، هنا تتجلى أروع صورة للزواج المقدس بين المسيحية والتراث الكلاسيكي وعندما يصرح إرازموس في القرن السادس عشر «صل من أجلنا يا سقراط»
ora pro nobis Socrate
فإنه يردد صدى هذا الزواج المقدس ويؤذن لقيام النهضة.
رويدا رويدا عبر القرون الأولى الميلادية بدأ الحوار بين المسيحية والوثنية يحل محل التنافر والعداء، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فالمسيحية وإن ولدت في فلسطين إلا أن محيطها المؤثر كان العالم الإغريقي الروماني، وكان على آباء الكنيسة الأوائل أن يتعلموا اللغة الإغريقية واللاتينية ليشرحوا العقيدة الجديدة ويردوا على أقطاب التراث الوثني، وكان من نتائج ذلك أن البلاغة الإغريقية واللاتينية كما فهموها من كتابات أرسطو وشيشرون أصبحت سلاحهم في الانتصار للمسيحية، وتشهد بذلك كتابات القديس أوغسطين الملقب بشيشرون المسيحية.
واستخدم المنطق الأرسطي في الجدل الديني المسيحي، تماما كما سيحدث بعد ذلك عندما يستخدم بعض فلاسفة الإسلام المنطق الأرسطي في جدلهم الديني، سواء داخل حظيرة الإسلام أو مع أصحاب الديانات الأخرى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن هو: مع خلو عزاء الفلسفة من كلمة واحدة مباشرة عن المسيحية، ومع انغماسها الكلي في التراث الوثني هل يرد في هذا العمل الإبداعي ما هو ضار بالمسيحية أو ما يناهضها؟ هل عزاء الفلسفة الذي يحتفي بالوثنية هذا الاحتفاء الظاهر يحوي ما يناقض أو يحارب المسيحية ويهدمها؟ الإجابة قطعا بالنفي المؤكد، ذلك أن الروح المسيحية ترفرف على هذا العمل الإبداعي وتشع من بين كل سطوره، فالمؤلف وبذكاء شديد تجنب ذكر المسيحية تماما، ولكنه دعم هذه العقيدة دعما غير مباشر، فمما لا شك فيه أنه اختار الموضوعات والشخصيات الوثنية التي تتوافق مع المسيحية، فمبادئ الرواقية عامة ورواقية سينيكا خاصة تنسجم مع المسيحية بما فيها من زهد ورحمة وقدرة على التحمل، ويقال إن هناك رسائل متبادلة بين سينيكا والقديس بولس، ويقال الشيء نفسه تقريبا عن التوافق بين الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة من جهة، والمسيحية من جهة أخرى ولا سيما فكرة الاتحاد مع الإله واختلاط ما هو بشري بما هي إلهي.
خلاصة القول إن عزاء الفلسفة عمل يمثل ذروة من ذرى التوافق بين المسيحية والوثنية، فهو نص يحتفي بعقائد وأساطير وفلاسفة الوثنية ممجدا بطريق غير مباشر المسيحية وداعيا للتسامح والرحمة والصمود والثبات والتواضع وكافة القيم المسيحية، ولا سيما فكرة ألوهية البشر حيث تقول الفلسفة لبوئثيوس.
Ita ego quoque tibi ueluti corollarium dabo. nam quoniam beatitudinis adeptione fiunt homines beati, beatitude uero est ipsa diuinitas, diuinitatis adeptione beatos fieri manifestum est. sed uti iustitiae adeptione iusti, sapientiae sapientes fiunt, ita diuinitatem adeptos deos fieri simili ratione necesse est. omnis igitur beatus deus.
سأقدم لك لازمة ...
corollarium
بما أنه من خلال امتلاك السعادة، يصبح الناس سعداء وحيث إن السعادة في الحقيقة هي الألوهية فمن البين أنه من خلال امتلاك الألوهية يصبحون سعداء، وبالمنطق نفسه الذي يصبح به الناس عادلين بممارسة العدل، وحكماء بممارسة الحكمة فإن أولئك الذين يمتلكون الألوهية يصبحون إلهيين فكل إنسان سعيد هو إذن إله.
غني عن البيان أن بوئثيوس يعتقد إذن أن الفلسفة ليست ضد العقيدة الدينية، وإذا كنا نرى أن ابن رشد هو صاحب هذه الفكرة التي أنارت ظلام العصور الوسطى عندما انتقلت إلى أوروبا عبر «فصل المقال»، فإننا في الواقع لا بد وأن نعترف أن دور ابن رشد اقتصر على إيقاظ العقول الأوروبية النائمة، فلما نهضوا وجددوا هذه المقولة الرشدية مسبوقة فهي موجودة عند رجال الدين المسيحي الأوائل المتنورين، وعلى رأسهم بوئثيوس الذي يسبق ابن رشد بما لا يقل عن سبعة قرون.
بقيت لنا كلمة عن ترجمة هذا النص التي نقدم لها، فلقد سبق لنا أن قلنا بأن عصر التوسط للتراث الكلاسيكي بأية لغة أوروبية حديثة قد انتهى بظهور ترجمات المتخصصين، وما زلنا عند رأينا، ولكنه لا يعني القضاء المبرم على جهود المثقفين المصريين والعرب في هذا المجال، فالمثقفون هم الذين بدءوا حركة الاتصال بالتراث الكلاسيكي منذ أن ترجم رفاعة رافع الطهطاوي «وقائع الأفلاك في مغامرات تليماك» وجاء بعده سليمان البستاني فترجم إلياذة هوميروس شعرا عام 1904م، ثم جاء أحد المثقفين غير المتخصصين وهو طه حسين فأسس قسم الدراسات اليونانية والرومانية عام 1925م، ثم جاءت جهود لويس عوض ودريني خشبة وشكري عياد وغيرهم، ومن قبل سبق لي أن راجعت ترجمة ثروت عكاشة لأو؟يديوس أعني رائعتيه «مسخ الكائنات» و«فن الهوى»، وتمتعت بقراءة هذه الترجمة أيما متعة مع علمي أنها ليست عن اللاتينية مباشرة بل كانت مهمتي أن أضاهيها بالنص اللاتيني، ومثل هؤلاء المترجمين واسعي الثقافة وأصحاب الذوق الأدبي الرفيع.
والترجمة التي بين أيدينا تدخل في إطار هذه الترجمات الثقافية، ولقد تمتعت بقراءتها حقا؛ لأن المترجم يتمتع باطلاع واسع على الفلسفة وبأسلوب رائع وحس أدبي رفيع، ولما ضاهيت الترجمة بالنص اللاتيني الأصلي لم أجد نقصا جوهريا أو خروجا مخلا عن هذا الأصل، وحاولت قدر الطاقة سد أي فجوة بين الترجمة والنص الأصلي، وأتمنى أن يتمتع القارئ بالاطلاع على هذا النص الفريد. (وبالله التوفيق.)
مقدمة
لا يذهب بمصابك مثل أن تعلو فوقه
وتقتله رصدا وبحثا وفهما
ثم تشرب في جمجمته العبرة.
الكتابة أثناء العد التنازلي للأجل المحتوم ... هي كتابة أخرى.
الغناء على إيقاع خطوات الموت الحثيثة المقتربة ... هو غناء مختلف.
الإبداع بين شدقي الموت هو إبداع استثنائي يمتح من نبع الحقيقة الخالصة؛ لأنه يأتي من برزخ سحيق، وينظر من وراء «مسافة نفسية» هائلة، فيرى الأشياء بحجمها الحقيقي إذ تختفي الصغائر ولا يعود منظورا من المعاني إلا كل ما له ثقل وحجم ومقدار.
هكذا كان سفر «عزاء الفلسفة» الذي سطره بوئثيوس
1
في زنزانته خلال الأشهر التي سبقت تنفيذ الحكم بإعدامه عام 524م.
هذا النص الذي بين يديك كان أكثر النصوص رواجا في أوروبا، بعد الكتاب المقدس، طوال العصر الوسيط وعصر النهضة،
2
وحظي من الترجمات والتعليقات بما لم يحظ به أي كتاب آخر، واضطلع بترجمته شخصيات راجحة في ميزان التاريخ، ويكفي أن نقول إن من بين مترجميه الملك ألفرد الأكبر، والشاعر جيفري تشوسر، والملكة إليزابيث الأولى.
عندما نفي دانتي أليجييري من فلورنسة رجع إلى كتاب «عزاء الفلسفة» واستلهمه في كتابة تحفته الخالدة «الكوميديا الإلهية». ولقد وجد العزاء في «العزاء»، ولولاه لانتحر مثلما فعل بير دل فينيي، الذي لقيه دانتي في «الجحيم»، وكان أيضا قد اتهم ظلما غير أنه استسلم لليأس وبخع نفسه، وعندما قابل دانتي روح بوئثيوس في «الفردوس» قال عنه إنه أتى:
إلى هذا السلام ...
من المنفى والشهادة.
الكوميديا الإلهية، الفردوس 10، 128-129
الكتابة الرومانية
هذا العمل الكلاسيكي من أدب السجون يحمل كل ملامح الكتابات الفلسفية الرومانية الكبرى، وقد صاغه المؤلف في هيئة حوار بين السجين «بوئثيوس» والسيدة «الفلسفة»،
3
فكان نموذجا للميسم الروماني الفذ في دمج الطلاوة الأدبية بالفلسفة التكنيكية، فإذا كانت الفلسفة اليونانية أكاديمية نظرية في مجملها، فإنها حين غرست في روما صارت منهج حياة (هكذا كانت الرواقية على سبيل المثال)، وكثيرا ما يقال: إن الفلسفة في روما كانت فلسفة تلفيقية غير أصيلة، ولعل الأصوب أن نقول: إن العنصر الروماني الأصيل هو صياغة الفلسفة في أشكال يمكن أن تتعامل تعاملا مجديا مع المشكلات الإنسانية اليومية الخطيرة والدائمة.
4
قدر المفكرين
لا عجب أن ينفى الفلاسفة ويعذبوا ويقتلوا وتتقاذفهم العواصف الهوجاء؛ فقدر المفكرين أن يصطدموا بقوى الشر؛ لأن تفكيرهم مختلف عن تفكير العوام، ولأن من عملهم أن يقاوموا الأشرار ويكشفوا زيفهم. إنها «متاعب المهنة»، وعلى الفيلسوف، ومن طبيعة عمله، أن يتحملها بشجاعة، ويروض نفسه على معانقة مصيره وحب قدره، وأن يقهر في نفسه خشية الموت، وألا تفتنه السراء ولا الضراء. وإن الفلسفة، بعد، لتحمل في ذاتها الترياق والعزاء والسلوى.
لم تكن السلطة ولا الشهرة ولا الجاه ولا المنصب هو ما يطمع فيه بوئثيوس يوم أن زاول السياسة؛ فالفلسفة لا تترك في قلب مريدها مكانا لمطمع، إنما دخل بوئثيوس معترك السياسة حرصا على الصالح العام، ولكي يطبق في السياسة العامة ما تعلمه في درس الفلسفة، استجابة لدعوة أفلاطون بأن يزاول الحكماء السياسة حتى لا تترك دفة الحكم لأيدي الجهال والمجرمين فيلحقوا الدمار والخراب بالمواطنين الصالحين.
مارس الفيلسوف سلطته لحماية المستضعفين وكف الظلم والعسف والبطش. زاول الفيلسوف السياسة فكان المآل الطبيعي أن يثير عليه سخط الساسة غير الفلاسفة، وأن يجلب على نفسه العداوات والأحقاد، وتوقعه المكائد في فخاخها فيحكم عليه بالنفي والموت، وها هو يندب حظه، ويبدي دهشته من أن يتاح للشرير أن ينال غرضه من البريء على مرأى من الله ومسمع، وينوع على اللحن الأزلي «إذا كان الله موجودا فمن أين يأتي الشر؟!» ويصعد إلى السماء زفرة تشفع حرارتها لجرأتها: «أنت يا من تمسك بزمام كل شيء، انظر من فوق إلى بؤس الأرض؛ فالبشر ليسوا جزءا هينا من هذا العمل العظيم، البشر تتقاذفهم أمواج القضاء، أوقف، أيها الهادي، الطوفان الجارف، ومثلما توثق السماء اللانهائية بوثاق يحكمها، أوثق أصقاع الأرض وثبتها بوثاق مثله.»
معنى «الوطن»
لم تتأثر «الفلسفة» بهذه الحسرات الطويلة، بل قالت بهدوء وثبات: «إن شئت أن تعد نفسك منفيا فأنت الذي نفيت نفسك!» أي نفي تتحدث عنه؟ أنسيت وطنك الحقيقي؟ أنسيت أن وطنك لا نفي منه؟
ينقلنا ذلك إلى مفهوم «الوطن» كما يفهمه الرواقيون :
5
الوطن ليس جبلا أو واديا ألقت بي فيه اعتباطية المنشأ والميلاد ومسقط الرأس ، الوطن فكرة ... الوطن اختيار، الوطن وطن العقل ... مملكة تشمل في ظلها الناس جميعا بما يجمعهم من قرابة قائمة على شرف انتسابهم إلى عقل واحد (بتعبير ماركوس أوريليوس)، إنه «مجتمع عقلي» أو إمبراطورية مثالية هي ما كان يعنيه بلوطرخس بقوله: «إن ما مهدت له فتوحات الإسكندر من طريق التاريخ قد أتمته الفلسفة من طريق العقل.» إنه «جامعة روحية» تحل فيها الوحدة العقلية محل الوحدة السياسية.
الوطن ما يقطنني لا ما أقطنه، «يبدو أنك نسيت القانون الأقدم لبلدك: إنه حق مقدس لكل فرد اختار الإقامة فيه ألا ينفى منه أبدا؛ ومن ثم فلا وجه للخوف من النفي داخل أسواره وحماه، ولكن أيما فرد يرغب عن العيش فيه يكون بنفس الدرجة قد فقد استحقاقه أن يكون هناك؛ لذا فإن هذا المكان لا يزعجني بقدر ما يزعجني منظرك،
6
ولا ما أبحث عنه هو جدران مكتبتك المزينة بالزجاج والعاج، بل أبحث عن كرسي عقلك! ذلك هو المكان الذي أودعت فيه يوما لا كتبي بل الشيء الذي يجعل للكتب قيمة ... الفلسفة التي تحتويها الكتب، الأفكار التي تذخرها.»
7
التشخيص
في بداية فحصها للمريض تسأله «الفلسفة»: «هل تذكر ما هي غاية الأشياء جميعا، وما الهدف الذي تتجه إليه الطبيعة بأسرها؟» فلما وجدته ناسيا قالت: «فهل تعرف من أين أتت الأشياء جميعا؟» قال: «نعم، من الله»، قالت: «فهل يجوز أن تعرف الأصل وتجهل الغاية؟!» ولكن الأهم من هذه الأسئلة الكونية، التي تؤسس الإطار لحياة الإنسان، هو أنها وجدته ناسيا من هو وما هو دوره كإنسان!
هكذا يأتي التشخيص قاطعا كالسيف ثاقبا كالرصاصة: النسيان
8 «فلأنك سادر في نسيانك فقد رحت تتحسر على أنك منفي ومجرد من ممتلكاتك، ولأنك لم تعد تعرف ما هي بالضبط غاية الأشياء، فقد حسبت أن التافهين والمجرمين أقوياء وسعداء، ولأنك نسيت الطرائق التي تسير العالم فقد ظننت أن ضربات الحظ تتخبط هنا وهناك بغير ضابط.» ومن التشخيص الصحيح يبدأ العلاج الصحيح، ومن الجذوة المتبقية من ذاكرته الخابية تكون الخطوة الأولى ... «فما تزال لدينا الشرارة الكبرى لشفائك ، وهي رأيك الصائب عن إدارة الكون، فأنت تؤمن أن الكون لا تحكمه المصادفة العشواء بل العقل الإلهي، إذن لا تخش شيئا، فمن هذه الشرارة الضئيلة سوف ينبثق فيك وهج الحياة.»
عجلة الحظ
Wheel of Fortune
لعلك تأسى على تبدل الأحوال وتغير الحظ، وعلى سقوطك من ذرى المنصب والثراء إلى حضيض اليأس والقنوط، فلتتعرف إذن على الأقنعة العديدة لهذا المسخ (الحظ) الذي يغوي بالصحبة نفس الأشخاص الذين ينوي أن يخدعهم ويقلب لهم ظهر المجن، يخطئ من يظن أن الحظ قد أدار له ظهره، فالتغير هو جوهر الحظ وماهيته، والحظ في تقلبه وتبدله إنما هو حافظ لعهده وثابت على مبدئه! وكل من ارتضى أن ينحني للحظ ويضع عنقه تحت نير الظروف الخارجية فإن عليه أن يتحمل النتائج، وأن يقبل أحكام اللعبة إذا اقتضته بعد الصعود إلى القمة أن يهبط إلى القاع، وأن يعلم أن الحظ إذا ثبت على حال لا يعود حظا.
هذه إذن أحكام اللعبة، وفهمها، مجرد فهمها، يعفيك من أن تبتئس حيث لا ينبغي الابتئاس، فإذا كنت ترهن سعادتك بعطايا الحظ فإنها لن تشفي حاجتك بل ستزيدها اشتعالا، أما إن كنت غير أسير لها فإن فقدانها لن يسلبك أمنك ولن ينال من سعادتك.
التغير سنة الطبيعة، ليس شقاء إذن إلا ما تعده أنت كذلك، وكل قدر هو قدر سعيد ما دمت تتلقاه بثبات ورباطة جأش، لماذا تبحثون عن السعادة خارج نفوسكم وهي كامنة فيها؟ إذا كنت سيد نفسك فإن لديك من الثراء الداخلي ما لا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه.
الثبات على التغير! ... ذلك هو طبع الحظ ودأبه وديدنه.
فلتفرح إذن بأنك كشفت الوجه المتقلب لهذا الإله الأعمى، واهنأ بإحدى الراحتين، «فلقد تخلى عنك من لا يأمن له أحد ولا يثق ببقائه إلى جانبه على الدوام ... والحق أنك لو تذكرت طبعه وأساليبه ومزاياه لتبينت أنك لم تفد منه ولم تخسر بفقدانه شيئا ذا بال.»
هكذا الفلسفة دائما، الفهم برد وسلام ... الفهم ترياق.
ليس عليك أن تغير ما لا قبل لك بتغييره، وبحسبك أن تفهمه!
الدروب الخطأ إلى الخير
تذهب «الفلسفة» إلى أن الرغبة في الخير الحقيقي هي شيء متأصل في نفوس البشر جميعا، وما يحيد بهم عن جادة الخير سوى الحمق والخطأ والسير في الدروب المضلة إلى الخيرات الزائفة، إن الخير الأسمى، أو السعادة الخالصة، هي هدف البشر جميعا، أخيارهم وأشرارهم على السواء، فأما الأخيار فيسعون إليه من الطريق الصحيح وبالنشاط الطبيعي وهو ممارسة فضائلهم، وأما الأشرار فيقصدون إلى الشيء نفسه ولكن من الطريق الخطأ ... من خلال شهوات ليست بالطريقة الصحيحة ولا الطبيعية لاكتساب الخير: الثروة، المنصب، الجاه، الشهرة، النفوذ، اللذة ... إلخ، ومن ثم فالأخيار أقوياء لأنهم يحققون الغاية، والأشرار عجزة لأنهم يقصرون عنها، ولا يغير من الأمر أن الأخيار قد ينفون ويضطهدون والأشرار قد يسودون بعض حين ويزدهرون في الظاهر الكاذب.
المال والثروة
انظر إلى نقائض المال وغراباته:
إنه لا يكون ذا قيمة إلا حين يغدق به، أي حين لا يعود مملوكا!
وهو لا يقبل الشراكة دون انتقاص (مثلما يقبلها الصوت مثلا والفكر والحب)، ولا يأتي لواحد إلا بإفقار الآخرين.
وهو يتخم ويؤلم إذا زاد عن الحاجة.
وهو لا ينفي العوز بل يؤججه، ولا يسد الحاجة بل يخلق حاجات جديدة تنبت إلى الوجود شيطانيا كرءوس الهيدر.
9
وهو لا يتحلى بخاصية طبيعية تمنعه من أن يسلب من أصحابه رغما عنهم.
وهو يصطحب تحت نيره بئس الرفيق: الخوف، التوجس، شبح اللص والقرصان وقاطع الطريق.
وهو يجعلك بحاجة إلى عون خارجي لكي تحميه، وبذلك تنعكس القضية وإذا بالثروة التي يرتجى منها أن تجعل المرء مكتفيا بذاته قد «أحوجته» في الحقيقة إلى غيره!
وهو، فيما تملكه، فإنه بدوره يرهنك ويملكك ويحدد إقامتك؛ لكي تقوم على رعايته بدلا من أن يقوم هو على رعايتك، إنه وحش مسيخ: تضخمه فيقتلك، وتسمنه فيأكلك، ويفسد شفرتك ويحجر أوصالك على أرائك الكسل والدعة، ويغشي عليك الصحبة ويجرد علاقاتك من هوية الحب ومن شروط الصداقة، ويحرمك من اختلاجة الشوق وهزة المنال وطبخة الجوع، إنه نفي آخر يحرمك من أنس الحياة الطبيعية ويلقي بك في حياة افتراضية اصطناعية موحشة. «الطبيعة يكفيها القليل، أما الجشع فلا يشبعه شيء»، الغنى أن تكون «غنيا عن» ... «لا غنيا ب».
كل ما فاض من مالك عن حاجتك الحقيقية وأمانك الفعلي فهو عبء وهم ووسواس، وقيد عبودي، وفقر مقلوب.
المنصب والسلطة
ليس بوسع أعنف الزلازل ولا أعتى السيول أن تلحق من الخراب ما يلحقه المنصب والسلطة حين يقعان في أيدي الأشرار، «فإذا تصادف أن وقعت المناصب لرجال أمناء فلا شك أن الخير الوحيد فيها إذاك هو أمانة الرجال الذين يتولون المناصب، يترتب على ذلك أن الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب بل يأتي إلى المنصب من الشريف.»
لماذا يتحرق أغلب الناس إلى المناصب؟ ألأبهتها ونفوذها؟ ولكن على من تريدون أن تمارسوا الأبهة والنفوذ؟ «أليس من المضحك أن تروا مجتمعا من الجرذان وقد انبرى جرذ منهم يدعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟ أتحبون التمتع بسلطة البطش والانتقام؟ وهل هناك شيء يمكن أن توقعه بأحد وأنت بمأمن ألا يقع لك يوما على يد شخص آخر؟» «لو كانت المناصب خيرا بطبيعتها لما وقعت في أيدي الأشرار ... أم تريد المنصب لكي تنعم بالكرامة والتبجيل، وتتميز عن الناس بالأبهة والشرف؟ فاعلم أنك إذا أردت أن تتألق في أبهة المنصب فسوف يتعين عليك أن تنبطح لمن أنعم عليك به: أي أنك إذا أردت أن تفوق الآخرين في الشرف والكرامة سيكون عليك أن ترخص نفسك وتهينها بالتزلف!»
إذا لم تكن نفسك كبيرة بذاتها فلن ينفعها المنصب، وعندما يوسد المنصب إلى غير أهله فإنه لا يجعل منه أهلا على الإطلاق، بل يفضحه لا أكثر ويكشف ضعفه وضآلته. «الكرسي الواسع هو أول الشامتين بصاحبه.»
المجد والشهرة
أما الشهرة فمجيئها، في الأغلب، اعتباطي وبقاؤها غير مضمون، والأغلب أن تكون زائفة يكتسبها غير أهلها من خلال الآراء الزائفة للدهماء، ثم تنهكه في محاولة الحفاظ عليها، وما قيمتها عندما ينتهي المرء إلى الموت الذي هو نهاية كل شيء؟ وكم هي هزيلة في كل حال ولا وزن لها: فمهما امتد صيتك في الأرض ودوى في التاريخ فإنه صفر حين يقاس إلى لا نهاية المكان، وصفر حين يقاس بأبدية الزمان.
الشهرة؟ ... الأضواء؟ ... إنها البرص الذي يهرب منه الفيلسوف، والعهر الرخيص الذي يتأفف منه كل من أحصنته الحقيقة.
الملك
يقول شكسبير: «لا يستقر قرار للرأس الذي يحمل التاج.»
قسط الملوك من الشقاء أكبر من غيرهم، فهم يعيشون تحت حد السيف، وهل تعده قويا ذلك الذي لا يمشي إلا مخفورا بحرس؛ لأنه أشد خوفا من رعاياه الذين يرهبهم، والذي لا بد له، لكي يبدو قويا، من أن يعيش تحت رحمة من يخدمونه؟ ألا ما أبشع هذا السجن وما أوحشه!
يحرمك الملك من نعمة الصداقة الحقيقية، ومن تمييزها إن وجدت! ما دامت شبهة التملق تغشي على المشهد كله، فيا له من حرمان.
أي سلطة هذه التي تبث الخوف في نفوس أصحابها؟ إن رغبت فيها لم تمنحك الأمان، وإن رغبت عنها لم تتركك وشأنك؟ ولن ينفعك إذاك أي صديق ربطته بك ثروتك لا فضيلتك، فصديقك في السراء ينقلب عدوا في الضراء، وليس أقدر على إلحاق الأذى من صديق انقلب عدوا، ذلك أنه يعرف مواطن ضعفك ... يعرف أين ثغرتك، وأين مقتلك و«كعب أخيلك»!
لذات الجسد «وماذا أقول عن لذة الجسد؟ إن السعي إليها محفوف بالهم، والشبع منها مملوء بالندم، كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقام وتباريح، وكأنها ضرب من عقاب الإثم ... أي سعادة في الشهوات إذا كان الأسى هو نهاية اللذة؟ يعرف ذلك كل من يتجشم استعادة ذكرى انغماساته.»
وربما يكون مرد الكآبة التي تعانيها كل الكائنات عقب قضاء الوطر هو إحساس الكائن بأنه خدع ... بأنه بخس ... بأنه استدرج! لكأن الطبيعة كانت تقضي به مأربها لا مأربه!
المكيدة الكامنة في صلب الحياة هي أن لذة الإشباع تأتي دائما أقل بكثير مما وعدنا به الجوع!
تأمل السماء إذن، تأمل قبة السماء اللانهائية المرصعة بالنجوم، ثم جرب أن تسلك شئونك وشجونك في هذا السياق الكوني الكبير، وأن تنظر إليها بعين الفلك الدوار، ستدرك على الفور أنها أضحوكة، وأنها أهون عليك وعلى الكون من أن توزن، ثم تململ وانفضها عنك كما تنفض هباءة، واستأنف وجدك بهذا الملك العريض.
خطأ تقسيم البسيط
أين مكمن الخطأ هنا؟
لماذا يضل الناس عن طريق السعادة الحقيقية، الذي تهدي إليه الفطرة ذاتها، إلى ترهات لا تفضي إلى شيء؟!
يكمن خطأ الإنسان في أنه «يأخذ ما هو بسيط وغير قابل للقسمة ويحاول تقسيمه، فيحيل حقيقته إلى زيف وكماله إلى نقص ... حين يعمد البشر بحماقتهم إلى تقسيم ما هو بطبيعته واحد، وإلى تحصيل جزء من شيء لا أجزاء له، فإنهم لا يحصلون على الجزء الذي لا وجود له، ولا على الكل الذي يولونه اهتماما.»
السعادة «كل» بسيط، ولا وجود لها في هذه الجزئيات الكاذبة التي ما تكاد تقبض على واحدة منها حتى تفلت منك الأخريات!
الخروج من الكهف «لديك إذن طبيعة السعادة الزائفة وسببها معا، فلتحول نظرتك الآن في الاتجاه المقابل ولسوف ترى لتوك السعادة الحقيقية التي وعدت بأن أبينها لك»، ولكي تكون جديرا باكتشاف مصدر هذا الخير الأسمى ينبغي، كما قال أفلاطون في محاورة «طيماوس»، أن نبتهل إلى الله، فبدون ذلك لا يستهل عمل ولا يشمر لأمر.
المخطط هنا أفلاطوني لا شك فيه، وتحويل النظرة عما هو زائف إلى ما هو حق، وإدراك أن الله هو الخير الأسمى، إنما يستند على صعود الروح في أسطورة الكهف الشهيرة في الكتاب السابع من «الجمهورية»، فصعود الروح، أو تربيتها، أشبه بصعود رجل من كهف مظلم كان قابعا فيه ومقيدا منذ الطفولة لا يملك أن يرى غير ظلال على الجدار،
10
وحين فكت قيوده انتقل خطوة خطوة إلى النور، حتى تمكن في النهاية من أن يرى الشمس نفسها - مثال الخير.
غير أن صعود الروح ليس مجرد عملية تربية، فهو أيضا عملية «تذكر» تنصهر فيها نظرية التذكر الأفلاطونية بمفاهيم أفلاطونية محدثة تتعلق بانطواء الروح على ذاتها واستضاءتها بنورها الباطن، من هنا كان تشخيص «الفلسفة» لحالة «بوئثيوس» هو «فقدان الذاكرة» أو «النسيان»؛ نسيان طبيعته الحقة، إنه ليعلم بالسعادة الحقيقية ، غير أن ذاكرته، كشأن غيره من الناس، كليلة غائمة، إن للروح نزوعا طبيعيا، وانتحاء فطريا، إلى الله، غير أنها كثيرا ما تحيد وتحبط في مسالك مضللة، ولكن ما هو إلا أن يشيح بنظرته عما هو باطل إلى ما هو حق حتى تتم له عملية التذكر ويصعد بروحه إلى الرحاب العلى، ويدرك أن الله هو الخير وهو السعادة، ويتعرف على وطنه الحقيقي الذي نسيه في معترك الحياة، فيهتف قائلا: «إنه هو ... هذا وطني، منه أتيت وفيه سأبقى ولا أبرح أبدا»، فإذا ما عن له أن يلقي نظرة على الأرض المعتمة من ورائه فلسوف يرى الحياة من منظور الأزل، ويرى الأشياء رؤية إلهية:
سيرى الطغاة الظالمين منفيين منبوذين لا مأوى لهم.
سيرى لذات الأرض وهمومها، وتقلبات الحظ وألاعيبه، كوميديا لا تحتمل إلا الضحك.
أما «الشر» - عفريت الفلاسفة وحجة الملحدين - فلن يرى له وجودا!
بين حرية الإرادة وسابق العلم
من تمام العزاء أن يعرض بوئثيوس لمعضلة تقض مضجع المفكرين، وما تزال شوكة في حلق اللاهوتيين: ثمة «تنافر»
incompatibility
ظاهر بين «حرية الإرادة» (الإنسانية)
free will
و«سابق العلم» (الإلهي)
prescience
وهي شوكة لأن معقبات هذا التنافر وخيمة حقا تبلغ أن تكون سقوطا ذريعا لكل معنى وكل قيمة!
حين تؤخذ كل حقيقة من هاتين على حدة تكون حقا لا شك فيه، غير أنهما لا يمكن أن تؤخذا معا في آن واحد، لكأنهما تتأبيان أن تخضعا لنير واحد! أيمكن أن يكون خلافهما وهما؟
إذا كان الله يعلم كل شيء
11
فإنه يرى كل ما سيحدث في المستقبل رؤية مسبقة ذات يقين مطلق، المستقبل إذن «محتوم»
determined «مختوم»
sealed
لا يملك أحد تغييره، وكل ما سيحدث فهو محدد سلفا بضرورة مطلقة، تقيد أفكار الإنسان وأفعاله بمسلك واحد في الحدوث ما دام البشر مدفوعين للخير أو الشر لا بإرادتهم بل بضرورة قاهرة لما يتعين أن يكون.
لا وجود إذن لحرية الإرادة البشرية، وإذا انتفت حرية الإرادة تنتفي معها المسئولية ولا يعود هناك معنى ولا سند للثواب والعقاب، في الأولى والأخرى، ولا يكون للفضيلة ولا الرذيلة أي وجود،
12
ولا تأثير للرجاء والدعاء.
كيف يمكن ل «الفلسفة» أن تنقذ الموقف؟ كيف تفض هذا الاشتباك بحيث يبقى كل من «العلم المسبق» و«حرية الإرادة» قائمين دون أن ينفي أحدهما الآخر؟
تقول «الفلسفة»: «أولا، ثمة حرية إرادة، فحرية الإرادة جزء من ماهية العقل وطبيعة التعقل، الفكر حر بحكم التعريف، فمن غير الممكن أن توجد طبيعة عقلية من دون حرية إرادة، فما من كائن يمكنه بالطبيعة استخدام عقله إلا وله قوة الحكم التي يمكنه بها، بدون أي عون آخر، أن يتخذ القرار في كل أمر، وأن يميز بنفسه بين الأشياء التي يريدها والأشياء التي يتجنبها ... كل ما لديه عقل فلديه أيضا حرية أن يريد أو لا يريد.»
حرية الإرادة، إذن، أمر واقع لا ريب فيه، ويبقى أن ننظر في مسألة «سبق العلم الإلهي» وكيف يقوم على مستوى لا يتقاطع مع حرية الإرادة الإنسانية، ولا يمارس عليها تأثيرا عليا:
الرؤية تدرك الشيء ولا تسببه، ومن الممكن للحدث أن يعرف دون أن تكون المعرفة سببا لحدوثه.
وكل ما يعرف فإنما يعرف وفقا للقدرة المعرفية للعارف لا لطبيعة الشيء المعروف (المدرك)، ومثلما أن معرفة الأشياء الحاضرة لا تضفي ضرورة على ما يجري في الحاضر، فإن سبق العلم الإلهي لا يضفي ضرورة على ما سوف يحدث في المستقبل، كل ما في الأمر أن القدرة المعرفية السرمدية تتيح لنظرة الله أن ترى كل شيء بطريقة تتجاوز طريقة العقل البشري في رؤية الأشياء، السرمدية ليس لها ماض وحاضر ومستقبل: السرمدية حضور مقيم، ولله في حضوره السرمدي معرفة تتخطى كل تغير زمني وتبقى قائمة في فورية حضوره، إنها تضم كل الأعماق اللانهائية للماضي والمستقبل وتنظرها في فورية عرفانها كما لو كانت تحدث في الحاضر، المعرفة الإلهية المسبقة لا تغير من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرة لها تماما كما سوف تحدث ذات يوم في المستقبل، إن المعرفة لا وطأة لها على المجريات ولا توقع اضطرابا في الأشياء، والمعرفة الإلهية بحكم سرمديتها تميز بلمحة واحدة كل ما سوف يحدث دون أن تقحم عليه ضرورة ليست فيه، المعرفة الإلهية تقع على مستوى خارج عن المنظور البشري، ومن ثم فإن حرية الإرادة لا تضار بها على المستوى البشري من العرفان، والمسئولية الأخلاقية بالتالي لا تنتفي ولا تمتنع.
صحيح أن من الصعب على العقل البشري تصور ذلك، تماما مثلما أنه من الصعب على الحواس أو المخيلة فهم طريقة العقل في إدراك الكليات بينا لا ينظر إلا في كيانات مفردة، وينبغي أن نسلم بأن العقل البشري المحدود، المرتكز على قطعة لحم على حد تعبير شكسبير، لن يستوعب كل شيء عن ذات الله وطبيعة علمه وطرائقه في تصريف الخلق. «لله معرفة مسبقة، ويستوي في عليائه مشاهدا كل شيء، ولما كانت سرمدية نظرته تصرف المثوبة للأخيار والعقوبة للأشرار فهي تمضي بانسجام مع نوعية أفعالنا المستقبلية، الأمل في الله ليس عبثا، والدعاء لا يذهب سدى، فهما إن كانا صالحين لا يمكن إلا أن يجابا.»
جوهر العزاء
الفرق إذن هو فرق في «المنظور»
perspective
بين رؤية الله ورؤية البشر، وإنما يأتي العزاء من محاولة العلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع، وبقدر ما يمكن أن يتاح للبشر، وإنما يأتي القنوط نتيجة للرؤية الضيقة والمغرقة في البشرية والأرضية، مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئا من الرؤية الإلهية، وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء، إن من المتعذر عليك أن تفهم المحنة بمعزل أو تفهم البلاء على حدة، بل يتعين أن تضعه في المخطط الكلي للأشياء، أن تفعل ذلك يعني أن تتفلسف، إن الفلسفة لا تغير الأحداث ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهما تعود بعده أحداث الحياة مقبولة بل ممتعة.
وإذا كانت الاستجابة المعتادة للكوارث هي النحيب والعويل، وطلب الخلاص حيث لا خلاص، فإن الفلسفة تعلم أن ما يحتاجه الإنسان حقا ليس التغيير بل الفهم، وبلمسة فنية محسوبة تتركنا «الفلسفة» في موعظتها الأخيرة ل «بوئثيوس» وقد ارتقينا إلى مستوى علوي، نشخص بأبصارنا إلى السماء ، ولدينا من حرية العقل ما يقهر القهر، فلا نعود نرى القيد قيدا، ولا نعود نرى السجن سجنا.
عادل مصطفى
5 / 4 / 2007
الكتاب الأول
التشخيص
ليس بين الجنون والعقل إلا
خطوتا سائر فحاذر وأمسك
أول الخطوتين نسيانك النا
س وأما الأخرى فنسيان نفسك
العقاد
الفصل الأول
الأغنيات التي كنت أكتبها1
أنا من كنت أدبج الأشعار بحماس بهيج،
أراني اليوم مضطرا إلى الشجو الحزين،
انظر كيف تملي علي ربات الشعر المعذبات،
وكيف تستدر دموعي بغنائها الباكي،
لم تتورع قط عن مرافقتي في محنتي ولم تتخل عني،
لقد كانت يوما زينة شبابي الغض،
وما زالت سلواي في الشيخوخة التعسة،
لقد داهمتني الشيخوخة على غير انتظار،
وغزا الشيب مفرقي قبل الأوان،
وارتجف الجلد المتراخي على الجسد البالي،
ألا ما أهنأ الموت الذي يمهل السعداء في زمنهم الجميل
بينما يلبي دعوة الأشقياء إذ يدعونه،
ولكن آه له الآن إذ يصم آذانه عن المقهور المعذب،
ويأبى أن يكفكف دموعه السخينة
يوم كان الحظ الغادر يجتبيني ويغدق علي عطاياه الفارغة
كانت لحظة الحزن تعصف بي أو تكاد؛
أما الآن وقد اكفهر وجهه الخداع،
فقد راح الزمن الرديء يتمطى ويتطاول بأيام سمجة مملة
لماذا تعدونني سعيدا إذن يا أصدقائي؟
فسقوط المرء دليل على أنه لم يكن راسخ القدم.
بينما كنت صامتا أتأمل في نفسي هذه الأفكار، وأصعد هذه الزفرات إذ أدونها بقلمي، راعني سمت امرأة جليلة المظهر تقف أمامي، عيونها وهاجة نافذة بقدر يتجاوز القوة البشرية المعتادة، كانت مثقلة بالسنين بحيث يتعذر أن أتصورها من زمننا، غير أنها تتمتع بنضرة وقوة لا ينضب معينها، أما طولها فمن الصعب التيقن منه: فتارة تبدو في حجم البشر العادي، وطورا تتسامق حتى تطاول عنان السماء برأسها ... رأسها الذي حين ترفعه ربما تخترق السماء نفسها ويحسر عنها البصر البشري.
2
أما رداؤها فمنسوج بمهارة قصوى، ذو خيوط غاية في الرقة ومن أفخم خامة (أنبأتني فيما بعد أنها نسجته بيديها)، نالت من بهائه رغم ذلك طبقة ترين عليه، كأن من طول الإهمال، أشبه بغبار على التماثيل، على حافته السفلى طرز حرف
اليوناني، أما الحافة العليا فرسم عليها حرف ثيتا
Theta
وبين الطرفين سلم من الدرجات يفرض الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى
3
إلا أن الرداء قد مزقته أيدي المغيرين وسلبت منه كل يد ما أمكنها سلبه من المزق، على كل حال، كانت في يدها اليمنى تحمل كتبا بينما تحمل في يدها اليسرى صولجانا.
عندما رأت ربات الشعر حول فراشي يملين علي كلمات ترافق عبراتي استشاطت غضبا وقالت: «من الذي سمح لهؤلاء البغايا الهستيريات بالاقتراب من فراش هذا المريض؟ فليس لديهن علاج لأوجاعه بل سموم محلاة تزيدها سوءا، فهؤلاء من يطمسن ثمرات العقل بأشواك العاطفة العقيمة، ويوطن عقول الناس على الكرب بدلا من أن يحررنهم منه، فلو أن من توقعن في حبائلكن، كدأبكن دائما، هو رجل من سواد الناس، لما كنت أعبأ بذلك فما كان ليضيرني شيئا، أما هذا الرجل فقد نشأ على دراسة الإيليين والأكاديميين،
4
إنما أنتن سيرينات
5
تهلكن من يقع في غوايتكن، اغربن إذن واتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه.»
استخزت ربات الشعر بهذا التوبيخ، وخرجن مطأطئات الرءوس تنم حمرة خدودهن على شعورهن بالخزي والعار.
6
كانت الدموع تغشي على بصري فلم أستطع أن أميز من تكون هذه السيدة المهيبة المحتكمة، كل ما استطعت فعله أن شخصت إلى الأرض صامتا أترقب ماذا سيحدث بعد، اقتربت السيدة وجلست على الطرف المقابل من فراشي وجعلت تتأمل بعينيها وجهي المنكس المثقل بالحزن، ثم أنشأت تتلو الأبيات التالية عن اضطراب فكري.
الفصل الثاني
«الفلسفة» تلتفت إلى المؤلف
وا أسفاه، ها هو العقل يهوي إلى حضيض اليأس،
والبصر تلفه العتمة،
عندما تضخم عواصف الحياة من وزن هموم الدنيا،
ينسى العقل نوره الباطن، ويؤخذ بالظلام الخارجي،
هذا الرجل كان يوما طليقا متجها إلى السماء بخشوع وولوع،
يتأمل الشمس القرمزية والصفاء البارد للقمر،
كان فلكيا يعكف على متابعة الكواكب في أفلاكها،
هذا الرجل كان ينشد معرفة مصدر العواصف التي تعزف وتثير البحار؛
الروح التي تحرك العالم،
السبب الذي يجعل الشمس تنتقل من الشرق المشع إلى الغرب المائي ،
كان ينشد معرفة السبب الذي يجعل ساعات الربيع معتدلة تزين الأرض
بالزهور، ومن الذي يفعم الخريف بالعناقيد المكتنزة عند اكتمال العام،
ها هو العقل الذي كان يبحث ويستكشف أسرار الطبيعة الخفية،
يرزح في قلب الظلام،
عنقه مكبل بالأغلال الثقيلة،
مرغما تحت وطأتها أن يتأمل التراب الحقير.
ومضت تقول: «غير أن الوقت وقت علاج لا وقت شكوى»، ثم حدقت بملء عينيها قائلة: «ألست أنت من أرضعته يوما من لبني وأطعمته من طعامي إلى أن بلغ أشده؟ لقد منحتك أسلحة كفيلة بأن تحميك وتذود عنك ولكنك ألقيت بها بعيدا؟ ألا تعرفني؟ لماذا أنت صامت؟ هل أصمتك الخجل أم أسكتك الذهول؟ كنت أود أن يكون الخجل، ولكن الذهول فيما أرى هو الذي يتملكك.»
عندما وجدتني صامتا، بل مبلسا غير قادر على النطق، وضعت يدها برفق على صدري وقالت: «لا خطر، إنه يعاني من شيء من النسيان، ذلك المرض الشائع في العقول الضالة، لقد نسي نفسه برهة وسوف يتذكرها بسهولة إذا ما تعرف علي، ولكي أمهد له ذلك سأبدد بعضا من ضباب الهموم الدنيوية التي تغشي على عينيه.»
قالت ذلك ثم جمعت طرف ردائها وجففت عيني المغرورقتين.
الفصل الثالث
«الفلسفة» تقبل التحدي
ثم انجلى الليل وتبدد الظلام،
وعادت إلى عيني حدتهما السالفة،
مثلما حين تهب ريح الغرب العاتية
تملأ السماء السحب السوداء والظلام العاصف،
وتحتجب الشمس قبل الوقت الذي ينبغي أن تتلألأ فيه النجوم،
ويلف الليل الأرض كلها،
ولكن إذا انطلقت ريح الشمال من كهفها الطراقي،
وجعلت تجلد الظلام بسوطها وتحرر النهار السجين،
فإن الشمس تتألق بفيض مفاجئ من النور،
وتبهر الأعين الطارفة بأشعتها.
بنفس الطريقة تبددت غيوم حزني وابتهجت بالضياء، والتفت أتملى وجه طبيبتي وقد عاد إلي صوابي، وثبت عيني عليها، فعرفت فيها مربيتي التي نشأت في بيتها منذ شبابي - الفلسفة. وسألتها لماذا هبطت من عليائها إلى منفاي الموحش، «ألكي يتهموك ظلما مثلما اتهموني؟!»
ردت السيدة: «كيف أتخلى عنك يا ولدي؟ وكيف لا أقاسمك عناءك الذي تحملته بسببي وبسبب كراهية الناس لاسمي؟ أتحسبني أخشى الاتهام أو أرتعد فرقا كما لو كان جديدا علي؟ وهل هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الحكمة للخطر وتتهددها قوى الشر؟ فقديما أيضا، قبل عهد خادمي أفلاطون، كم خضت في معارك كبيرة ضد قوى الغباء الطائشة، ثم في حياة أفلاطون انتصر أستاذه سقراط على الموت الظالم بوقوفي إلى جانبه، وبعدها بذلت جموع الأبيقوريين
1
والرواقيين
2
وغيرهم كل ما بوسعهم لكي يقبضوا على ميراث الحكمة الذي تركه لهم، حاول كل منهم أن ينتزعني بالقوة كجزء من غنيمته، ولكني كافحت وقاومت، وخلال ذلك تمزق ردائي الذي نسجته بيدي، لقد انتزعوا نتفا من الرداء وذهبوا يباهون بأنهم استحوذوا على الفلسفة كلها، وإذ احتفظوا بمزق من ثيابي فقد أسبغ عليهم ذلك شهرة بين الجهال بأنهم أهلي وذوي، ومن ثم فإن كثيرا منهم قد أضلته جهالة الجموع الحمقى.
3
وحتى إذا كنت لم تسمع بقصص الفلاسفة الأجانب (أي من غير الرومان): كيف نفي أنكساجوراس
Anaxagoras
4
من أثينا، وكيف أعدم سقراط
Socrates
بالسم، وكيف عذب زينون
Zeno
5
فما أظنك تجهل (قصص فلاسفة الرومان) كانيوس
Canius
6
وسينيكا
Seneca
7
وسورانوس
Soranus
8
وذكراهم ما تزال جديدة مدوية، فما أودى بهم سوى أنهم إذ نشئوا على تعاليمي فقد بدوا ناشزين عن أخلاقيات الطغام مستخفين بها، لا عجب أن تتقاذفنا العواصف الهوج في بحر الحياة هذا ما دام همنا الأكبر هو أن نغضب الأشرار، ورغم كثرتهم العددية الهائلة فإن بوسعنا أن نزدريهم؛ لأنهم لا هادي لهم، إنما يحدوهم الجهل فيخبطون خبط عشواء، فإذا عن لهم أن يجدوا في حملتهم علينا فإن قائدنا، العقل، يسحب قواته إلى قلعته تاركا هؤلاء منشغلين بجمع أتفه الغنائم، هنالك يمكننا أن نطل عليهم من أعلى حصننا المنيع، سالمين من غارتهم ضاحكين من حماقتهم.»
9
الفصل الرابع
مكائد السياسة
من وطن نفسه على الحياة الهادئة مصطلحا مع قدره،
ووضع الموت المتغطرس تحت قدميه؛
فإن بوسعه أن ينظر إلى حدثان الدهر في وجهه،
وألا يؤخذ بنعيمه ولا بؤسه،
رابط الجأش لا يزعزعه غضب البحر،
يمخض أمواجا من عمق أعماقه،
ولا يزلزله أتون بركان فيزوفيوس الهائج
يتفجر بالحمم ويقذف باللهب،
ولا تروعه الصواعق الحارقة تنطلق فتدمر الأبراج السامقة.
لماذا إذن ينخذل كثير من البؤساء أمام غضب الطغاة العجزة؟
لو أنكم تخلصون أنفسكم أولا من الأمل والخوف؛
تكونون قد أمنتم غضب الطاغية.
أما الذي يرتجف خوفا أو أملا،
ويفقد الثبات والسيطرة؛
فإنه يكون قد ألقى عنه درعه، واقتلع من مكانه،
وأوثق بنفسه الأغلال التي سوف يزج بها.
سألتني: «هل تعي ما أقول؟ هل تنفذ كلماتي إلى عقلك؟ أو تراني أصرخ في واد؟
1
لماذا تبكي؟ ولماذا تفيض عيناك؟ يقول هومر: «أفض بدخيلتك ولا تكتمها في نفسك.» إذا كنت تبتغي عون الطبيب فلا بد من أن تكشف عن الجرح.»
فاستجمعت قواي وأجبت: ألا ترين أن لسان حالي يغني عن مقالي، وينطق بقسوة القضاء الذي نزل بي؟ ألا يؤثر فيك مجرد النظر إلى هذا المكان؟ أين منه مكتبتي التي اتخذتها لنفسك في بيتي مستراحا وموئلا، تلازمينني فيها وتشرحين لي جميع أمور الفلسفة، الإنسانية والإلهية، أكان هذا هو حالي يوم كنت أبحث معك أسرار الطبيعة، وتعلمينني مسارات النجوم وترسمينها لي بعصاك، وتصوغين أخلاقي وحياتي كلها على مثال النظام السماوي؟ أهذا جزاء امتثالي لك؟ ألست أنت من أسس هذا الرأي على لسان أفلاطون: إن الدول السعيدة هي التي يحكمها الفلاسفة،
2
أو التي يدرس حكامها الفلسفة؟ وأشرت على لسان الرجل العظيم نفسه بأن هذا سبب يلزم الحكماء بمزاولة السياسة؛ حتى لا تترك دفة الحكم لأيدي الأشرار والمجرمين فيلحقون الدمار والخراب بالمواطنين الصالحين؟
وعلى هذا الأساس قررت أن أطبق في السياسة العامة ما تعلمته منك في خلوة الدرس. تشهدين أنت ويشهد الله الذي غرسك في عقول الحكماء أنه ما دفعني إلى تقلد أي منصب سوى حرصي على الصالح العام. وهكذا نشبت النزاعات المستحكمة بيني وبين الأشرار، وأثار علي حبي للعدل سخط الحكام، ولم أبال بسخطهم لعلمي أنني أرضيت ضميري الحر، كم وقفت في وجه كونيجاست
Conigast
3
وهو يهم بأن يغتصب مال مستضعف، وردعت تريجويلا
Triguilla ، مراقب القصر، عن ظلم أتاه أو كاد يأتيه، وكم تدخلت بسلطتي لأحمي المعذبين حين يلاحقهم ما لا يحصى من التهم الباطلة من جانب البرابرة الجشعين الذين لا محاسب لهم ولا رادع.
لم أمل قط عن العدل إلى الظلم تحت أي ضغط، لم يكن ألمي أقل من ألم الفلاحين أنفسهم حين أرى أملاكهم تنهب والضرائب تثقل كاهلهم، وحين حلت ذات يوم مجاعة شديدة وفرض على الفلاحين بإقليم كامبانيا بيعت محاصيلهم، بالظلم والاعتساف، بيعا يبخسهم حقهم ويسحق إقليمهم فقرا؛ فقد تصديت يومئذ للقاضي الروماني من أجل الصالح العام، وعلى الرغم من أن الملك كان على علم بما أفعله فقد نجحت في إيقاف البيع.
وباولينوس
، القنصل السابق، الذي كان كلاب البلاط قد التهموا ممتلكاته بطمعهم وجشعهم، فانتزعته من بين فكوكهم. وقنصل سابق آخر، ألبينوس
Albinus ، خلصته من عقاب كان ينتظره لتهمة ملفقة، وعرضت نفسي في ذلك لكراهية المدعي العام كيبريانوي
Cyprian
ألا ترين أنني قد جلبت على نفسي كثيرا من العداوات والضغائن؟ غير أني كنت جديرا بحماية الباقين الذين ساعدتهم، فأنا لم أدخر وسعا في خدمة رجال البلاط بدافع حبي للعدل، ومن ثم كنت حقيقا بدعم أكبر من جانبهم.
أوتدرين من هم الوشاة الذين قضوا علي؟ أحدهم هو باسيليوس
Basilius
الذي طرد يوما من خدمة الملك، ودفعته الديون إلى أن يشي بي، أما أوبيليو
Opilio
وجاودينتيوس
Gaudentius
فقد حكم الملك عليهما بالنفي بسبب جرائمهما العديدة، فلجآ إلى المعابد، وعندما علم الملك بذلك أعلن أنهما إذا لم يغادرا المدينة إلى رافينا
Ravenna
في الموعد المحدد فسوف يطردان منها بعد أن يوسما بميسم العار على جبهتيهما، وليس ثمة من عقاب أنكى من ذلك، غير أنهما في ذلك اليوم نفسه وشيا بي واتهماني وقبل اتهامهما، تراني كنت أستحق هذه المعاملة؟ أو هل هذه الإدانة المبيتة لي تجعل من اتهموني على حق؟ ألا يستخزي القدر، إن لم يكن من الافتراء على البراءة فعلى الأقل من دناءة المفترين؟
أوتدرين ما هي خلاصة التهمة الموجهة إلي؟ لقد اتهموني بمحاولة حماية مجلس الشيوخ ، أتعلمين كيف؟ قالوا إنني حلت بين المدعي وبين تقديم أسانيد تثبت خيانة المجلس، فما ظنك يا سيدتي؟ هل علي أن أنكر التهمة حتى لا أكون عارا عليك؟ لكني حقا كنت أرغب في حماية المجلس وما أزال، هل علي أن أعترف؟ ولكن محاولتي منع المدعي لم تستمر، أهو جرم أنني رغبت في سلامة المجلس؟ لقد جعلوه جرما على كل حال بحكمهم علي. الطيش قد يخدع نفسه ولكنه لا يمكن أن يغير القيمة الحقيقية للأشياء، وما كان لي أن أتنكر لمبدأ سقراط فأخفي الحقيقة وأصدق على الكذب، غير أني أترك لك وللحكماء تقييم هذه الأحداث التي حرصت على تدوينها للتاريخ، حتى لا تفوت الأجيال القادمة معرفة التسلسل الحقيقي للأحداث.
4
أما عن الرسائل المزورة التي نسبوها إلي واتخذوها دليلا على أني أملت في تحرير روما فماذا أقول بشأنها؟! لقد كان بوسعي إظهار تزييفها للملأ لو كان أتيح لي تفنيد أدلة الوشاة أنفسهم؛ لأن اعترافهم إذاك يكون سيد الأدلة، ولكن لا حيلة لي الآن في ذلك، آه لو كانت لي، لقد كنت إذن قمينا أن أرد كما رد كانيوس
Canius
على الإمبراطور كاليجولا
Caligula
عندما اتهمه بالتستر على مؤامرة ضده: «لو كنت أدري بها لما دريت أنت.»
لم يذهب بي الحزن في كل ذلك بحيث أبتئس لهجمات الأشرار الآثمة ضد الأخيار، غير أني أعجب لكونهم يحققون ما يأملون؛ فالرغبات الشريرة قد تكون جزءا من الضعف البشري، أما أن يتاح لكل شرير أن ينال غرضه من البريء على مرأى من الله ومسمع فهذا ما يبدو لي بشعا كل البشاعة، لعل هذا ما حدا بواحد من أتباعك لأن يسأل: «إذا كان الله موجودا فمن أين يأتي الشر؟ وإذا لم يكن هناك إله فمن أين يأتي الخير؟!»
5
ولقد كان يهون الأمر لو أن الأشرار المتعطشين لدماء كل الخيرين وكل المجلس قد أرادوا لي الموت أيضا عندما رأوني أنافح عن الخير وعن المجلس، أما أن يشترك أعضاء المجلس أنفسهم في الفعلة نفسها فذلك ما لم أكن أستحقه على الإطلاق.
ولعلك تذكرين ما حدث في فيرونا، فقد كنت دائما حاضرة ترشدينني في أقوالي وأفعالي، عندما أراد الملك، الراغب في القضاء على المجلس برمته، أن يمد تهمة الخيانة الموجهة إلى ألبينوس لتشمل أعضاء المجلس جميعا وهم منها براء، تذكرين كيف دافعت عنهم مستهينا بأي خطر شخصي، وتعرفين أنني أقول الصدق ولا أتباهى بأي فضيلة لي، ذلك أنه بقدر ما يتلقى امرؤ من الصيت كأجر على مكرمة أتاها ... يفقد الضمير المنغمس في الرضا الذاتي شيئا من فضيلته الخفية.
6
وها أنت ترين أي منقلب حاق ببراءتي: فبدلا من أن أثاب على الفضيلة الحقيقية أعاقب على جريمة لم أقترفها، فهل وجد قط أي اعتراف صريح بأي فعلة مثل هذا الإجماع على أقسى العقوبة فلا يخفف منها النظر إلى الضعف البشري أو إلى تقلب مقادير بني الفناء؟ فحتى لو أنني اتهمت بإحراق المعابد المقدسة أو قتل الكهنة بسيف أثيم أو بتدبير مذبحة لأهل الخير قاطبة، لقد كنت حقيقا على الأقل بأن أمثل للمحاكمة فأعترف أو أدان قبل أن أعاقب، ولكن ها أنا أبعد خمسمائة ميل لا أملك قولا أو دفاعا، وقد حكم علي لجريمة لا تستحق أن يدان عليها أحد!
وحتى أولئك الذين أبلغوا عني لم يخف عليهم ما تتحلى به هذه الفعلة من شرف فسعوا إلى تلطيخها بتهمة أخرى، فادعوا، زورا وبهتانا، أنني اختنت ضميري ولجأت إلى وسائل غير شريفة طمعا في منصب، ولكنك، أيتها المقيمة في عقر الروح، قد طردت من قلبي كل مطمع في حطام الدنيا، بل لم تتركي فيه مكانا لمطمع، وما زلت تهمسين في مسامعي كل يوم بذلك المبدأ الفيثاغوري «اتبع طريق الله.» وما كان لي أن أستعين بأحط النفوس وقد سموت بي إلى أعلى المدارج لأكون على صورة الله.
ثم إن حياتي الأسرية التي لا تشوبها شائبة، وصلاتي بأرفع الأصدقاء قدرا، إلى جانب مصاهرتي لسيماخوس
Symmachus
التقي الورع الذي يضارعك وقارا، كل أولئك جدير بأن ينأى بي عن أي شبهة في مثل هذه الجريمة.
والأدهى من ذلك أنهم يدعون أنك أنت التي دفعتني إلى الإثم، من حيث إنني متشرب بتعاليمك متمرس بأخلاقياتك، وهو عندهم دليل على أنني قد اقترفت ما اقترقت! فلم يكف إذن أن توقيري لك لم يعد علي بنفع، بل إنك أنت نفسك صرت محط الكراهية عوضا عني، وفوق كل ذلك فقد أنقض ظهري ثقل آخر هو أن الناس لا تحكم على الأفعال وفقا لمناقبها الخاصة بل وفقا لما ينتج عنها بالمصادفة، فيكون الفعل في نظرهم حصيفا ما دام الحظ حليفه، أما من لم يحالفه الحظ فلا نصيب له من رضا الناس.
وإنه لمن المضجر أن أتذكر ما يدور بين الناس من شائعات وما يتناجون به من آراء شديدة التباين والاختلاف، وبحسبي أن أقول إن هذا هو العبء الأخير الذي يلقيه القدر القاسي على كاهلنا: فحيثما ألصقت تهمة بتعساء الحظ ظن الناس أنهم كانوا يستحقون كل ما ينزل بهم، وهكذا كان العقاب جزاء إحساني، فجردت من أملاكي ومن مناصبي وشوهت سمعتي إلى الأبد.
لكأني أرى الآن أوكار المجرمين الآثمين تضج بالفرح والابتهاج، وأرى أشد الناس يأسا وخذلانا يستهدف لمزيد من التهم الباطلة، لكأني أرى الصالحين من الناس يرزحون خوفا مما يتهددهم بعد الذي حاق بي، بينما يجترئ كل الأوغاد الخاسئين على التهتك والانفلات وهم بمأمن من العقاب، بل وهم طامعون في المثوبة على ما جنت أيديهم، لكأني أرى الطاهرين قد حرموا من الأمن والسلام، بل حرموا حتى من كل فرصة للدفاع عن أنفسهم.
الفصل الخامس
اضطرابه الانفعالي1
يا خالق السموات المرصعة بالنجوم
أيها الجالس على عرشك الأبدي،
تدير السماء دورانا رشيقا،
وتعنو الأنجم لسنتك،
بأمرك يسطع القمر تارة بدرا متكملا،
إذ يستقبل ضوء أخيه.
2
فتخبو له الأنجم الضئيلة
وطورا يحول محاقا،
ويفقد كل ضيائه المستعار
وأنت تحدو نجم المساء
باردا جليا في الهزيع الأول من الليل،
ثم يبدل أعنته ويكون نجم الصباح
ثم يشحب أمام ضياء الشمس الجديدة،
عندما يجرد الشتاء البارد الأشجار من أوراقها
فأنت تقصر أمد النهار،
وحين يقبل الصيف بلهيبه
تمنح الليل الساعات الأسرع،
بقدرتك تنظم مواسم العام،
فالأوراق التي انتزعها ريح الشمال في الشتاء
يردها النسيم الغربي في الربيع،
والبذور التي رعاها الشتاء
تنضجها حرارة الصيف غلالا يانعة،
وما من شيء إلا يلبي شرعتك الأزلية،
ويؤدي مهمته بانضباط
كل شيء أنت تحكمه بضوابط صارمة
إلا أفعال البشر،
فقد استنكفت، كمهيمن، أن تقيدها بقيود،
وإلا فلماذا يتقلب القضاء بهذا العنف ويغير الأحوال بهذا النحو؟
فإذا بالعقاب المؤلم الحقيق بالمجرمين يهوي على رءوس الأبرياء
الآثمون يتربعون على العروش العالية،
ويدوسون، يا للوضع المقلوب! على رقاب الصالحين
الفضيلة الوضاءة تتوارى في الظلال المعتمة،
العادل يحمل وزر الظالم
العقاب لا يطال الحانثين باليمين المزينين الكذب بزخرف القول،
الذين يستخدمون هذه المهارة كلما دعتهم نزوتهم،
ويزدهيهم أنهم يخضعون لها الملوك أولي البأس
الذين يبسطون سلطانهم ويفرضون هيبتهم على جحافل البشر،
أنت يا من تمسك بزمام كل شيء
انظر من فوق إلى بؤس الأرض،
فالبشر ليسوا جزءا هينا من هذا العمل العظيم،
البشر تتقاذفهم أمواج القضاء،
أوقف، أيها الهادي، الطوفان الجارف،
ومثلما توثق السماء اللانهائية بوثاق يحكمها
أوثق أصقاع الأرض وثبتها بوثاق مثله.
بينما كنت أنفث هذه الحسرات الطويلة، بقيت الفلسفة هادئة لم يطرف لها جفن ولم تتأثر بشكواي، ولما انتهيت نظرت إلي بهدوء وقالت: «عندما رأيتك حزينا دامعا أنبأني لسان حالك أنك معذب منفي، ولكن ما كان لي أن أعلم كم لك في المنفى لولا أن كشفت لي ذلك في ثنايا قولك، غير أنك في حقيقة الأمر لم تنف بعيدا عن وطنك، بل أنت الذي ضللت بعيدا عنه بنفسك! أو إن شئت أن تعد نفسك منفيا فأنت الذي نفيت نفسك! فلا أحد غيرك على الإطلاق يمكنه أن يكون قد فعل ذلك، ذلك أنك لو تذكر وطنك الحقيقي الذي جئت منه فإنه ليس محكوما بالأغلبية مثل أثينا القديمة، بل إنه، على حد قول هوميروس، «واحد سيده، واحد ملكه»، واحد يروقه أن يكثر رعاياه لا أن ينفوا، واحد ... أن تعنو لعنانه وتذعن لسلطانه وتنحني لعدالته هو أعلى مراتب الحرية.
يبدو أنك نسيت القانون الأقدم لبلدك: إنه حق مقدس لكل فرد اختار الإقامة فيه ألا ينفى منه أبدا ، ومن ثم فلا وجه للخوف من النفي داخل أسواره وحماه، ولكن أيما فرد يرغب عن العيش فيه يكون بنفس الدرجة قد فقد استحقاقه أن يكون هناك؛ لذا فإن هذا المكان لا يزعجني بقدر ما يزعجني منظرك، ولا ما أبحث عنه هو جدران مكتبتك المزينة بالزجاج والعاج، بل أبحث عن كرسي عقلك! ذلك هو المكان الذي أودعت فيه يوما، لا كتبي، بل الشيء الذي يجعل للكتب قيمة ... الفلسفة التي تحتويها الكتب، الأفكار التي تكنزها.
أما ما ذكرته عن خدماتك للصالح العام فما أقله بالقياس إلى ما قدمته حقا من جلائل الأعمال، وأما حديثك عن التهم المنسوبة إليك، سواء عن حق أو عن باطل، فقد سجلت فيه ما هو معروف جيدا، وأما عن جرائم الوشاة وأكاذيبهم الدنيئة فقد أصبت إذ مررت عليها في عجالة ما دامت تتردد على أفواه العامة أكثر إسهابا وتفصيلا، ولقد انتقدت بعنف وقوة جحود المجلس وظلمه، وتحدثت بأسى عن التهم التي طالت شخصي وذرفت الدموع للتشويه الذي نال سمعتي، وأخيرا صببت جام غضبك على القدر وشكوت مر الشكوى من أنه لا يقدم الجزاء العادل بقدر الاستحقاق، وفي شعرك الختامي الغاضب دعوت مع ربات الشعر أن يكون السلام الذي يحكم السماء حاكما على الأرض أيضا.
ولكن ما دمت الآن مضطربا تعصف بك شتى الانفعالات، من حزن وغضب وكرب، وتذهب بك كل مذهب، فليس الآن وقت العلاجات القوية، بل دعني أستخدم أدوية ألطف في البداية، كأني ألين بها ما تورم وصلب من أثر هذه الانفعالات المزعجة فتؤهله لتلقي الدواء الأشد قوة.»
الفصل السادس
التشخيص
إذا ما أهل برج السرطان يسفع الحقول
بأشعة الشمس القاسية،
فإن من يبذر قمحه آنذاك في الحقول العقيمة،
ستخونه إلهة الحصاد وتخلف وعدها له،
وسيلجأ إلى ثمار البلوط ليأكل،
عندما يروع الحقل برياح الشمال القارسة
لا تقصد بساط الغابة القاتم لتجمع البنفسج،
ولا تنشد بيد متلهفة أن تقطف أعنابك في مايو
إذا شئت أن تنعم بمذاق العنب،
فإنما يهب باكخوس (ديونيسوس) عطاياه في مقتبل الخريف،
فلقد حدد الله المواسم
وهيأ لكل موسم عمله الخاص،
ولا تملك قوة أن تفسد النظام الذي قدره
وهكذا؛ لأن طريق العصيان والعسف يحيد عن الصراط السوي،
فإن مآله الفشل والوبال. «إذن دعني أولا أتفحص حالتك النفسية وأختبرها ببضعة أسئلة بسيطة؛ لعلي بذلك أقف على أفضل طريقة لعلاجك.»
فأجبتها: «سلي ما شئت، وسوف أجيب.»
قالت: «هل ترى أن هذا العالم تسيره المصادفة والأحداث العشوائية، أو تعتقد أنه ينطوي على مبدأ عقلي ما؟»
قلت: «حاشاي أن أعتقد أن أحداثا على هذا الاطراد المنتظم يمكن أن تكون وليدة المصادفة والاتفاق، إنما أؤمن أن الله الخالق يسهر على خلقه، ولا أراني أحيد يوما عن هذا الاعتقاد ما حييت.»
قالت: «هذا حق، بل هو بعينه ما كنت تشدو به للتو عندما كنت تتحسر على أن بني البشر وحدهم من لا تشملهم عناية الإله، إن اعتقادك لراسخ بأن كل شيء آخر محكوم بالعقل، وإنني لأعجب كيف يصيبك المرض مع هذا الرأي السليم، ولكن دعني أمضي بالفحص إلى ما هو أعمق، إنني ليغلبني حس بأن ثمة شيئا مفقودا بشكل ما، قل لي إذن: ما دمت لا تشك البتة في أن الله يحكم العالم، فما هي، في رأيك، المبادئ التي يسير بها العالم؟»
قلت: «لا يسعني أن أجيب عن سؤالك لأنني لا أتبين معناه.»
قالت: «لقد صدق ظني إذن أن هناك شيئا مفقودا، أن ثمة ثلما في درعك نفذ منه هذا المرض المخبل إلى روحك، أخبرني إذن هل تذكر ما هي غاية الأشياء جميعا، وما الهدف الذي تتجه إليه الطبيعة بأسرها؟»
قلت: «كنت أعرفها جيدا، ولكن ذاكرتي كليلة من الحزن.»
ف : «ولكن ألا تعرف من أين أتت الأشياء جميعا؟»
ب : «بلى، من الله.»
ف : «فهل يجوز أن تعرف الأصل وتجهل الغاية؟ على أن هذه الاضطرابات إن قويت على تشتيت المرء بتغيير موقعه فإنها لا تقوى على أن تنتزعه كليا من نفسه وتقتلعه من جذوره ، ولكن أود أيضا أن تجيبني عن سؤال آخر: هل تذكر أنك إنسان؟»
ب : «ولم لا أذكر؟!»
ف : «أيمكنك إذن أن تنبئني ما هو الإنسان؟»
ب : «أتقصدين الحيوان العاقل أو الأخلاقي؟ أعرف بالتأكيد، وأقر أنني لكذلك.»
ف : «أواثق أنت أنك لست أكثر من ذلك؟»
ب : «واثق تماما.»
ف : «الآن عرفت سبب مرضك، أو السبب الرئيس لمرضك، لقد نسيت ما أنت؛ لذا فقد وقفت على مرضك من كل جوانبه، وعلى المدخل إلى استرداد صحتك، فلأنك سادر في نسيانك فقد رحت تتحسر أيضا على أنك منفي ومجرد من ممتلكاتك، ولأنك لم تعد تعرف ما هي بالضبط غاية الأشياء، فقد حسبت أن التافهين والمجرمين أقوياء وسعداء، ولأنك نسيت ما هي الطرائق التي تسير العالم فقد ظننت أن ضربات الحظ تتخبط هنا وهناك بغير ضابط، تلك أشياء لا تفضي إلى المرض وحده، بل إلى الموت أيضا.
ولكن من لطف الله أنك لم تهجرك طبيعتك كلها، فما تزال لدينا الشرارة الكبرى لشفائك، وهي رأيك الصائب عن إدارة الكون، فأنت تؤمن أن الكون لا تحكمه المصادفة العشواء بل العقل الإلهي، إذن لا تخش شيئا، فمن هذه الشرارة الضئيلة سوف ينبثق فيك وهج الحياة.
ولكن لأن وقت الدواء الأقوى لم يحن بعد، ولأن من طبيعة العقل أنه مقابل كل فكرة صحيحة يفقدها يكتسب فكرة زائفة تنفث ضباب الوهم ليغشي على بصيرته الصحيحة، فسوف أحاول أن أبدد هذا الضباب شيئا فشيئا باستخدام علاجات خفيفة ومتوسطة القوة، فإذا ما تبدد ظلام الانفعالات المضللة سيكون بوسعك إذاك أن تبصر ألق الحقيقة.»
الفصل السابع
النجوم المغيبة في الغيوم
النجوم المغيبة في الغيوم السوداء
لا يمكن أن تريق نورا،
حين تهيج ريح الشمال العاصفة أمواج البحر،
فإن سطحه الذي كان للتو ساجيا رائقا كالبللور
يتعكر ويغيم، فلا ينفذ فيه البصر،
والمجرى الذي يحيد،
ويساقط من أعالي الجبل،
كثيرا ما يتعثر في صخرة تعترضه
اقتطعت من جلاميد الجبل نفسه،
وأنت أيضا، إذا شئت أن ترى الحقيقة
في ضياء صاف،
فسر على المحجة
الطريق المطروق ،
واطرد الفرح
واطرد الخوف
واطرد الأمل،
واطرد الحزن
فالعقل يتعكر،
ويرسف في الأغلال
إذا بسطت هذه الضلالات سلطانها.
الكتاب الثاني
الحظ والسعادة
فهل حاروا مع الأقدار أو هم حيروا القدرا؟!
العقاد
الفصل الأول
الطبيعة المتقلبة للحظ
بعد ذلك لزمت الصمت لحظة، فاستوقفني ترفق صمتها نفسه والتفت إليها، هنالك أنشأت تقول: إذا صح تشخيصي لعلة مرضك وطبيعته فأنت متحرق إلى حظك الماضي، ويناجيك خيالك بأن هذا التغيير قد أوقع الكثير من الاضطراب في روحك وعقلك، إنني أعرف الأقنعة العديدة التي يتنكر بها هذا المسخ - الحظ - وأعرف كم يغوي بالصحبة الأشخاص أنفسهم الذين يسعى إلى خداعهم، ثم يتخلى عنهم ويتركهم في حزن غامر، ولو تذكرت طبعه وطرائقه ومزاياه لتبينت أنك لم تفد منه ولم تخسر بفقدانه شيئا ذا بال، ولكني لست بحاجة إلى تذكيرك بهذا، فلطالما هاجمته، عندما كان يحالفك ويداهنك، بكلمات قوية جريئة، وطالما فندته بعبارات اقتبستها من حرمي المقدس، على أن كل تغيير مفاجئ في الظروف لا بد من أن يوقع في النفس شيئا من الاضطراب، هذا ما أخرجك أنت أيضا عن طورك بعض حين وسلب منك السكينة.
لقد آن لك إذن أن تأخذ جرعة خفيفة سائغة تشيع في داخلك وتمهد الطريق بعد لجرعات أنجع، جرب إذن الأثر المهدئ للبلاغة المعسولة التي تمضي في طريقها الصحيح ما لم تحد عن مبادئي، ودعنا نصغي إلى الموسيقى، خادمة داري، ترن في أوزان خفيفة أو ثقيلة وفق طلبي.
ما الذي رمى بك، أيهذا الإنسان الفاني، في مستنقع الحزن والقنوط؟ لعلك قد أخذت على غرة، ولكنك تخطئ إن ظننت أن الحظ قد أدار لك ظهره، فالتغير هو طبيعة الحظ ودأبه وديدنه، وهو في تقلبه نفسه إزاءك إنما كان حافظا لعهده وثابتا على مبدئه! وهو ذات العهد وعين المبدأ الذي كان به من قبل يتملقك ويغويك بسعادة زائفة.
1
لقد تبينت الوجه المتقلب لهذا الإله الأعمى، إنه ما زال يخفي شخصه عن سواك بينما تكشف لك أنت بتمامه، فإذا كنت مقتنعا بطرائقه فإن عليك أن تقبلها ولا تشكو، وإذا راعتك خيانته فاهجره وأقلع عن ألعابه الخطرة، فإن ما يسبب الآن لك الأسى والحزن كان خليقا بأن يجلب لك السلام، فلقد تخلى عنك من لا يأمن له أحد ولا يثق ببقائه إلى جانبه على الدوام، أم هل تقدر ذلك الصنف من السعادة المحتومة الزوال؟ هل يعز عليك حظ تعلم أن بقاءه موضع شك وأن زواله يورث الحزن؟ فإذا كان المرء لا يملك التحكم في الحظ وفق إرادته، وإذا كان زواله يترك وراءه البؤس، فماذا عساه أن يكون هذا الشيء الرواغ سوى نذير بشؤم قادم؟ إن العاقل لا يقنع بالنظر إلى ما هو أمام عينيه، فالحصافة تقدر عواقب الأشياء، والعبرة بالخواتيم، إن تقلب الأحوال نفسها بين عسر ويسر ليجرد الحظ من سلاحه، فلا تعود تهديداته تخيف ولا ابتساماته تغري.
وأخيرا، فما دمت قد انحنيت للحظ ووضعت عنقك تحت نيره، فإن عليك أن تتحمل، بجأش ثابت، كل ما يحدث في ملعب الحظ، وإذا كنت اخترت الحظ بملء حريتك ليكون سيدا لك مسيرا لحياتك، فمن الخطل بعد ذلك أن تملي عليه قاعدة تحكم مجيئه وذهابه، وإن لهفتك نفسها سوف تزيد مرارة أي نصيب لك لا تملك تبديله.
إنك إذا أسلمت شراعك للريح فستدفع بقاربك إلى حيث تشاء هي لا إلى حيث تشاء أنت، وإذا أنت أودعت بذورك الأرض فسوف توازن ما بين سنوات الرخاء وسنوات القحط، وما دمت الآن قد أسلمت نفسك للحظ فعليك أن تخضع لأحكامه، أتريد حقا أن توقف دولاب الحظ عن الدوران؟ ألا تعلم، يا أشد الفانين حمقا، أن الحظ إذا بدأ في التوقف لا يعود حظا؟!
بيد مسيطرة يدير الحظ دولاب التقلبات،
2
مثل أمواج كاسحة في خليج غادر تجيش جيئة وذهابا،
ويطيح الآن بملوك مرهوبي الجانب،
وما يزال مخادعا وهو يرفع الأذلاء
إنه لا يصغي إلى المعذبين ولا يكترث للباكين؛
بل يقهقه بقلب متحجر، ساخرا من الأنين الذي ابتعثه
تلك لعبته، وهكذا يختبر قواه،
ويكون قد استعرض بأسه إذا رأى إنسانا،
في ذات اللحظة
يرفع به إلى السعادة،
ويطوح به في الشقاء.
الفصل الثاني
الحظ يدافع عن نفسه
والآن أود أن أحاجك قليلا بكلام الحظ نفسه، وأن تنظر فيما إذا كان على حق:
أيها الإنسان، لماذا تكيل لي التهم وتلاحقني كل يوم بشكاواك المتصلة؟ أي ظلم ألحقته بك؟ أية ثروة سلبتها منك؟ هات أي قاض يروقك ونازعني أمامه حول ملكية الثروة والمنصب، وإذا أمكنك أن تثبت أن أي شيء من ذلك يخص أي بشر فان فلسوف أسلم عن طيب خاطر بأن ما تريد استرداده هو شيء كان ملكك حقا، عندما أتت بك الطبيعة من بطن أمك فقد تلقيتك عاريا من كل شيء، فرعيتك ووهبتك من هباتي، ومننت عليك بخيري وربيتك، وهذا ما يجعلك الآن تضيق ذرعا بي، ولقد غمرتك بكل الثراء والمجد الذي كان عندي وتحت تصرفي، والآن يحلو لي أن أكف يدي، كن شاكرا كأنك قد عشت مما أقرضتك، وإذا استعدت منك ما استعرته مني فبأي حق تشكو من ضياع شيء لم تكن تملكه؟ لماذا تتظلم إذن؟ أنا لم أتعد عليك، إن الثروة والجاه وكل تلك الأشياء هي من حقوقي ومن سلطتي، إنها خدمي والخدم تعرف سيدها، إذا أتيت تأتي معي وإذا ذهبت تذهب، وإنني لأعلنها واضحة: لو كانت هذه الأشياء التي تتظلم لفقدانها هي ملكك حقا لما كنت تفقدها أبدا، أم تراني أنا وحدي من يبخس حقه ويحرم من ممارسة سلطته المشروعة؟ لقد حق للسماء أن تأتي بالضياء الساطع بالنهار وأن تحجبه بالليل، وقد حق للعام أن يزين وجه الأرض حينا بالزهر والثمر ويلبده بالغيم والصقيع حينا آخر، ومن حق البحر أن يهدأ ويروق تارة ويروع بالعواصف واللجج تارة أخرى، أيريد الطمع البشري الدائم أن يكرهني على ثبات ليس في طبعي؟ إن التغير هو جوهري ولبابي، في التغير تكمن قوتي الحقيقية ولعبتي الدائمة: إنني أدير عجلتي دورانا متصلا، ويلذ لي أن أدفع الأسفل إلى الذروة والأعلى إلى القاع، فاصعد معها إن شئت ولكن لا تلعنها إذا اقتضتك أحكام اللعبة أن تهبط، أفأنت تجهل طباعي ؟ ألم تسمع عن كرويسوس
Croesus
ملك ليديا
Lydia
الذي أرهب يوما عدوه كيروس (قورش)
Cyrus ، ثم ما لبث أن نكب وحكم عليه بالموت حرقا، فأنقذته السماء بوابل من المطر؟
1
لا بد أنك سمعت عن إيميليوس باولوس
Aemilius Paulus
وكيف ذرف دموع الحسرة على البلايا التي حاقت بسجينه بيرسيس
آخر ملوك مقدونيا،
2
وما الذي تندبه التراجيديات بصخبها وعويلها، إن لم يكن هو القدر الذي يطيح بالممالك السعيدة بضرباته العشوائية؟ ألم تسمع في صباك ما رواه هوميروس من أن هناك وعاءين قائمين على عتبة زيوس، أحدهما مليء بالشر والآخر مليء بالخير؟ ولقد اغترفت من الخير أكثر من قسطك، ولكن هل تخليت عنك كل التخلي؟ إن تقلبي نفسه ليمنحك سببا وجيها لأن تأمل فيما هو أفضل؛ ولذا ينبغي ألا تضني روحك بأن تحملها على العيش وفقا لقانون من عندك، في عالم يشارك فيه الجميع.
لو راحت إلهة الوفرة بفيضها الغامر
3
تذر العطايا بيد سخية.
عدد الرمال يذرها البحر هيجته العواصف
أو عدد النجوم المنتثرة في حلكة الليل الرائق
ولم يغل يده
لما كف الجنس البشري شكاياته ونحيبه
ورغم أن الله يتقبل دعاءهم
ويغدق عليهم الذهب بيد مبسوطة
ويزين طمعهم بالأوسمة البراقة
فإن كل ما أعطاه يبدو عدما
فالجشع الضاري يبتلع ما طلبه
وما ينفك يفغر فمه طلبا للمزيد
أي لجام إذن وأية شكيمة
يمكن أن تكبح هذه الشهوة الجامحة وتضع لها حدا
بمجرد أن يطفئ مثل هذا السخاء
لهيب العطش إلى التملك والاكتناز
ألا لا تدعه غنيا ذاك الذي
ما يزال أبدا لاهثا متلهفا
وقد وقر في اعتقاده أنه محتاج.
الفصل الثالث
حظوظه السعيدة
«إذا قدم الحظ هذا الدفاع فما أظنك واجدا ردا عليه من جانبك، فإذا كانت لديك حجة بوسعك أن تقدمها لتؤيد دعواك فهات بها وكلي آذان صاغية.»
عندئذ قلت: «إن كل ما قلته معقول بالتأكيد ومسوغ بحلاوة البلاغة والموسيقى، غير أن كلماتك تروق المرء أثناء سماعها فحسب، إن للمعذبين مواجيد من بأسائهم غائرة، حتى إذا ما فرغت كلماتك ولم تعد ترن في الآذان عاد هذا الأسى المتأصل ليثقل القلب مرة أخرى.»
فأجابت: هو ذاك، فهذا ليس العلاج بعد، إنما هو نوع من التسكين لحزن شديد ما يزال يستعصي على العلاج، أما العلاجات التي تنفذ إلى العمق فسوف أستخدمها في الوقت الملائم.
ومع ذلك فما أحسبك على اقتناع بأنك من الأشقياء حقا، أم نسيت كم اصطفاك الحظ بعطاياه وآثرك بهباته؟ ألا يكفي أنك حين فقدت أباك تولتك رعاية أناس من أعلى الطبقات، وجعلت صهرا لأرفع عائلات المدينة؟ فقد كنت عزيزها قبل أن تكون صهرها، وذاك لعمري أغلى صنف من الروابط جميعا، من ذا الذي يشك في أنك أسعد الناس حظا فيما حباك الله به من زوجة نبيلة وأبناء نجباء؟ ناهيك بألوان المجد الذي بلغته وأنت شاب بعد، وحظيت منه بما لم يحظ به أغلب البشر في كل العصور، وبحسبي أن أذكر ما توجك به الحظ السعيد مما لم يتوج به أحدا سواك، ويكفي أن أذكرك بذلك اليوم المجيد الذي تتضاءل بجانبه كل نعم الدنيا، ولا تنال من بهائه كل ألوان الرزايا مهما ثقلت وتراكمت، وأعني ذلك اليوم الذي رأيت فيه ابنيك قنصلين في آن معا يزفان من دارك بين تهنئة القناصل وتهليل الجماهير، إذ جلسا على مقاعد المجد بينما تلقي أنت خطاب التهنئة إلى الملك، وتنتزع الإعجاب لبلاغتك ونبوغك، في اليوم نفسه جلست في المدرج
Circus
بين القنصلين، في عرض فخم يليق بقائد منتصر، تتلقى الحفاوة وتسعد الجماهير التي احتشدت حولك في شغف وترقب.
أرى أنك قد أغلظت القول لإلهة الحظ
Fortuna ، لقد طالما لاطفتك ودللتك كمعشوق لها، وغمرتك بما لم تغمر به أحدا من قبلك، هل لك أن تراجع حساباتها وتوازن بين ما أعطت وما أخذت؟ هذه هي المرة الأولى التي ترمقك فيها بالنظر الشزر، ولو أحصيت أوقات الشقاء، من حيث الكم والكيف، فلن يسعك أن تنكر أنك كنت امرءا سعيدا حتى الآن، أما إن كنت تنكر ذلك باعتبار زوال هنائك الذي مضى وفوات سعدك وانقضاء أسبابه، فليس لك أن تدعي رغم ذلك أنك الآن شقي بائس ؛ لأن نفس الأشياء التي تراها بؤسا هي أيضا أشياء عابرة ككل شيء آخر، هل أنت غريب عن الحياة وافد على مسرحها لأول مرة غير ملم بمشهدها وغير مدرك لأمرها؟ أتظن أن هناك أي دوام لأي حال من أحوال البشر، وأنت تعلم أن هناك لحظة مفردة وشيكة سوف تأتي على المرء وتمحوه محوا؟ فرغم أن حظوظ الحياة قلما تدوم لأحد، فإن اليوم الأخير من عمر المرء فيه نوع من الموت لإلهة الحظ حتى إذا لازمته وبقيت معه، أي فرق إذن بين أن تهجرها أنت بالموت وأن تهجرك هي بالفرار؟!
1
عندما تشرع الشمس بعربتها الوردية
في نشر ضيائها،
تكسف النجوم أمام ألقها الوهاج،
عندما ينسم ريح الغرب الدافئ
يكسو الرياض بورود الربيع الحمراء،
ثم لا تلبث ريح الشمال الملبدة أن تعصف،
فيذهب الجمال ولا يبقى منه غير الشوك
البحر يتألق تارة في هدوء
ساجي الموج رائقا،
وطورا تضربه ريح الشمال،
وتثير عليه الأعاصير الغاضبة،
إذا كان الكون نفسه متقلبا
لا يثبت على حال،
فكيف تضع ثقتك في عرض الدنيا،
ويقينك في النعيم الزائل،
مكتوب في القانون الأزلي
ما من شيء مخلوق له صفة الدوام.
الفصل الرابع
الحظ والسعادة
عندئذ أجبت: «حق كل ما تقولين، أنت حقا أم الفضائل جميعا، وما كان لي أن أنكر نجاحي وازدهاري السريع، غير أن هذا بعينه هو ما يزيد حرقتي كلما تذكرته، فبين صنوف البلايا جميعا ليس هناك أبلغ شقاء من أن يكون المرء قد سبق له أن عرف السعادة.»
1
فأجابت: غير أنك تشقى بسبب اعتقادك الخاطئ، وليس لك أن تلوم الأحداث على ذلك، وإذا كنت متأثرا حقا بهذا الاسم الفارغ لسعادة الحظ فإن بوسعك أن تحصي معي الآن عدد النعم الهائلة التي ما زلت تنعم بها، وما دمت تجد أنك ما زلت تملك من بين عطايا الحظ جميعا أغلاها عندك، وتجدها بفضل الله كما هي سالمة من أي أذى، فكيف تزعم أنك شقي تعيس بينما سلمت لك أفضل النعم؟ أولا، حموك سيماخوس ما زال سليما معافى ، إنه زينة الجنس البشري كله، وإنه رغم سلامته يبكي لما أصابك؛ لأن قيمتك لديه لم تهتز وحياتك لم تهن ... هذا الرجل الذي جبل من حكمة وفضيلة.
وزوجتك أيضا بخير، تلك السيدة التي لا تجارى في النبل والتواضع، ولكي أختصر خلائقها جميعا في كلمة واحدة، أقول إنها نسخة من والدها، قلت إنها حية ترزق، وإنها وقد عافت الحياة ما تزال تهفو إليك وحدك وتذرف عليك الدموع (ربما تكون هذه نقطة تنتقص من سعادتك).
وماذا أقول عن ابنيك القنصلين، إنهما ما يزالان، مثلما كانا منذ الصبا، يعكسان مثالك في الخلق ومثال جدهم، أنت رجل سعيد، إذن، إذا كنت تعرف أين تكمن سعادتك الحقة، فإذا كان هم أهل الفناء منصرفا إلى التمسك بالحياة، فإن بحوزتك الآن من الأنعم ما لا يشك أحد أنه أغلى من الحياة نفسها، جفف دموعك إذن، فالحظ لم يدر لك ظهره تماما، ولم يسلبك كل ثرواتك، والعاصفة التي ضربتك لم تكن قاصمة، وما تزال مراسيك ثابتة راسخة، تتيح لك راحة في الحاضر وأملا في المستقبل.
قلت: «وإنني لأدعو أن تبقى راسخة، ففي بقائها سيكون بوسعي أن أصمد للعاصفة وأتم رحلتي مهما كانت الظروف، ولكن انظري كم فقدت من أمجادي الماضية.»
قالت: ما دمت غير برم بنصيبك من كل النواحي فإننا نكون قد تقدمنا إلى الأمام شيئا ما، غير أني لا أحتمل ترددك وإغراقك في التحسر على ما فاتك من أسباب السعادة، فمن ذا الذي اكتمل حظه من السعادة فلم يدع له سببا للشكوى؟ إن هناء الإنسان هو بطبيعته أمر قلق محفوف بالاضطراب: فهو إما هناء غير مكتمل وإما هناء غير دائم، فتجد الغني بالمال مفتقرا إلى نبالة الأصل وكرم العنصر، وتجد الحسيب النسيب وقد أخمله العوز وضيق ذات اليد، وتجد من ينعم بالثراء والحسب يشقى لافتقاره إلى الزوج، وتجد السعيد في زواجه محروما من الأبناء يذخر أمواله لكي يرثها الأغراب، وتجد من رزق الأبناء شقيا بأعمالهم، ما من أحد يرضى بما قسم له الحظ، فلكل منا نصيبه المقدور من الألم الذي لا يعرفه إلا من كابده.
تذكر أيضا أن أولئك الأوفر حظا من السعادة يكونون مفرطي الحساسية: فمن حيث إنهم لم يوطنوا النفس على معايشة المحن تراهم، إذا لم يجر كل أمر وفق هواهم، يسقطون لأقل محنة وينهارون لأهون سبب، وبوسع أتفه المصاعب أن تحرمهم من أن يخبروا السعادة بملء القلب.
ترى كم من الناس يعد نفسه متقلبا في مثل نعيم الجنة لو أنه حظي بمعشار ما تبقى لك الآن من نعيم؟ هذا المكان نفسه الذي هو منفى بالنسبة لك هو وطن بالنسبة لقاطنيه، ليس شقاء إذن إلا ما تعده أنت كذلك،
2
والعكس أيضا: كل قدر هو قدر سعيد لو أنك تلقيته بثبات ورباطة جأش، لم يبلغ أحد قط من السعادة حدا لا يتمنى معه، إذا ما استسلم للقنوط، أن يغير حاله، ألا ما أشد المرارة التي تمتزج بحلاوة الحياة، فرغم أنها قد تبدو ممتعة لذائقها، فإنه لا يمكنه استبقاؤها إذا هي آذنت بالزوال، ألا ما أبأسها تلك السعادة التي تأتي من حطام الدنيا: فلا هي تدوم للعاقل ولا هي تقنع الأحمق.
لماذا إذن يا أهل الفناء تبحثون عن السعادة خارج أنفسكم وهي كامنة فيها؟ إن الضلال والجهل ليذهبان بكم كل مذهب.
دعني أوجز لك سر السعادة الخالصة: هل هناك ما هو أغلى عندك من نفسك؟ ستقول لا، إذن إذا كنت سيد نفسك فأنت تملك شيئا لا تود أن تفقده على الإطلاق، ولا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه، إن السعادة لا يمكن أن تعتمد على أشياء خاضعة للمصادفة، فإذا كانت السعادة هي الخير الأقصى للكائن الذي يعيش حياته بواسطة العقل، وكان الخير الأقصى شيئا لا يمكن أن يسلب من صاحبه على أي نحو (لأنه إن يسلب لكان ما لا يسلب خيرا منه)، ينتج من ذلك أن الحظ، بتقلبه وانعدام ثباته، لا يمكن، ولا يؤمل فيه، أن يؤدي إلى السعادة.
كما أن من تقوده مثل هذه السعادة الفاشلة هو إما يعرف تقلبها وإما لا يعرف، فإذا كان لا يعرف فأي سعادة يمكن أن تكون في عمى الجهل؟ وإذا كان يعرف فلا بد أنه في خوف من ضياع ما يعلم أنه عرضة للضياع، ولا بد أن هذا الخوف المتصل يحول بينه وبين السعادة، فإذا كان يرى أن احتمال ضياعها هو أمر غير ذي بال، فلا بد أن الخير الذي يتحمل المرء فقدانه بلا اكتراث هو خير ضئيل حقا.
وما دمت، كما أعلم، تؤمن إيمانا تاما، ببراهين لا حصر لها، أن روح الإنسان لا يمكن أن تفنى، وحيث إن من الواضح أن السعادة القائمة على الحظ تنتهي بموت الجسد، فقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أنه إذا كان الموت يذهب بالسعادة، فإن الجنس البشري بأسره يكون صائرا إلى الشقاء عند حد الموت، غير أننا نعرف أن كثيرا من الناس قد التمسوا بهجة السعادة الحقيقية من خلال الموت، بل من خلال العذاب والتضحية، يبدو إذن أن السعادة التي لا يشقى البشر بفقدانها لا يمكن أن تجعلهم سعداء بوجودها!
من يرد أن يشيد بيتا
لا تزعزعه الريح التي تزمجر من الشرق،
ولا يتهدده البحر بأمواجه الطامية،
فليتجنب ذرى الجبال
ومنبسط الرمال الظمأى،
فالأولى تأخذ لطمة ريح الشمال العاتية،
والثانية تذوب تحت ثقلها وتنوء بحملها؛
ليتجنب المآل الوبيل
للمواقع التي تسر الناظر،
وليحرص على أن يشيد بيته على صخرة متواضعة
وليدع الريح تزأر،
وتمخض البحر الفائر
لقد أسست على الآمن
واعتصمت بالوطيد،
فاهنأ بحياة هادئة
وابتسم لغضب الزوابع.
الفصل الخامس
الخيرات المادية
ولكن بما أن الأدوية العقلية الأولى توغل منك إلى أعماق أبعد، فلعل الأوان قد آن لأدوية أقوى بعض الشيء، افترض إذن، على سبيل الجدل، أن عطايا الحظ ليست عابرة ولا زائلة، فقل لي أي شيء فيها يمكن أن يكون لك إلى الأبد، أو لا يفقد قيمته لدى الفحص والتمحيص؟ ما الذي يجعل للثروة قيمة؟ أهي قيمة لأنها ملكك أم لصفة أخرى تخصها؟ وما هو الأفضل: الذهب ذاته أم القوة التي تسبغها الثروة المدخرة؟ من المؤكد أن الثروة تكون أكثر تألقا بالإنفاق منها بالاكتناز، وأن البخل يبغض صاحبه إلى الناس، بينما السخاء يجلب لصاحبه الشرف والرفعة، ولكن ما ينتقل إلى الآخر لا يمكن أن يبقى بحوزة صاحبه، فالمال إذن لا يكون ذا قيمة إلا عندما يغدق به على الآخرين، أي عندما لا يعود مملوكا! والمال إذا انتقل من أيدي الناس جميعا إلى يد فرد واحد فإنه يترك بقية الناس في فقر مدقع، قد يكون بوسعك أن توزع صوتك بالتساوي فيملأ آذان كل سامعيه على حد سواء، ولكنك لا يمكنك أن توزع ثروتك على الآخرين دون أن تنتقص، فالثروة حين تقتسم بين الكثيرين فلا مناص من أن تفقر من تركتهم، ألا ما أهون الثروة إذن وأعجزها تلك التي لا شراكة فيها من دون انتقاص ولا تأتي لواحد إلا بإفقار الآخرين.
أم هل يجذب عينيك بريق الجواهر؟ ولكن إن كان في هذا البريق أي روعة فإنما هي روعة بريق الجواهر لا بريق البشر؛ ولذا أعجب من أعجب من إعجاب الناس بها! فكيف يمكن لشيء ليس فيه روح تحركه ولا بنية لأجزائه أن يستحق إعجاب كائن عاقل حي ويعد جميلا في نظره؟ صحيح أن هذه الأشياء من إبداع خالقها، وأن في رونقها وزخرفها مسحة من الجمال، غير أن جمالها أقل مرتبة من جمالكم أنتم المخلوقات العليا، ولا يستحق إعجابكم على الإطلاق.
أم هل يبهجك جمال الطبيعة؟ إنها حقا جزء جميل من خلق جميل، ونحن من جانبنا نبتهج أحيانا لمرأى البحر الساجي، وتدهشنا السماء والنجوم والشمس والقمر، ولكن أي شأن لك بأي من هذه الأشياء؟ وهل تجرؤ على التباهي الشخصي بجمال أي منها وروعته؟ هل أنت نفسك مزدان بأزهار الربيع؟ هل بخصبك أنت أينعت الثمار في الصيف؟ لماذا أنت مأخوذ بمباهج فارغة، لماذا تدعي لنفسك خيرات خارجة عنك ولا تمت لك بصلة؟ إن من المحال أن يكون الحظ قد حباك بما جعلته الطبيعة غريبا عنك، صحيح بالطبع أن ثمرات الأرض قد جعلت طعاما للأحياء، غير أنك إذا قنعت بأن تسد حاجاتك، وهو كل ما تقتضيه الطبيعة، فلست بحاجة إلى طلب المزيد من الحظ، إن الطبيعة تقنع بأقل القليل: فإذا ما عمدت إلى أن تتخمها بما هو فوق الحاجة، فإن ما تغدقه سيكون مغثيا بل مضرا.
أم لعلك تحسب أن الجمال يعني أن ترفل في ثياب متألقة من كل صنف: ولكن إذا كان الثوب يسر ناظري فإنما ينصب إعجابي على جودة خامته أو على مهارة الحائك.
أم يزدهيك أن تكون محاطا بصف طويل من الخدم والحشم، الذين إن فسدوا فهم عبء خطير على الدار، وتهديد حقيقي لصاحب الدار، أما إن توافرت فيهم الأمانة فكيف تعد أمانة غيرك ضمن ممتلكاتك؟
من ذلك يتبين أنه لا شيء من هذه الأشياء جميعا التي تعدها من ثروتك هو حقا لك، وحيث إنك لا تكتسب أي جمال منها بحيازتها، ففيم تأسى على فقدانها أو تفرح باستبقائها؟ وإذا كانت هي جميلة بطبيعتها فما دخلك أنت بها؟ إنها لجميلة حتى لو كانت في حوزة غيرك، إنها لا تستمد قيمتها من أنها وقعت في حوزتك، بل أنت أردت إضافتها لثروتك لأنها بدت ذات قيمة.
ما الذي تسعون إليه من وراء هذا الضجيج عن الثروة؟ ألكي تنفوا الحاجة تطلبون المزيد؟ ولكنكم ترون أن ما تحصلون هو النقيض، إنكم لن تزويدا عوزكم إلا تفاقما: فكلما تعددت ممتلكاتكم الثمينة زاد احتياجكم إلى العون على حمايتها، وصدق فيكم القول القديم «من كثرت ممتلكاته كثرت احتياجاته»،
1
ونقيض ذلك أيضا صحيح: ما أقل احتياج ذلك الذي يضبط ثروته بمقدار ضروراته الطبيعية لا بمقدار الترف والتباهي.
لكأني بكم تستشعرون فقركم الداخلي، فيدفعكم إلى التماس خيراتكم من خارج أنفسكم، إنه لانقلاب للأمور أن يظن الكائن الإلهي العاقل أن مجده لا يكمن إلا في تملك سلع لا حياة فيها، إن المخلوقات الأخرى لقانعة بما لديها، أما أنتم يا من خلق عقلكم «على صورة الله» فتسعون إلى تزيين طبيعتكم العليا بأشياء سفلى، ولا تدركون مبلغ خطئكم تجاه خالقكم، لقد أراد أن يرتفع الجنس البشري فوق كل أشياء الدنيا، ولكنه يأبى إلا أن يضع نفسه أسفل منها جميعا في أحط مكان.
ذلك أنه إذا سمحنا لكل شيء ممتلك أن يكون أكثر قيمة من مالكه، وحيث إنكم تحسبون أتفه الأشياء ملكا ثمينا، فأنتم إذن تضعون أنفسكم في منزلة أدنى من أتفه الأشياء، وما في ذلك غبن لكم.
هذا، إذن، حال الطبيعة البشرية: إن الإنسان هو تاج الخليقة ما دام يعرف نفسه، فإذا نسيها فإنه يكون أحط من البهائم، فإذا جهلت سائر المخلوقات نفسها فذاك أمر طبيعي، أما إذا جهل الإنسان نفسه فذاك إثم، ما أفدح الخطأ الذي يرتكبونه: أن تظنوا أن أي شيء يمكن أن يحسن بزينة لا تمت له، غير أن ذلك محال؛ لأنه إذا ما تألق شيء بالزينة الملحقة عليه، فإن الملحقات نفسها هي ما يستحق التقدير، بينما يبقى الشيء المخبوء من ورائها على حاله بكل قبحه ودمامته.
وإنه لا يجوز أن يعد خيرا ذلك الذي يلحق الأذى بصاحبه، أليس كذلك؟ غير أن الثروة كثيرا ما تؤذي أصحابها، فكل السفلة من البشر، أولئك الذين يشتهون ما ليس لهم، يرون أنهم الأحق بكل الذهب والجواهر، تعلم إذن، يا من يروعك الآن هاجس السيف والرمح في يد اللص، تعلم أن تذرع حياتك خاوي الوفاض، حتى يمكنك أن تصفر وتغني أمام قاطع الطريق.
2
ما أروعها إذن نعمة الثروة الفانية! ما أن تحصل عليها حتى يغادرك الأمان.
ما كان أسعد البشر في ذلك الزمن الأول،
قانعين بثمرات الطبيعة الوفية
لم يفسدهم الترف الموهن
ثمار الجوز دانية لهم،
لا يقطفونها إلا إذا بلغ منهم الجوع
لا يعرفون عطايا باكخوس (ديونيسوس)،
3
ولا النبيذ المحلى بالشهد
أو كيف يصبغون حرير الصين البراق
بأصباغ صور الأرجوانية،
أريكة العشب تمنحهم نوما صحيا،
والنمير الصافي يقدم شرابا زلالا،
والصنوبرة السامقة تقدم ظلا
لم يشق أي منهم عباب البحر،
ولا شحن بضائع إلى شواطئ غريبة،
لم تكن تسمع أبواق الحرب في تلك الأيام،
لم يكن الحقد المر
يرعب الأرض المضرجة بالدم المسفوح،
لم يكن لديهم ما يثير البغضاء
ولا جنون يدعوهم إلى أن يشهروا سلاحا على عدو ،
أولئك الذين لم يعرفوا مرأى الجروح الفاغرة،
ولا مردودا يعود عليهم من الدم.
آه لو أن أزماننا تعود إلى خليقة الأولين،
ولكن شهوة التملك تتفجر
أعنف من حمم بركان إتنا،
ويح ذلك الرجل، أيا من كان،
الذي استخرج لأول مرة
أكوام الذهب الدفين في الأرض،
والماس القانع بمخبئه،
ومنحنا أخطارا بمثل هذا السعر!
الفصل السادس
المنصب والسلطة
وماذا عساي أن أقول عن السلطة والمنصب، اللذين يطاولان السماء في نظركم، لأنكم لا تعرفون السلطان والمنصب الحقيقيين، وهل بوسع الحمم المتفجرة من بركان إتنا، أو بوسع السيل العرم، أن يسبب من الخراب ما يسببه هذان حين يقعان في أيدي الأشرار؟ ألا تذكر كيف سعى أسلافنا إلى إلغاء سلطة القناصل، التي كانت أس الحرية ذاته، لما وجدوه من غرور القناصل؟ مثلما محوا لقب «ملك» من قبل لما وجدوه من غرور الملوك، فإذا تصادف، في حالات شديدة الندرة، أن تقع هذه المناصب لرجال أمناء، فلا شك أن الخير الوحيد فيها إذاك هو أمانة الرجال الذين يتولون المناصب، يترتب على ذلك أن الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف.
فإلى متى يغريكم بريق السلطة؟ انظروا، يا أبناء الفناء، على من تريدون أن تمارسوا سلطتكم، أليس يثير ضحككم أن تروا مجتمعا من الجرذان وقد انبرى جرذ منهم يدعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟ ثم انظروا إلى الجسد الإنساني هل وجدتم ما هو أضعف وأوهى من الإنسان: ألا تكفي لدغة حشرة ضئيلة، أو انسرابها في داخله، إلى القضاء عليه؟ وهل يمكن لأحد أن يمارس تسلطه على شيء سوى الجسد وما هو أدنى من الجسد - الممتلكات؟ هل بمقدورك أن تفرض أي قانون على الروح الحرة؟ أو أن تزحزح عقلا متماسكا عن سكينته وثباته؟ ألا تذكر ذلك الطاغية الذي ظن أنه يمكنه بالتعذيب أن يرغم رجلا حرا على أن يشي بشركائه في المؤامرة المنسوبة إليه، فما كان من الرجل سوى أن عض لسانه وبصقه في وجه الطاغية؟ لقد حسب الطاغية أن التعذيب مناسبة للبطش، فجعله الرجل مناسبة للبطولة.
1
وهل ثمة شيء يمكن أن توقعه بأحد وأنت بمأمن ألا يقع لك يوما على يد شخص آخر؟ إننا لنذكر كيف دأب الملك المصري بوزيريس
Busiris
2
على قتل الأجانب، حتى ذاق هو نفسه الموت على يد أجنبي هو هرقل، ونذكر في الحرب البونية (= الفينيقية) الأولى القائد ريجولوس
Regulus
3
الذي وضع الأغلال في أعناق كثير من الأسرى القرطاجنيين، فما عتم بعد ذلك أن وقع أسيرا لديهم وأسلم نفسه لأغلالهم، أية سلطة هذه التي لا يأمن صاحبها أن ينزل به ما أنزله بغيره؟
لو كانت المناصب والسلطات خيرا بطبيعتها وفي ذاتها لما وقعت في أيدي الأشرار، فالأضداد لا تجتمع أبدا، والطبيعة لا تسمح للنقيض بأن يتصل بنقيضه، ومما لا شك فيه أن أسوأ الناس هم من يتولون المناصب في أغلب الأحيان، من الواضح إذن أن المناصب ليست خيرا في ذاتها؛ لأنه ليس خيرا بذاته ذلك الذي يرتبط بالأشرار ويسلم نفسه لهم.
والشيء نفسه ينسحب على ألوان الحظ الأخرى، التي تقع أكثر ما تقع في أيدي أشد الناس خبثا وشرا.
ثمة نقطة أخرى في هذا الصدد: لا شك أن الشخص يكون شجاعا إذا وجدت فيه أمارات الشجاعة، ويكون سريعا إذا تمتع بصفة السرعة، كذلك الموسيقى تجعل منه موسيقيا، والطب يجعله طبيبا، والبلاغة تجعله خطيبا؛ لأن من طبيعة كل شيء أن يؤدي الدور الملائم له، ولا يختلط بأدوار أشياء أخرى مناقضة، بل يرفض الأضداد في حقيقة الأمر، غير أن الثروة لا يمكن أن تروي غلة الجشع، والسلطة لا تجعل من المرء سيدا على نفسه إذا كان يرسف في أغلال شهواته، وعندما يوسد المنصب إلى غير أهله، فإنه لا يجعل منه أهلا على الإطلاق وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف عجزه وتفاهته، لماذا كان ذلك؟ لأنكم تحبون أن تسموا الأشياء بأسماء زائفة لا تخصها، وسرعان ما ترفضها على المحك خصائصها الحقيقية؛ لذلك فلا الثروة ولا السلطة ولا المنصب يصح أن تسمى بهذه الأسماء، والنتيجة نفسها تنسحب على الحظ ككل، فليس فيه شيء يستحق عناء السعي، وليس فيه أي شيء من الخير الذاتي، ذلك أنه لا يئول دائما إلى الأخيار، ولا يجعل ممن يؤول إليهم أخيارا.
إننا نعرف الخراب الذي أحدثه نيرون،
عندما أحرق روما وذبح القناصل،
ونعرف كيف قتل أخاه بيده،
وكيف تقطر بدم أمه المهراق،
وأخذ يجيل في الجثمان عينا خبيرة
دون أن تند دمعة ترطب خده،
ذواقة بارد يتأمل الجمال البارد،
4
كان ملكه يمتد من مشرق الأرض إلى مغربها،
ومن شمالها القارس
إلى جنوبها المتلظي،
فهل استطاع السلطان الرفيع
أن يكبح جنون نيرون المسعور؟
يا له من قدر وخيم
حين تجتمع السلطة والقسوة،
ويضاف السيف الظالم
للباطش الهمجي.
الفصل السابع
المجد والشهرة
عندئذ قلت لها: «أنت تعرفين جيدا أن الطموح إلى متاع الدنيا لم يكن من طبعي، غير أني كنت ألتمس الوسائل التي أدير بها شئون الدولة حتى أحقق الخير، وحتى لا تشيخ الفضيلة وهي خاملة الذكر.»
فردت قائلة: وهذا هو الشيء الذي يجتذب العقول الممتازة بطبيعتها وإن لم تبلغ بعد كمال الفضيلة؛ أعني الرغبة في المجد؛ أن يكون المرء شهيرا بما حققه للدولة من أنبل الخدمات، ولكن تأمل كم هي هزيلة لا وزن لها مثل هذه الشهرة في حقيقة الأمر. فأنت تعرف جيدا من تعاليم الفلكيين أن محيط الأرض هو نقطة ضئيلة بالقياس إلى امتداد السموات، بحيث يجوز القول إنها لا حجم لها على الإطلاق بالمقارنة بحجم الكون، ومن هذا الجزء الضئيل من الكون، كما تعلمت من براهين بطليموس، فإن الربع فقط هو المأهول بالكائنات الحية المعروفة لنا، فإذا طرحت من هذا الربع تلك المساحات التي يغطيها البحر والمستنقعات، والمساحات الشاسعة التي تشغلها الصحارى المقفرة، لما بقي للإنسان إلا أقل القليل. ها هي النقطة الضئيلة داخل نقطة ضئيلة، معزولة مسيجة، التي تريد أن تنشر فيها مجدك وتذيع شهرتك، فأي حجم أو قيمة لمجد متقلص داخل هذه الحدود الضيقة الكتيمة؟!
1
وتذكر أيضا أن هذا الحيز الصغير الذي نعيش فيه تسكنه شعوب كثيرة مختلفة اللغات والعادات وكل طرائق العيش، ومع صعوبة الترحال واختلاف اللسان وندرة التجارة فإن شهرة المدن الكبرى، ناهيك بالأفراد، لا تصل إليهم. يذكر شيشرون في موضع ما من كتبه أن شهرة روما في زمنه لم تتجاوز جبال القوقاز، رغم أن الإمبراطورية كانت عندئذ مكتملة النمو ومرهوبة الجانب لدى الفرس والشعوب الأخرى في تلك المنطقة.
أرأيت كم هى ضيقة منكمشة تلك الشهرة التي تجهد إلى أن تبسطها وتذيعها؟ وهل يمكن لروماني أن تصل شهرته إلى أصقاع لم تصل إليها روما؟
ثم أليست القيم والتقاليد تختلف من شعب إلى شعب اختلافا بعيدا، بحيث إن ما يعد مجيدا عند بعضها قد يكون مشينا يستوجب العقاب عند بعضها الآخر؟ قد يسر المرء أن تذيع شهرته بين شعبه، غير أن شهرته عندئذ لن تكون في صالحه لدى شعوب كثيرة! فليقنع إذن بشهرته بين شعبه، ولتنكمش شهرته الخالدة البراقة داخل حدود أمة واحدة.
وكم من رجل أصاب شهرة في زمنه ثم انطفأت شهرته لغياب المؤرخين المنوهين بذكره، على أن التواريخ نفسها لا جدوى فيها إذا ما فقدت مع كتابها وطواها الزمن الذي يطوي كل شيء ويسدل عليه ستائر النسيان.
لعلك تظن حين تتصور شهرتك في مقبل العصور أنك تؤمن لنفسك ضربا من الخلود، ولكن إذا ما تأملت الامتداد اللانهائي للأبدية فمن أين يأتيك الفرح بامتداد شهرتك عبر الزمن؟ إن لك أن تقارن أمد الثانية الواحدة بأمد عشرة آلاف من السنين! فمهما تكن ضآلة الثانية فإن لها قيمة في المقارنة لأن كلتيهما قدر متناه من الزمن. غير أن العشرة الآلاف أو أي مضاعفات لها من السنين مهما عظمت لا يمكن أن تقارن بالأبدية، فإذا كانت المتناهيات تقبل المقارنة إحداها بالأخرى، فإن المتناهي واللامتناهي لا تمكن مقارنتهما على الإطلاق؛ ومن ثم فمهما امتد عمر شهرتك فإنه حين تقارنه بالأبدية يتبين أنه ليس ضئيلا فحسب بل لا شيء على الإطلاق.
إنكم لا تعرفون أن تفعلوا ما هو حسن إلا وأعينكم على رأي الناس ومن أجل السمعة الفارغة، هكذا تغفلون سلطان الضمير وامتياز الفضيلة، وتلتمسون ثوابكم في القيل والقال. أصغ إلي إذ أحكي لك حكاية الرجل الذي عرف كيف يسخر من سطحية هذا اللون من الغرور. يحكى أنه سمع أن رجلا سمى نفسه فيلسوفا عن ولع بالشهرة لا عن رغبة في ممارسة الفضيلة، فقال لنفسه: سأجرب معه السب والإهانة فإذا احتملهما بثبات ورباطة جأش فهو فيلسوف، ثم راغ عليه سبا وإهانة، فتصنع الرجل الصبر والثبات واحتمل الإهانات فترة، ثم قال في سخرية: «هل رأيت أخيرا أني فيلسوف؟» فرد عليه الأول لاذعا: «لو أنك سكت لرأيت ذلك حقا.»
غير أن من يعنينا الآن هم عظماء الرجال، وأنا أتساءل: لماذا يسعون إلى المجد والشهرة رغم التماسهما من خلال الفضيلة؟ ماذا يهمهم من أمر السمعة عندما ينتهي الجسد إلى الموت الذي هو نهاية كل شيء؟ فإذا كان الفناء مقدرا على الإنسان كله جسدا وروحا - وهو ما ينهانا عقلنا عن اعتقاده - فالشهرة لا شيء ما دام الإنسان الذي يقال إنه حازها لم يعد موجودا، أما إذا كانت الروح تبقى واعية بعد أن تتحرر من سجنها الأرضي وتهفو إلى السماء، فلسوف تزدري كل شأن أرضي، مبتهجة بالسماء سعيدة بانعتاقها من هذا العالم.
أيها الجامح في أفكاره لا يلوي على غير الشهرة،
ولا يعرف خيرا أعلى من المجد،
انظر إلى أبعاد السماء المترامية،
وقارنها بهذه الأرض الضيقة،
انظر مهما اتسعت شهرتك فهي لا تملأ دائرة صغيرة كهذه.
أيها المغرورون. لماذا تحاولون عبثا
أن تضعوا عن أعناقكم نير الفناء؟
قد تذيع الشهرة بعيدا ويرن الصيت في الأقطار ويجوب الأمصار،
وتنطلق به الألسنة،
قد تتلألأ الدار بحكايا المجد،
لكن الموت لا يقيم وزنا لأي مجد،
ويسحق الرأس الوضيع والرفيع معا،
ويسوي الأدنى بالأعلى.
أين هي عظام فابريكيوس
2
الماجد؟
أين كاتو
3
العنيد، أين بروتوس؟
4
شهرة ضئيلة متبقية منقوشة على حجر،
سطر أو سطران ... صيت فارغ.
نرى أسماءهم النبيلة منقوشة،
وبها فقط نعرف أنهم قضوا.
وأنت أيضا ارقد مجهولا تماما من الناس،
لا شهرة لديك تدلي عنك بخبر،
فإذا حسبت أن الحياة يمكن أن تطول
بدوام الشهرة وبقاء الذكر،
فسوف يأتي اليوم الذي تقبر فيه شهرتك أيضا.
هنالك يكون بانتظارك موت ثان.
الفصل الثامن
الشدة خير من الحظ
ولكن لا تظن أني أشن حربا على الحظ لا هوادة فيها، فأحيانا ما يكف الحظ عن الخداع ويكون عونا للمرء؛ أعني عندما يفصح عن نفسه ويسفر عن وجهه ويعلن أحكام لعبته، لعلك لم تفهم بعد ماذا أعني، إنه شيء غريب هذا الذي أريد قوله؛ «مفارقة»
paradox ؛
1
ولذا أجد صعوبة في التعبير عنه بالكلمات، فأنا أعتقد أن الحظ السيئ أفضل للمرء من الحظ السعيد!
الحظ السعيد يبدو دائما كأنه يجلب للمرء السعادة، غير أنه يخدعه بابتساماته، بينما الحظ السيئ صادق دائما لأنه يكشف له عن طبيعته الحقيقية المتقلبة، الحظ السعيد يخدع، والحظ السيئ يربي ويعلم، الحظ السعيد يستعبد بالعطايا الكاذبة عقول الذين يحبونها، بينما الحظ السيئ يحرر الناس إذ يعلمهم أن السعادة شيء هش، هكذا يمكنك أن ترى أن الأول قلب لا يعرف نفسه، وأن الآخر رصين معتزم حكيم من خلال خبرة الشدائد ذاتها.
2
وأخيرا فإن الحظ السعيد يغوي الناس، بمداهناته، عن طريق الخير الحقيقي، بينما الحظ السيئ كثيرا ما يردهم إلى خيرهم الحقيقي كالراعي يردهم بعصاه، وهل بالقليل أن هذا الحظ القاسي الفظ قد كشف لك عن الأصدقاء المخلصين لك بقلوبهم؟ وكشف لك أصحاب الابتسامة الصادقة وأصحاب الابتسامة الكاذبة؟ عندما تخلى عنك الحظ فقط أخذ معه أصدقاءه وترك لك أصدقاءك، ولو أنك بقيت سالما ومحظوظا كما تظن لما أتيح لك مثل هذه المعرفة بأي ثمن، لا تأس، إذن، على ثروة فقدتها فقد عثرت على أثمن ثروة على الإطلاق - أصدقائك الحقيقيين.
3
من خلال الحب
يجترح العالم تغيرات دائبة،
بانسجام دائم،
الحب يفرض تناغما بين أضداد
لو تركت لطبيعتها لتناحرت،
الشمس في عربتها الذهبية
تحدو النهار الوضاح،
ونجم المساء يسوق الليل؛
حيث يبسط القمر سلطانه
للبحر الطامح حد
يوقف عنده أمواجه،
فلا تطغى على اليابسة
كل هذه السلسلة من الأشياء،
في البر والبحر والسماء،
يمسكها حاكم واحد
لو أرخى الحب العنان؛
ستشن كل الأشياء التي تحفظ السلام الآن،
ستشن حربا دائمة،
وتحطم الآلة العظيمة
التي تحفظ وحدتها
بحركات جميلة ... ... ...
الحب أيضا يحفظ الناس متحدين
بميثاق مقدس،
ويعقد بالود الصادق
عقدة الزواج المقدسة
الحب يملي على الأصدقاء الخلص
قوانين رابطة الصداقة ... ... ...
آه أيها الفانون السعداء،
لو أن قلوبكم محكومة أيضا
بما يحكم العالم
بالحب.
4
الكتاب الثالث
الفلسفة والسعادة
انظر مليا كيف يزاح كل ما هو قائم وكل ما هو قادم ويصير ماضيا ويزول زوالا، تأمل أيضا الهوة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء، أليس بأحمق من يعيش وسط هذا كله ثم تحدثه نفسه أن يلج في الأمل أو يهلك في الكفاح أو يسخط على نصيبه؟! وكأن أي شيء من هذا دائم له أو مقدر أن يؤرقه طويلا.
ماركوس أوريليوس، التأملات 5، شذرة 23
الفصل الأول
الفلسفة تعد بالسعادة
حين انتهت من أنشودتها كنت مأخوذا بسحر نغمها العذب، مستغرقا أود أن أظل مصغيا؛ لذا قلت بعد لحظة: «أيتها الراحة الكبرى للروح المتعبة، كم روحت عني بعميق فكرك وشجي غنائك، لقد عدت الآن قادرا على تلقي ضربات القدر، ولم أعد أوجس خيفة من العلاجات الحاسمة التي حدثتني عنها، بل أراني أتوق إلى سماعها وألح إليك في طلبها.»
ردت السيدة: «لقد عرفت ذلك حين بدأت تتشبث بكلماتي بانتباه صامت، ولقد توقعت منك هذا التوجه العقلي، أو، إن شئت الدقة، خلقته فيك، العلاجات القادمة ستكون في الحقيقة مرة المذاق، ولكنها ما أن تنسرب إلى داخلك حتى تجد لها حلاوة باطنة تشيع فيك، قلت إنك مشوق إلى سماع المزيد، وسوف يزداد اشتياقك لو عرفت إلى أين أريد أن أقودك.»
ب : «إلى أين؟»
ف : «إلى السعادة الحقة، التي تهفو إليها روحك فيحجبها بصرك الذي تغشي عليه أوهامك عنها فلا تراها.»
ب : «أستحلفك أن تكشفي لي عن طبيعة هذه السعادة الحقة، وأن تعجلي بي إليها.»
ف : «سأفعل ذلك من أجلك بكل سرور، ولكن في البداية سأحاول أن أرسم لك صورة عامة عن سبب السعادة، عندئذ، وبإدراك صحيح لذلك، سيكون بوسعك أن تشيح ببصرك إلى الجانب الآخر وتميز هيئة السعادة الحقيقية.»
من يشأ أن يبذر في أرض بكر ،
فليطهرها أولا من الأحراش،
وليقطع السراخس والعليق بالمنجل؛
حتى يمهد الطريق لإلهة الحصاد المثقلة بالغلال اليانعة،
اللسان الذي ذاق الأمر في البداية،
سيجد الشهد الذي كد النحل في إعداده
أكثر حلاوة،
النجوم تكون أكثر بهاء وتألقا
عندما توقف العاصفة دويها ومطرها،
وليس قبل أن يطرد نجم الصباح جحافل الظلام،
يقبل النهار بكل وضاءته يقود عربته الوردية
أنت أيضا، وقد بصرت بوجه السعادة الزائفة أولا،
بوسعك الآن أن تضع نيرها عن عنقكن
وجدير بالسعادة الحقيقية الآن أن تنفذ إلى روحك.
الفصل الثاني
الخير الأسمى
وقفت السيدة مطرقة إلى الأرض كأنها ترود من فكرها أعماقا قصية، ثم استأنفت حديثها قائلة: إن سعي الفانين، الذي يكربهم بتنوع أهدافه واتجاهاته، إنما يمضي بهم في دروب مختلفة قاصدا في النهاية إلى هدف واحد وهو السعادة،
1
إنها الخير الذي إذا بلغه الإنسان لم يسعه أن يصبو إلى أي شيء آخر، وهي إذن الخير المكتمل الأسمى الذي ينطوي في داخله على كل ألوان الخير؛ لأنه لو افتقر إلى أي شيء لما كان الخير الكامل، إذ يبقى هناك شيء خارجه قد يكون مرغوبا، السعادة إذن هي حالة من كمال الخير، لاحتوائها على كل ما هو خير، والتي يسعى إليها، كما قلت، جميع البشر الفانين وإن تعددت الطرق، ذلك أن الرغبة في الخير الحقيقي هي شيء متأصل بالطبيعة في نفوس البشر، وما يطيش بهم عن هذا الهدف إلا الخطأ والسير في الدروب الضالة إلى الخيرات الزائفة.
2
يرى البعض أن الخير الأسمى هو ألا يحتاج المرء إلى شيء ولا ينقصه شيء، ومن ثم فقد غذوا السير لامتلاك الثروة الوفيرة، ويرى البعض الآخر أن الخير الحقيقي هو ذلك الذي ينتزع التبجيل والتوقير، ومن ثم سعوا إلى المنصب الذي يكفل لهم احترام مواطنيهم، وقرر البعض أن أعلى خير يكمن في أعلى قوة، ومن ثم فقد سعوا إلى أن يصبحوا هم أنفسهم حكاما أو أن يكونوا على صلة بمن هو في مواقع السلطة، ويذهب آخرون إلى أن خير شيء هو الشهرة والمجد، ويكدون أنفسهم لبناء اسم كبير في دنيا الفنون - فنون السلم أو فنون الحرب.
إلا أنهم جميعا بلا استثناء يتفقون على أن الخير يقاس محصوله باللذة والمتعة التي يجلبها، وأن الإنسان الأسعد هو إنسان يتقلب في المتعة.
وهناك بعد من يخلطون بين الغايات والوسائل في هذه الأشياء، كالذي يرغب في الثروة من أجل القوة واللذة، أو يرغب في السلطة من أجل المال والمجد.
في هذه الأهداف إذن وفي أمثالها، يكمن الهدف من أفعال البشر ومهوى قلوبهم: الشهرة والشعبية التي تضفي نوعا من التميز، أو الزوجة والأبناء، وهي ما يطلبه الرجال من أجل المتعة التي تمنحها، أما عن الصداقة فإن الصنف النقي النزيه منها يعد أعلى ضروب الخير وأقدسها، وما عدا ذلك يلحق بالرغبة في القوة أو التسلية.
من الواضح أيضا أن المزايا الجسدية قد تنسب إلى ضروب الخير السابقة: فقوة الجسم وحجمه يمنح الرجل بأسا، والجمال والسرعة تمنحانه الشهرة، والصحة تمنحه المتعة.
يرى كل إنسان أن ما يرغب فيه فوق كل ما عداه هو الخير الأسمى، ولقد عرفت الخير الأسمى للتو بأنه السعادة، إذن فإن الحالة التي يرغب فيها كل إنسان فوق غيرها هي الحالة التي حكم بأنها حالة السعادة؛ الثروة، المنصب، السلطة، المجد، اللذة، وقد ذهب أبيقور
Epicurus ، بالنظر إلى هذه الحالات وحدها، وباتساق تام، إلى أن اللذة هي الخير الأسمى ما دام كل ما عداها يدخل في بابها من حيث إنه يجلب إلى النفس اللذة.
ولكن لنعد إلى نزعات الناس: إن عقولهم تبدو ساعية إلى أسمى خير، وذاكرتهم تبدو كليلة، فهم أشبه برجل ثمل يريد العودة إلى بيته ولكنه لا يتذكر الطريق إليه، لا يمكن لأحد أن يقول إن من يسعون إلى سد جميع احتياجاتهم هم على خطأ، فالحق أنه ليس أدعى إلى السعادة من حالة تتوافر فيها للمرء كل الخيرات ويتحقق له فيها الاكتفاء وانتفاء الحاجة، ولا أحد يمكن أن يخطئ من يرون أن أحظى الناس بالتبجيل والتوقير هو أفضلهم، فالجلال والرفعة ليسا بالشيء الهمل وبلوغهما هو هدف يكدح إليه كل البشر تقريبا.
السلطة أيضا ينبغي أن تعد ضمن الأشياء الخيرة، فمن ذا الذي يقول إن الشيء الذي يسلم الجميع بأنه أعلى الأشياء قاطبة هو شيء هين أو واه؟
والشهرة كذلك لا يمكن إغفال قيمتها؛ لأن كل ما هو عظيم الامتياز هو أيضا عظيم الشهرة.
ومن فضول القول إن السعادة هي حالة تخلو من الهم والحزن والأسى والمعاناة، إذ إنه حتى في أصغر الأمور يسعى المرء إلى ما يبهج به ويستمتع.
تلك إذن هي الأشياء التي يتوق الناس إليها: الثروة، مناصب الشرف، الملك، المجد، المتعة، وهم يتوقون إليها لأنهم يرون أنهم من خلالها سوف يجدون الإشباع والاعتبار والسلطة والمجد والسعادة، هذا هو الخير الذي يبحث عنه الناس في مساعيهم المتنوعة، وليس من العسير أن تكشف دور الطبيعة في ذلك، فعلى الرغم من تنوع آراء الناس واختلاف مشاربهم فإنهم جميعا على اتفاق في الهدف الذي ينشدونه، وهو الخير الأسمى.
يطيب لي أن أنشد نغما شجيا على أوتار وئيدة،
كيف تمسك الطبيعة الجبارة بأزمة الأشياء؟
وبأية قوانين تحفظ العناية هذا العالم المترامي،
وتكبح الأشياء بأرسان لا تنفلت،
وتوثق كل شيء بوثاق لا انفصام له. •••
قد يلبس أسد قرطاج سلاسل الأسر المزركشة،
ويتناول لقم الطعام المقدم باليد،
ويهاب مروضه الفظ وسوطه الذي يعرفه جيدا
ولكن دع الدم مرة واحدة يمس فكه المشعر
هنالك تعود إليه روحه الكامنة،
وبزئير عميق يتذكر ذاته القديمة،
ويكسر الأغلال عن عنقه،
ويكون مروضه هو أول من تمزقه أنيابه الضارية،
ودماؤه الطازجة المتفجرة تصعد الشرة العائدة. •••
الطائر الذي كان يشقشق ويزقزق على أعلى الغصون،
أخذ من الشجرة إلى القفص
أكواب العسل لديه،
ولديه موفور الوجبات ... والملاطفات،
ولكنه كلما رفرف إلى أعلى قفصه،
ولمح ظلال الغابات التي يهواها
بعثر الطعام وداسه،
فليس غير الغاب ما يشوقه في أساه،
وليس لغير الغاب يرسل همساته العذبة. •••
الغصن الأملود الذي ألوت به اليد بقوة،
وبلغت بقمته إلى الأرض ،
ما أن ترفع عنه يد الإرغام،
حتى يرتد إلى أعلى ويشخص إلى السماء. •••
يهبط فويبوس (الشمس) في الأمواج الغربية،
ولكنه عبر ممره السري المجهول،
يعود مستديرا بعربته مرة أخرى إلى مشارقه المعتادة. •••
كل شيء لا بد أن يعود إلى سبيله الصحيح،
ويبتهج بعودته،
فلا شيء يمكن أن يحفظ النظام الذي أودعه،
ما لم يربط مبدأه بمنتهاه،
ويصنع فلكه الدائري الثابت.
الفصل الثالث
الثروة والحاجة
أنتم أيضا يا أبناء الأرض تحلمون بحالتكم الأولى، وإن خفتت الرؤية، إن لديكم بالفعل فكرة ما، وإن تكن غامضة، عن الهدف الحقيقي: السعادة؛ ومن ثم فإن توجها نظريا يحدوكم إلى الخير الحقيقي، وما يحيد بكم عنه سوى الأخطاء على اختلافها.
انظر إذن هل يمكن للبشر حقا أن يصلوا إلى هدفهم الذي حددوه، أي السعادة، من خلال هذه الوسائل التي يعتقدون أنها توصلهم إليه، فإذا كان المال أو المنصب أو بقية هذه الأشياء تجلب بالفعل حالة معينة لا يعوزها أي شيء من الأشياء الخيرة فسوف أسلم معك أن بعض الناس يبلغون السعادة حقا خلال امتلاك هذه الأشياء، أما إذا كانت تخلف وعودها وتظل مفتقرة إلى ألوان أخرى من الخير فمن الواضح البين أن أصحابها إنما يقبضون على مظهر كاذب للسعادة.
لذا سأسألك أولا بضعة أسئلة، ما دمت أنت شخصيا كنت رجلا ثريا حتى وقت قريب، ألم يؤرق عقلك قط، وأنت في أوج ثرائك، هم ناجم عن شعورك بأن ثمة ظلما وقع؟
قلت: «بلى، الحق أني لا أكاد أذكر أن عقلي قد خلا يوما من مثل هذا الهم.»
ف : «وكان ذلك إما لافتقادك شيئا لم تكن تود افتقاده، وإما لوجود شيء كنت تفضل ألا يوجد؟»
ب : «نعم.»
ف : «فكنت تود وجود شيء ما، وغياب شيء آخر؟»
ب : «نعم.»
ف : «المرء إذن ينقصه شيء ما - ما دام يفتقد هذا الشيء. أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «وما دام الإنسان ينقصه شيء ما، فهو إذن ليس مكتفيا بذاته من كل الوجوه؟»
ب : «نعم.»
ف : «وقد شعرت بهذا النقص رغم كونك متمتعا بالثروة؟»
ب : «شعرت حقا.»
ف : «إذن فلا يمكن للثروة تلك أن تنفي عن المرء الحاجة وتمنحه الاكتفاء، رغم أن هذا بعينه هو ما تعده به الثروة، وثمة نقطة أخرى أراها شديدة الأهمية: وهي أن المال في ذاته لا يتحلى بخاصية طبيعية تمنعه من أن يسلب من أصحابه رغما عنهم.»
ب : «أوافقك في ذلك.»
ف : «وليس لك إلا أن توافق ما دام بالإمكان في أي وقت أن يخطفه من هو أقوى منهم، وإلام تهدف القضايا المرفوعة في المحاكم إن لم تكن تهدف إلى رد الأموال التي تمت سرقتها بالاحتيال أو بالعنف؟»
ب : «هذا حق.»
ف : «المرء إذن سيكون بحاجة إلى عون خارجي لكي يحمي ماله؟»
ب : «نعم.»
ف : «ولكنه لن يحتاج إلى هذا العون ما لم يكن لديه مال يمكن أن يفقده؟»
ب : «لن يحتاج بكل تأكيد.»
ف : «لقد انعكست القضية إذن! فإذا بالثروة التي يرتجى منها أن تجعل المرء مكتفيا بذاته قد أحوجته في الحقيقة إلى عون الآخرين، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نقول بأن الثروة تنفي الاحتياج؟ ألا يشعر الأغنياء بالجوع أو العطش؟ ألا يرتعد الأثرياء لبرد الشتاء؟ ستقول بلى ولكن الأغنياء لديهم الوسائل التي يدرءون بها الجوع والعطش وبرد الشتاء، ولكني أرد بأن الثروة قد تسد الحاجة ولكنها لا تذهب بها تماما، فمهما تشبع من هذه الحاجات النعابة والطلبات المستمرة تبق هناك بالضرورة تلك الحاجة التي تطالب، بدورها، بالإشباع، وغني عن القول إن الطبيعة يكفيها القليل، أما الجشع فلا يشبعه شيء، ومن ثم فإني أسألك: إذا كانت الثروة لا تذهب بالحاجة، بل تخلق حاجاتها الخاصة، فكيف تذهب إلى أنها سبيل الإشباع والاكتفاء؟!»
مهما اكتنز الغني
من مال وفير لا يشبع جشعا،
ومهما أثقل الغني جيده بلآلئ فارسية،
وذرعت ثيرانه مائة عزبة خصيبة،
فإن الهم لن يفارقه في حياته،
والثروة الخائنة لن ترافقه في مماته.
الفصل الرابع
المناصب والتبجيل
قلت: «غير أن مناصب الشرف تجعل من يتسنمها مرموقا وموقرا من الناس.»
فأجابت: «فهل في هذه المناصب قدرة حقا على أن تغرس الفضائل في نفوس أصحابها أو أن تقتلع الرذائل منها؟ كلا ... بل العكس هو الصحيح، فالأغلب أنها لا تقتلع الرذائل بل تكشفها وتخرجها إلى وضح النهار؛ لذا تجدنا نغضب ونسخط إذ نرى المناصب تؤول في الأغلب إلى أشد الناس لؤما وأكثرهم شرا، هذا ما دفع كاتولوس
Catullus
إلى أن يسمي نونيوس
Nonius
ب «الورم»، على الرغم من المنصب الرفيع الذي كان يتربع عليه.
ألا ترى أن المناصب لا تزيد الأشرار إلا خزيا؟ وأن تفاهتهم ما كانت لتتكشف للملأ لولا شهرة المنصب؟ أنت نفسك، هل كان بوسع أي قوة أن تدفعك إلى مزاملة ديكوراتوس
Decoratus
حين تستعيد في ذهنك كم كانت نفسه دنيئة وكم كان مهرجا واشيا؟ ... لا، ما كان لنا أن نوقر للمنصب من ليس أهلا للمنصب! بينما لا يسعنا إزاء من أوتي الحكمة سوى أن نراه أهلا للتبجيل، أو أهلا، على أقل تقدير، للحكمة التي أوتيها، أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «ذلك أن للفضيلة قيمتها الذاتية التي تنتقل مباشرة إلى كل من يمتلكها، أما المناصب العامة فليست من ذلك في شيء، ومن البين، إذن، أنها تفتقر إلى أي جمال أو قيمة في ذاتها، ثمة نقطة أخرى ينبغي التركيز عليها بشكل خاص: وهي أن المرء يزداد خزيا كلما ازداد عدد الذين يزدرونه من الناس، وحيث إن المنصب الرفيع يضع المرء نصب أعين الناس ولا يملك في الوقت نفسه أن يسبغ قيمة على فاقدها، فالمنصب أجدر، من ثم، أن يجعل صاحبه في وضع أشد زراية! إنه وضع يحمل معه عقابه: فالأشرار يضفون صفتهم المقيتة على مناصبهم التي يتولونها: فيدنسونها بدنسهم ويشينونها بشينهم.
أريدك أن تدرك أن الاحترام الحقيقي لا يأتي من هذه المفاخر الوهمية، هب رجلا تقلد منصب القنصل مرات عديدة في روما، ثم رمت به الظروف في بلاد البرابرة، ترى هل تجعله مناصبه موقرا من جانبهم؟ فلو أن الوقار صفة طبيعية في المناصب لما فارقها في أي محل من العالم، تماما مثلما أن النار حارة في أي مكان من الأرض، ولكنه ليس صفة طبيعية وإنما تلصقه بالمناصب آراء البشر الزائفة، ومن ثم يزول عنها بمجرد أن يوضع أصحابها بين أناس لا يقيمون لها وزنا.
هذا ما يكون بين الأجانب، ولكن هل يدوم مجد المناصب إلى الأبد في بلدها الأصلي؟ انظر كم كان عظيما شأن البريتور
1
في روما القديمة، ولكنه اليوم لا يعدو أن يكون لقبا فارغا وعبئا ثقيلا على دخل أي رجل من طبقة القناصل، كذلك كان متعهد الغلال، ولكنه اليوم في أدنى مكان، فكما قلت منذ هنيهة: إذا لم يكن للشيء جمال بذاته فإن كرامته تتفاوت باختلاف الأوقات وفقا لرأي المعنيين به.
إذا كانت المناصب إذن لا تجعل أحدا جديرا بالإجلال، وإذا كانت فوق ذلك تتلوث باتصالها بالأشرار، وإذا كان بريقها يخبو بتغير الزمن، وإذا كانت قيمتها تقل في تقدير الأمم الأخرى، فبربك قل لي أي جمال يمكن أن تسبغه المناصب على الناس، بل أي جمال فيها، هي ذاتها، يستحق الطلب؟»
رغم أن نيرون المغرور كان يرفل في ثيابه الأرجوانية
المرصعة باللآلئ البيضاء الثلجية،
فقد كان هذا المترف الوحشي بغيضا إلى الجميع،
ولكنه كان يقلد مناصبه المشينة أحيانا شيوخا أجلاء
من إذن يمكن أن يعدهم مكرمين
أولئك الذين يدينون بمكانتهم العالية لمثل هذا الوغد.
الفصل الخامس
الملك والسلطة
«هل الملك أو صداقة الملوك تمنح المرء قوة؟» إذا كان الجواب هو «نعم؛ لأن سعادتهم دائمة لا تنقطع» فسوف أجيبه بأن التاريخ الماضي، والحاضر أيضا، يعج بأمثلة لملوك تبدلت سعادتهم نكبات، فما أروع السلطة، التي يتكشف أنها عاجزة حتى عن أن تحفظ نفسها!
ولكن إذا كانت هذه السلطة الملكية تجلب السعادة حقا فإن أي نقصان فيها يعني انحسارا للسعادة وبداية للشقاء، أليس كذلك؟ ومهما اتسعت الإمبراطوريات فمن المحتم أن يبقى كثير من الناس خارج نطاق أي ملك، وحيثما انتهت القوة التي تجلب للناس السعادة دب فيهم الضعف وسبب لهم الشقاء، ومن ثم فلا بد أن هناك قسطا أكبر من الشقاء لدى الملوك، كان الطاغية ديونيسيوس
Dionysius
يعرف جيدا مخاطر الملك، إذ أخذ يمثلها لداموقليس
Damocles
بأن جعل سيفا يتدلى فوق رأسه معلقا بشعرة واحدة.
1
فأي سلطة هذه التي لا تستطيع أن تسكت هواجس القلق أو تتخلص من وخزات الخوف؟ يود الملوك أن يعيشوا من دون خوف، ولكن لا يستطيعون، ومع ذلك يتباهون بسلطتهم! هل تعده قويا ذلك الذي تراه يتمنى شيئا لا يستطيع بلوغه؟ أو هل تعده قويا ذلك الذي لا يمشي إلا مخفورا بحرس لأنه أشد خوفا من رعيته الذين يرهبهم، والذي لا بد له، لكي يبدو قويا، من أن يعيش تحت رحمة من يخدمونه؟
وإذا كان الملك نفسه على هذا القدر من الضعف فما بالك بالحاشية والبلاط؟ إنهم منكوبون بالملك لا في حالة سقوطه فحسب، بل وفي ظله وذراه! ألم يرغم نيرون صفيه ومعلمه سينيكا
Seneca
على اختيار الميتة التي يرضاها؟
2
وبابينيانوس
الذي كان ذا نفوذ طويل في البلاط، ألم يسلمه الإمبراطور أنطونينوس كاركالا
A. Carcalla
لسيوف جنده؟
3
لقد أراد كلاهما أن يتنازل عن سلطته، بل لقد حاول سنكا أن يعطي ثروته لنيرون ويحال إلى التقاعد، ولكن لم ينل أي منهما مأربه، وهوت به ثروته ونفوذه إلى الهلاك مثلما يهوي بالشيء ثقله ووزنه.
أي سلطة هذه التي تبث الخوف في نفوس أصحابها، إن رغبت فيها لم تمنحك الأمان، وإن رغبت عنها لم تتركك وشأنك؟ ولن ينفعك إذاك أي صديق ربطته بك ثروتك لا فضيلتك، فصديقك في السراء ينقلب عدوا في الضراء، وليس أقدر على الأذى من صديق انقلب عدوا.
4
من يرد أن يكون ذا سلطان حقيقي
فليبسط سلطانه أولا على نفسه
5
ولا يخضع لحكم أهوائه،
ويستسلم لنيرها الموبق،
قد تعنو الأرض لحكمك،
فترتعد له أقاصي الهند،
وتنحني «ثولي» خضوعا،
ولكن، ما دمت لا تستطيع أن تطرد الهموم السود،
ولا أن تنفي الهواجس المعذبة
فلست بملك بل عبد!
6
الفصل السادس
المجد والحسب
فما أخبث المجد حقا وأقبحه، وما أصدق قول يوريبيديس على لسان أندروماخي:
أيها المجد ... أيها المجد كم رفعت
من حياة تافهة لعدد لا يحصى من الفانين.
كثيرون هم حقا أولئك البشر الذين اكتسبوا شهرة عظيمة من خلال الآراء الزائفة للدهماء، وليس أقبح من ذلك، وما أجدر الذين ينالون الثناء بلا استحقاق أن يخجلوا من سماع المديح، وحتى لو كان المديح مستحقا فإنه لا يمكن أن يضيف أي شيء إلى مشاعر الفيلسوف: لأنه لا يقيس سعادته بالشعبية والرواج بل بصوت ضميره الصادق.
فإذا راق المرء أن يكون مشهورا فمن المتعين أن يستخزي بنفس الدرجة إذا كان مغمورا، ولكني قلت منذ قليل إن هناك بالضرورة شعوبا كثيرة لا يمكن أن يسافر إليها صيت رجل واحد، بحيث ترى الرجل مشهورا هنا بينما أحد لم يسمع به قط في الصقع التالي من الأرض؛ لذا أرى أن الشهرة لا تستحق حتى أن تذكر في هذه القائمة: إن مجيئها اعتباطي وبقاءها غير مضمون.
أما عن دعوى الحسب والنسب فليس يخفى على أحد خواؤها وتفاهتها، فإذا كانت تصدر عن الشهرة فهي نبالة مستعارة لا فضل للمرء فيها بل الفضل للآباء والأجداد، وإن فضل الغير لا يمكن أن يسبغ مجدا على من هو عاطل من المجد، وأرى أنه إذا كان ثمة من خير في الحسب فهو هذا، وهذا وحده: أنه يفرض على الحسيب ألا يقصر عن أسلافه في الفضل.
من أصل واحد نبت أهل الأرض جميعا،
واحد فرد هو أبو الجميع، ومدبر الكل
أعطى الشمس ضياءها، والقمر هلاله
وذرأ البشر في الأرض، والنجوم في السماء
بث في الأجساد أرواحها التي هبطت إليها من الأعالي،
فهي العرق النبيل الذي خص به البشر جميعا
لماذا إذن تفتخرون بالأجداد؟
اذكروا الأصل الذي ينميكم،
وانظروا من الذي برأكم - إنه الله،
ليس ثمة من وضيع أو دنيء سوى من أحاطت به خطاياه،
وتجافى عن أصله الحقيقي إلى ما هو أدنى وأوضع.
الفصل السابع
اللذة والأسرة
وماذا أقول عن لذة الجسد؟ إن السعي إليها محفوف بالهم، والشبع منها مملوء بالندم، كما أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقام وتباريح، وكأنها ضرب من عقاب الإثم، لست أفهم أي سعادة في الشهوات إذا كان الأسى هو نهاية اللذة، ويعرف ذلك كل من يتجشم استعادة ذكرى انغماساته، فإذا قيل إن لذة الجسد يمكن أن تجلب السعادة، فلماذا لا نقول عن البهائم إنها سعيدة وهي لا تسعى في حياتها لغير إشباع حاجات الجسد؟!
حقا إن في الزوجة والأبناء لمتعة جد شريفة، ولكم كم ذا نرى من رجل لقي شقاءه في أبنائه، وأنت أدرى الجميع بمرارة هذه الحال، لقد خبرت بنفسك هذه الأشياء ولم تسلم مع ذلك من الهم، ألا يحق إذن ليوريبيديس أن يصف من لا أبناء له بأنه «سعيد في شقائه؟!»
1
لجميع اللذات طبع واحد
أن تغري تابعيها وتنخسهم إليها
لكنها، كسرب النحل المدوم،
تذر عسلها الحلو،
ثم تفر بعيدا، تاركة في قلب من تمسه
لدغة لا تزول.
الفصل الثامن
الدوافع الزائفة إلى السعادة
ما من شك، إذن، أن جميع هذه الطرق إلى السعادة هي ترهات لن تصل بنا إلى الغاية التي وعدتنا بها، وإن الشرور التي تكتنفها لهائلة كما سأبين لك باختصار.
فإذا أردت أن تذخر مالا فإنك، لا بد، منتزعه من حائزيه.
وإذا أردت أن تتألق في أبهة المنصب فسوف يتعين عليك أن تنبطح لمن أنعم عليك به: أي أنك إذا أردت أن تبز الآخرين في الكرامة سيكون عليك أن ترخص نفسك وتهينها بالتزلف!
وإذا أردت السلطة فلا بد من أن تعرض نفسك لمؤامرات رعاياك وأن تتجشم مخاطر جسيمة.
وإذا استهوتك الشهرة والمجد فسوف تجد نفسك في مسلك وعر، تتقاذفك الدروب وتشتبه عليك المسالك إلى أن تضنيك الهموم وتمحوك.
وإذا قلت أخب في الملذات ما حييت فسوف يلفظك الجميع بازدراء، باعتبارك خادما لأحقر مولى، وعبدا لأهش سيد - الجسد. أو فانظر كم هي تافهة تلك الغاية التي تهوي إليها قلوب عبدة الجسد، وكم هي قلقة غير مضمونة، وهل بوسعك أن تفوق الفيل ضخامة، أو الثور قوة، أو النمر سرعة؟ انظر إلى قبة السماء وتأمل ثبات بنائها ورشاقة حركتها وكف عن الإعجاب بما لا يستحق الإعجاب، على أن أعجب من السماء العقل الذي يسير السماء.
إن جمال الجسم هارب وعابر وأسرع زوالا من زهور الربيع، وإذا كان لنا، كما يقول أرسطو، بصر لينكيوس
Lynceus
1
الأسطوري الثاقب الذي ينفذ في الأشياء، فإن جسد ألكيبياديس
Alcibiades
2
البديع في ظاهره سيبدو لنا شديد القبح بمجرد أن نرمق أحشاءه، ليست طبيعتك نفسها ما يجعلك تبدو جميلا بل ضعف أبصار من ينظرونك، فتعشق مفاتن الجسد كما تشاء، ولكن تذكر أن ثلاثة أيام من الحمى لن تبقي لها أثرا.
وصفوة القول إن هذه الأشياء، التي لا تأتي بالخير الذي وعدت به ولا تبلغ كمال الخير إذا اجتمعت، ليست هي الطريق إلى السعادة، ولا يمكنها بذاتها أن تجعل الناس سعداء.
وا أسفاه، يا للجهل الفاجع
الذي يضل بني الإنسان عن سواء السبيل،
من ذا الذي ينقب عن الذهب في أغصان الشجر؟
وعن الجواهر في عرائش العنب؟
وينصب شباكه في قمم الجبال
ليصيد أسماك الوليمة؟
أي صياد يلتمس العنز البري في عرض البحر؟! ... ... ...
إنهم ليعرفون أي مياه تزخر أعماقها بالدر المكنون،
وأي سواحل تزخر بالأرجوان،
ويعرفون أن يلتمس السمك الطري،
وأين يلتمس المحار،
ولكنهم سادرون في عماهم
لا يعرفون أين يكمن الخير الذي يريدون،
ويهبطون إلى الأرض
ينبشون فيها عما هو أعلى من السماء. •••
أية لعنة بحجم غفلتكم يمكن أن أستنزلها عليكم؟
الهثوا وراء الثروة والمجد،
وحين يستوي لكم منهما ركام زائف؛
هنالك تدركون ما هو الخير الحقيقي.
الفصل التاسع
وحدة الخير الحقيقي
«لعلني الآن قد عرضت لك صورة السعادة الزائفة عرضا وافيا، فإذا كنت قد تبينتها بوضوح فإن مهمتي التالية هي أن أبين لك ماذا تكون السعادة الحقة.»
قلت: «إنني أرى حقا أن الثروة لا تغني، وأن القوة لا شأن لها بالملك، ولا الاحترام بالمنصب، وأن المجد الحقيقي ليس بالشهرة، والسعادة الحقيقية ليست نتاج الملذات.»
ف : «ولكن هل فهمت السبب وراء ذلك؟»
ب : «أظن أن لدي فكرة غائمة عنها، ولكني أود أن أتعلم منك بوضوح أكبر.»
ف : «السبب في غاية الوضوح: يكمن خطأ الإنسان في أنه يأخذ ما هو بسيط وغير قابل للانقسام فيحاول تقسيمه، فيحيل حقيقته إلى زيف وكماله إلى نقص ، قل: هل يمكن أن نصف الشيء الذي يكتفي بذاته ولا يحتاج إلى غيره بأنه بلا قوة؟»
ب : «كلا، على الإطلاق.»
ف : «بالطبع لا؛ لأنه إذا كان به ضعف ما في جانب من الجوانب لاحتاج بالضرورة إلى عون شيء آخر.»
ب : «هو ذاك.»
ف : «إذن الاكتفاء والقوة شيء واحد، وطبيعة واحدة؟»
ب : «يبدو ذلك.»
ف : «أترى كائنا بهذا الحال جديرا بالاحتقار أم، على العكس، جديرا بكل احترام؟»
ب : «بكل احترام من دون أدنى شك.»
ف : «إذن دعني أضيف حالة الاحترام إلى الاكتفاء والقوة، بحيث تكون ثلاثتها شيئا واحدا.»
ب : «لا بد من ذلك إن كنا ننشد الحقيقة.»
ف : «ما ظنك إذن بمثل هذا التضام؟ أيكون خاملا أو نكرة، أم يكون ذا صيت وشهرة؟ إذا سلمت بأنه لا يعوزه شيء، وأنه يمتلك كل القوة، وأنه جدير بكل الاحترام، أيمكن إذاك أن يعوزه أي مجد يحوزه لنفسه فيستهان به من أي جهة؟»
ب : «كلا، بل لا يسعني إلا أن أسلم بمجده أيضا.»
ف : «يترتب على ذلك أن الصيت والمجد والسمعة لا تختلف عن الثلاث الأخريات؟»
ب : «نعم.»
ف : «إذن، إذا كان ثمة كائن مكتف بذاته، قادر على تحقيق كل شيء بقدراته الخاصة، مجيد، وجدير بالاحترام، فمن المؤكد أنه سيكون مفعما بالسعادة؟»
ب : «ومن أين يتسلل الأسى إلى مثل هذا الكائن؟ فلا بد أن نسلم، ما دام محتفظا بصفاته الأخرى، بأنه مفعم بالسعادة.»
ف : «ولنفس السبب فلا فكاك من هذه النتيجة أيضا: الاكتفاء، والقوة، والمجد، والاحترام، والسعادة، تختلف في الاسم ولكن لا تختلف في الجوهر؟»
ب : «نعم.»
ف : «إذن حين يعمد البشر بحماقتهم إلى تجزيء ما هو بطبيعته واحد وبسيط، وإلى تحصيل جزء من شيء لا أجزاء له، فإنهم لا يحصلون على الجزء - الذي لا وجود له، ولا على الكل - الذي لا يولونه اهتماما.»
ب : «وكيف يحدث ذلك؟»
ف : «حين يسعى امرؤ إلى الثروة بأن يحاول أن يتجنب الفقر، فإنه لا يعمل على نيل القوة، وهو يفضل أن يكون مغمورا وخاملا، بل ويحرم نفسه من مسرات الطبيعة لكي لا يفقد المال الذي حازه، ولكن من المؤكد أنه لا يحقق اكتفاء بهذه الطريقة، إذ هو مفتقر إلى النفوذ ومعرض للمضايقات، وهو قليل الشأن لأنه قليل الاعتبار مغمور خامل نكرة، وإذا سعى امرؤ إلى السلطة وحدها فإنه يبدد المال ويضحي بالثروة، ويحتقر المسرات والشرف ويرى المجد غير ذي قيمة، ولكن بوسعك أن ترى كم يخسر هذا الشخص: تعوزه دوما ضرورات الحياة، ويتملكه القلق ويستبد به، فيفتقد السلطة أيضا التي يريدها فوق كل شيء، والشيء نفسه ينطبق على الشرف والمجد والملذات، فكلها سواء، ومن ثم فإن الذي يسعى إلى واحدة منها بحيث يقصي الأخريات لن يظفر حتى بالتي يسعى إليها.»
ب : «ماذا إذن لو أراد شخص ما أن يظفر بهن جميعا في الوقت نفسه؟»
ف : «عندئذ سيكون راغبا في مجموع السعادة، ولكن أتظن أنه واجدها بين هذه الأشياء التي أثبتنا أنها عاجزة عن أن تقدم ما تعد به؟»
ب : «لا.»
ف : «من المحال إذن أن يجد السعادة في هذه الأشياء التي يظن أنها تحقق كلا من الحالات المطلوبة على حدة؟»
ب : «صدقت، ولا يمكن أن يقال ما هو أصدق من ذلك.»
ف : «لديك إذن طبيعة السعادة الزائفة وسببها معا، فلتحول نظرتك الآن في الاتجاه المقابل ولسوف ترى لتوك السعادة الحقيقية التي وعدت بأن أبينها لك.»
ب : «إنها لواضحة حتى لمن هو أعمى، ولقد كشفتها الآن عندما كنت تحاولين الكشف عن أسباب السعادة الزائفة، فالسعادة الحقيقية والكاملة، إن لم يجانبني الصواب، هي ذلك الذي يجعل الإنسان مكتفيا وقويا وجديرا بالاحترام ومجيدا ومبتهجا، ولكي أثبت لك أنني على فهم عميق للأمر، أقول إن بوسعي، دون أدنى شك، أن أرى أن هذه هي السعادة الحقيقية التي يمكن أن تضفي بالفعل أي واحدة من هذه الحالات، حيث إنها جميعا شيء واحد.»
ف : «بوركت يا بني، فقط أريد أن أضيف شيئا واحدا.»
ب : «ما هو؟»
ف : «هل تعتقد أن في حياة الفانين الزائلين أي شيء يمكن أن يمنح هذه الحالة؟»
ب : «لا أعتقد، وقد بينت ذلك على أتم وجه.»
ف : «من الواضح إذن أن هذه الأشياء تقدم للإنسان ظلال الخير الحقيقي فحسب، أو نعما منقوصة لا غناء فيها، ولا تقربه إلى الخير الحقيقي والكامل.»
ب : «نعم.»
ف : «وما دمت قد أدركت طبيعة السعادة الحقيقية ورأيت تقليداتها الزائفة، يبقى الآن أن ترى أين تلتمس هذه السعادة الحقيقية.»
ب : «وهو ذات الشيء الذي طال اشتياقي إلى رؤيته.»
ف : «ولكن عون الله لا بد من أن يطلب في الأمور الصغيرة والكبيرة كما قال تلميذي أفلاطون في محاورة طيماوس
Timoeus
1
فماذا، في اعتقادك، ينبغي علينا أن نفعله الآن، حتى نكون جديرين باكتشاف مصدر هذا الخير الأسمى؟»
ب : «ينبغي أن نبتهل إلى أبي الأشياء جميعا، فبدون ذلك لا يستهل عمل ولا يشمر لأمر.»
قالت: «حقا»، وأنشأت تغني:
يا من تدبر الأمر بقانون سرمد،
خالق الأرض والسماء،
يا من أتيت بالزمان من الأزل،
يا من تحرك كل شيء ولا تتبدل
لم يكن شيء يرغمك على أن تصوغ كتلة المادة المتقلبة،
ولكن فيك يقبع مثال الخير الأسمى،
فبرأت كل الأشياء وفق مثالك العلوي
أنت، أيها الجمال الأسمى، في عقلك تحمل العالم الجميل،
وتشكله على ذاك المثال،
آمرا الأجزاء التامة الخلق أن تستوي كلا تاما،
تضم العناصر معا بانسجام وتسلكها في نظام؛
فيتوازن الشيء بنقيضه: الحار بالبارد، والرطب باليابس،
وعن الحد لا تخف النار،
ولا التراب يثقل
خلقت الروح ثلاثية الطبيعة وسيطا بين العقل والأجسام المادية
تتخلل جنبات الطبيعة،
وما أن انفصلت الروح حتى اتخذت مسارها في دائرتين
لفت وعادت إلى ذاتها، محوطة العقل
وأدارت قبة السماء بنفس الطريقة،
ومن علل مماثلة برأت الأرواح والحيوات الأدنى،
التي نثرتها من الأعالي في مركبات رشيقة
خلال السماء والأرض،
وهي تكدح بقانونك السمح لتعود إليك في النهاية
خلال النار التي تعيدها إلى دارها. •••
هب لنا يا أبانا أن تصعد عقولنا إلى عرشك الأجل،
وأن نرى نبع الخير الحق،
واجعل لنا نورا ننظر إليك بعيون مبصرة،
بدد الغيوم الثقال لهذا العالم المادي،
تجل لنا في بهائك كله فأنت العدل،
وأنت السلام والسكينة للعابدين،
رؤيا جلالك هي منتهى أمانينا،
أنت مبدئنا وبارئنا ومولانا وطريقنا وغايتنا.
الفصل العاشر
الله هو الخير والسعادة
«أما وقد رأيت صورة كل من الخير الناقص والخير الكامل، فأظن أن واجبي الآن أن أبين لك أين تلتمس هذه السعادة الكاملة، وأعتقد أن أول سؤال علينا أن نسأله هو ما إذا كان أي خير من هذا النوع يمكن أن يوجد في طبيعة الأشياء، وذلك حتى لا نضل عن حقيقة هذا الموضوع بتفكير عابث لا أساس له، غير أنه لا مجال للشك في وجود هذا الخير وفي كونه المنبع الأساسي لكل خير؛ وذلك لأن كل ما يوصف بالنقص إنما يعتقد فيه ذلك بغياب الكمال، فإذا وجدنا في أي صنف من الأشياء جزئيا يبدو غير كامل فلا بد أن هناك أيضا عينة كاملة في الصنف نفسه، إذ لو حذفت الكمال لاستحال عليك أن تتخيل من أين يمكن أن يأتي ما يسمى عينة غير كاملة، إن الطبيعة لا تبدأ من الذي هو أدنى وأنقص، بل من الكامل والمثالي، ثم تنحدر وتتنكس إلى هذه الحالة الهابطة المهترئة، وحيث إننا أثبتنا لتونا أن هناك سعادة منقوصة في الخير الزائل، فلا شك إذن أن هناك سعادة حقيقية تامة.»
قلت: «وهو استنتاج سليم وصادق.»
ف : «أما مسألة أين تلتمس فينبغي أن تفكر فيها على هذا النحو: ينعقد اتفاق البشر جميعا على أن الله، بارئ كل شيء، هو خير، إذ لا يمكن للعقل أن يتصور ما هو خير منه، وما لا يوجد خير منه لا بد من أن يكون هو نفسه خيرا، ويتحقق فيه الخير الأكمل، وإلا لما كان هو بارئ الخلق ولكان هناك من هو أعلى منه وأكمل خيرا وأكثر قدما؛ لأن الكامل أعلى بالضرورة من المنقوص، ومن ثم، لكي نتفادى التسلسل اللانهائي لا بد لنا من أن نسلم بأن الله الأعلى يتصف بأسمى خير وأكمله، وحيث إننا قد اتفقنا على أن الخير الكامل هو سعادة كاملة، يترتب على ذلك أن السعادة الكاملة قائمة في الألوهية.»
ب : «نعم، أوافقك على هذا القول، ولا يمكن أن يطعن فيه طاعن.»
ف : «ولكني أناشدك أن تتحقق من أنك توافق بلا قيد وبلا تردد على ما قلناه من أن الله العلي يحوز أسمى خير.»
ب : «ماذا تقصدين؟»
ف : «ينبغي ألا تتصور أن الله، الذي هو مولى الأشياء جميعا والذي نوقن بأنه يحوز أعلى خير، أنه استمد هذا الخير من خارج ذاته، ولا أنه يحوزه بطبيعته ولكن بطريقة تجعلك تفترض أن الله - الحائز - والسعادة التي يحوزها، هما جوهران مختلفان، فأنت إذا افترضت أنه تلقى الخير من خارج ذاته فإن لك أن تعد المعطي أعلى من الآخذ، بينما نحن قد اتفقنا، بحق، على أن الله هو أسمى الموجودات جميعا، أما إذا افترضت أن الخير صفة طبيعية لله ولكنها شيء منماز منطقيا عنه، فكلما تحدثنا عن الله كمصدر للأشياء فمن ذا الذي يتصور وجود قوة اضطلعت بضم هذه المتمايزات؟
وأخيرا، إذا كان شيء ما منمازا عن شيء آخر فإنه لا يمكن أن يكون هو ذات الشيء الذي ينماز عنه؛ وعليه فإن أي شيء يختلف بطبيعته عن الخير الأسمى لا يمكن أن يكون هو الخير الأسمى، وما كان لنا أن نقول ذلك عن الله الذي لا يعلو عليه شيء مثلما اتفقنا.
إن من الممتنع على أي شيء أن يكون أفضل بطبيعته من ذلك المبدأ الذي صدر عنه، بوسعي أن أخلص من ذلك بمنطقية تامة إلى أن ذلك الذي هو مصدر الأشياء جميعا هو بذاته وبجوهره الخير الأسمى.»
ب : «حق تماما.»
ف : «ولكننا اتفقنا أن الخير الأسمى هو هو السعادة؟»
ب : «نعم.»
ف : «علينا أن نسلم إذن بأن الله هو السعادة المطلقة.»
ب : «إن مقدماتك صادقة لا تقبل الجدل، وهذا الاستنتاج يلزم عنها بالضرورة.»
ف : «انظر أيضا هل يثبت ذلك على نحو أقوى بالبرهان التالي: من المحال أن يكون هناك خيران مختلفان كل منهما متناه في الكمال، فمن البين أنه إذا انفصل خيران فإن الواحد منهما لا يمكن أن يكون الآخر، وبالتالي لا يمكن أن يكون أي منهما كاملا من حيث هو ينقصه الآخر، ولكن من الواضح أن ما هو غير كامل فهو ليس الأسمى، إذن من المحال أن يكون هناك أكثر من خير واحد متناه في الكمال، غير أننا أثبتنا أن الله والسعادة كلاهما هو الخير الأسمى، يترتب إذن أن السعادة المطلقة والألوهة المطلقة هما شيء واحد.»
ب : «لا يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر صدقا من هذا الاستنتاج أو أشد تماسكا منطقيا أو أليق بالله.»
ف : «بالإضافة إلى ذلك دعني أقدم لك «لازمة»
corollary (أو «بوريزما»
porisma
باليونانية) مثلما يفعل الرياضيون في الهندسة إذ يستخلصون شيئا جديدا من «المبرهنة»
theorem
التي تم إثباتها: بما أنه من خلال امتلاك السعادة يصبح الناس سعداء، وحيث إن السعادة، في الحقيقة، هي الألوهة، فمن البين أنه من خلال امتلاك الألوهية يصبحون سعداء، وبالمنطق نفسه الذي يصبح به الناس عادلين بالعدل وحكماء بالحكمة، فإن أولئك الذين يمتلكون الألوهة يصبحون إلهيين، كل امرئ سعيد هو إذن إلهي، وبينما الله وحده هو كذلك بالطبيعة فإن بوسع أي عدد تشاء من الناس أن يصبحوا إلهيين بالمشاركة.»
ب : «جميلة حقا وجد قيمة هذه «اللازمة» سواء أعطيتها الاسم اللاتيني أو اليوناني.»
ف : «ولكن الأجمل هو ما يقودنا المنطق إلى إضافته إلى كل هذا.»
ب : «ماذا؟»
ف : «هل جميع هذه الأشياء، الاكتفاء، والقوة، وما شئت، هي كالأجزاء التي تشكل في اجتماعها جسدا واحدا وإن تعددت واختلفت الواحدة عن الأخرى؟ أو أن هناك واحدة منها يمكن أن تقدم جوهر السعادة، وتصنف تحتها البقية؟»
ب : «هل يمكن أن توضحي لي السؤال بأن تكوني أكثر تحديدا؟»
ف : «حسنا، ألم نعتبر السعادة خيرا؟»
ب : «بلى، الخير الأسمى.»
ف : «بوسعك أن تقول الشيء نفسه عنها جميعا، فتحكم بأن الاكتفاء التام هو السعادة، وكذلك القوة، والاعتبار، والمجد، والمتعة، حسن، السؤال هو: هذه الأشياء جميعا - الاكتفاء، القوة، ... إلخ - أهي خير كما لو أن السعادة جسد هي أعضاؤه، أم أن الخير شيء يعلو عليها وتنتمي هي إليه؟»
ب : «أفهم الأمر الذي تقترحين أن نبحثه، ولكني مشوق لسماع ما لديك بشأنه.»
ف : «أريدك أن تأخذ التفسير التالي: إذا كانت هذه الأشياء جميعا تتصل بالسعادة كما ترتبط الأعضاء بالجسم، ستكون مختلفة الواحدة عن الأخرى؛ لأن طبيعة الأجزاء أن يكون الجسم واحدا بينما الأجزاء التي تكونه متعددة، ولكننا أثبتنا أن كل هذه الأشياء متماهية، إذن هي ليست كالأعضاء، أضف أن ذلك سوف يظهر السعادة كأنها جسد مكون من عضو واحد وهو مستحيل.»
ب : «لا شك في ذلك، ولكني مشوق لما سيفضي إليه.»
ف : «من البين أن الخصائص الأخرى تصنف تحت الخير، فالناس لا يسعون إلى الاكتفاء إلا لأنهم يرونه خيرا، ولا يسعون إلى القوة إلا لأنهم يعتبرونها خيرا، والشيء نفسه ينسحب على الشرف والمجد واللذة.
السبب الرئيس إذن لطلب هذه الأشياء جميعا هو الخيرية؛ لأن ما ليس خيرا لا يمكن لأحد أن يرغب فيه، وإذا كان الناس يتوقون أحيانا إلى ما ليس خيرا فلاعتقادهم الخاطئ أنه خير.
ينتج من ذلك أن هناك مبررا لأن نعتقد أن الخير هو النقطة المحورية التي تتعلق بها كل المساعي والدوافع، فالرغبة الحقة إنما هي في الشيء الذي يدفع الناس إلى طلب هذا الشيء أو ذاك: فالذي يريد أن يمارس الفروسية من أجل الصحة الجيدة فإنه لا يرغب في حركة ركوب الخيل بحد ذاتها بل يرغب بالأحرى في الصحة التي يحصلها من ذلك، وما دام الناس يرغبون في كل الأشياء من أجل الخير الذي فيها، فلا أحد يرغب فيها بقدر ما يرغب في الخير نفسه، ولكننا اتفقنا أن الغاية من طلب الأشياء هي السعادة، إذن من الواضح البين أن الخير ذاته والسعادة متماهيان.»
ب : «هذا كلام لا يقبل الطعن.»
ف : «ولكننا أثبتنا أن الله والسعادة شيء واحد.»
ب : «نعم.»
ف : «للمرء إذن أن يستنتج أن جوهر الله أيضا إنما يكمن في الخير نفسه وليس في أي شيء آخر.»
هلموا إلي يا كل أسارى الرغبة،
المصفدين في أغلالها الفظة،
تلك الشهوات الغادرة التي تعشش في العقول الأرضية،
هنا سوف تجدون انعتاقا من العنت المضني
تجدون مرفأ راقدا في حضن السكينة،
وملاذا مرحبا بكل المعذبين. •••
ولا رمال تاجوس الذهبية،
ولا شواطئ هيرموس الوضاءة،
ولا سواحل إندوس الملتهبة،
تنثر الجواهر اختلط أخضرها بأبيضها
يمكن أن تهب النور لأي روح؛
بل تطمرها في غياباتها المعتمة
كل ما يخلب الألباب، ويخطف الأبصار
إنما تنضجه الأرض في كهفوها السفلى،
بينما النور البهي الذي تسير به السماء وتحيا،
ينأى عن هذه الأرواح المظلمة الخربة،
هذا هو الضياء الحق، من يبصر به
سيقول ما للشمس خبا ضياؤها.
الفصل الحادي عشر
كل شيء يبتغي الخير
ب : «لا يسعني إلا أن أوافقك، فكل الذي قلته يقف متماسكا يترابط بعضه ببعض بأوثق البراهين.»
ف : «كم تكون قيمته عندك إذا قادك إلى معرفة الخير ذاته؟»
ب : «سأعده ذا قيمة مطلقة إذا مكنني أيضا أن أرى الله، الذي هو الخير.»
ف : «سأجعل قولي واضحا ببرهان لا يناله الشك، شريطة أن تلتزم بما خلصنا إليه منذ قليل.»
ب : «سألتزم.»
ف : «لقد أثبتنا أن مختلف الأشياء التي يسعى إليها معظم الناس ليست كاملة وليست خيرا؛ لأنها مختلفة بعضها عن بعض ويفتقر بعضها إلى بعض ولا يمكنها أن تسبغ على المرء خيرا تاما مكتملا، وقلنا، من جهة أخرى، إن الخير الحقيقي يتأتى حقا إذا انضمت معا في شكل واحد وقوة فاعلة بحيث يتماهى الاكتفاء مع القوة والشرف والمجد واللذة، وما لم تكن جميعا شيئا واحدا، وتكن كلها الشيء نفسه، فلن تستحق أن تدرج بين الأشياء الجديرة بالسعي.»
ب : «لقد أثبت ذلك بما لا يدع مجالا للشك.»
ف : «عندما تختلف هذه الأشياء وتتباين لا تكون خيرا، ولكن عندما تشرع في أن تكون واحدا تصبح خيرا، يتبين من ذلك أنه إنما من خلال اكتسابها الوحدة تكون هذه الأشياء خيرا، أليس كذلك؟»
ب : «بلى، يبدو ذلك.»
ف : «ولكن أتوافق أم لا على أن كل شيء خير يعد خيرا من خلال مشاركته في الخيرية؟»
ب : «أوافق تماما.»
ف : «إذن أنت مضطر إلى أن توافق بنفس القياس على أن الوحدة والخيرية متماهيتان؛ لأن الأشياء التي يتماهى تأثيرها الطبيعي لا بد من أن يكون لها الجوهر نفسه.»
ب : «لا يسعني أن أنكر ذلك.»
ف : «أنت تعرف إذن أن كل شيء في الوجود يبقى ويدوم ما دام واحدا، فإذا لم يعد واحدا فإنه لا يلبث أن يهلك ويتبدد.»
ب : «كيف ذاك؟»
ف : «تماما مثلما هو الحال في الكائنات الحية: إذا التقى الروح والجسم وبقيا متحدين نكون بإزاء كائن حي، أما إذا تفسخت هذه الوحدة بانفصال أي مكون، فمن الواضح أن الكائن يهلك ولا يعود موجودا، ينطبق الأمر أيضا على الجسد نفسه: فما دام محتفظا بهيئة واحدة من خلال اتحاد أعضائه فأنت ترى صورة بشرية، أما إذا تفرقت الأجزاء وانفصلت وانحطمت وحدة الجسم فإنه لا يعود ما كان، وبوسعك أن تستعرض كل شيء وسيكون واضحا لك من دون أي ظل من الشك أن كل شيء يبقى ما دام واحدا ويزول بزوال وحدته.»
ب : «نعم، بوسعي أن أعدد كثيرا من الأشياء التي ينطبق عليها ذلك.»
ف : «والآن، هل هناك شيء يفقد خلال مسعاه الطبيعي إرادة البقاء ويرغب في الموت والفساد؟»
ب : «في حدود المخلوقات الحية التي تتمتع في طبيعتها بالإرادة لا أعرف في أي منها أي رغبة في التخلي عن عزمها على البقاء كما هي، أو في التعجيل بالموت، ما لم ترغمها على ذلك قوى خارجية قاهرة، فما من حي إلا يجهد للبقاء ويتجنب الموت والهلاك، أما بالنسبة للشجر والنبات فيخالجني الشك فيما ينبغي أن أقره بشأنها.»
ف : «وحتى في هذه الحالة ليس هناك مجال للتردد، فأنت ترى كيف ينمو الشجر والنبات في الأماكن الملائمة له، وكيف يذوي سريعا ويموت إذا لم يلائمه المكان، منه ما ينمو في الحقول، وما ينمو في الجبال، والبعض تغذوه المستنقعات، والبعض يتعلق بالصخور والبعض يترعرع في الصحاري المقفرة فإذا ما غرسته في مكان آخر صوح وذبل، إن الطبيعة لترأم كلا بما يلائمه وتكد لتدرأ عنه الموت ما دامت شروط الحياة مواتية.
تأمل كيف تدبر النباتات غذاءها بجذورها، لكأنها تضرب في الأرض أفواهها، وكيف تدب العافية في لبها ولحائها، وانظر كيف يتوارى جانبها الأرق، كالعصير، دائما إلى الداخل، بينما تتدرع بلحاء خارجي له بأس الخشب يقيها غوائل الطقس، وانظر مدى حرص الطبيعة على أن تضمن لكل النباتات استمرارها بإكثار بذورها، إنها، كما هو معلوم جيدا، أشبه بآلات منتظمة، ليس لمدة حياتها فحسب، بل لامتداد نوعها وذراريها إلى الأبد.
حتى الأشياء التي يفترض أنها غير حية تحافظ جميعا على نفسها على نحو مماثل، لماذا يعلو اللهب إلى أعلى بخفته وتهبط الأجسام الصلبة إلى أسفل بثقلها، إن لم يكن ذلك لملاءمة هذه الأوضاع والحركات لكل منها؟ وفضلا عن ذلك، فإنها تحفظ ما هو ملائم لكل شيء مثلما تدمر ما هو مؤذ له، فالأشياء الصلبة، كالحجر، تندمج بتماسك شديد بين أجزائها وتقاوم الانكسار، أما السوائل والهواء والماء، فتستسلم للانقسام وتعود فتلتئم بسهولة مع أجزائها المنفصلة، أما النار فلا يمكن أن تقطع على الإطلاق.
لسنا بصدد الحركات الإرادية للعقل الواعي، بل الحركات الغريزية للطبيعة، فنحن، على سبيل المثال، نهضم الطعام الذي تناولناه دون أن نعي ذلك، ونتنفس لا شعوريا أثناء نومنا، فحب البقاء حتى في الأشياء الحية ليس مرده إلى رغبة العقل بل إلى مبادئ الطبيعة، فكثيرا ما يقبل العقل، تحت تأثير الضغوط الخارجية، فكرة الموت، بينما ترفضها الطبيعة في وجل، ومن جهة أخرى، قد تكبح الإرادة عملية الإنجاب، وهي الطريقة الوحيدة لاستمرار المخلوقات الفانية، بينما ترغب فيها الطبيعة على الدوام، إلى هذا الحد ينجم حب البقاء لا من الرغبة الواعية بل من الغريزة الطبيعية، هكذا منحت العناية مخلوقاتها سببا عظيما لاستمرار الحياة، وهو الرغبة الغريزية للبقاء على قيد الحياة جهد المستطاع، ومن ثم فليس لك أي مبرر للشك في أن جميع الأشياء الكائنة لديها رغبة فطرية في استمرار وجودها وتجنب فنائها.»
ب : «أعترف أنني أرى الآن دون أدنى شك ما بدا لي غير يقيني منذ قليل.»
ف : «ولكن، أيما كائن يريد بقاءه ودوام وجوده فإنه يود أن يكون واحدا ... يريد الوحدة، انتزع الوحدة من الشيء ولن يعود هذا الشيء موجودا.»
ب : «هذا حق.»
ف : «إذن كل الأشياء ترغب الوحدة؟»
ب : «نعم.»
ف : «ولكننا أثبتنا أن الوحدة تتماهى مع الخير؟»
ب : «نعم.»
ف : «إذن جميع الأشياء ترغب في الخير، بحيث يسعك القول بأن الخيرية هي ما ترغب فيه جميع الأشياء.»
ب : «ليس أصدق من ذلك استنتاجا، فإما أن تضطرب جميع الأشياء دون وجهة واحدة وتتخبط بلا هدف ولا مرشد، وإما أن هناك شيئا تتجه إليه جميع الأشياء، وإذا كان ثمة من شيء تكدح إليه الأشياء فسيكون هو أسمى الخير كله.»
ف : «كم أنا سعيدة يا بني لأنك قبضت على جمع الحقيقة، وبذلك يكون قد انكشف لك ما كنت تقول منذ قليل إنك لا تعرفه.»
ب : «ماذا؟»
ف : «انكشف لك ما هو هدف الأشياء جميعا، فمن المؤكد أنه هو نفسه ما ترغب فيه جميع الأشياء، وبما أننا اتفقنا على أن ما يرغب فيه الجميع هو الخير، فلا مناص من أن نتفق على أن الخير هو غاية الأشياء جميعا.»
من أراد أن يبحث عن الحقيقة بكنه الهمة،
وألا تضله السبل
فعليه أن يتجه إلى داخله ويوقد نوره الباطن،
وأن يطوي ترهات عقله الطويلة إلى دائرة واحدة،
وأن يعلم قلبه أن ما يبغيه في الخارج بالكد والعنت،
هو يملكه بالداخل مذخورا في أعماق الروح
هنالك تنقشع غيوم الضلال الكئيبة،
عن الحقيقة المحجوبة، فتتجلى أوضح من الشمس ذاتها،
فكثافة الجسد التي تولد النسيان
لم تحجب عن العقل الضياء كله،
فبذرة الحقيقة ما تزال تعلق هناك،
ويمكن أن تروحها الفلسفة
1
وتوقظ جذوتها
وإلا فكيف يسعك أن تجيب كلما سئلت،
وتقول صوابا
لو لم تكن فيك جذوة
تئز بأعماق روحك،
2
ولو صدقت ربة الفن عند
3
أفلاطون،
فإن المرء لم ينس
إنما هو يذكر نفسه بما يعلمه.
4
الفصل الثاني عشر
الله يدبر العالم بالخير
عندئذ قلت: أتفق مع أفلاطون كل الاتفاق، فهذه هي المرة الثانية التي ذكرتني فيها بهذه الأمور: فقد نسيتها أول مرة بتأثير الجسد، ونسيتها مرة ثانية حين أخنى علي الحزن.
ف : «إذا رجعت إلى ما اتفقنا عليه سابقا، فسوف تتذكر بسهولة ما قلت الآن إنك نسيته.»
ب : «وما هو؟»
ف : «الطريقة التي يدبر بها العالم.»
ب : «نعم، أذكر أني قد اعترفت بجهلي، ورغم أن لدي حدسا بما سوف تقولين فإنني مشوق إلى أن أسمعه منك بوضوح أكثر.»
ف : «منذ قليل قلت إنك لا يخامرك أدنى شك في أن هذا العالم يدبره الله.»
ب : «وما أزال أقول بذلك وسأظل دائما أقول به دون أدنى شك، وسأوجز لك حجتي في هذا الشأن:
1
ما كان لهذا العالم أن يتشكل في صورة واحدة من أجزاء متفرقة متضادة لو لم يكن هناك من يوحد مثل هذا التنوع ويضم معا مثل هذه الأجزاء المختلفة، وهي إذ تتحد فإن اختلاف طبائعها نفسه وتنافرها فيما بينها كفيل بإفساد تآلفها وتمزيقها إربا إربا لو تركت لشأنها ولم يمسك بها من جمعها ويحافظ على تماسك ما نسج من قبل. إن نظام الطبيعة الثابت لا يمكن أن يمضي في طريقه ويؤتي ضروبا من الحركة المنتظمة، في المكان والزمان والتأثير والمسافة والخصائص ما لم تكن هناك قوة ثابتة لا تتحرك لكي تنظمها، للإشارة إلى هذه القوة، أيا ما تكون، التي تبقي الخلق في وجود وفي حركة، أستخدم الكلمة التي يستخدمها الناس جميعا: الله.»
ف : «ما دمت ترى هذا فلم يبق لي ما أفعله قبل أن تعود إلى وطنك الحقيقي سالما آمنا والسعادة ملك يديك.
ولكن دعنا ننظر في الحجج التي طرحناها، تحت السعادة أدرجنا الاكتفاء، أليس كذلك؟ وقد اتفقنا على أن الله هو السعادة نفسها؟»
ب : «نعم.»
ف : «لذا فإنه في تدبيره للكون لا يحتاج إلى مساعدة من الخارج وإلا ما كان مكتفيا بذاته.»
ب : «هذا مترتب بالضرورة.»
ف : «إذن هو يدبر كل الأشياء بنفسه؟»
ب : «نعم بلا شك.»
ف : «وقد أثبتنا أن الله هو الخير ذاته.»
ب : «نعم، أذكر ذلك.»
ف : «إذن هو يدبر كل الأشياء بالخير ما دام يدبرها بنفسه وقد عرفنا أنه هو الخير ، وهذه إذن هي «الدفة والسكان»، إن صح التعبير، التي تدار بها آلة العالم سالمة آمنة .»
ب : «أوافق بشدة، وهذا بالضبط ما كنت أتوقع أنك ستقولينه بالرغم من أنني لم أكن موقنا من حدسي.»
ف : «أصدقك، فأنت الآن فيما أرى تحتشد وتحد البصر لرؤية الحقيقة، على أن ما سأقوله ليس يخفى على البصر.»
ب : «وما هو؟»
ف : «أما وقد تحققنا من أن الله يسير الأشياء جميعا بمقود الخيرية، وأن الأشياء جميعا، كما قلت، لديها نزوع طبيعي نحو الخير، فلا محل للشك بأنها تسعى بملء إرادتها وتمتثل طواعية لإرادة ربانها ومدبرها الأعلى.»
ب : «هو ذاك يقينا؛ إذ لن تبدو قيادة سعيدة إذا كانت نيرا مفروضا على رقاب مكرهة لا تسليما راضيا مرضيا.»
ف : «لا يمكن لأي شيء، إذن، أن يعصي الله ويكون مخلصا لفطرته.»
ب : «لا يمكن.»
ف : «وإذا أراد العصيان فلن يربح في النهاية؛ حيث إنه يعصي من تبينا أنه أعلى سلطة فيما يتصل بالسعادة.»
ب : «لن يربح بكل تأكيد.»
ف : «أيكون ثمة من شيء، إذن، يمكن أن تكون لديه الإرادة أو القدرة على مناوأة الخير الأسمى؟»
ب : «لا أعتقد.»
ف : «إنه الخير الأسمى، إذن، ذاك الذي يدبر كل شيء بقدرة ورأفة.»
ب : «ما أسعدني بحديثك، بما برهنت عليه بأقوى الحجج، وعلى الأخص بأسلوبك في البرهان،
2
إنه ليجعلني أخجل الآن من كل شكاياتي المتبجحة الحمقاء.»
ف : «لا شك أنك سمعت في الميثولوجيا كيف شرع المردة يهاجمون السماء، لقد كانت هذه القوة الرحيمة ذاتها هي ما ردعهم كما ينبغي وردهم عن غيهم، ولكن، هل تود أن أطرح مفارقة، أو تضاربا في الحجج، لعل اصطداما من هذا النوع أن يولد شررا جميلا من الحقيقة؟»
3
ب : «كما شئت.»
ف : «لا يشك أحد في أن الله شامل القدرة
omnipotent .»
ب : «لا يشك عاقل في ذلك على الإطلاق.»
ف : «ومن حيث هو كلي القدرة فهل ثمة شيء لا يستطيع فعله؟»
ب : «لا شيء.»
ف : «فهل يستطيع الله أن يفعل الشر؟»
ب : «لا.»
ف : «إذن الشر لا شيء ؛ لأنه ذلك الذي لا يقدر على فعله من يقدر على كل شيء.»
4
ب : «إنك تداورينني ، أليس كذلك؟ بنسج متاهة من الحجج لا أعرف كيف أخرج منها، فمرة تدخلين من حيث تخرجين من بعد، ومرة تخرجين من حيث تدخلين، أم تراك تعقدين حلقة عجيبة من بساطة الألوهية؟ فمنذ قليل بدأت بالسعادة وقلت إنها في الله، ثم بدأت تحاجين بأن الله نفسه هو أيضا الخير الأسمى والسعادة الكاملة، ثم دفعت لنا بنفحة ما حين قلت بأن المرء لا يكون سعيدا ما لم يكن أيضا إلهيا. لقد قلت إن كنه الخير نفسه يتماهى مع جوهر الله وجوهر السعادة، ولقنتني أن الوحدة نفسها هي الخير نفسه لأن الأشياء جميعا تنزع بطبيعتها إلى الوحدة، ثم قلت بأن الله يدبر ويسير الكون بمقود الخيرية، وأن جميع الأشياء تمتثل طائعة، وأن الشر لا شيء، كل أولئك تبسطينه من دون أي عون خارجي، بل يلتحم كل برهان بالآخر ويستمد مصداقيته من سابقه.»
عندئذ أجابت: «ما كنت هازئة بك. بفضل من الله الذي دعوناه، منذ لحظة وصلنا إلى أسمى الأشياء جميعا؛ إن صورة الجوهر الإلهي تقتضي ألا يذوب في خارجه ولا يستمد شيئا مما سواه، وكما يقول بارمنيدس
«مثل كرة محكمة الاستدارة».
يدير كرة الكون ويبقى هو ثابتا، فإذا كنت أتناول حججا لا تستمد من الخارج بل من داخل حدود المسألة المطروحة فلا عجب في ذلك. لقد تعلمت على عهدة أفلاطون أن علينا أن نستعمل لغة مثيلة بموضوع الخطاب.»
5
سعيد هو الإنسان الذي أمكنه
أن يشاهد النبع البللوري للخير،
أن يتخلص من أغلال المادة والأرض ويتركها وراءه.
قديما عندما شرع أورفيوس يندب زوجته التي غيبها الموت
انسابت أنغامه الشجية فتحركت لها الأشجار لتتبعه،
وتوقف مجرى الأنهار عنده،
وجعلت الأيائل ترافق الأسود الضواري دون وجل،
والأرنب ينظر مطمئنا إلى كلب الصيد
المخدر الآن بصوت الموسيقى،
ولكنه وقد أذابت قلبه لوعة الفراق،
والتعجت في أحشائه نيران الأسى،
فإن نشيده الذي أخضع لسلطانه كل شيء
لم يشف غلة منشده نفسه!
فشكا قسوة الآلهة في الأعالي،
ودنا إلى العالم السفلي للموتى،
هناك جعل يضرب على أنغام ناعمة مهدئة ،
ويرتل أناشيد استقاها قديما من نبع أمه
6
الأصيل،
لقد منحه حزنه الجارف قوة،
وضاعف حبه من قوة حزنه؛
فحرك بكاؤه أعماق الجحيم
وتضرع إلى سدنة العالم السفلي أن ترحمه.
وقف كيربيروس
7
الحاجب ذو الرءوس الثلاثة
مشدوها مأسورا بسحر النغم،
أما آلهة الانتقام
التي تلقي الرعب في قلوب المذنبين،
فقد فاضت أعينها من الدمع،
وتوقفت عجلة إكسيون،
8
ونسي تانتالوس
9
عطشه وازدرى الماء الجاري،
وانشغل النسر بالأنغام،
فكف برهة عن نهش قلب تيتيوس،
10
وأخيرا صاح بلوتو ملك العالم السفلي بصوت متهدج: «لقد استسلمنا ... خذ معك زوجتك فقد فديتها بأغنيتك،
ولكن نعمتنا مشروطة بشرط واحد:
ألا تنظر وراءك إليها
حتى تغادر هذه الدور المظلمة.»
ولكن ... من ذا الذي يمكن أن يقيد الحب بقانون؟!
الحب قانون نفسه.
وا أسفاه، فما كاد يبلغ أورفيوس تخوم عالم الظلام
حتى التفت وراءه ونظر إلى يوريدبكي،
فخسرها وخسر نفسه. •••
عنك أيضا تتحدث هذه الأسطورة،
أنت يا من تبتغي أن تحدو أفكارك إلى النور العلوي
فكل من يستسلم للرغبة
ويحول بصره عن السماء إلى الظلام الأرضي،
فإنه في هذه اللحظة
يخسر الجائزة التي حازها،
ويفقد كل ما عساه أن يصعد معه.
11
الكتاب الرابع
الخير والشر 1
لا تذم القضاء من كل وجه
لست تدري عن المقدر شيا
قد يكون البلاء موطئ لطف
ويكون المصاب رزقا خفيا
الفصل الأول
لماذا يزدهر الأشرار؟
أنشدت «الفلسفة» هذه الترنيمة الشجية الرقيقة بجلال ورصانة، غير أني لم أكن قد نسيت بعد ما يعتلج بصدري من الأسى، فعاجلتها وهي تهم باستئناف حديثها قائلا: «أنت أيتها المبشرة بالنور الحق، كل ما أفضيت به حتى الآن يبدو ملهما لمن يتأمله وبالغ الحجة لمن يتمعن فيه، لقد ذكرتني بما أنسانيه الحزن الذي ران علي لما لقيت من الظلم، وكنت أعرفه قبل ذلك حق المعرفة، إلا أن علة حزني الحقيقية هي هذه: أن أرى الشر قائما في عالم يدبره إله خير، بل أجد هذا الشر يمضي في طريقه بغير عقاب، ألا تبدو لك هذه الحقيقة وحدها مثيرة حقا لكل عجب ؟»
غير أن هناك شيئا لعله أكثر عجبا من ذلك؛ وهو أن الشر حين يسود ويزدهر فإن الفضيلة تمضي بغير جزاء، بل يدوسها الأشرار بأقدامهم، وينالها العقاب بدلا من أن ينالهم، فأن يحدث هذا في مملكة إله شامل العلم وشامل القدرة ولا يريد إلا الخير، فليس شيء أدعى من ذلك إلى الشكاة والحيرة.
فأجابت: نعم، كم يكون أمرا بالغ الغرابة والبشاعة حقا لو أنه مثلما حسبت، لكأني به أشبه بدار مرتبة لسيد جليل يعتنى فيها بالصحون الرخيصة بينما تهمل النفائس ويعلوها القذر! ولكن الأمر ليس كذلك، فإذا صحت الاستنتاجات التي انتهينا إليها، ولو تأملت فيها جيدا لتعلمت من الخالق نفسه، الذي نتحدث الآن عن حكمه وإمرته، أن الأخيار دائما أقوياء والأشرار عاجزون، وتعلمت منه أيضا أن الرذيلة لا تعدم الجزاء، والفضيلة لا تعدم المثوبة، وأن الطيبين ينعمون دائما بالسعادة والأشرار دائما أشقياء محرومون، وهناك الكثير من الاعتبارات المماثلة التي سوف تعضد لك هذا الرأي بقوة وصلابة، إذا ما هدأت ثائرتك وعدت إلى صوابك.
لقد تبينت صورة السعادة الحقة التي أظهرتك عليها الآن، وعرفت أين تكمن، فإذا ما ضربت صفحا عما لا ينبغي الوقوف عنده، فسوف أدلك على الطريق الذي يعود بك إلى وطنك، وسوف أمنح روحك جناحين تحلق بهما، فتزايلك الكروب جميعا، ويكون بوسعك أن تعود سالما إلى وطنك الأصلي، سأكون لك الدليل والطريق والوسيلة.
إن لدي أجنحة رشيقة
تحلق بها في أعالي السماء،
عندما يتخذها العقل
يزدري الأرض المقيتة من تحته،
ويعلو إلى الفضاء العريض،
ويرى السحاب وراءه وقد تخطاه بعيدا،
ثم يجوز خلال نطاق النار
التي تفور من فوق اهتياج الهواء المحموم
حتى يصعد إلى النجوم،
يلحق بالشمس في مسارها،
أو يتبع ساتورنوس (زحل) القديم البارد
حارس الكوكبة المضيئة،
أو يتخذ مسار أي نجم
من النجوم التي ترصع الليل،
وبعد أن يشبع ترحالا
يغادر السماء ويرود النطاق الأخير للأثير،
ويحوز الآن على الضياء الأجل ،
فها هنا ملك الملوك يحمل صولجانه
ويمسك بأعنة كل شيء مسكا وثيقا
ويحرك العربة المجنحة وهو ثابت.
مدبر العالم كله يتألق نورا،
فإذا ردك هذا الطريق إلى هناك،
الطريق الذي نسيته وتريد الآن أن تتذكره،
فلسوف تقول: «إنه هو ...
هذا وطني، منه أتيت
وفيه سأبقى ولن أبرح أبدا.»
فإذا ما عن لك أن تلقي نظرة على الأرض المعتمة من ورائك،
فلسوف ترى الطغاة الذين يرهبون الناس بجهامتهم
منفيين منبوذين لا مأوى لهم.
الفصل الثاني
الأخيار وحدهم الأقوياء
عندئذ قلت: «ما أضخم وعودك وأعرضها، وأنا لا أشك في قدرتك على إنجازها، ولكني أتوسل إليك ألا تتركيني أنتظر طويلا بعد أن أثرت اشتياقي.»
قالت: «إذن ينبغي أولا أن تعلم أن الأخيار لا تعوزهم القوة، والأشرار مجردون منها، والحق أن كلا من هاتين العبارتين تفسرها الأخرى؛ فحيث إن الخير والشر ضدان، فضعف الشر تثبته قوة الخير، والعكس بالعكس، ولكي أدعم يقينك بما أقول فسوف أمضي في كلا الاتجاهين وأبرهن على القضيتين برهانا مضاعفا.
والآن، ثمة شيئان يعتمد عليهما أداء كل فعل بشري؛ الإرادة، والقدرة، فإذا ما غاب أحدهما تعذر أداء أي فعل، إذا غابت الإرادة فلن يتجه المرء إلى فعل الشيء ومن ثم لن يقوم به، وإذا افتقر إلى القدرة فسوف يمارس إرادته من غير طائل؛ لذا عندما ترى شخصا يرغب في شيء ولا يحصل عليه فمن المؤكد أن ما ينقصه هو القدرة على الحصول على ما يريد.»
ب : «هذا أمر واضح لا يناله الشك.»
ف : «وإذا رأيت شخصا عمل ما أراده فلن تشك في أن لديه القدرة على عمله، أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «إذن قوة كل شخص أو قدرته إنما تقاس بما يمكنه عمله، ويقاس ضعفه بما لا يستطيع عمله.»
ب : «نعم.»
ف : «فهل تذكر ما انتهينا إليه سابقا من أن الاتجاه الطبيعي لإرادة البشر، كما تتجلى في مختلف مساعيهم، إنما ينصرف حثيثا نحو السعادة؟»
ب : «أذكر أننا أثبتنا ذلك أيضا.»
ف : «وهل تذكر أن السعادة هي الخير ذاته، وما دام البشر يرومون السعادة فإنهم بذلك يرومون الخير؟»
ب : «لا أذكره فحسب بل إنه ليرسخ في عقلي رسوخا.»
ف : «ومن ثم فإن الجميع، أخيارا وأشرارا، يسعون إلى الخير على اختلاف مشاربهم؟»
ب : «نعم، هذا يترتب بالضرورة.»
ف : «ولكن، يقينا، يصبح الأخيار أخيارا باكتساب الخير؟»
ب : «نعم.»
ف : «فالأخيار، إذن، يحصلون على ما يصبون إليه؟»
ب : «يبدو ذلك.»
ف : «ولكن إذا حصل الأشرار على ما يريدون - أي الخير - فلا يمكن أن يكونوا أشرارا؟»
ب : «لا يمكن.»
ف : «إذن كلتا الجماعتين تريد الخير، وحيث إن إحداهما تحصل عليه والأخرى تقصر، فليس ثمة أدنى شك في أن الأخيار أقوياء والأشرار عاجزون.»
ب : «من يشك في ذلك حقا فلا حكم له، لا في طبيعة الواقع ولا في منطق العقل.»
ف : «مرة أخرى، افترض أن هناك شخصين يقصدان إلى نفس المهمة بالغريزة الفطرية، فسعى أحدهما إلى تأديتها بالوظيفة الطبيعية وأتمها بنجاح، بينما عجز الثاني عن ممارسة الفعل الطبيعي واستخدام طريقة أخرى مضادة للطبيعة مقلدا الشخص الناجح من دون أن يتم غرضه الأصلي، فأيهما تراه الأكثر قوة؟»
ب : «يمكنني أن أحدس بما تعنين، ولكني أتوق إلى سماعه بوضوح أكثر.»
ف : «هل تنكر أن فعل المشي هو فعل طبيعي وبشري؟»
ب : «لا أنكر.»
ف : «ولعلك لا تشك أنه الوظيفة الطبيعية للأقدام؟»
ب : «نعم.»
ف : «فإذا كان بوسع رجل أن يسعى على قدميه ويمشي، بينما يفتقد رجل آخر الوظيفة الطبيعية للقدمين ويحاول أن يمشي على يديه، فأيهما يعد حقا أكثر قدرة وقوة؟»
ب : «سليني غير هذا! ومن ذا يشك في أن الرجل الذي يتمتع بوظائفه الطبيعية أكثر قدرة من فاقدها؟!»
ف : «حسن، إن الخير الأسمى هو هدف البشر، أخيارهم وأشرارهم على السواء، فأما الأخيار فيسعون إليه بالنشاط الطبيعي وهو ممارسة فضائلهم، وأما الأشرار فيعمدون إلى تحصيل الشيء نفسه من خلال شهوات شتى ليست بالوظيفة الطبيعية لاكتساب الخير، هل لديك على ذلك تحفظ؟»
ب : «كلا، بل إن مترتباته لواضحة جلية: أن الأخيار أقوياء والأشرار ضعفاء عاجزون.»
ف : «إن توقعك لفي محله، وهو ما ينبئ بأن طبيعتك الآن، مثلما يتمنى الأطباء دائما، ناشطة وقادرة على مقاومة المرض، وما دمت أراك سريع الفهم فسوف أدفع حججي دراكا، انظر مبلغ ضعف الأشرار، الذين يعجزون حتى عن بلوغ ما يقودهم إليه نزوعهم الفطري بل يدفعهم إليه دفعا، فماذا يكون حالهم لو زايلهم هذا العون الكبير القاهر للنزوع الطبيعي، وكفت الطبيعة عن أن ترشدهم إلى الطريق؟
انظر مدى العجز الذي يعيق الأشرار، إن ما يعجزون عن كسبه ليس بالشيء الهين، ليس ميداليات ألعاب، إن ما يفشلون فيه هو أسمى الأشياء جميعا وأهم الأشياء جميعا ... تاج التيجان، لقد فاتهم النجاح في المسعى نفسه الذي يكدون له ليلا ونهارا ولا ينشدون سواه، وهو ذات المسعى الذي يفلح فيه الأخيار وتتجلى قوتهم.
فإذا تمكن رجل من المضي على قدميه إلى نقطة قصوى ليس بعدها بعد فسوف تعتبره بطلا في المشي، وبالمقياس نفسه سوف تعد من يبلغ الهدف النهائي الذي ما بعده هدف بأنه بالغ القدرة، والنقيض أيضا صحيح، فأولئك الأشرار هم كذلك ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وإلا فلماذا يحيدون عن الفضيلة إلى الرذيلة؟ فإذا قلت لأنهم لا يعرفون ما هو خير لسألتك أي عجز أشد من عمى الجهل؟ وإذا قلت إنهم يعرفون ما ينبغي طلبه ولكن الشهوات أضلتهم السبيل لكانوا في هذا أيضا ضعفاء من حيث التحكم في النفس، أما إذا قلت إنهم تنكبوا الخير ومالوا إلى الشر عن علم وإرادة فإنهم في هذه الحالة لا يعدمون القوة فحسب، بل يعدمون الوجود نفسه! فالذي يتخلى من الناس عن السعي إلى الغاية العامة لكل الموجودات فإنه لا يعود هو نفسه موجودا!
قد يستغرب البعض قولي إن الأشرار، وهم أغلبية الناس، غير موجودين، ولكني سأبين لك كيف يكون ذلك.
ذلك أنني لا أنكر أنهم أشرار ولكن أنكر أن لهم وجودا تاما مكتملا، فأنت قد تسمي الجثة إنسانا ميتا ولكنك لا يمكن أن تسميها إنسانا ببساطة، كذلك الأمر بالنسبة للأشرار، فإذا كنت أوافق على أنهم أشرار فلا يمكنني أن أوافق على أنهم يتمتعون بوجود تام، فالشيء إنما يعد موجودا إذا كان يلزم مكانه الصحيح ويحافظ على طبيعته، فإذا تخلى عن ذلك لم يعد موجودا؛ لأن وجوده رهن بمحافظته على طبيعته، قد تحتج بقولك إن الأشرار يملكون مع ذلك الغلبة والبأس، ولكني أرد بأن هذا البأس وتلك الغلبة صادران عن الضعف لا عن القوة؛ لأنهم ما كانوا ليفعلوا الشر لولا أنهم فقدوا القدرة على فعل الخير، وهذا وحده يثبت بوضوح أنهم عاجزون عن فعل أي شيء، فلما كان الشر عدما كما بينا منذ قليل، وكان لا يسعهم إلا اقترافه، فواضح إذن أن الأشرار لا يقدرون على أي شيء.»
ب : «واضح.»
ف : «ولكني أريدك أن تعي بدقة طبيعة القوة التي نتحدث عنها، لقد خلصنا منذ قليل إلى أنه لا شيء يعلو على الخير الأسمى ويفوقه قوة وبأسا.»
ب : «هو ذاك.»
ف : «ولكن الخير الأسمى لا يمكنه فعل الشر.»
ب : «لا يمكن.»
ف : «ولا أحد يقول بأن البشر ذوو قدرة مطلقة، أليس كذلك؟»
ب : «بلى، ما لم يكن مأفونا.»
ف : «ولكن البشر يمكنهم فعل الشر.»
ب : «وكم أود ألا يمكنهم.»
ف : «فإذا ما كانت القوة التي لا يمكنها أن تفعل إلا الخير هي قوة مطلقة، بينما البشر، القادرون على فعل الشر، ليسوا كذلك، وكانت جميع أشكال القوة هي ضمن الأهداف المنشودة، وهذه الأهداف المنشودة ترتبط بالخير بوصفه المثل الأعلى لطبيعتها، والقدرة على ارتكاب الجرم ليست شكلا من أشكال الخير وليست من ثم هدفا منشودا، ولما كانت جميع أشكال القوة أهدافا منشودة جديرة بالسعي والطلب، يتبين من ذلك بوضوح أن القدرة على فعل الشر ليست شكلا من أشكال القوة.»
من ذلك كله يتضح أن الأخيار هم الأقوياء، ويتضح أيضا بما لا يدع مجالا للشك أن الأشرار ضعفاء عاجزون، ويتضح أن أفلاطون كان على حق حين قال في محاورة «جورجياس»
Gorgias
إن الحكماء فقط هم القادرون على تحقيق رغبتهم، بينما ينصرف الأشرار إلى ما يمنحهم اللذة ولا يستطيعون الوصول إلى هدفهم الحقيقي، إن أفعالهم تقوم على اعتقادهم بأنهم سوف يبلغون الخير الذي ينشدونه من خلال ملذاتهم، ولكنهم لا يبلغونه لأن الرذائل لا يمكن أن تبلغ السعادة.
قد ترى الملوك العتاة متربعين على عروش عالية،
في أرديتهم الأرجوانية البراقة، مسيجين بأسلحة كالحة
وجوههم جهمة متوعدة، قلوبهم تخفق بالغضب،
لو أنك تنزع عنهم، لحظة، غطاء الأبهة الفارغة،
سيروعك ما تراه من تحتها:
سترى أنهم مصفدون بأغلال خفية
سترى قلوبا تعتصرها الشهوة بسموم الجشع،
سترى الأحقاد الفائرة تترى أمواجا تجلد أرواحهم
يأسرهم الحزن المقيم، ويعذبهم الأمل الخادع،
فإذا كان بداخل رأس واحد يتربع طغاة بهذا العدد،
فمخلوعة هي إرادة الملك،
ومستعبد الناس هو المستعبد.
الفصل الثالث
الخير مثاب والشر معاقب
أرأيت إذن أي وحل تتمرغ فيه الرذيلة، وأي بهاء تتألق فيه الفضيلة؟ من هذا يتبين أن العمل الصالح لا يعدم الجزاء أبدا، والرذائل لا تعدم العقاب، والطريقة الصحيحة في النظر إلى هذا الأمر هي أن تعتبر الهدف المنوط بأي فعل هو هو ثوابه، تماما كما أن جائزة سباق العدو في الإستاد هي إكليل الغار الذي يجرى من أجله السباق، ولقد تبينا أن السعادة هي الخير ذاته الذي إليه يهدف كل عمل يؤدى؛ ولذا فإن الخير الخالص هو ثواب كل نشاط بشري، وحيث إن الخيرية لا يمكن أن تسلب من الأخيار، فإن الأفعال الخيرة لا تعدم جزاءها الحق، ومهما يمكر الأشرار ويكيدوا كيدا فإن إكليل غار الحكيم لن يسقط منه أبدا ولن يذوي.
وما كان لمكر الأشرار أن ينتزع من الأخيار مجدهم الخاص، فلو كان المجد الذي نزهى به مجدا مستعارا لاستطاع الآخرون، وبخاصة من أسبغه علينا، سحبه منا مرة ثانية، ولكن ما دام المجد يسبغه على المرء خيره وصلاحه فإنه لن يعدم جزاءه إلا إذا كف عن أن يكون صالحا.
وأخيرا، إذا كانت كل مكافأة إنما تنشد لأنها تعتبر خيرا، فمن يقول إن الذي وهب الخير والصلاح هو بلا مكافأة؟ تأمل مرة أخرى في «اللازمة»
corollary
التي نوهت بها عندما كنت أتحدث إليك منذ قليل، إذا كان الخير هو السعادة، فمن الواضح إذن أن جميع الأخيار ينالون السعادة بفضل كونهم أخيارا، وبما أننا اتفقنا على أن أولئك الذين ينالون السعادة هم إلهيون، فثواب الخير إذن هو ثواب يستحيل أن يبليه الزمن، ولا أن تسلبه أي سلطة في الأرض، ولا أن يعكره لؤم اللؤماء، وإذا كان الأمر كذلك، فلن يصح لأي عاقل أن يشك أدنى شك في العقاب المحتوم للأشرار، فالثواب والعقاب، شأن الخير والشر، ضدان، فالجزاء الذي نراه واجبا للأخيار لا بد من أن يوازنه عقاب مقابل للأشرار، فعقاب الأشرار إذن هو شرهم نفسه - الشر عقاب ذاته مثلما أن الخير ثواب ذاته.
والآن، لا يشك من يلقى عقابا أنه يلقى شرا ما، فإذا شاء الأشرار حقا أن يقيموا أنفسهم فما أحسبهم يرونها بمنجاة من العقاب وهم يلقون أسوأ الشرور جميعا - شرا لا يمسهم فحسب بل يتغلغل في عمق أعماقهم.
ثم انظر إلى العقاب الذي يلازم الأشرار من وجهة النظر المضادة، أي من وجهة نظر الأخيار، لقد عرفت منذ قليل أن كل ما هو موجود هو في حالة وحدة، وأن الخير نفسه وحدة، وترتب على ذلك أن كل ما هو موجود ينبغي أن نعتبره خيرا، يعني ذلك أن أي شيء يحيد عن الخير لا يعود موجودا، وأن الأشرار بذلك لا يعودون ما كانوه من قبل، إن شكل أجسادهم البشرية ما يزال يدلنا على أنهم كانوا بشرا؛ ولذا فلا بد أنهم فقدوا طبيعتهم البشرية عندما مالوا إلى الشر، ولما كان الخير وحده هو ما يمكن أن يعلو بالإنسان فوق بشريته، فإن الشر بالضرورة قمين بأن يتردى به إلى ما دون مستوى البشرية.
وعليه فلا يمكنك أن تعتبره إنسانا ذلك الذي مسخته رذائله، بوسعك مثلا أن تشبه الذي يسلب ويغتصب ويتحرق طمعا بالذئب، أما النزق العنيف الذي يكمن للناس وينقض عليهم غيلة فيشبه بالثعلب، أما الذي يرغي ويزبد ولا يكبح غضبه فسوف يقال إن به شرة الأسد، وأما المجفل الهياب الذي يرتاع وليس ما يدعو للفزع فسوف يعتبر كالأيل، والكسول البليد الغبي أليس يعيش عيشة الأتان؟ والنزوي المتقلب الذي لا يستقر على حال ألا يشبه العصفور؟ والمنغمس في الملذات المتمرغ في وحل الشهوات ألا يشبه الخنزير؟ ما يحدث إذن هو أن الإنسان حين يفقد خيريته ولا يعود إنسانا - أي لا يعود قادرا على السمو إلى الحالة الإلهية - فإنه يتدنى إلى مرتبة الحيوان.
أشرعة ملك إيثاكا،
1
وسفنه البحرية التائهة،
ساقتها ريح الشرق إلى الجزيرة
التي تعيش فيها إلهة جميلة،
هي كيركى، ابنة الشمس نفسها
مزجت كيركى لضيوفها الجدد،
بيدها الدربة في خلط الأعشاب
أكوابا مستها برقى سحرية،
فمسختهم إلى أشكال شتى،
فواحد يحمل وجه خنزير بري،
وواحد اتخذ شكل أسد أفريقي
ذي أنياب ومخالب،
وواحد صار ذئبا
يعوي كلما أراد أن يبكي،
وواحد كالنمر الهندي
جعل يلوب في الدار
بدبيب خافت،
أحدقت الأخطار بالسيد أوديسيوس،
ولكن الإله الأركادي المجنح (هيرميس)
أشفق عليه فأنقذه من لعنة كيركى،
أما بحارته فقد تجرعوا أكواب كيركى،
فانصرفوا عن خبز البشر
وتحولوا إلى القشر وجوز البلوط
طعام الخنازير،
لم يعد شيء كالذي كان
تغير الصوت والشكل،
وحده العقل بقي سليما
يأسى على مأزقهم البشع،
ولكن كيد كيركى كان ضعيفا،
وأعشابها عاجزة
حولت أعضاء الجسد
ولم تستطع تغيير القلب،
حيث تكمن قوة الإنسان
قابعة في حصن حصين. •••
ولكن السم الأنقع حقا،
هو ذلك الذي ينفذ إلى العقل والروح،
فيسلب الإنسان من نفسه
إنه يترك الجسم على حاله،
بينما يصيب العقل بجرح بليغ.
الفصل الرابع
المفلت من العقاب في شقاء
عندئذ قلت: «أنا متفق معك وأراك على حق في قولك إن الأشرار لا يحتفظون من إنسانيتهم إلا بالمظهر الجسدي الخارجي بينما مسخت أرواحهم إلى بهائم، غير أني كنت أود لو أنهم لا يمنحون القدرة على تدمير الأخيار من الناس بضراوتهم وخبثهم.»
ف : «إنهم لم يمنحوا هذه القدرة، كما سوف أثبت لك في الوقت الملائم، ولكن بافتراض أنهم سلبوا هذه القدرة التي تعتقد أنهم منحوها، فإن عقابهم في هذه الحال سيكون أخف بكثير، قد يبدو للبعض غير معقول ولكنه الحقيقة: إن الأشرار ليكونون أكثر شقاء لو بلغوا مآربهم مما يكونون لو قصروا عن بلوغها! فإذا كان من البؤس أن ترغب في الشر فإنه لأشد بؤسا أن تقدر على فعله، وحيثما رأيت أناسا لديهم الرغبة في ارتكاب جرم ما، ولديهم القدرة على ذلك، ثم رأيتهم وقد ارتكبوه فلا بد من أنهم يعانون إذاك بؤسا مضاعفا ثلاث مرات.»
ب : «نعم أوافقك، غير أني أتمنى من كل قلبي لو أنهم يعفون من أحدها، إذ يحرمون من القدرة على اقتراف الشر.»
ف : «إنهم سيعفون أسرع مما تتمنى ومما يظنون، فليس في مدة الحياة القصيرة شيء يتأخر طويلا في حسبان العقل الخالد وإدراكه، وكثيرا ما ينقطع رجاؤهم ويخيب كيدهم العظيم بنهاية مفاجئة غير متوقعة، نهاية تضع حدا لبؤسهم على أقل تقدير، ذلك أن خبثهم هو سبب شقائهم، فيدوم شقاؤهم ما دام بؤسهم، وما أذلهم وأشقاهم في العالمين لو لم يتدخل الموت في النهاية ليضع حدا لشرهم، فإذا صح استنتاجي حول بؤس الأشرار وشقائهم، فإن الشقاء الذي يترك لحاله سيكون شقاء لا نهاية له.»
ب : «إنه استنتاج غريب وصعب قبوله، وإن كنت أراه متسقا تماما مع ما سلمنا به من قبل.»
ف : «لك حق، ولكن ذا وجد المرء بأسا في قبول نتيجة معينة فإن عليه أن يبين بوضوح؛ إما أن هناك خطأ في الافتراضات السابقة، وإما أن تسلسل القضايا لا يفضي بالضرورة إلى النتيجة المطروحة، وإلا فما دام يسلم بالمقدمات فليس من حقه على الإطلاق أن يماحك ويتمارى في النتيجة، إن ما سأقوله الآن أيضا لن يبدو أقل غرابة، ولكنه بالمثل يترتب بالضرورة على ما سلمنا به وقبلناه.»
ب : «وما هو؟»
ف : «إن الأشرار يكونون أسعد حالا لو نالوا العقاب مما لو أفلتوا من جزائهم العدل، ولست أعني الآن ما قد يجول ببالك من قبيل أن الشر يقومه العقاب ويرده إلى الجادة خوف العقاب ... إلخ، لا، إنما أرى أن هناك معنى آخر يكون به الأشرار أكثر شقاء إذا ما أفلتوا من العقاب، بعيدا عن مسألة التأثير المقوم للعقاب، وقيمته كعبرة ورادع للآخرين.»
ب : «أي معنى آخر غير هذا؟»
ف : «حسن، لقد اتفقنا أن الأخيار سعداء والأشرار تعساء، أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «إذن، إذا ما أضيف شيء من الخير إلى بؤس أي شرير، ألا يكون أسعد حالا ممن بؤسه خالص صرف غير ممزوج؟»
ب : «يبدو ذلك.»
ف : «فماذا لو أن هذا الشقي نفسه الذي لم يحظ بأي قسط من الخير قد تلقى شرا جديدا مضافا إلى تلك الشرور التي سببت شقاءه، ألا يعد إذاك أكثر بؤسا بكثير من ذلك الذي خفف من بؤسه بقسط من الخير؟»
ب : «بالطبع.»
ف : «والآن، من الواضح أن عقاب الأشرار عدل، وإفلاتهم من العقاب غير عدل؟»
ب : «لا أحد ينكر ذلك.»
ف : «ولا أحد أيضا ينكر أن العدل خير، وأن الظلم، في المقابل، شر؟»
ب : «نعم، هذا أمر واضح.»
ف : «إذن عندما يتلقى الأشرار عقابا إنما يتلقون خيرا ما - وهو العقاب، الذي هو خير؛ لأنه عدل. أما إذا مضوا دون عقاب فإنهم إنما يكسبون بإفلاتهم شرا مضافا، ولقد وافقت على أنه شر، لأنه غير عدل.»
ب : «لا يسعني إنكار ذلك.»
ف : «إذن فالأشرار أكثر تعسا بكثير حين يتاح لهم الإفلات، منهم حين يفرض عليهم الجزاء العدل.»
ب : «إنه ترتب منطقي على النتيجة السابقة، ولكني أسأل: ألا تتركين أي عقاب للروح إلى ما بعد فناء الجسد؟»
ف : «هنالك حقا عقاب عظيم، منه ما يوقع عليهم بقسوة عقابية، ومنه، فيما أعتقد، ما يوقع برحمة تطهيرية، ولكني لا أريد أن أخوض في ذلك الآن.
1
لقد اقتفيت الحجة حتى الآن بالقدر الذي يسمح لك أن ترى أن قوة الأشرار، التي بدت لك غير مستحقة، هي في الحقيقة لا شيء، وأن ترى أن أولئك الأشرار الذين تأسى لإفلاتهم لا يعدمون العقاب أبدا على إثمهم، وأن تعرف أن طغيانهم الذي كنت تدعو بأن يعجل بكفه لا يدوم طويلا، وأنهم يكونون أتعس حالا ما دام طغيانهم، وأخيرا أن الأشرار يكونون أكثر بؤسا إذا برأت ساحتهم منهم إذا لقوا جزاءهم العدل، ويترتب على هذه الحقيقة أنهم يبهظون بعقاب أثقل، بالضبط عندما يظن أنهم نجوا من العقاب!»
ب : «عندما أنظر في حججك أراها أوجه ما يمكن أن يقال، ولكني حين أتحول إلى آراء عامة الناس أسائل نفسي: من ذا الذي يمكنه أن يفكر في ذلك، ناهيك بأن يصدقه؟»
ف : «حقا! إن أعينهم اعتادت الظلام، فلا يستطيعون رفعها إلى ضياء الحقيقة الواضحة، فما أشبههم بالطيور التي يحتد بصرها بالليل ويعمى بالنهار، وما داموا لا ينظرون إلى المسار الحق للأشياء بل إلى مشاعرهم ذاتها، فإنهم يظنون أن حرية الفجور والإفلات من العقاب هي أشياء سعيدة، ولكن انظر إلى ما يمليه القانون الأبدي: إذا كنت قد صغت روحك على ما هو أسمى فلا حاجة بك إلى حكم ليهبك جائزة، فأنت نفسك من دفعت حالك إلى الامتياز وأضفت نفسك إلى عداد الممتازين، ولكن إذا كنت قد تدنيت بها إلى الوضاعات فلا تبحث عن عقاب من الخارج، إنك أنت من أسففت وتبذلت ونزلت بها إلى أسفل سافلين، لكأنك في ذلك تنظر على التوالي إلى السماء وإلى قذر الأرض، وتضرب صفحا عن كل ما حولك، فبمجرد النظر ستبدو مرة سائخا في الطين ومرة محلقا بين النجوم، ولكن عامة الناس لا يلتفتون إلى هذه الأشياء.
ماذا نفعل إذن، هل نمشي في ركاب هؤلاء الناس الذين تبين لنا أنهم كالأنعام؟ أرأيت إلى رجل فقد بصره تماما ونسي حتى إنه كان يوما مبصرا، وظن هنالك أن لديه كل الكمال البشري، أترانا نحن المبصرين نظن ظنه؟
ثمة شيء آخر لن يقبلوه وإن لم يقل رسوخا منطقيا عن هذا: إن أولئك الذين يرتكبون الظلم لأشد شقاء ممن يقع عليهم الظلم.»
ب : «أود سماع هذه الحجج الراسخة.»
ف : «حسن، لعلك لا تنكر أن كل شرير يستحق العقاب؟»
ب : «لا أنكر.»
ف : «ومن الواضح، لأسباب كثيرة، أن الأشرار تعساء؟»
ب : «نعم.»
ف : «أنت إذن لا تشك في أن أولئك الذين يستحقون العقاب هم أناس تعساء؟»
ب : «نعم.»
ف : «افترض إذن أنك تجلس على كرسي القضاء، فعلى من سوف توقع العقوبة: على الشخص الذي ارتكب الجرم أم على الشخص الذي وقع عليه الجرم؟»
ب : «لا أتردد في القول بأني سوف أرضي من وقع عليه الجرم على حساب ذلك الذي ارتكبه.»
ف : «سترى إذن أن مرتكب الجريمة أكثر شقاء من ضحيته؟»
ب : «هذا منطقي.»
ف : «لهذا السبب، ولأسباب أخرى تقوم على نفس الأساس، فإنه لما كان الشر بطبيعته يجعل صاحبه أشد بؤسا، فإن الشقاء لا يحيق بضحية الجريمة بقدر ما يحيق بمرتكبها.
غير أن خطباء المحاكم يمضون في الاتجاه المعاكس، فيحاولون استدرار عطف المحكمة على أولئك الذين أصابهم ضرر ثقيل أو مؤلم، مع أنه أولى بالعطف أولئك المذنبون، كم بالحري أن يقدموا إلى العدالة لا بواسطة مجلس ادعاء غاضب متوعد بل بادعاء رءوف متعاطف، مثلما يقدم المرضى إلى الأطباء، بحيث يمكن أن يعالج مرضهم - الجريمة - بالعقاب، تحت هذه الظروف فإن مهنة الدفاع عن المجرم إما أن تتوقف بالكامل وإما، إذا شاءوا أن ينفعوا الناس، أن يتحولوا إلى مهنة الادعاء، والأشرار أنفسهم إذا أتيح لهم بطريقة ما بصيص من الفضيلة التي تخلوا عنها، وأمكنهم أن يروا أنهم بصدد التخلص من أدران الإثم من خلال آلام العقاب، فلن يعودوا يعتبرونها آلاما تلك التي ستعوضهم عن بؤسهم باكتساب الخير، وسوف يرفضون خدمات الدفاع ويسلمون أنفسهم بلا تحفظ إلى متهميهم وقضاتهم.
هكذا لا يكون بين الحكماء أي مكان للكراهية: فالأخيار لا يمكن أن يكرههم غير المأفونين، أما الأشرار فليس ثمة ما يدعو لكرههم على الإطلاق، فكما أن الضعف مرض الأجسام، كذلك الشر مرض الأرواح، وإذا كنا نعتبر مرضى الأجسام أحق بالعطف لا الكراهية، فإن من أصيب في روحه لأحق بالشفقة لا اللوم.»
إلام تثيرون انفعالاتكم،
وتريدون أن تزاحموا القدر في عمله،
وتنزلوا الموت بأيديكم؟
إن كنتم تريدون الموت فإنه قريب بطبعه
يحث أفراسه المجنحة،
الإنسان ضحية بأنياب السبع والثعبان،
والنمر والدب والخنزير البري،
فهل الإنسان ضحية الإنسان أيضا؟
لماذا يصنع الحرب ويريد أن يهلك بسيف أخيه؟
لأن تعاليمه مختلفة؟ فقط لهذا السبب؟!
أهذا سبب عادل للعنف وإراقة الدماء؟! •••
هل تريد أن توزع الاستحقاقات كما يجب ؟
إذن أحب الأخيار فهذا حقهم،
أما الأشرار فأشفق عليهم وأرث لهم.
الفصل الخامس
المثوبات والعقوبات تبدو كالمصادفة
عندئذ قلت: «نعم، بوسعي أن أرى أن ثمة ضربا من السعادة والشقاء غير منفصل عن الأفعال ذاتها لكل من الأخيار والأشرار، ولكني أعتقد أن هناك خيرا وشرا فيما يجري على عامة الناس من أقدار ومصائر، فليس ثمة حكيم يفضل أن يكون منفيا فقيرا مهانا على أن يكون غنيا موقرا قويا آمنا في وطنه مزدهرا في مدينته، فهذه هي الحال التي تعمل فيها الحكمة عملها على نحو أكثر وضوحا وشيوعا، عندما تنتقل سعادة الحكام، بطريقة أو بأخرى، إلى رعاياهم، وبخاصة إذا كان السجن والموت وبقية العقوبات القانونية مقصورة على المواطنين الأشرار ومقيضة لهم، لماذا ينقلب هذا كله رأسا على عقب؟ لماذا تنزل بالخيرين العقوبات التي جعلت للمجرمين؟ لماذا ينتزع الأشرار المكافآت المرصودة للفضيلة؟ كل أولئك يثير كل العجب، وإنني لأود أن أعرف منك سبب هذا الخلط الشديد والفوضى الظالمة.»
قالت: «لا عجب إذا ظن من لا يعرف نظام الطبيعة وأسبابها أن الأمر كله خبط عشواء، ولكن حتى إذا كنت تجهل الحكمة من وراء التدبير العظيم للعالم فليس لك أن تشك في أن كل شيء يجري على نحو قويم؛ لأن مدبرا خيرا يحكم العالم.»
من لا يعرف شيئا عن السماك الرامح؛
النجم الذي يتخذ مساره أقرب إلى القطب الأعلى من السماء،
كيف لا يعجب إذ يرى راعي الشاء
يقود الدب الأكبر ببطء شديد،
ويغمس وهجه في المحيط متأخرا جدا
غير أنه يعود للبزوغ مرة أخرى بسرعة كبيرة؟
كيف لا يحيره قانون السماء؟ •••
انظر، كلما خسف القمر وهو بدر
إذ يبسط الليل ظله على قرصه،
فينكشف الغطاء عن مجموعات النجوم المنتشرة
التي كانت كاسفة من بهاء نوره،
انظر كيف كانت الأمم بأسرها تهرع بالخطأ الشائع
إلى قرع الصنج النحاسية دون توقف،
1 •••
لا أحد يناله دهش حين تثور الرياح،
وتضرب الشاطئ بالموج الهادر
أو حين تذوب كتل الجليد الصلب
تحت لهيب شمس الصيف،
فهنا الأسباب في متناول اليد والفهم،
وهناك الأسباب خفية توقع الحيرة في القلوب،
فالزمن يهول من شأن الأشياء النادرة الحدوث،
والجموع تروعها الأشياء المباغتة غير المعتادة،
ولكن دع غيوم الجهل تنقشع عنها،
وسرعان ما يزول معها العجب والاندهاش.
الفصل السادس
العناية والقدر
قلت: «هو ذاك، ولكن لأن مهمتك هي كشف أسباب الأمور الخفية وإماطة اللثام عن الأسباب المحجوبة في الظلام، ولأن عقلي في حيرة شديدة من أمر هذه الظاهرة العجيبة، فإنني أتوسل إليك أن تنبئيني بتأويلها.»
فتوقفت وابتسمت لحظة وقالت: «إنك تدفعني إلى أعظم المسائل طرا، مسألة لا تمكن الإحاطة بها من جميع أوجهها، فهي من الصنف الذي كلما قطعت منه شكا نبتت مكانه شكوك عديدة، فكأنها رءوس الهيدرا
1
ولا يمكن للمرء أن يوقفها إلا بأذكى اللهب العقلي وأنشطه، فها هنا تقبع مسائل وحدة العناية، ومسار القدر، والمصادفات المباغتة، والمعرفة الإلهية، والقضاء الإلهي، وحرية الإرادة، وبوسعك أن ترى بنفسك هول هذه المسائل.
ولكن لأن معرفة بعض هذه المسائل هو أيضا جزء من علاجك، فسوف أحاول أن ألم بها رغم ضيق الوقت، وإذا كانت تروقك مباهج النغم فإن عليك أن ترجئ بهجتك بعض الوقت ريثما أنسج خيوط الحجج نسيجا محكما.»
قلت: «كما ترين.»
عندئذ بدت كأنها تنطلق من بداية جديدة وتحدثت كما يلي: «إن نشوء الأشياء جميعا، وسيرورة كل الطبيعيات المتغيرة، وكل مسار أو حركة في العالم، إنما تستمد أسبابها ونظمها وأشكالها من عقل الله الثابت، وعقل الله، في علياء وحدته، يدبر سلاسل الأحداث، حين ينظر إلى هذا التدبير كما هو في خلوص الفهم الإلهي يسمى «العناية»
، أما حين ينظر إليه بالإحالة إلى جميع الأشياء التي يضبط حركتها ونظامها فقد جرى العرف منذ القدم على أن يسمى «القدر»
Fate ، ومن ينظر في معنى هذين الاسمين سيتبين له بوضوح أنهما وجهان مختلفان: فالعناية هي العقل الإلهي نفسه الذي يدبر الأشياء جميعا، وتقر مع المتصرف الأعلى في الكل، أما القدر فهو النظام المخطط القائم في الأشياء المتغيرة والذي من خلاله تسلك العناية كل شيء في موضع المقيض له ، تشمل العناية كل الأشياء في الوقت نفسه على تنوعها أو تكثرها، بينما يضبط القدر حركة مختلف الأشياء المفردة في مختلف المواضع وفي مختلف الأوقات، حين «ينطوي» هذا النشر الزماني في وحدة كلية في تقدير العقل الإلهي فهو العناية، وحين «ينشر» هذا الكل الموحد نفسه في مجرى الزمان فهو القدر.»
إنهما مختلفان، غير أن كليهما يعتمد على الآخر، فنظام القدر مستمد من بساطة العناية، ألست ترى إلى الصانع الحرفي كيف يستبق في ذهنه خطة الشيء الذي يقوم بصنعه، ثم يجري تنفيذ العمل ويتم في الزمان ما كان في لحظة واحدة حاضرا كله في ذهنه وماثلا لعين عقله؟ فكذلك الله يشيد في عنايته خطة ثابتة واحدة لكل ما سيحدث، بينما من خلال القدر يتحقق كل ما خططه على اختلاف تفصيلاته الجزئية في مجرى الزمان، ومن ثم، فسواء كان عمل القدر يتم بعون الأرواح القدسية التي تخدم العناية، أو كانت سلسلة القدر تنسجها روح العالم، أو كل الطبيعة أو حركة النجوم في السماء أو قوى الملائكة أو شتى قدرات أرواح أخرى، أو بعض هذه، أو كلها، فثمة شيء يقيني واحد، وهو أن الخطة البسيطة الثابتة للأحداث هي العناية، وأن القدر هو الشبكة الدائبة التغير، التصريف الزماني لكل الأحداث التي خططها الله في بساطته.
إذن، كل شيء يندرج تحت القدر هو أيضا خاضع للعناية التي يخضع لها القدر نفسه، غير أن هناك أشياء تندرج تحت العناية ولكنها تعلو على مسار القدر، تلك هي الأشياء التي تعلو على نظام التغير الذي يحكمه القدر، بفضل ثبات موقعها بالقرب من الذات العلية، تخيل مجموعة من الحلقات المتراكزة (المتحدة المركز) الدوارة، إن أوغلها في الداخل هي أقربها إلى بساطة المركز، وهي بمثابة مركز للحلقات الأبعد لتدور حوله، وإن الحلقة الأبعد (عن المركز) تدور خلال فلك أوسع، وكلما زاد بعدها عن نقطة المركز غير المرئية زاد الفضاء الذي تمتد خلاله، وكل ما يلحق نفسه بالحلقة الوسطى يكون أقرب إلى البساطة وأقل امتدادا خارجيا، وبالطريقة نفسها فإن كل ما يبتعد عن الفكر الأولي يزداد تقيده بقيود القدر، وكلما اقترب من مركز الأشياء ازداد انعتاقه من القدر، أما ما يلتصق بالعقل الإلهي الثابت فإنه يكون متحررا من الحركة وبذلك ينفلت من قيد القدر، إن العلاقة بين المسار الدائب التغير للقدر والبساطة الثابتة للعناية هي أشبه بالعلاقة بين الاستدلال والفهم، أو بين الصيرورة والكينونة، أو بين الزمان والأبدية، أو بين المحيط الدائر والمركز الثابت.
مسار القدر يحرك السماء والنجوم، ويحكم العلاقة بين العناصر، ويحولها من خلال التنويعات المتبادلة، ويجدد جميع الأشياء التي تولد وتموت بما يشبه تعاقب الثمرة والبذرة، ويضبط أيضا أفعال الناس ومصائرهم بسلسلة الأسباب التي لا فكاك منها، وحيث إن هذه الأسباب تستمد أصلها من العناية الثابتة فهي أيضا ثابتة لا تتغير؛ ذلك أن العالم يدار على أفضل نحو إذا ما قدمت البساطة الكامنة في العقل الإلهي نظاما ثابتا للأسباب لكي يحكم بسنة لا مبدل لها: كل شيء خاضع للتغير وحقيق إذا ترك لشأنه أن يتقلب ويخبط خبط عشواء.
ولأنكم معشر البشر لستم في موقع يتيح لكم تأمل هذا النظام يبدو لكم كل شيء مضطربا في فوضى، ولكن الحق أن كل شيء يأخذ موضعه الذي يضبطه ويتجه به صوب الخير، لا شيء يمكن أن يحدث بسبب الشر أو بسبب الأشرار أنفسهم، وهم كما أسهبنا في التبيان إنما يحيدون عن التماس الخير بالخطأ والحمق، بينما النظام الذي يصدر عن الخير الأسمى في مركز العالم لا يمكن أن يحيد بأي شيء منذ البداية.
لعلك تعترض بقولك إنه ليس ثمة ما هو أسوأ اضطرابا من أن مصائر أخيار الناس وأشرارهم ما تفتأ تتقلب بين العسر واليسر، وسوف أسألك ما إذا كان للناس دائما ذلك العقل الصائب الذي يخولهم عصمة من الخطأ في حكمهم عمن هو صالح ومن هو طالح، كلا، إن أحكام البشر لتتضارب في هذا الشأن بحيث إن من يحكم عليهم البعض بأنهم أهل للمثوبة يراهم الآخرون أهلا للعقوبة.
ولكن لنفترض أن شخصا ما لديه القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، فهل بمكنته أن يعرف خفايا الشعور الباطن مثلما يعرف الطبيب درجة حرارة الجسم؟ حقا إن دهشتك أشبه بدهشة رجل يعرف لماذا تلائم بعض الأجسام السليمة الأطعمة الحلوة وتلائم بعضها الآخر الأطعمة المرة، أو لماذا ينتفع بعض المرضى بالعقاقير الخفيفة وينتفع الآخرون بالعقاقير الحادة والمرة، ولكن الطبيب لا يدهش لهذه الأشياء لأنه يعرف سبل الصحة والمرض ومواصفاتهما، وماذا تكون صحة الروح غير الفضيلة؟ وماذا يكون مرضها غير الرذيلة؟ ومن يكون حافظ الخير وطارد الشر غير الله ... حارس الأرواح وشافيها؟ إن الله لينظر من علياء عنايته ويرى ما يلائم كل إنسان وييسره له.
من هنا إذن يأتي السبب الواضح للاندهاش من نظام القدر: إله حكيم يفعل وبشر جهول يستغرب أفعاله.
ولكي أطلعك على شيء من عمق الحكمة الإلهية بقدر ما يسمح الفهم البشري، وكيف أن ما يبدو لك فضلا وعدلا قد يبدو غير ذلك من منظور العناية ... منظور العليم البصير: ألم ينبئنا زميلنا الفيلسوف لوكانوس
Lucanus
أن «القضية الرابحة راقت الآلهة ولكن القضية الخاسرة راقت كاتو
Cato »، مع أنه كان مثالا للفضيلة؟ ومن ثم، كلما شهدت شيئا يجري على غير ما تريد وتحتسب فاعلم أن الأحداث تجري مجراها الصحيح ولكن رأيك هو الزائغ والملتبس.
ولكن إذا كان هناك امرؤ يعيش حياة صالحة عند الله والناس معا، غير أنه خائر الروح غير جلد، وقد يتنكب طريق الصلاح إذا سارت ضد يسره ورخائه، هنالك قد يكون من حكمة القضاء أن يلطف به وألا يبتلي بالضر من لا يقوى عليه.
وهناك من بلغ من كمال الفضيلة مبلغا يجعله قديسا وشديد القرب من الله، حتى لتعز على العناية أن تناله بأي أذى حتى في صحة الجسم، فيصح فيه قول من هو أفضل مني:
2 «إنما جبلت أجسام القديسين من أثير السماء.»
وكثيرا ما يتصادف أن تقع السلطة العليا في يد الأخيار حتى يتسنى لهم أن يكبحوا تنامي الشر.
وهناك من يصيب مزيجا من العسر واليسر وفقا لصنف روحه.
وقد تشاء العناية أن تخز البعض كي لا يبطرهم طول الرخاء.
وقد تبتلي البعض بالشدائد حتى تقوي فيهم فضائل الروح بممارسة الصبر.
وإذ يخشى البعض من الألم وهم قادرون عليه، ويستهين به البعض وهم غير قادرين على احتماله، فقد يذيقهم القضاء شيئا منه لكي يكتشفوا أنفسهم.
وقد يكون الموت لدى البعض ثمنا للمجد والسؤدد عبر الأجيال.
وتكون الكبرياء في وجه العقاب مثالا للآخرين على أن الشر لا يقهر الفضيلة.
فهل هناك من شك في حكمة التدبير الإلهي في كل هذه الأشياء وفي أنها تجري في صالح من تنزل بهم؟
وكذلك الحال مع الأشرار، فحقيقة أنهم أيضا تنالهم الضراء أحيانا وينالون رغباتهم أحيانا أخرى مردها إلى نفس الأسباب، فإذا أصابهم الضر فلا عجب فالكل يسلم بأنهم يستحقونه، وعقابهم يردع الآخرين عن الجريمة من ناحية ويقوم من ينزل بهم من ناحية أخرى، أما إذا سعدوا بتحقيق رغائبهم فتكون تلك حجة للأخيار حول صنف الحكم الذي ينبغي أن يحكموا به على مثل هذه السعادة التي كثيرا ما يرونها تلازم الأشرار.
وهناك شيء آخر يبدو لي محكم التدبير: فقد يكون ثمة شخص ذو طبع جموح واندفاعي بحيث يمكن أن يدفعه الفقر والعوز إلى ارتكاب الجرائم، مثل هذا المرض لدى هذا الشخص تداويه العناية بجرعة من الثروة يجمعها ويضن بها، وهو قد يرى ضميره ملوثا بالإثم ويقارن بين استحقاقه وبين الثروة التي أصابها فيداخله خوف من فقدان هذه الثروة التي يتمتع بامتلاكها، فيبدأ في تغيير أسلوبه ويحيد عن الشر خشية أن يخسر هناءه.
والبعض يفضي به سوء استخدامه للثروة إلى تدمير نفسه دمارا يستحقه، والبعض يخوله القدر حق معاقبة الآخرين لكي يكون سببا لامتحان الأخيار وعقاب الأشرار، فمثلما لا يوجد اتفاق بين الأخيار والأشرار، كذلك لا اتفاق بين الأشرار فيما بينهم، ولا مناص من ذلك ما دام الواحد منهم موزع الضمير بسبب آثامه، وكثيرا ما ينقلب على نفسه ويفعل أشياء يرى فيما بعد أنه ما كان ينبغي أن يفعلها.
هكذا تمارس العناية تأثيرا لافتا: وهو أن الأشرار قد يحولون بعض الأشرار أخيارا! وذلك حين يحس هؤلاء بأنهم ظلموا على يد من هو أخبث منهم فيكرهون الظلم ويقررون أن يتوبوا عنه ويعودوا إلى الفضيلة.
إنه بقدرة الله، وقدرة الله وحدها، قد تكون الشرور خيرا أيضا، وذلك حين يصرفها الله تصريفا يحقق نتائج خيرة، ذلك أن هناك نظاما صارما يشمل الكل، وكل ما يحيد عن النظام المحدد له يعود فيرد إلى النظام، وإن في سياق مختلف، بحيث لا يبقى مكان للمصادفة في مملكة العناية.
ولكن كما جاء في الإلياذة لهوميروس: «من المتعذر علي أن أبسط كل هذه المسائل كما لو أنني إله»، ولا هو بمتاح للإنسان أن يستوعب في عقله كل طرائق الله ووسائله في تصريف الأمور، ويعبر عنها بالكلمات، وبحسبنا أن نرى أن الله، خالق كل شيء، يدبر الأشياء جميعا ويسوقها إلى الخير، ويدفع الخلق دفعا على أن يتشبه به ويعنو لسنته، وبسلاسل الضرورة المقدرة ينفي الشر من حدود مملكته، تظنون أن الشر يملأ الأرض، ولكن لو أمكنكم أن تنظروا بمنظار العناية الإلهية لما وجدتم له على الأرض أثرا!
ولكني أرى أنك قد أثقل عليك بعبء هذا السؤال، وأرهقت من متابعة استدلالي المسهب، وشاقتك حلاوة النغم، فإليك منه جرعة تنعشك وتجدد قواك وتجعلك أقدر على مواصلة المسير.
إذا أردت أن ترى سنن الله،
3
وتفقهها بذهن صاف،
فارم ببصرك إلى أعلى السماء
حيث يسري ميثاق الأشياء،
ويسود السلام القديم بين النجوم السيارة،
فالشمس التي يدفعها لهبها الباهر قدما
لا تعوق فلك القمر البارد،
ولا الدب الذي يتخذ مساره المندفع
في أعلى السماء ينزل في البحر الغربي
متبعا النجوم الأخرى التي تغمر لهبها في أعماق المحيط،
وبقسمة عادلة من الزمن
يعلن نجم المساء دائما قدوم الغسق،
ويعود ثانية في الفجر كنجم الصباح
هو الحب المتبادل إذن
يبدئ الدورات الأبدية ويعيدها،
أما النزاع فمنبوذ من ممالك النجوم
هذا التوافق يحكم جميع العناصر بحساب عادل،
فيعنو الرطب لضده اليابس على التتالي،
ويتحد البارد بتفاهم مع الحار،
والنار الخفاقة تندفع إلى أعلى،
أما الأجسام الأرضية الثقيلة فتهبط إلى أسفل
ولهذه الأسباب حين يحل الربيع الدافئ
ينشر موسم الإزهار عبيره،
وفي الصيف الحار تجف الغلال،
ثم يعود الخريف مثقلا بالثمار،
والمطر الساقط يرطب أيام الشتاء
كل ما يتنسم على الأرض نسمة الحياة،
إنما يأتي به هذا المزيج ويغذوه،
ثم ينتزعه ويخفيه،
وفي طيات الموت يدس في النهاية كل ما أنشأ
بينما يتربع الخالق في أعاليه،
الذي يحكم ويمسك بأعنة كل الأشياء
مليكها وسيدها، ومنبعها ومنشؤها
قانونها وقاضيها العدل
يحث حركة الأشياء بقدر،
ويرد الشارد ويعيد الضال،
فإذا لم يرد الأشياء إلى جادتها،
ويعدها إلى دورتها،
فسوف تتقطع بها السبل،
وتنبت عن مصدرها وتهلك. •••
هذه رابطة الحب الجامعة
الكل يعنو لقيود الخير،
فليس من سبيل آخر لبقائها
ما لم تعقد عقدة الحب،
وما لم تعد صاغرة
لقيود الأسباب التي منحتها الوجود.
4
الفصل السابع
كل قدر خير
ف : «أترى الآن ما يفضي إليه كل ما قلناه؟»
ب : «ما هو؟»
ف : «كل نصيب هو بالضرورة خير.»
ب : «وكيف يكون ذلك؟»
ف : «أصغ، كل حظ سواء أكان يسرا أم عسرا إنما يتغيا أن يكافئ الصالحين أو يعظهم، وأن يعاقب الأشرار أو يقومهم، ومن الواضح إذن أن كل ما يجري به القضاء هو عدل ونفع، وكل نصيب هو خير على اليقين.»
ب : «الحق أن حجتك صائبة جدا، وإذا نظرت إلى العناية أو القدر بالطريقة التي ألقيتها على سمعي الآن فإن رأيك يكون قائما على أساس وطيد، ولكن دعينا، إذا تفضلت، ندرجها بين تلك الآراء التي أسميتها منذ قليل بالآراء التي «لا يمكن تصورها».»
ف : «لماذا؟»
ب : «لأن من الأقوال الشائعة بين الناس، والمتواترة بكثرة في الحقيقة، أن بعض الناس سيئ الحظ.»
ف : «أتريد إذن أن نقترب من حديث الناس اليومي لئلا نبدو كأننا ابتعدنا كثيرا عن الخبرة البشرية؟»
ب : «نعم، من فضلك.»
ف : «حسن، ألا تعتبر أن الشيء النافع والمفيد هو خير؟»
ب : «بلى.»
ف : «والحظ الذي من شأنه أن يعظ أو يقوم، ألا تعتبره مفيدا؟»
ب : «بلى.»
ف : «وبالتالي خيرا؟»
ب : «يتعين ذلك.»
ف : «وهذا الحظ هو إما للذين يمضون بثبات على طريق الفضيلة ويناضلون ضد مصاعبهم، وإما للذين تركوا الرذائل واتخذوا طريق الفضيلة؟»
ب : «إنه لكذلك.»
ف : «وماذا إذن عن الحظ السار الذي يمنح للأخيار كمكافأة؟ أيعده الناس سيئا؟»
ب : «كلا، بل يرونه الأفضل بين الحظوظ.»
ف : «وماذا عن الصنف الأخير من الحظ، وهو العسير والذي يكبح الأشرار بالعقاب الذي يستحقونه، هل يراه الناس خيرا؟»
ب : «كلا، بل يرون أنه أتعس شيء يمكن تصوره.»
ف : «احذر أن توقعنا التصورات الشائعة في شيء «لا يمكن تصوره» حقا.»
ب : «ماذا تقصدين؟»
ف : «حسن، النتيجة المستفادة مما افترضناه هو أن حظ الأخيار سعيد كله، سواء منهم الراسخون في الخير أو المتقدمون على دربه أو المبتدئون فيه، بينما حظ جميع المخلفين في الشر هو حظ سيئ تماما.»
ب : «هذا حق، وإن لم يجرؤ أحد على الاعتراف به.»
ف : «لهذا السبب، ينبغي على الحكيم ألا يشكو كلما اشتبك مع الحظ، مثلما ينبغي على الشجاع ألا يسخط إذا حمي وطيس الحرب، ذلك أن الشدائد نفسها هي فرصة لكل منهما: لواحد كي ينال المجد، وللآخر كي يؤكد حكمته ويقويها، من هنا تستقي «الفضيلة»
virtue
اسمها؛ لأنها قوية صلبة بحيث لا تقهرها الشدائد.
1
ولا أنت يا من تمضي قدما على درب الفضيلة قد بلغت ما بلغت لكي تسلم نفسك للمباهج أو تفسدها بالملذات، بل اصطرع بعنف وضراوة مع كل ضروب الحظ الجامح؛ حتى لا تقهرك الضراء ولا تفسدك السراء، اتخذ الطريق الوسط بصلابة لا تهتز، فكل ما يحيد عن الوسط يزري بالسعادة ولا يجني ثمرة جهده، إن قدرك بيديك ... بيدي صنف القدر الذي تود أن تشكله لنفسك؛
2
لأن كل ما يبدو عسيرا هو عظة أو تقويم أو عقاب.»
عشر سنوات متصلة من الحرب
استغرق انتقام أجاممنون، بسقوط طروادة،
لفراش أخيه المنتهك،
هو أجاممنون نفسه الذي اضطر لكي يقلع بسفنه
إلى أن يشتري الريح المواتية بالدم،
فنضا عنه ثوب الأبوة ولبس ثوب الكاهن المتحجر القلب
ووجأ عنق ابنته المسكينة.
3 •••
كم بكى أوديسيوس بحرقة
لفقد رفاقه،
الذين ازدردهم في جوفه الرحب
بوليفيموس القابع في كهفه الواسع،
فما لبث أن سمل أوديسيوس عينه الوحيدة،
وتركه يتضور غضبا،
ويدفع ثمن ابتهاجه، من دموع الفجيعة.
4 •••
اشتهر هرقل العظيم بأعماله الصعبة،
أدب القنطورات المتعجرفة في فيلوا،
وانتزع جلد الأسد في نيميا،
5
وأقصدت سهامه الصائبة طيور ستيمفالوس،
6
وانتزع تفاحات هيسبيروس الذهبية
7
على مرأى من التنين،
وأسر كيربيروس
8
وقاده مصفدا في الأغلال،
وأسر أفراس ديوميديس،
9
وقدم إليها لحم سيدها لتأكله،
وأحرق الهيدرا
10
وأبطل سمها،
وأصاب أخيلوؤس
11
بجرح مخز،
فراح يواري وجهه خجلا تحت ضفته،
وصرع أنتيوس في رمال ليبيا،
وقتل كاكوس ليشفي صدر إيوأندروس
12
تلك الأكتاف التي ستحمل السماء
لوثها الخنزير الإريمانثي
13
بمخاطه،
أما العمل الأخير فهو أن يحمل السموات
على عنق قائم لا ينحني. •••
امض إذن بجسارة
إلى حيث يقودك الطريق المجيد
للقدوة الرفيعة،
لماذا تثاقل وتنكص على عقبيك
إذا كان اجتياز الأرض
يهبك النجوم؟
الكتاب الخامس
حرية الإرادة (الإنسانية) وشمول العلم (الإلهي)1
القضاء معضلة
لم يحلها أحد
كلما نقضت لها
عقدة بدت عقد
أتعبت معالجها
واستراح معتقد
شوقي
الفصل الأول
«الفلسفة» تناقش مسألة المصادفة
وكانت بصدد تغيير مجرى الحديث ليتناول مسائل أخرى عندما تدخلت قائلا: «إن نصحك لصائب ويليق تماما باسمك وجلالك، ولكنك قلت الآن إن مسألة العناية ترتبط بمسائل أخرى كثيرة أشهدها في الواقع، وأود أن أسألك هل تعتقدين في شيء من قبيل «المصادفة»
chance ، وماذا تكون؟»
قالت: «الوعد دين، وقد وعدتك وعدا لن أهدأ حتى أفي به، وحتى أرشدك إلى الطريق الذي تعود منه إلى وطنك الحق، ولكن هذه المسائل، على أهمية الإلمام بها، خارجة عن موضوعنا بعض الشيء، وأخشى أن يجهدك الاستطراد فيها فتكل عن إكمال المسيرة.»
فأجبت: «لا تخشي شيئا من ذلك، ستكون هذه الاستطرادات أشبه باستراحات لي تطرفني بما أنا مولع به أشد الولع، ولا عليك من عواقب أي شيء ما دامت حجتك تقف ثابتة لا تنالها الشكوك من أي جانب.»
قالت: «سأصدع لطلبك»، وهكذا شرعت في الحديث: «إذا كانت المصادفة تعني أن ينجم حدث ما بحركة عشوائية ومن دون أية رابطة سببية، فمن المؤكد أنه ليس ثمة شيء من قبيل المصادفة، وفيما عدا تحديد معالم المسألة التي نحن بصددها فلا معنى لهذه اللفظة على الإطلاق، فإذا كان الله قد أسبغ النظام على الأشياء جميعا فلا مجال لأحداث عشوائية، إنه لمبدأ صحيح أن «لا شيء يأتي من لا شيء»
ex nihilo nihil fit ، ولقد كان القدماء جميعا يسلمون به وإن كانوا يستخدمونه كمبدأ لفلسفتهم الطبيعية يشمل كل ما يتصل بالموضوعات المادية ولا يشمل العلل الفاعلة، فإذا كان لشيء ما أن يحدث بلا سبب فمن البين أنه يأتي من لا شيء وهو محال، ومحال أيضا أن تكون هناك مصادفة بالمعنى الذي أشرت إليه الآن.»
فسألتها: «حسن، أليس هناك إذن أي شيء يحق أن يسمى مصادفة أو اتفاقا؟ أو أي شيء لا يدركه عامة الناس مما تنطبق عليه هذه التسمية؟»
ف : «فيلسوفي أرسطو قد عرفها في كتاب «الطبيعة» تعريفا محكما وقريبا من الحقيقة.»
ب : «كيف؟»
ف : «كلما جرى فعل شيء لغرض معين، ثم نتج شيء آخر، لأسباب معينة، غير الشيء المقصود، يسمى ذلك بالمصادفة، فإذا أخذ شخص مثلا في حفر بئر في الأرض لكي يزرع حقلا، فعثر على كنز من الذهب المدفون، فإن هذا يرى على أنه حدث اتفاقا، غير أنه لم يأت من لا شيء، فله أسبابه الخاصة التي أدى اجتماعها غير المتوقع إلى الحدث التصادفي، فإذا لم يكن زارع الحقل قد حفر، ولا كانز المال قد دفنه في هذه البقعة، لما تأتى العثور على الذهب، هذه إذن هي أسباب الحصاد التصادفي، إنه ناتج عن اجتماع أسباب متضادة لا عن قصد الفاعلين، فلا الرجل الذي دفن الذهب، ولا الرجل الذي كان يفلح الأرض، قصد اكتشاف المال، ولكنه حدث، مثلما قلت، كنتيجة لما تصادف من أن أحدهما جعل يحفر حيث كنز الآخر، بوسعنا إذن أن نعرف المصادفة بأنها حدث غير متوقع ناجم عن اقتران أسبابه بفعل يؤدى لغرض معين ، إن اقتران الأسباب واتفاقها قد أحدثهما النظام الذي يسير برابطة سببية محتومة، تصدر من نبع العناية وتسلك كل شيء في زمانه ومكانه الخاص.»
من المنحدرات الصخرية لتلال أرمينيا،
حيث كان الفارسي القديم يستدير؛
ليسدد سهامه إلى صدر مطارده
يتدفق دجلة والفرات من منبع واحد،
ويفترقان على الفور إلى فرعين منفصلين،
وحيث يلتقيان مرة ثانية ويكونان مجرى واحدا،
يجتمع كل ما تحمل مياههما فوق ظهرها
القوارب تلتقي القوارب وجذوع الشجر المحطمة تلتقي الجذوع،
وتضفر المياه الممتزجة تياراتها بالمصادفة؛
غير أن القاع المنحدر يضبط المصادفات الغامضة
وقوانين سقوط السيل تحكم مساراتها،
هكذا فالمصادفة التي تبدو جامحة مرخاة الأعنة،
إنما هي تخضع للجام، وتعض الشكيمة، وتعنو للقانون.
الفصل الثاني
تفاوت حرية الإرادة
قلت: «لقد أصغيت إلى ما تقولين، وأشهد إنه عين الحق، ولكن هل ثمة مكان في هذه السلسلة السببية الوثقى لأي حرية للإرادة؟ أو هل تقيد هذه السلسلة القدرية حتى مشاعر نفوسنا ودفعات عقلنا؟»
قالت: «ثمة حرية إرادة، فمن غير الممكن أن توجد أي طبيعة عقلية من دون حرية إرادة، فما من كائن يمكنه بالطبيعة استخدام عقله إلا وله قوة الحكم التي يمكنه بها، بدون أي عون آخر، أن يتخذ القرار في كل أمر، وأن يميز بنفسه بين الأشياء التي يريدها والأشياء التي يتجنبها، كل إنسان إذن يصبو إلى ما يعتبره مرغوبا ويعرض عما يعتبره غير مرغوب، وكل ما لديه عقل فلديه أيضا حرية أن يريد أو لا يريد ... وإن كنت لا أزعم أن هذه الحرية متساوية في جميع الكائنات، فالكائنات السماوية والإلهية لديها بصيرة ثاقبة وإرادة نزيهة وقوة غالبة على أمرها، أما النفوس البشرية فتكون بالتأكيد أكثر حرية ما بقيت دائبة في تأمل العقل الإلهي، وتصير أقل حرية عندما تهبط إلى الأجساد، وأقل من ذلك عندما تكون سجينة الأعضاء الترابية الأرضية، وتبلغ غاية العبودية عندما تسلم نفسها للرذائل ولا تعود تملك رشدها، وما تكاد تصرف بصرها عن نور الحقيقة العليا إلى ما هو أدنى وأظلم حتى تلفها غيوم الجهل وتعذبها الانفعالات المدمرة، فلا تجني من استسلامها لها إلا مزيدا من العبودية التي جرتها على نفسها طواعية ، على أن كل ذلك مرئي لعين العناية التي ترقب كل شيء من سرمديتها، وتقدر لكل بحسب عمله جزاء وفاقا.»
إنها ترى الكل وتسمع الكل،
هكذا يغني هوميروس بلسانه المعسول
ضياء الشمس الوهاج الساطع،
غير أن الشمس لا تقدر بأشعتها الكليلة
أن تنفذ إلى أحشاء الأرض أو إلى أعماق البحر،
أما خالق العالم فحاشاه،
إن كل شيء ماثل لنظرته العلية
لا تصدها كثافة المادة،
ولا تعشيها حلكة الليل
كل ما يكون وما كان وما سيكون
يدركه بلمحة واحدة من عقله،
وحده من يرى الأشياء جميعا
فعلينا أن ندعوه الشمس الحقيقية.
الفصل الثالث
ماذا عن سابق العلم والحرية؟
عندئذ قلت: «ها أنا مرة ثانية أقع في حيرة أشد والتباس أصعب.»
فسألتني: «قل لي ما هو، وإن أكن أحدس بما يزعجك ويثير ارتباكك.»
قلت: يبدو لي أن هناك تعارضا بين سبق العلم الإلهي للعالم وبين حرية الإرادة،
1
فإذا كان الله يرى كل شيء مسبقا ولا يمكن أن يخطئ بأية حال، فإن ما استبقته العناية كحدث مستقبلي لا بد له من أن يحدث، وإذا كانت العناية تعلم منذ الأزل أفعال البشر بل وأفكارهم أيضا ورغائبهم، فلن تكون ثمة حرية إرادة، لن يتسنى وجود أي فعل أو رغبة غير ما رأته عناية الله المعصومة رؤية مسبقة؛ لأنه إذا أمكن لهذه الأفعال أو الرغبات أن تتغير وتختلف عما سبق في رؤية الله لانتفى يقين علم الله بالمستقبل واختزل إلى مجرد ظن غير يقيني، وهو ما لا يليق قوله عن الله.
وأنا لا أوافق على الحجة التي يظن البعض أن بإمكانهم بها أن يقطعوا هذه العقدة الجوردية،
2
فهم يقولون بأن الحدث المستقبلي لا يحدث ضرورة لأن العناية رأته مسبقا، بل النقيض: أن ما سيحدث ضرورة لا يمكن أن يخفى على العناية الإلهية، وبذلك تتجه الضرورة في الاتجاه المعاكس: أي ليس بالضرورة أن ما سبقت رؤيته لا بد أن يحدث، بل إن ما قضي أن يحدث لا بد بالضرورة أن يرى، وكأن المهم هو: ما هو السبب: هل المعرفة المسبقة بالمستقبل هي السبب في ضرورة الأحداث، أو أن ضرورة الأحداث تسبب المعرفة المسبقة؟ ولكن ما أحاول توضيحه هو أنه أيا ما كان نظام الأسباب فإن قدوم الأشياء المعلومة مسبقا هو ضروري حتى لو كان سبق العلم بها لا يفرض أي ضرورة عليها.
فإذا كان رجل جالسا، فإن الرأي الذي يذهب إلى أنه جالس هو رأي صادق بالضرورة، ومن جهة أخرى: إذا كان الرأي في الرجل صادقا، لأنه جالس، فإنه لمن الضرورة أن الرجل جالس، ثمة ضرورة إذن في كلتا العبارتين: في الأولى أن الرجل جالس، وفي الثانية أن الرأي صادق، ولكن ليس لأن الرأي صادق يكون الرجل جالسا، بل إن الرأي صادق لأنه مسبوق بفعل الجلوس من الرجل، إذن، رغم أن «سبب» الصدق يتجه من جانب واحد فإن ثمة «ضرورة» مشتركة في كلا الجانبين.
من الواضح أن الاستدلال نفسه ينطبق على العناية وأحداث المستقبل: فحتى لو كان وجه الأمر أن أحداث المستقبل ترى مسبقا لأنها سوف تحدث لا أنها تحدث لأنها ترى مسبقا، فإن من الضروري رغم ذلك أنه إما أن أحداث المستقبل ترى مسبقا من الله وإما أن الأشياء المرئية مسبقا تحدث كما ترى، وهذا وحده كاف لنفي حرية الإرادة.
ولكن كم هو محال أن نقول إن وقوع الأحداث الزمانية هو سبب العلم الأزلي المسبق! ومع ذلك فإن القول بأن الله يرى المستقبل لأنه مقدر أن يحدث ليس شيئا غير القول بأن الأحداث التي تجري مجرى واحدا فردا هي سبب تلك العناية العليا.
فضلا عن ذلك، مثلما أنني حين «أعرف»
3
حقيقة حاضرة فإن تلك الحقيقة لا بد أن تكون كذلك، فإنني أيضا حين «أعرف» بشيء سيحدث فإن ذلك الشيء لا بد من أن يجيء، هكذا يترتب أن وقوع الحدث المعروف مسبقا هو أمر لا يمكن تفاديه.
وأخيرا، إذا اعتقد أي شخص أن أمرا ما على غير ما هو في الحقيقة، لا تكون هذه «معرفة»، ليس هذا فحسب، بل تكون رأيا كاذبا جد بعيد عن حقيقة المعرفة، إذن ، إذا كان شيء ما مقدرا له أن يحدث بحيث يكون وقوعه غير يقيني وغير ضروري، فمن ذا يمكنه أن يعرف مسبقا أنه سيحدث؟ فمثلما أن المعرفة ليست بالأمر المشوب بالكذب، كذلك الشيء المدرك بالمعرفة لا يمكن أن يكون غير ما هو مدرك، والحق أن السبب في خلو المعرفة من الخداع هو أن من الضروري للأشياء أن تكون بالضبط كما تدركها المعرفة.
السؤال، إذن، هو: هل يمكن لله أن يعرف مسبقا أن هذه الأشياء سوف تحدث، إذا كانت هذه الأشياء غير يقينية؟ فإذا ما حسب أنها سوف تحدث حتما بينما هناك احتمال قائم بألا تحدث فإنه يكون مخدوعا وحاشاه! ولكن إذا كانت معرفته بأنها سوف تحدث هي من ذلك الصنف الذي يجيز احتمال أن تحدث أو لا تحدث، فأي صنف من المعرفة هذا الذي لا يدرك أي شيء على اليقين؟! وأي فرق بينها وبين النبوءة المضحكة لتيريسياس
Tiresias
في ساتيرات هوراتيوس: «أيما شيء أقوله فهو إما سوف يحدث وإما لا يحدث؟»
4
وكيف تعلو العناية الإلهية على الظن إذا كانت، شأن البشر، تعتبر تلك الأشياء التي وقوعها غير يقيني أشياء غير يقينية؟ فإذا كان التشكك أو عدم اليقين محالا على المصدر الأوثق لكل الأشياء؛ فإن الحدوث المستقبلي للأشياء التي يراها الله مسبقا بوثوق كأحداث مستقبلية لا بد من أن يكون يقينيا، إذن لا حرية هناك لأفكار الإنسان وأفعاله؛ لأن العقل الإلهي في رؤيته المسبقة لكل شيء دون أي ضلال أو زيف إنما يقيد أفكار الإنسان وأفعاله بمسلك واحد في الحدوث.
وما أن نسلم بهذا حتى يتبدى بوضوح مدى السقوط الذريع لكل الشئون البشرية، سدى هو الثواب المقدم للأخيار والعقاب المقدم للأشرار؛ لأنهم لم يستحقوه بأي حركة حرة أو إرادية للنفس، وهكذا فإن ما نعده الآن ذروة العدل - عقاب الأشرار وثواب الأخيار - يضحي ذروة الظلم كله، ما دام البشر مدفوعين للخير أو الشر لا بإرادتهم بل بضرورة قاهرة لما يتعين أن يكون، بذلك لن يكون للرذيلة ولا للفضيلة أي وجود، وسيكون كل استحقاق مختلطا مشتبها، وليس بالإمكان تصور ما هو أسوأ من ذلك، فإذا كان نظام الأشياء مستمدا من العناية، ولا مجال ثم للقصد البشري، فإن شرورنا أيضا مستمدة من خالق كل شيء.
لا جدوى إذن في أن نرجو أي شيء أو ندعو بأن نوقى أي شيء، فأي شيء يمكن أن يرجوه المرء أو يصلي للنجاة منه، إذا كان كل ما يمكن أن يراد هو شيء مقيد بقيد صارم؟
وهكذا تنتفي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الإنسان والله - أي الرجاء والدعاء، فنحن نفترض أننا بالخشوع الواجب أمام الله نفوز بالمردود الذي لا يقدر بثمن - بالنعمة الإلهية، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن للبشر به أن يخاطبوا الله ويصلوا أنفسهم بذلك الضياء المحجوب قبل أن يمنحوه عن طريق الابتهال والتضرع.
وإذا كان التسليم بضرورة الأحداث المستقبلية يعني أن الرجاء والدعاء لا تأثير لهما، فأي سبيل سيكون لنا لكي نصل أنفسنا بمليك العالم ونتحد به؟ لذلك لا بد للجنس البشري، مثلما كنت تنشدين الآن، من أن يكون منبتا عن مصدره هزيلا واهنا على الدوام.
أي سبب للخلاف يفصم عرى الاتفاق هنا؟
أي قوة سماوية ألقت مثل هذا النزاع بين حقيقتين،
حين تؤخذ كل على حدة تكون حقا لا يأتيه الشك
غير أنهما لا يمكن أن تؤخذا معا في آن؟ (تتأبيان أن تخضعا لنير واحد)
ولكن ألا يمكن أن يكون خلافهما وهما،
وأن تكونا مصطحبتين على الصفاء أبدا؟
بلى، إنه العقل الذي أخنى عليه عمى الجسد،
فلم يعد يرى الخيط الرفيع الذي يربط بين الأشياء. •••
لماذا إذن يتحرق شغفا
بمعرفة الأمارات الخفية للحقيقة؟
تراه يعرف منذ البداية ما يصبو إلى معرفته؟
ولكن من ذا الذي يطلب أن يعرف الذي يعرفه؟
وإذا كان العقل لا يعرف، فإلام يسعى في ظلام العمى؟
ومن ذا الذي ينبش في الجهل عن أي شيء؟
أو من ذا الذي يمكن أن يبحث عما هو غير معروف له؟
وأين يمكن أن يعثر عليه؟
وإذا صادفه فكيف يتعرف عليه وهو يجهله؟!
5
عندما كان عقل الإنسان يشهد عقل الإله (في السماء)،
تراه كان آنذاك يعرف الكل والأجزاء معا؟
والآن وقد سقط في قبر الجسد المظلم
لم يفقد كل ذاكرته رغم ذلك،
فقد بقي يحتفظ بالكليات وإن فقد الجزئيات
فأيما امرئ يسعى إلى الحقيقة إذن،
فهو بين بين لا يعرف كل شيء
ولا يجهل تماما،
بل يتأمل الكليات التي بقيت في ذاكرته،
ويقلب النظر مرة ثانية فيما كان رآه من قبل في الأعالي
لعله يضم الجزئيات التي نسيها
إلى الكليات التي أبقاها.
الفصل الرابع
فكر الله يوفق بينهما
عندئذ قالت: «هذه شكوى قديمة حول العناية، وقد سبق لشيشرون
Cicero
أن هاجمها بشدة في رسالته «عن التنبؤ»
On Divination ، وأنت نفسك قد بحثتها بإسهاب كبير، ولكن لم يفسرها أحد منكم حتى الآن بالعناية والقوة الكافيتين، والسبب في هذا الغموض هو أن عمل العقل البشري لا يمكنه أن يداني فورية المعرفة الإلهية المسبقة، فإذا أمكن فهم هذه الفورية بطريقة ما لتبدد كل الغموض، وهذا على الخصوص هو ما سأحاول توضيحه إذا ما أمكنني أولا أن أتناول المسائل التي تؤرقك.
خذ حالة أولئك الذين يذهبون إلى أن المعرفة المسبقة لا تضفي ضرورة على المستقبل وأن حرية الإرادة لا تقيدها المعرفة المسبقة، أود أن أعرف لماذا تعتبر حجتهم غير مقنعة، فالمصدر الوحيد لبرهانك على قدرية المستقبل هو اعتقادك أن ما يعرف مسبقا لا يمكن إلا أن يحدث، إذن إذا كانت المعرفة المسبقة، كما اعترفت لتوك، لا تفرض أي قدرية على المستقبل فلماذا تكون الأفعال الإرادية مسيرة قسرا إلى نتيجة محددة؟
ولكن لنفترض جدلا، كيما ترى ما يترتب عليه، أن ليس ثمة معرفة مسبقة، في هذه الحالة لن تكون أفعال الإرادة مسيرة قسرا، أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «ودعنا نفترض من جهة ثانية أن هناك معرفة مسبقة ولكنها لا تفرض أي جبر على الأشياء، فسوف تظل حرية الإرادة نفسها، فيما أرى، قائمة بالتمام والكمال.
لعلك ستقول: ولكن إذا لم تكن المعرفة المسبقة تشكل ضرورة على أحداث المستقبل فإنها رغم ذلك «علامة»
sign
تدل على أن هذه الأحداث المستقبلية سوف تقع حتما، في هذه الحالة، وحتى إذا لم تكن هناك معرفة مسبقة، يكون من الواضح للجميع أن وقوع أحداث المستقبل هو أمر مقدر جبري إذ إن العلامات تدل فقط على ما تشير إليه ولكنها لا تحدثه.
علينا إذن أن نثبت أولا أن كل ما يحدث فهو يحدث بالضرورة حتى يتضح أن المعرفة المسبقة هي علامة على هذه الضرورة، وإلا فإذا لم يكن ثمة ضرورة فهيهات للمعرفة المسبقة أن تكون علامة على شيء هو غير موجود، إنه لمما لا خلاف عليه أن البراهين يجب أن تستند إلى منطق صارم لا إلى «علامات» أو إلى حجج مجلوبة من الخارج، ينبغي أن تستنبط البراهين من حجج متسقة متماسكة يأخذ بعضها بحجز بعض وتفضي الواحدة منها إلى الأخرى.
من المحال أن ما يرى مسبقا كحدث مستقبلي لا يقع في حينه، إن ذلك ليكون أشبه بأن نعتقد أن ما تراه العناية مسبقا كأحداث مستقبلية هي أحداث لن تقع، بدلا من أن نعتقد أنها رغم وقوعها فهي لم تكن بطبيعتها مقدرة جبرية، وليس من العسير عليك أن تراها على هذا النحو، فنحن نشهد كثيرا من الأشياء وهي تجري أمام أعيننا، مثل الأفعال التي نرى سائقي العربات يؤدونها لكي يتحكموا في عرباتهم ويقودوها وغير ذلك مما شابه، فهل ثمة أي ضرورة تقسر أي شيء من هذه الأشياء على أن يحدث كما يحدث؟»
ب : «بالطبع لا، فلو أنها تحدث بالضرورة لما كان هناك جدوى من الفن والمهارة والقصد.»
ف : «إذن جميع تلك الأشياء التي تحدث من دون أن يكون حدوثها بالضرورة تكون قبل وقوعها أحداثا مستقبلية وشيكة الوقوع، ولكن ليست وشيكة الوقوع «بالضرورة»، فمثلما أن معرفة الأشياء الحاضرة لا تضفي ضرورة على ما يجري (في الحاضر) فإن سبق العلم الإلهي لا يضفي ضرورة على ما سوف يحدث (في المستقبل).
ستقول ولكن هذه هي ذات النقطة التي نبحثها: وهي ما إذا كان من الممكن وجود أي معرفة مسبقة للأشياء التي لا يخضع حدوثها للضرورة، أنا لا أرى أي تناقض هنا، أما أنت فترى أن ضرورة الأحداث تترتب على كونها ترى مسبقا، فإذا لم تكن ثمة ضرورة فلا يمكن للأحداث أن تعرف مسبقا؛ لأنك تعتقد أنه لا شيء يمكن أن تشمله المعرفة ما لم يكن يقينيا، فإذا عرفت مسبقا أحداث غير يقينية الحدوث كما لو كانت يقينية لكانت هذه المعرفة مجرد ظن غائم لا معرفة حقيقية، وشتان بين الظن والمعرفة.
وسبب هذا الخطأ أن الناس تظن أن كل معرفتها تعتمد على طبيعة موضوعات المعرفة وقابليتها لأن تعرف، وهذا خطأ فادح، والنقيض هو الصحيح: فكل ما يعرف إنما يعرف وفقا للقدرة المعرفية ل «العارف» لا لطبيعة الشيء «المعروف» (المدرك)، دعني أوضح لك ذلك بمثال: فاستدارة جسم ما قد تدرك بطريق البصر وقد تدرك بطريق اللمس، أما البصر فيظل على مسافة من الجسم ويرى الكل في آن واحد بواسطة أشعة الضوء، وأما اللمس فيقترب من الجسم ويمسك بمحيطه الحقيقي ويدرك استدارته جزءا جزءا، وكذلك الإنسان نفسه يشاهد بطرق متعددة بواسطة «الإدراك الحسي»
sense perception
و«المخيلة»
imagination
و«العقل»
reason
و«الفكر»
intelligence
1
فالحواس تفحص هيئته كمركب من المادة، بينما المخيلة تدرك هيئته وحدها بدون مادة، أما العقل فيتجاوز الخيال أيضا وبإدراك كلي يتأمل في النوع أو الجنس المتضمن في صميم الأمثلة الفردية، غير أن هناك الرؤية العليا للفكر، والتي تتخطى مجال الكلي وتشهد الصورة البسيطة نفسها بالنظر الخالص للعقل.
النقطة الرئيسية التي تعنينا هنا هي أن الأعلى في المعرفة يتضمن الأدنى، ولكن من المحال على الإطلاق أن يسمو الأدنى إلى الأعلى، فالحواس لا يمكنها أن تدرك أي شيء عدا المادة، والمخيلة لا يمكن أن ترى إلى الجنس الكلي، والعقل لا يمكن أن يمسك الصورة البسيطة، أما الفكر فكأنما ينظر من أعلى ويدرك الصورة البسيطة، ثم يميز كل ما يندرج تحتها ولكن بتلك الطريقة التي يدرك بها الصورة نفسها التي لا يمكن أن تعرف لأي وسيلة أخرى: فهو يعرف معرفة العقل بالكليات ومعرفة الخيال بالهيئة ومعرفة الحواس بالمادة، من دون أن يستخدم العقل ولا الخيال ولا الحواس، وإنما بلمحة ذهنية واحدة تنظر إلى كل شيء بتصور واضح للكل.
والعقل أيضا عندما ينظر إلى الكليات من دون أن يستخدم الخيال أو الحواس فإنه يدرك الموضوعات المتخيلة والمحسوسة لكل من المخيلة والحس، فالعقل هو ما يعرف المفهوم الكلي: «الإنسان حيوان عاقل يمشي على قدمين»، وحيث إن هذا المفهوم كلي فالجميع يعلم أنه مفهوم يمكن أن يتخيل بالخيال ويحس بالحواس، بينما ينظرها العقل لا من خلال الخيال أو الحواس ويحس بالحواس، بينما ينظرها العقل لا من خلال الخيال أو الحواس بل من خلال التصور العقلي، والمخيلة أيضا ربما تكون قد استمدت قدرتها الأصلية على رؤية هيئة الأشياء وتكوينها من الحواس، غير أنها في غياب الحواس تظل لها القدرة على أن تعاين كل الأشياء المحسة لا من خلال الإدراك الحسي بل من خلال الإدراك الخيالي.
وها أنت ترى أنها جميعا في أسلوبها في المعرفة إنما تستخدم قدرتها على المعرفة وليس قدرة موضوعات المعرفة على أن تعرف، وهذا ما يصح وما يليق وما يعقل، فحيث إن كل حكم هو فعل لمن يحكم فلا بد لكل من أن يؤدي عمله بقدرته هو لا بقدرة سواه.»
ذات يوم كان الرواقيون يدخلون في روع فلاسفة مغمورين
أن الحواس تدرك الأشياء،
كصور تطبعها على العقل الأجسام المحيطة،
تماما كما كان عرف الكتابة يوما
يجري بأن يمرر القلم بسرعة؛
ليطبع الحروف المكتوبة بعمق
على لوح شمعي مبسوط،
خال لا شية فيه،
ولكن إذا كان العقل النشط لا يدلي بدلوه،
ولا يفعل إلا أن يتلقى تلقيا سلبيا
الانطباع الذي تتركه عليه الأجسام الأخرى
كأنه مرآة تعكس الصورة الفارغة للأشياء،
فمن أين يتأتى للعقل ذلك التصور القوي
الذي يعي كل الأشياء ويراها؟
ما هي القوة التي ترى الأجزاء المفردة
أو التي تميز الحقائق التي تعرفها؟
والقادرة على أن ترى الجزئيات،
وتحلل ما تراه، ثم تركبه
وتتقدم هكذا على التبادل
فتمحص الأشياء وتدمع الباطل بالحق؟
إنها علة فاعلة
أشد وأنجع من أن ترقد سلبية،
تنتظر ما ينطبع عليها ماديا من الخارج •••
على أن التلقي السلبي يأتي أولا،
فيثير كل قوة العقل في الجسم الحي ويهيب بها
كما يحدث عندما يرتطم الضوء بالعين،
وتقعقع الأصوات في الأذن
هنالك تستنهض قوة العقل النشطة،
فتستدعي الأطر الشبيهة المخزونة داخله،
وتطابقها بالعلامات المطبوعة من الخارج،
وتمزج الصور المتلقاة
بالصور المذخورة.
2
الفصل الخامس
الفكر الأعلى
ولكن إذا كان في إدراك الظواهر المادية العينية تصطدم المنبهات الخارجية بأجهزة الحس وتمسها مسا، وتسبق السلبية الجسمية نشاط العقل، تلك السلبية التي تستثير النشاط العقلي وتستدعي صور العقل الهاجعة؛ أقول إذا كان العقل في عملية إدراك الظواهر العينية ليس متأثرا سلبيا، بل يحكم بقوته الخاصة الخبرة المتأثرة بالجسم، فما بالك بالكائنات التي هي في أسلوب إدراكها متحررة من كل تأثير جسمي؟ إن بمكنتها أن تستحث عقلها إلى النشاط من دون أن تضطر إلى الاستجابة لمنبهات خارجية لكي تدرك الأشياء، بهذه الحجة إذن يتبين أن هناك كثرة من أنماط المعرفة قد وهبت لأنماط مختلفة من الكائنات وضروب متباينة من الطبائع:
فالإحساس المحض المجرد من أي صنف آخر من العرفان قد منح للحيوانات التي لا تقوى على الحركة، من قبيل بلح البحر وغيره من أنواع المحار الذي ينمو على الصخور.
والتخيل قد منح للحيوانات التي لديها القدرة على الحركة، والتي يبدو أن لديها شيئا من الإرادة لكي تختار أشياء وتتجنب أشياء.
والعقل ينتمي حصرا إلى الجنس البشري كما أن الفكر ينتمي حصرا إلى الألوهة، والنتيجة أن هذا الصنف من العرفان يتجاوز الأصناف الأخرى ولا تقتصر معرفته على موضوعاته الخاصة بل تشمل أيضا موضوعات الأصناف الأخرى من العرفان.
افترض إذن أن الحواس والخيال وقفا يعارضان العقل قائلين إن الكليات التي يدعي العقل معرفتها هي لا شيء على الإطلاق، بالنظر إلى أن ما تمكن رؤيته وتخيله لا يمكن أن يكون كليا، ومن ثم فإما أن يكون حكم العقل صحيحا ولا يكون ثمة شيء محس، وإما، من حيث إن العقل قد عرف أن للحواس والخيال موضوعاتهما الكثيرة، تكون طريقة العقل في العرفان غير ذات قيمة ... تلك الطريقة التي صورت له ما هو محس ومفرد على أنه ضرب من الكليات.
وإذا رد العقل بأنه في نظره إلى الكلي كان محتفظا برؤية ما تدركه الحواس وما تدركه المخيلة بينما الحس والمخيلة لا يرقيان إلى تمييز الكلية لأن أسلوبهما في العرفان لا يسمح لهما بتجاوز الهيئة المادية للأشياء، إذا قال العقل إنه في مسألة الطريق التي تعرف بها الأشياء لا بد من أن تمنح المصداقية للإدراك الأكثر وثوقا وكمالا، إذا رد العقل بهذه الحجة، فينبغي علينا بالتأكيد، بوصفنا أشخاصا لدينا القدرة على التعقل بالإضافة إلى التخيل والإدراك الحسي، أن ننحاز إلى جانب العقل.
وبنفس الطريقة يأبى العقل البشري أن يعتقد بأن الفكر الإلهي يمكنه أن يرى المستقبل بأي أسلوب يتجاوز أسلوبه هو في المعرفة، ولعله يحاج بما يلي: إذا لم يكن ثمة أي شيء يبدو وقوعه يقينيا ومقدرا، فمن المحال أن يعرف مسبقا كحدث مستقبلي، ومن ثم فليس هناك معرفة مسبقة؛ لأننا إذا اعتقدنا أن هناك أي معرفة مسبقة به فلن يمكن أن يوجد هناك أي شيء سوى ما تأتي به الضرورة، إذن، إذا أمكننا، نحن الذين نشارك في امتلاك العقل، أن نمضي قدما ونحظى بحكم العقل الإلهي، لأدركنا كم هو حري بعقل الإنسان أن يستسلم للعقل الإلهي، تماما مثلما خلصنا إلى أنه حري بالحس والمخيلة أن يستسلما للعقل.
فلنعل بأنفسنا إذن، قدر المستطاع، إلى أعالي ذلك الفكر الأسمى، هنالك سيكون بوسع العقل أن يرى كيف يمكن لما هو غير ضروري أن يعرف معرفة يقينية راسخة، معرفة ليست من الظن في شيء، بل هي الفورية اللامحدودة لأسمى صور العرفان.
ما أكثر أشكال الحياة المنبثة في أرجاء الأرض
بعضها يطول ويزحف على الصعيد،
راسما أخاديد متصلة تتخلف على ضلوعها العفية،
وبعضها يهيم بأجنحة تضرب الرياح ضربا رفيقا
وتطير طيرانا رشيقا سابحة في أجواز الفضاء،
وبعضها تطبع آثار أقدامها على الأرض،
وتنقلها خطوة خطوة على السهول الخضراء أو في أحراش الغابة
تراها جميعا في أشكال شتى
غير أن بوسع الحس أن ينيخ بوجوهها البليدة إلى أسفل،
فما تزال تشخص ببصرها إلى الأرض
وحده الإنسان من بوسعه أن يرفع رأسه إلى الأعلى،
ويقف منتصب الجسم ويزدري الأرض
إن في هذا الوضع لعبرة:
لا تكن أرضيا بحماقة مذمومة،
أنت يا من يتجه بصرك إلى السماء وتستشرف الأمام
لتتجه روحك أيضا إلى السماء،
حتى لا تشخص إلى الأرض،
وبينما جسمك ينزع إلى أعلى
يسوخ عقلك إلى أسفل.
الفصل السادس
السرمدي يعرف الكل
وما دام كل موضوع للمعرفة، مثلما بينا للتو، لا يعرف بفضل طبيعته هو، بل بفضل طبيعة أولئك الذين يدركونه، فلنفحص الآن، جهد ما نستطيع، طبيعة الجوهر الإلهي، عسانا نعرف أيضا ماذا تكون طريقته في المعرفة.
لا يختلف العقلاء جميعا على أن الله «سرمد»
eternal ، فلننظر في طبيعة السرمدية، فمن شأن ذلك أن يبين لنا كلا من طبيعة الله وطريقته في العرفان، والسرمدية هي الامتلاك التام والآني والكامل لحياة دائمة أبدا، ويتضح ذلك إذا قارناه بالمخلوقات التي توجد في الزمان؛ فأيما شيء يعيش في الزمان فإنه يوجد في الحاضر ويتقدم من الماضي إلى المستقبل، وليس ثمة شيء قائم في الزمان يمكنه أن يضم امتداد حياته كله في آن: إنه في وضع من فقد الأمس لتوه ولم يمتلك الغد بعد. في حياة اليوم هذه أنت لا تعيش بامتلاء إلا في تلك اللحظة الهاربة العابرة؛ ولذلك فإن كل ما يعاني حالة الوجود في الزمان، حتى لو لم تكن له أي بداية ولن تكون له أي نهاية وتمتد حياته إلى ما لا نهاية زمنية شأن العالم عند أرسطو، فلا يصح رغم ذلك أن يعد سرمديا.
إذن لقد أخطأ أولئك الفلاسفة الذين عندما قيل لهم إن أفلاطون قال بأن العالم لم تكن له بداية في الزمان ولن تكون له نهاية، ذهبوا إلى أن العالم المخلوق هو سرمدي مع الخالق؛ ذلك أن المسير في حياة لا نهائية، شأن العالم عند أفلاطون، غير أن تضم الحياة اللانهائية كلها في حاضر آني واحد، جلي أن هذه خاصة العقل الإلهي، فالله لا ينبغي أن يعد أقدم من العالم المخلوق في امتداد الزمن بل في خاصة الفورية في طبيعته. والتغير الدائب للأشياء في الزمان هو محاولة لتقليد هذه الحالة من حضور الحياة الثابتة؛ ولكن لأنها تعجز عن محاكاة تلك الحالة أو مساواتها فإنها تسقط من الثبات إلى التغير، من فورية الحضور إلى الامتداد اللانهائي للماضي والمستقبل. إنها لا يمكن أن تملك امتلاء حياتها كله في آن معا، وإن كان امتداد وجودها إلى ما لا نهاية يجعلها تبدو مضاهية إلى حد ما لذلك الذي لا تستطيع أن تحققه أو تجسده، وهي تفعل ذلك بأن تصل نفسها بنوع من الحضور في هذه اللحظة الضئيلة والزائلة، ولما كان هذا الحضور يحمل وجها من الشبه بذلك الحاضر المقيم فإنه يضفي على من يمتلكه مظهر الوجود الذي يقلده ويحاكيه.
ولكن لأنها تقصر عن ذلك فإنها تتشبث بالرحلة اللانهائية خلال الزمان، وبذلك أمكنها أن تبقي، بالمسير قدما، تلك الحياة التي لا يمكنها أن تضم امتلاءها كله بأن تبقى ثابتة؛ وعليه فإذا شئنا أن نسمي الأشياء بأسماء صحيحة فلنتبع أفلاطون ونقل إن الله «سرمد»
eternal
والعالم «دائم»
perpetual .
ولما كان كل حكم يدرك تلك الأشياء التي تعرض له وفق طبيعته هو، ولما كان وضع الله هو دائما وأبدا وضع حضور سرمدي، فإن معرفته أيضا تتجاوز كل تغير زمني وتبقى قائمة في فورية حضوره. إنها تضم كل الأعماق اللانهائية للماضي والمستقبل وتنظرها في فورية عرفانها كما لو أنها تحدث في الحاضر؛ ومن ثم، فإن شئت أن تتأمل المعرفة المسبقة، أو الرؤية المسبقة، التي يكشف بها كل الأشياء، فسيكون من الأصوب أن ترى إليها لا على أنها نوع من المعرفة المسبقة بالمستقبل، بل على أنها المعرفة بحاضر لا يريم؛ لذا فإن من الفضل أن تسميها «رؤية أمامية/عناية»
looking forth/providence
على أن تسميها «رؤية مسبقة»
seeing beforehand/prevision
لأنها قائمة بعيدا عن الأمور السفلية وتستشرف جميع الأشياء كأن من ذروة عالية عليها جميعا.
لماذا إذن تصرون على أن كل ما تتفرسه عين الله يصبح ضروريا ؟ فالناس ترى الأشياء ولكن هذا بالتأكيد لا يجعل هذه الأشياء ضرورية، ورؤيتكم إياها لا يضفي أي ضرورة على الأشياء التي ترونها حاضرة، أليس كذلك؟
ب : «بلى.»
ف : «وإذا قارنا بين الحاضر الإنساني والحاضر البشري فإنه مثلما ترى أنت أشياء معينة في زمنك الحاضر، فإن الله يرى جميع الأشياء في حاضر سرمدي؛ لذا فإن هذه المعرفة الإلهية المسبقة لا تغير من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرة لها تماما كما سوف تحدث ذات يوم في المستقبل، إنها لا توقع اضطرابا في الأشياء بل تميز بلمحة واحدة من عقلها كل ما سوف يحدث، سواء لديها أن يكون حدوثها ضروريا أو غير ضروري. وبالمثل أنت عندما ترى في الوقت نفسه رجلا يمشي على الأرض والشمس تشرق في السماء، فرغم تزامن المنظرين فأنت تميز بينهما وتحكم أن أحدهما مراد والآخر ضروري، وبنفس الطريقة تبصر عين الله الأشياء جميعا من دون أن تربك طبيعتها؛ فهي بالنسبة له أشياء حاضرة وإن تكن تحت شرط الزمان أشياء مستقبلية، وبذلك يتأتى أن معرفة الله بأن شيئا معينا سوف يقع وأن ليس ثمة ضرورة في وقوعه؛ أن هذه المعرفة ليست ظنا بل معرفة قائمة على الحقيقة.
لعلك تقول عند هذه النقطة إن ما يراه الله كحدث مستقبلي لا يمكن إلا أن يحدث، وما لا يمكن له إلا أن يحدث فإنه يحدث بالضرورة، ولكنك إذا قيدتني بهذا اللفظ «الضرورة» فسأكون مضطرة إلى أن أقول بأنه مع تسليمي بأنها مسألة صادقة كل الصدق إلا أنها بعيدة الغور على غير مريد الألوهية، سأرد بأن الحدث المستقبلي نفسه يكون ضروريا حين ينظر إليه بالإشارة إلى المعرفة الإلهية المسبقة، غير أنه حر تماما وغير مقيد على الإطلاق حين ينظر إليه في ذاته؛ ذلك أن ثمة نوعين من الضرورة: نوعا بسيطا، مثل حقيقة أن جميع الناس فانون. ونوعا مقيدا أو مشروطا؛ مثال ذلك إذا عرفت أن شخصا ما يمشي فإن من الضروري أن يمشي حقا وصدقا؛ لأن المعرفة تعني الحق والصدق، ولكن هذه الضرورة المشروطة لا تتضمن ضرورة بسيطة لأنها لا توجد بفضل طبيعتها ذاتها وإنما بفضل شرط قد أضيف، لا ضرورة هناك تجبر بالمشي من يمشي في طريقه بملء حريته، مع أنه بالضرورة يمشي عندما يخطو خطوة.»
وبنفس الطريقة، عندما ترى العناية شيئا ما كحاضر، فمن الضروري أن هذا الشيء يحدث حتى لو لم تكن ثمة ضرورة في طبيعته ذاتها. إن الله يرى الأحداث المستقبلية التي تحدث بحرية، يراها كأحداث حاضرة؛ لذا فإن هذه الأشياء عندما ينظر إليها بالإحالة إلى بصر الله لها فهي تحدث بالضرورة كنتيجة لشرط المعرفة الإلهية، أما حين تعتبر في ذاتها فهي لا تفقد شيئا من حريتها التامة القابعة في صميم طبيعتها.
إذن كل الأشياء التي يكون حدوثها المستقبلي معلوما من الله فإنها تحدث من دون شك، ولكن بعض هذه الأشياء هي نتاج حرية الإرادة، ورغم حقيقة كونها تحدث حقا فإن وجودها لا يجردها من طبيعتها الحقة التي تجعل احتمال عدم حدوثها قائما قبل أن تحدث.
ماذا يهم، إذن، إذا كانت غير ضرورية، عندما يتكشف، بفضل شرط المعرفة الإلهية، أنها تحدث بالضبط كما لو كانت ضرورية؟ والجواب هو هذا: من المحال للحدثين اللذين ذكرتهما الآن - شروق الشمس ومشي الرجل - ألا يكونا حادثين عندما يحدثان فعلا، ومع ذلك فقد كان من الضروري لأحدهما أن يحدث قبل أن يحدث بالفعل، ومن غير الضروري للآخر، إذن فتلك الأشياء الماثلة لله سوف تحدث من دون شك، ولكن بعضها سوف يحدث جراء ضرورة الأشياء، وبعضها الآخر جراء حرية إرادة الفاعلين، ونحن لا نجانب الصواب إذن عندما نقول إن هذه الأشياء إذا نسبت للمعرفة الإلهية المسبقة فهي ضرورية، وإذا اعتبرت في ذاتها فهي طليقة من قيود الضرورة، مثلما أن كل شيء تدركه الحواس فهو كلي إذا اعتبر بالإحالة إلى العقل، وهو فردي إذا اعتبر في ذاته.
ولكن لعلك ترد بقولك: إنه لو كانت لدي القدرة على أن أغير مسارا مزمعا للفعل فسوف أكون قادرا على مراوغة العناية؛ لأنني سأكون، ربما، قد غيرت الأشياء التي تعرفها العناية معرفة مسبقة، وجوابي على ذلك أن بوسعك أن تغير خطتك، ولكن بما أن هذا ممكن، وأنك كيفما فعلت وكيفما غيرت فهو مرئي من العناية الحاضرة أبدا والصادقة أبدا، فأنت لا تملك مهربا من المعرفة الإلهية المسبقة، تماما مثلما أنك لا تملك مهربا من نظر عين حاضرة لتشاهد، مع أنك قد تتحول بملء حريتك إلى أفعال أخرى مختلفة.
ولعلك تسأل: حسن، ألا تتغير المعرفة الإلهية كنتيجة لترتيباتي؟ فكلما غيرت رغباتي غيرت معرفتها تبعا لذلك؟ والجواب: لا، كل شيء مستقبلي هو مستبق بعين الله التي تعيده وتستعيده إلى حاضر معرفتها الخاصة المميزة، إنها لا تتغير كما تظن وتتردد بين هذا البديل المعرفي وذاك، وإنما بلمحة واحدة تستبق وتضم تغيراتك «أنت» في ثوبتها «هي»، الله يتلقى هذا النمط الحاضر من المعرفة ويبصر الأشياء جميعا لا من صدور الأشياء المستقبلية، بل من فوريته الخاصة، بحيث تتبدد الصعوبة التي أبديتها منذ قليل ومفادها أنه من غير اللائق أن يقال إن مستقبلنا يقدم سببا للمعرفة الإلهية، إن قوة هذه المعرفة التي تضم الأشياء جميعا في فهم حاضر هي نفسها التي أنشأت أسلوب الوجود لكل الأشياء، ولا تدين بأي شيء لأي شيء عدا ذاتها، وما دام ذلك كذلك فإن حرية إرادة الإنسان تبقى غير منتهكة، والقانون لا يفرض المثوبة والعقوبة ظلما؛ لأن الإرادة حرة من كل ضرورة.
لله معرفة مسبقة، ويستوي في عليائه مشاهدا كل شيء، ولما كانت سرمدية نظرته تصرف المثوبة للأخيار والعقوبة للأشرار فهي تمضي بانسجام مع نوعية أفعالنا المستقبلية، الأمل في الله ليس عبثا، والدعاء لا يذهب سدى، فهما إن كانا صالحين لا يمكن إلا أن يجابا، اجتنب الإثم إذن، وقوم النفس بالفضيلة، واسم بروحك إلى الرجاء الصالح، ووجه ابتهالات خاشعة إلى السماء، ثمة «ضرورة»
1
كبرى تقع على عاتقك، إذا شئت أن تكون صادقا مع نفسك، «ضرورة» كبرى بأن تكون صالحا خيرا، ما دمت تعيش تحت بصر الحكم الذي يرى كل شيء.
عزاء الفلسفة
دراسة وتعليق
حياة بوئثيوس وأعماله
ولد أنيكيوس مانليوس سييرنيوس بوئثيوس لأسرة أرستقراطية عريقة تحولت إلى المسيحية في القرن الرابع، ويعد هذا تحولا مبكرا بالنسبة لأسرة رومانية محافظة وطيدة الأركان، ومن ثم حازت نفوذا وثراء عظيمين، وكان من بين أسلافه وأقاربه كثير من القناصل، ومنهم اثنان من الأباطرة، وواحد تقلد منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية، وتقلد والده نفسه منصب قنصل عام 487م على عهد الملك أودويسير، ولكنه توفي وابنه بعد صبي صغير، فتولى تربيته روماني نبيل رفيع المكانة هو كوينتس أوريليوس سيماخوس الذي تقلد منصب قنصل عام 485م، ثم صار فيما بعد حاكما لمدينة روما ورئيسا لمجلس الشيوخ، وهو الذي قدم بوئثيوس إلى عالم الأدب والفلسفة، وزوجه ابنته.
وقد بدت على بوئثيوس، فيما يروي قريباه إينوديوس وكاسيودوروس، مخايل النبوغ الاستثنائي منذ الطفولة المبكرة، وبدا شغفه بالتحصيل والدرس، وتلقى أعلى ضروب التعليم، فما ناهز الشباب حتى كان حاذقا لجميع الفنون الحرة من البلاغة إلى المنطق والفلك، وقد بلغ من إحكام العبارة وبلاغة الأسلوب وإتقان اليونانية مبلغا لم يتح إلا لقلة قليلة في نهاية القرن الخامس.
وقد استرعى بوئثيوس التفات الملك القوطي تيودوريك، الذي قهر أودويسر وقتله عام 493م، فقربه إليه وعهد إليه ببناء ساعة مائية ومزولة واستعان به في أمور فنية أخرى، وفي عام 510م تقلد بوئثيوس منصب قنصل، وبذلك تسنم في الثلاثين من عمره أرفع المراتب الرومانية جميعا وحقق ما لا يقدر أغلب الرجال على تحقيقه في عمره كله، ثم قلده الملك تيودوريك، في تاريخ غير معلوم، منصب «رئيس مستشاري البلاط»
magister officiorum
وهو منصب يضع على كاهله مسئوليات جساما، وفي عام 522م حظي بشرف لا يحظى به أحد إذ عين ولداه قنصلين في يوم واحد، وهو تكريم يعكس علو مكانته عند تيودوريك وإمبراطور القسطنطينية معا.
على الرغم من هذه المناصب السياسية الرفيعة التي حازها بوئثيوس فقد ظل شغفه وهواه ومهوى فؤاده هو البحث والدراسة وممارسة الفلسفة، يقول بوئثيوس في تعليقه على كتاب أرسطو «في التأويل »: «أود أن أترجم أعمال أرسطو كلها، بقدر ما تتوافر لدي، إلى لغة الرومان، وأنقل عباراته كلها بأمانة إلى اللسان اللاتيني ، كل ما سطره أرسطو في الفن العسير للمنطق، وفي المجال المهم للخبرة الأخلاقية، وفي الفهم الدقيق للموضوعات الطبيعية، سوف أترجمه على النحو الصحيح، وفضلا عن ذلك فسوف أجعل كل هذا مفهوما بتزويده بشروح مفسرة، وأود أيضا بالتأكيد أن أترجم كل محاورات أفلاطون، وأشرحها بالمثل، وأعرضها بذلك في صيغة لاتينية، وبعد أن أفرغ من ذلك لن أتردد في إثبات أن أفكار كل من أرسطو وأفلاطون متوافقة في كل النواحي، وأنها ليست متناقضة فيما بينها كما يفترض على نطاق واسع، وسوف أبين كذلك أنها تتفق فيما بينها في النقاط الحاسمة فلسفيا، هذه هي المهمة التي سأكرس لها نفسي بقدر ما يتيح لي الأجل والفراغ.»
لم يمهله الأجل حتى يتم مشروعه، غير أنه أتم ترجمة «مدخل فرفوريوس إلى مقولات أرسطو»، وأعمال أرسطو في المنطق وتشمل «في التأويل»
On Interpretation ، «الطوبيقا» (المواضيع)
the Topics ، «التحليلات»
Analytics
الأولى والثانية، و«المغالطات السوفسطائية»
Sophistical Fallacies ، ومن الواضح أيضا أنه عرف كتاب «الميتافيزيقا»
Metaphysics
و«الفيزيقا»
، و«في الكون والفساد»
On Generation and Corruption ، و«الشعر»
.
كما كتب بوئثيوس تعليقات على «مدخل» فرفوريوس، وعلى «المقولات والعبارة» لأرسطو، وربما على كل أعمال أرسطو التي ترجمها، وعلى «المواضيع الجدلية» لشيشرون (
Topics ).
ولم تقتصر أعماله الفلسفية على النقل، فقد ألف خمسة أعمال في المنطق خاصة به (في القياس الحملي، والقياس الشرطي، والقسمة المنطقية، والفروق الطوبيقاوية)، وألف خمس رسائل فلسفية (أربع منها على الأقل صحيحة النسبة إليه) حدد فيها العقائد الإيمانية وشرحها بطريقة عقلية: (1) في الثالوث الأقدس. (2) هل الألوهية تقال جوهريا على الأب والابن والروح القدس؟ (3) كيف يكون الخير في الجوهر الخير؟ (4) في الإيمان الكاثوليكي. (5) كتاب ضد يوتيخوس ونسطوريوس.
وله مؤلفات علمية منها واحد «في الموسيقى» (في خمس مقالات)، والثاني «في الحساب» (في مقالتين).
كان تأثير بوئثيوس هائلا من الوجهة التاريخية، فلم يعرف الغرب أرسطو إلا من خلال ترجمات بوئثيوس لأعماله المنطقية، ومن خلال ترجمته الدقيقة للمصطلحات الفلسفية خلق مفردات فلسفية جديدة للفلاسفة المدرسيين (الإسكولائيين) في العصور الوسطى، وقدم لهم في تعليقاته نموذجا احتذوه في تعليقاتهم على أرسطو، والجدل الكبير حول «الاسمية»
nominalism
و«الواقعية »
realism
تجد بذوره عند بوئثيوس في تعليقه على فرفوريوس؛ ولذا وصف بوئثيوس بحق أنه «آخر الرومانيين وأول المدرسيين»
1
فقد كان بوئثيوس هو القناة التي عبرت خلالها الفلسفة من العالم القديم إلى العالم السكولائي في العصور الوسطى.
2
وكان للفنون الحرة أهمية لدى بوئثيوس، مثلما كانت لدى أوغسطين، كتمهيد دراسي للفلسفة، وهو ما جعله يكتب الرسائل في الحساب والهندسة، وربما في الفلك والميكانيكا، وكان لرسائله أهمية كبرى في تطوير التعليم في العصر الوسيط، فقد ظلت رسالته في الموسيقى، على سبيل المثال، تدرس في أكسفورد حتى القرن الثامن عشر، وبوئثيوس هو الذي أعطانا لفظة «الرباعية»
quadrivium (الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك) باعتبار أن من المحال أن يبلغ المرء قمة الإتقان في مباحث الفلسفة ما لم يقارب الفلسفة بنوع من الطريق الرباعي.
وفي رسائله اللاهوتية محاولة للتوفيق بين مناهج الفلسفة العقلية المنطقية وبين حقائق الوحي القائمة بحقها الشخصي، وفي تطبيقه للمنهج والمصطلحات الأرسطية على المشكلات اللاهوتية يعد بوئثيوس بحق رائدا للمدرسيين.
في رسالة، أوردها كاسيودوروس، باسم تيودوريك إلى بوئثيوس (يطلب فيها أيضا ساعة شمسية) جاء ما يلي:
في ترجماتك يقرأ الإيطاليون فيثاغوراس الموسيقي وبطليموس الفلكي، ويسمع الأوسونيون نيقوماخوس الحسابي وإقليدس الهندسي، ويتجادل أفلاطون اللاهوتي وأرسطو المنطقي بصوت روماني، لقد رددت أرشيميدس الميكانيكي باللاتينية إلى الصقليين، وأي مبحث أو فن علمته بلاغة اليونان من خلال شتى الرجال فقد تلقته روما بفضلك وحدك بلغة آبائها، لقد جعلت هذه الأعمال اليونانية واضحة بأسلوب مشرق وتعبير مبين بحيث إن من عرف الاثنين سيفضل ترجمتك على الأصل.
تقلبات السياسة
تعرضت الإمبراطورية الرومانية للانقسام على يد قبائل جرمانية قامت بغزو الإمبراطورية من جهة الشرق بين القرن الثالث والخامس، ومنذ أواخر القرن الرابع أصبح الحكم مشاركة بين إمبراطور في الشرق مركزه القسطنطينية (بيزنطة) وآخر في الغرب مركزه روما، وفي عام 476م تولى أودويسر حكم الدولة الغربية بعد أن تخلص من آخر أباطرة الغرب، وأرسل شارة الإمبراطورية إلى القسطنطينية، والحق أنه في نظر البرابرة لم يكن من الجائز لغير روماني أن يكون ملكا، ويبدو أن أودويسر كان قانعا بالسيطرة على السلطة في روما، ويعتبر زينون في الشرق هو الإمبراطور الوحيد.
بذلك تأسس نوع من التسوية المؤقتة بين البرابرة في الغرب والإمبراطور في الشرق، كان أودويسر من الوجهة الفعلية
de facto
ملكا مستقلا، ولكنه ظل يعتبر نظريا، أو رسميا
de jure - وفي عين الرومان أيضا - أشبه ب «فايسروي» (نائب ملك)
Viceroy ، أي تابع لإمبراطور القسطنطينية في مملكة واحدة موحدة، وبقي هذا النظام متبعا من قبل تيودوريك ملك القوط عندما خلف أودويسر عام 493م، وقد كتب إلى الإمبراطور أناستاسيوس يقول: «مملكتنا اقتداء بمملكتك، نسخة من الإمبراطورية الوحيدة في الأرض.»
كان تيودوريك (471-526م) ملكا قوطيا عادلا حكيما، يتسم بالشجاعة والذكاء، تلقى تعليما راقيا في القسطنطينية، واستطاع أن يفرض السلام والنظام في ربوع إيطاليا، وباعتباره ملكا على البرابرة و«فايسروي» نائبا للإمبراطور فقد نجح في تأسيس تعايش سلمي بين الرومان والقوط، وفي عهده ازدهرت الصناعة وساد الأمن وأعيد تشييد المباني وشق القنوات، واستطاع أن يجذب إلى خدمته رومانيين ذوي مكانة مثل ليبيريوس وكاسيودوروس وبوئثيوس.
وكان تيودوريك مسيحيا ولكن على المذهب الأرياني (من أتباع أريوس، شأن القوط جميعا، وهي نحلة هرطقية تذهب إلى أن الأب والابن ليسا جوهرا واحدا)، أدت هذه الهرطقة إلى انشقاق الكنيسة، ورغم ذلك استطاع تيودوريك بحكمته وقوته أن يدير دفة الحكم في مدينة البابا وعاصمة الكاثوليكية، وظل على علاقة ودية مع رجال الكنيسة، وبسط ظل التسامح وحرية العبادة (باستثناء الوثنية) في أرجاء مملكته.
كان دخول بوئثيوس إلى عالم السياسة والمناصب العامة مدفوعا بحبه للواجب، وامتثالا لدعوة أفلاطون إلى حكم الفلاسفة، وكانت دروس الفلسفة هي مرشده وهاديه في أداء وظائفه، كان من الطبيعي لرجل نزيه مستقيم الخلق مثل بوئثيوس أن يصطدم بمكر الساسة، وأن يثير على نفسه حسد الحاسدين، وقد نجح زمنا في كبت ضراوة القوط ودفع ظلمهم إذ كان يحظى بثقة الملك وإعجابه، غير أن هذه الأحوال لم تكن لتدوم طويلا .
في عام 484م حدث انشقاق بين الشرق والغرب حين أدان البابا البطريرك البيزنطي أكاسيوس، كان هذا الانشقاق أمرا من شأنه أن يزيد استقلال تيودوريك عن الشرق، كما أن عداء البابا ورجال الكنيسة الإيطاليين للقسطنطينية هو أيضا تيار موات له وشيء يصب في صالحه، أم بالنسبة لكل روماني يعز عليه تفكك الإمبراطورية وينظر إلى القسطنطينية نظرة ولاء خاص، فكان الانشقاق يبعث على الأسى، من بين هؤلاء كان سيماخوس ودائرة حوله تضم كثيرا من أعضاء مجلس الشيوخ، وتضم بوئثيوس الذي كانت رسائله اللاهوتية تقدم، فيما تقدم، إسهاما متواضعا من جانبه لحل النزاع، ولقد حل النزاع رسميا عام 519م، وإن استمرت الخلافات بعض الوقت، خلال ذلك كان بوئثيوس يقف مع الشرق، ولعل الشرف الذي ناله عام 522م بتولي ابنيه القنصلية كان في الأصل اقتراحا من إمبراطور الشرق جستينوس (يوستينوس) بإيعاز من واحدة من أقارب بوئثيوس تعيش في القسطنطينية.
1
كان لانتهاء الشقاق نتائج سياسية ولاهوتية، فقط نشطت دعوة لتدعيم مجلس الشيوخ، بل إن الوفاق بين الشرق والغرب مثل تهديدا لوضع تيودوريك، وعاد الرومان ينظرون إلى إمبراطور الشرق باعتباره مليكهم الحقيقي وبقي تيودوريك في نظرهم ذلك الغازي المهرطق.
لم يكن بد في هذه الظروف المشتبكة من أن يسقط بوئثيوس في فخاخ المكائد السياسية، فقد كان رجل مبدأ ولم يكن داهية أو سياسيا بالغريزة، وقد اكتسب في زمن ازدهاره عداوة رجال البلاط، وحانت الفرصة لهؤلاء كي ينتقموا منه ويوغروا ضده صدر تيودوريك الذي كان مغضبا من الأصل بسبب تردي موقفه وتجدد اضطهاد الأريانيين في الشرق، سعى أعداء بوئثيوس بالدس والوقيعة، وأبلغوا تيودوريك بأن أحد أعضاء مجلس الشيوخ، وهو ألبينوس، على صلة سرية بالساسة في القسطنطينية، وهب بوئثيوس للدفاع عن ألبينوس دون أن يخطر بباله أن التهمة يمكن أن تطاله، قام أعداء بوئثيوس بتلفيق الأدلة التي تثبت خيانته، ودعموها، إذ بدت واهية غير كافية، بتهمة ممارسة السحر! وجندوا في كل ذلك شهود الزور.
فقد تيودوريك ما عرف عنه من الحكمة والتروي، وأمر بالقبض على بوئثيوس والإلقاء به في سجن بافيا، وأوعز إلى مجلس الشيوخ، المروع بملك مسن محبط متوجس، بالتصديق على حكم الإعدام الذي أصدره، وسواء أصحت التهمة أم لم تصح، فلم يقم عليها أي دليل حتى الآن، فقد أعدم بوئثيوس عام 524م (وقيل 525م، وقيل 526م) بالقرب من مدينة ميلانو، بعد فترة سجن امتدت شهورا، وقد تم الإعدام بأن عذب لفترة طويلة بحبل يلف حول جبهته بشدة حتى تجحظ عيناه، وقتل في النهاية بهراوة، ودفن في كنيسة سان بييترو أو القديس بطرس، وفي الفترة التي تفصل بين سجنه وإعدامه (والتي امتدت ستة أشهر، وقيل سنة) كتب بوئثيوس «عزاء الفلسفة» (أو «في التعزية بالفلسفة» أو «في مواساة الفلسفة»
De Consolatione Philosophiae ) يلتمس فيه مواساة الفلسفة ويعلو فوق محنته.
في كتابه «تاريخ الحروب»، الجزء الخامس، يقول المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس، الذي عاصر الأحداث: «كان سيماخوس وزوج ابنته بوئثيوس ينحدران من أصل نبيل وعريق، كانا قنصلين وتصدرا مجلس الشيوخ، مارسا الفلسفة وكرسا نفسيهما للعدل واستخدما ثروتهما لتفريج كربة الغريب والقريب، فحظيا بمجد أوغر صدور أعدائهما، فزينوا الكذب والبهتان ضدهما لتيودوريك، فصدقهم وحكم عليهما بالموت بتهمة التآمر، وصادر أموالهما، وحين كان تيودوريك على مائدة طعامه بعد ذلك بأيام قليلة قدم إليه خدمه رأس سمكة كبيرة، بدا رأس السمكة لتيودوريك هو رأس سيماخوس مذبوحا لتوه، كانت أسنانها الناتئة من شفتها السفلى وعيناها المحدقتان إليه في رعب مسعور تضفي عليها مظهرا يطفح بالوعيد، ارتعد تيودوريك لهذا النذير المرعب وهرع إلى فراشه، وأمر خدمه أن يراكموا فوقه الأغطية، فهدأ برهة غير أنه أفضى بعد ذلك لطبيبه إلبيديوس بكل ما حدث، وبكى لما ارتكبه في حق سيماخوس وبوئثيوس، ولم يدم أسفه وندمه طويلا فقد مات بعد ذلك بفترة وجيزة، وكان هذا الفعل هو الظلم الأول والأخير الذي ارتكبه في حق رعاياه، ذلك أنه لم يقم في هذه الحالة بما دأب عليه من التحقق والتمحيص قبل أن يصدر حكما.»
في 15 ديسمبر عام 1883م أقر المجمع المقدس للمذاهب، بالاتفاق مع أسقف بافيا، العيد المحلي للقديس سيفيرينوس بوئثيوس، والحق أن هذا التقديس يعود إلى القرن التاسع على أقل تقدير، وإن لم يشتهر أمره حتى القرن الثالث عشر عندما علم دانتي بقبر بوئثيوس في كنيسة سان بييترو في بافيا.
2
الجنس الأدبي1 في «عزاء الفلسفة»
العزاء
consolatio
جنس كتابي قديم، يندرج ضمن المقال النقدي، وينتمي في العالم اليوناني والروماني إلى مجال الفلسفة بصفة خاصة، وقد تبنته جميع المدارس الفلسفية، وفي زمن سينيكا
Seneca
أصبح «فن العزاء» نوعا من الدواء الأخلاقي، وما هو إلا أن تفتح الدرج الموكل بمرض معين حتى تجد بين يديك العلاجات الأنسب لشفاء هذا المرض، لعل هذا هو مصدر تلك الاستعارات الطبية التي تستخدمها «الفلسفة» في هذا النص، و«التشخيص»
diagnosis
الذي تضعه، في الكتاب الأول، لل «الداء» الذي ألم بمريضها، و«فحص»
examination
الحظ، واستخدام أمثلة تاريخية للعبرة، وفلسفة العزاء التوفيقية الرائجة التي تتبطن شطرا كبيرا من الكتاب الثاني، والتي تتضمن الفقرة النثرية المأثورة التي تترسم خطى شيشرون في «حلم سكيبيو»
Dream of Scipio
وتكشف عبثية المجد والشهرة الأرضية المحلية.
2
غير أن «عزاء الفلسفة» يصهر ببراعة أكثر من جنس كتابي واحد، فهو حينا يكون مناجاة ذاتية (مونولوج) تقريبا، وحينا يكون حوارا (ديالوج) يحذو حذو محاورات أفلاطون، غير أن «العزاء» في مجمله قد صب في قالب صنف معين من الحوار، هو الحوار المقدس الذي يصور فيه المؤلف كيف تجلى له روح قدسي أو قوة علوية غير معروفة له في البداية، ثم لا تلبث أن تفصح عن نفسها وتبثه شيئا من الحكمة الخفية.
ثمة تضام في «العزاء» بين الحوار الرؤيوي وما يسمى ب «النثر المنظوم أو النظم النثري»
،
3
وهو شكل من الإنشاء ذو أصل يوناني ثم دخل إلى اللاتينية، وفيه مقاطع نثرية تتبادل مع الشعر، كان هذا الشكل الكتابي معروفا قبل بوئثيوس، وأشهر أمثلته رائعة مارتيانوس كابيللا «زواج الفيلولوجيا وعطارد»، لم يكن إلمام بوئثيوس بهذا العمل ليقدم إليه كبير عون، وإن كان من المحتمل أن يكون قد ألهمه باختيار الشكل الأدبي، على أن بوئثيوس قد بلغ بهذا الجنس الأدبي ذرى عالية غير مسبوقة.
مشروعية الشعر
أول شيء فعلته «الفلسفة» حين هبطت إلى زنزانة السجين هو أن طردت ربات الشعر اللائي يحطن به ويلهمنه الشعر الباكي ويواسينه بالغناء الحزين، فربات الشعر «ليس لديهن علاج لأوجاعه بل سموم محلاة تزيدها سوءا ... فليغربن إذن وليتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه.»
ذلك أن علاج الصدمات الثقيلة والمحن الكبرى لا يكون بالمواساة السطحية بل بالمواجهة العميقة، إنها تريد أن تمنح «مريضها» حرية عقلية تخلصه من السجن المادي، يعرف ذلك كل معالج نفسي تخصص في علاج الصدمات، ويعرف أن العلاج الأمثل في هذه الحالة ليس العلاج التدعيمي السطحي، بل العلاج التبصيري العميق ... العلاج بمواجهة الصدمة واقتحامها، هذه المواجهة هي العلاج الحقيقي والكامل لهذا الاضطراب، والحق أن كل أصناف العلاج على اختلاف تقنياتها ومنطلقاتها النظرية تلتقي في هذه الفكرة العلاجية المحورية: مواجهة المحنة والألم النفسي وعدم التهرب منهما، وذلك بالتناول الاستيعابي أو الاختراق
working through
للأحداث المؤلمة، على جرعات متدرجة في الشدة، وتأويلها تأويلا سليما، ووضعها في نصابها الصحيح، وتحويلها من خبرة ناشزة خام إلى خبرة مهضومة ومتمثلة.
قد يكون ذلك مؤلما وممضا في الجلسات الأولى، تماما مثل تنظيف الجرح (نستعين عليه بوقفات تلطيف وتسكين واستراحة مثلما فعلت «الفلسفة» مع «بوئثيوس») ولكنه يؤدي فيما بعد إلى الالتئام التدريجي، وإلى سيطرة المريض على الصدمة بعد أن كانت مسيطرة عليه، وتحويل المحنة إلى جزء من خبرته الشخصية ومن بنائه النفسي، بعد أن كانت كيانا دخيلا مؤرقا كالجسم الغريب.
لا بأس البتة في استخدام الشعر والموسيقى وبقية الفنون في خدمة الحقيقة وعلاج المصاب، على أن يكون ذلك ضمن رؤية علمية أو فلسفية، وبإشراف العالم الخبير وعلى مرأى منه، وفي المراحل الأولى من العلاج نجد «الفلسفة» تستخدم الشعر بكثرة،
1
وها هي تقول للسجين في الكتاب الثاني بصريح العبارة: «لقد آن لك إذن أن تأخذ جرعة خفيفة سائغة تشيع في داخلك وتمهد الطريق بعد لجرعات أنجع، جرب إذن الأثر المهدئ للبلاغة المعسولة التي تمضي في طريقها الصحيح ما لم تحد عن مبادئي، ودعنا نصغي إلى الموسيقى، خادمة داري، ترن في أوزان خفيفة أو ثقيلة وفق طلبي.»
ونحن نريد أن نمضي أبعد من ذلك فنقول: إن لغة الشعر مشروعة تماما حتى داخل اللغة الفلسفية والعلمية! ذلك أن الدراسات اللغوية الجديدة قد دعمت الرأي القائل بأن حرفية اللغة، بما فيها لغة العلم، ليست هي الصراط السوي إلى الحقيقة كما كان يفترض في الماضي، فالتصور الذي يذهب إلى أن الواقع «قائم هناك» بانتظار أن يدرك إمبيريقيا، ثم يوصف عن طريق الاستخدام الحرفي للغة هو تصور لم يعد مقبولا على إطلاقه، فقد بات واضحا للجميع، منذ ثورة كانت على أقل تقدير، أن الواقع هو نتاج تشييد عقلي أو بناء ذهني، وأن هذا العالم كما ندركه هو، على حد قول جون إكلس «صورتنا الرمزية للعالم الموضوعي المستقل عنا.»
من الخصائص الشعرية الجوهرية التي يمكن أن تندمج في أجناس الكتابة وتنصهر في سبيكتها: الرمز، المجاز، الصورة، الاستعارة، ألست ترى أننا نفزع جميعا إلى المثل أو التشبيه أو المجاز أو الشعر الصريح حين تضيق بنا سبل التعبير ويعجز القول المباشر عن وصف حالة باطنة عميقة أو نقل معنى دقيق مرهف أو العروج مع الفكر إلى آفاق تجريدية نائية؟ ذلك أن الاستعارة الحية، كما يقول بول ريكور، ليست زينة وليست زخرفا يمكن أن يقوم القول بدونه وتتم الدلالة بمعزل عنه، إن تدمير المعنى الحرفي في الاستعارة يتيح لمعنى جديد أن يظهر، وبنفس الطريقة تتبدل العملية الإشارية في الجملة الحرفية وتحل محلها إشارة ثانية هي التي تجيء بها الاستعارة، وقد يبدو أن الاستعارة لا تفعل أكثر من تحطيم العملية الإشارية، غير أن هذا في الظاهر فقط، فالاستعارة المبدعة الحية تخلق إشارة جديدة تتيح لنا أن نصف العالم أو جزءا من العالم كان ممتنعا على الوصف المباشر أو الحرفي، إن اللغة الشعرية تدفع عالما جديدا إلى الظهور، ذلك هو عالم التعبير الشعري، هذا العالم يندمج بالعالم الحياتي وينصهر بعالم الفعل اليومي، ويمثل بالنسبة لي عالما ممكنا، عالما بوسعي أن أعيش فيه وأعمل وأعاني، نخلص من ذلك إلى أن الإبداع الشعري للاستعارة يتيح لنا أن نقول شيئا ما جديدا عن عالم خبرتنا المعيشة.
إن اللغة هي وسيلتنا لإدراك العالم والتعامل معه، وكلما كانت اللغة أكثر قدرة على الترميز وأوفر حظا من «النشاط الإشاري» كان العالم الذي ترسمه أوسع وأرحب، وكانت الخبرات التي تبثها أثرى وأخصب، من هنا ينبع مجد الاستعارة، ومن هنا تأتي أهميتها الكشفية والجمالية والنفسية، فالاستعارة وسيلة سيمانتية (دلالية) للإمساك بقطاعات من الواقع ومن خبايا النفس لا يطالها التعبير الحرفي ولا يملك منفذا إليها، بوسع الاستعارة أن تقبض على مستويات عديدة من المعنى في وقت واحد، وتربط المعنى المعرفي المجرد بالمعنى الحسي البدائي المشحون بالعاطفة والانفعال، وتعقد بينهما وصلا مثريا وتكاملا صحيا، والاستعارة إذ تهيب بالخيال الصوري تدعم «الذاكرة البعيدة» وتنمي الإنتاج اللفظي وتحفز الفهم التكاملي، والاستعارة إذ تجلب كل ملحقات المشبه به وتلصقها بالمشبه فهي تتيح كما معلوماتيا كبيرا بمبذول لفظي صغير، وهي بهذا «الاقتصاد الذهني» تجعل الفكر أبعد مدى وأكثر طموحا.
التوقيت، والسياق الكوني للفعل
يلفتنا علاج «الفلسفة» لمريضها وإيقاعه، وتناوب القبض فيه والبسط، وتناوب الشعر والنثر، إلى فكرة السياق الكوني للأشياء والكائنات جميعا، فالكائن ليس معلقا في فراغ، وإنما هو منسلك في منظومة كونية ذات حركية وإيقاع، والظواهر النفسية والعقلية وثيقة الصلة بحركة الكون، ولا يمكن تناول الجزء الإنساني بمعزل عن الكل الكوني، ومن هنا يأتي الحضور القوي والدائم للطبيعة وللكونيات في قصائد «العزاء» وفي مقاطعه النثرية.
ويلفتنا العلاج أيضا لفكرة «التوقيت»: ليس يكفي أن تفعل، بل ينبغي أن تفعل في التوقيت الصحيح، كل شيء يجري في سياق، والوجود كله دورات وإيقاعات وحركة وسيرورة، ولا بد للفعل الناجع من أن يضرب في اللحظة الصحيحة، كأنه النغمة تقع في النغم والإيقاع موقعها الصحيح فتؤتي أثرها ولا تكون نشازا منفرا، وليس التدخل العلاجي من ذلك ببعيد، وطوال «عزاء الفلسفة» نجد الطبيبة حريصة كل الحرص على القصد في اختيار لحظة التدخل، ونوعيته، وضبط الجرعة، في عملية دفع حركة العلاج قدما وتهيئة المريض للخطوة القادمة وتمهيد طريقه للحركة التالية، وكأنها تعزف لحنا بقدر ما تعالج مريضا!
إذا ما أهل برج السرطان يسفع الحقول ... فإن من يبذر قمحه آنذاك في الحقول العقيمة ستخونه إلهة الحصاد وتخلف وعدها له ... ولا تنشد بيد متلهفة أن تقطف أعنابك في مايو، إذا شئت أن تنعم بمذاق العنب فإنما يهب باكخوس (ديونيوس) عطاياه في مقتبل الخريف، فلقد حدد الله المواسم، وهيأ لكل موسم عمله الخاص، ولا تملك قوة أن تفسد النظام الذي قدره، وهكذا؛ لأن طريق العصيان والعسف يحيد عن الصراط السوي، فإن مآله الفشل والوبال.
1
شاعرية بوئثيوس
يشتمل «عزاء الفلسفة» على تسع وثلاثين قصيدة نثرت في ثنايا في النص وتتمتع فيه بوجود عضوي غير مقحم، وقد اختلفت الآراء في شاعرية بوئثيوس، ففي القرن التاسع كان بوئثيوس يعد ندا لشيشرون في النثر ولڨرجيليوس في الشعر، وكان سكاليجر يرى في شعر «عزاء الفلسفة» وحيا إلهيا، ومن جهة أخرى نجد لهيرمان يسينر رأيا آخر، إذ يرى في الفواصل الشعرية صوت طفل من القرن السادس بالمقارنة بنضوج النثر في «العزاء»، أما كير
W. P. Ker
فيرى أن أشعار «عزاء الفلسفة» هي قصائد «ناظم»
prosodist
كثير التعمل في اختيار البحور والجمع بينها، وغير موفق في بعض الأحيان.
1
ومن الإنصاف أن نقول: إنه إذا كانت بعض القصائد في «عزاء الفلسفة» لم تحلق عاليا رغم جودتها، فإن بعضها قد بلغ من الإتقان مبلغا عظيما جعلها تراثا مقدسا يرتل في الكنائس (مثل القصيدة الخامسة في الكتاب الأول)، وبعضها متفق على روعته وعمق تأثيره (مثل بعض قصائد الكتاب الثالث والرابع، وبخاصة تلك التي يروي فيها قصة أورفيوس ويوريديكي)، أما القصيدة التاسعة في الكتاب الثالث فقد أجمعت الآراء عبر العصور على سموها وجلالها ونالت شهرة استثنائية في العصور الوسطى وحظيت بتعليقات خاصة من كبار الكتاب.
أما نثر بوئثيوس فقد بلغ مرتبة عالية واتسم بالبساطة والصفاء والسلاسة والتركيز والبعد عن التشتت والتعقيد الذي يسم كتاب عصره.
موقع الضبط
بلغة سيكولوجية معاصرة بوسعنا أن نقول إن شطرا كبيرا من جهد «الفلسفة» العلاجي يقوم على نقل «موقع الضبط»، يشير مفهوم «موقع الضبط»
locus of control
إلى إدراك الشخص لما تكونه الأسباب الرئيسة لأحداث الحياة: هل تعتقد أن مصائرك تصنعها أنت بنفسك، أو تعتقد أن مصائرك يصنعها الآخرون أو يصنعها الحظ أو القدر؟ هل تعتقد أن سلوكك تسيره قراراتك الداخلية، أو تعتقد أن سلوكك تسيره الظروف الخارجية؟ هل ترى أن نتائج أفعالنا مترتبة على ما نفعله نحن (ضبط داخلي
internal L. O. C ) أو ترى أنها مترتبة على أحداث خارج سيطرتنا الشخصية (ضبط خارجي
external L. O. C )؟
يعد «موقع الضبط» جانبا مهما من جوانب الشخصية، وهو مفهوم أسسه جوليان روتر
Jullian Rotter
في الستينيات من القرن العشرين، وكان يسميه «موقع ضبط التدعيم»
L. O. C. of reinforcement ، يعقد روتر صلة بين السيكولوجيا السلوكية والسيكولوجيا المعرفية، فقد ذهب إلى أن السلوك تسيره «التدعيمات»
reinforcements (المكافآت والعقوبات، أو الثواب والعقاب)، وأنه من خلال التدعيمات يؤسس الناس اعتقاداتهم عن أسباب أفعالهم، ثم تقوم هذه الاعتقادات بدورها بتحديد الاتجاهات والمواقف والسلوكات التي يتبنونها.
بصفة عامة، وبشيء من التبسيط والتقريب، يعد الضبط الداخلي أفضل تكيفيا من الضبط الخارجي، وتقوم كثير من التدخلات العلاجية النفسية والتعليمية على نقل موقع الضبط لدى الشخص من الخارج إلى الداخل حتى يصبح مالكا لإرادته متحكما في أفعاله محددا لمصيره.
والحقيقة أن العلاج في «عزاء الفلسفة» هو علاج ذاتي، أو تعليم ذاتي، يهيب بالقارئ أن يتجاوز محنته ويعلو فوقها، فما الشخصيتان المتحاورتان في النص سوى وجهين من شخصية بوئثيوس نفسه، أو حالتين من «حالات ذاته»
ego-states ، بلغة السيكولوجيين: إحداهما يائسة عاجزة انهزامية تطلب العون، والأخرى معلمة مرشدة تقدمه، وتعمد «الفلسفة» إلى أن تظهر السجين اليائس على أن المسألة برمتها مسألة «منظور رؤية»
perspective ، وأن بيده أن يقرأ قدره وفق إرادته ويتخذ موقفا حرا من أحواله، ويكف عن أن يرى نفسه ألعوبة في يد الأحداث الخارجية تقلبه كيف شاءت، فإذا كان في محنة فإنه هو الذي خلق محنته، بمعنى ما، وأوثق أغلاله، حين اختار أن يعد نفسه ضحية لا حول لها، بينما كان بوسعه أن يعلو فوق المحنة وينظر إلى الأحداث وهو بمعزل فيسلكها في سياقها الأكبر ويضعها في نصابها الصحيح.
للطبيب النمسوي فيكتور فرانكل
Victor Frankl ، خبرة وجودية عميقة كنزيل بمعسكرات الاعتقال النازية، وقد أسس على هذه الخبرة مدرسة كاملة في العلاج النفسي أطلق عليها «العلاج بالمعنى الوجودي»
logotherapy ، يذهب فرانكل إلى أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعية أولى وليس تبريرا ثانويا لحوافزه الغريزية، ويرى إلى الإنسان بوصفه كائنا معنيا في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء أهواء وإشباع غرائز، أو مجرد التوافق مع المجتمع والتكيف مع البيئة، يذهب فرانكل إلى أن الوجود الإنساني تجاوز للذات أكثر مما هو تحقيق لها، وأن الحرية ليست دائما تحررا من الظروف ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف، وأن لا شيء يعين الإنسان في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته، يقول فرانكل: «إن السعادة تأتي ولا يؤتى بها.» فكلما التمسنا الإشباع الذاتي عن عمد وقصد راوغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر.
1
لاالفلسفة، والرواقية على الأخص، خير ما يغرس في الإنسان «موقع ضبط داخليا»، فالحكيم الحق هو شخص لا سلطان للأهواء والانفعالات على نفسه، وإن سهام الحوادث لتنكسر تحت قدميه (بتعبير سينيكا)، وإنه لا يعرف الهم ولا الوجل ولا الأسف ولا الرجاء، غني من غير مال، ملك من غير مملكة (بتعبير شيشرون)، يضاف إلى هذه الخصال شيء أهم: هو أنه لا شيء في الوجود يستطيع أن يسلبه إياه، وهو ما تلح عليه «الفلسفة» في حديثها مع «بوئثيوس»، «إذا كنت سيد نفسك فأنت تملك شيئا لا تود أن تفقده ولا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه»، «لو كانت هذه الأشياء التي تتظلم لفقدانها هي ملكك حقا لما كنت تفقدها أبدا»، ذلك أن المنحة الحقيقية التي منحنا الله إياها هي الحرية، فحرية النفس تفلت من سلطان الناس وسلطان الأشياء، ومن ذا الذي يستطيع أن يتغلب على إرادتنا نفسها؟ فالله الذي منحنا الحرية محال أن يسلبنا إياها، والمنحة الإلهية لا تسترد كالمنح البشرية، أما الأشياء التي يمكن أن تسلب من الإنسان فليعلم أنها لم تكن ملكه: إن هي إلا قرض أقرضه الحظ والآن يحلو له أن يكف يده، ويستعيد ما أقرضه.
يقول يوبيتر كبير آلهة الرومان (زيوس عند الإغريق) لإبيكتيتوس: «لقد منحتك جزءا من نفسي: ملكة الاختيار بين البدائل، الطلب والإعراض، الرغبة والنفور، إذا استطعت أن تحفظ هذه العطية، وأن تجعلها ملكك الحقيقي، فلن تعرف القيد أبدا ولا العجز، ولن تئن ولن تشكو، ولن تتملق أحدا كيف تستهين إذن بكل هذه المزايا؟!» (إبكتيتوس، المقالات الأخلاقية).
مسيحية بوئثيوس
من المثير للحيرة أن يخلو «عزاء الفلسفة» من أية إشارة صريحة إلى المسيحية، وهو الذي سطره رجل مسيحي على مشارف الموت، ومن الأيسر له أن يلجأ إلى العزاء الديني والخلاص المسيحي!
غريب حقا أن يعتمد بوئثيوس في «العزاء» على مذاهب مستمدة من أفلاطون وأرسطو والرواقيين والأفلاطونيين المحدثين، ويقتبس الكثير من أقوالهم ولا يقتبس شيئا من الأناجيل أو العهد القديم أو كتب آباء الكنيسة، الأمر الذي دفع بعض الباحثين، مثل أوباريوس
Obbarius
وشارل جوردان
Ch. Jourdain
إلى القول بأن بوئثيوس لم يكن مسيحيا، أو كان مسيحيا بالاسم فقط.
1
غير أن هذا الرأي فيه تطرف وعنت، فهو يغفل الرسائل اللاهوتية الهامة التي كتبها بوئثيوس، والتي تنسب له أربع منها نسبة تاريخية محققة،
2
ويغفل أنه كان من المحال في مطلع القرن السادس أن يتقلد أي شخص وثني أعلى مناصب الدولة مثلما فعل بوئثيوس، ويغفل قول «الفلسفة» في الكتاب الثالث «إنه الخير الأسمى إذن ذاك الذي يدبر كل شيء بقدرة ورأفة.» ورد السجين عليها بأنه سعيد على الأخص بالكلمات نفسها التي تستخدمها، وهي إيماءة بأنه يتذكر هويته المسيحية حتى وسط التعليم الفلسفي كلما راودت مسامعه أصداء من الكتاب المقدس.
3
وإذا كان «العزاء» يخلو حقا من أي إشارة صريحة إلى المسيحية، فإنه يخلو بالمثل من أي شيء يتناقض معها على نحو قاطع، صحيح أنه يعتمد على «نظرية التذكر» الأفلاطونية التي تفترض وجودا سابقا للروح قبل الولادة، ويعتمد على فكرة «ديمومة العالم» التي تنطوي على إنكار للخلق من عدم (في محاورة طيماوس) إلا أن هاتين الفكرتين، بعد كل شيء، لا تشكلان جوهر العزاء.
وأقرب إلى الصواب أن نقول، ببساطة، إن بوئثيوس، وهو الفيلسوف المكتمل الأداة، أراد لعزائه أن يكون فلسفيا (كما يشي العنوان) لا أن يكون دينيا، ومن ثم فقد آثر ألا يستعين بأي حجة خارجة عن نطاق الموضوع الذي يتناوله،
4
وأن يلتزم من ثم بمناهج الفلسفة ولا يجلب أي شيء من معطيات الوحي، ويبقى طوال النص محافظا على التمييز الصارم بين الإيمان والعقل، إنه، ببساطة، يريد ألا يقع في «خطأ مقولي»
category mistake ، وهل يسأل من ألف كتابا في الحساب لماذا لا يستخدم المنهج الهندسي؟!
في كتابه «تطور فكر العصر الوسيط» يقول ديفيد نولز: «لعل التفسير يكمن في تغير الموقف تجاه الفلسفة منذ العصور الوسطى الأخيرة، فالحق أنه ما بين عصر أوغسطين وعصر سيجر البرابانتي كان الاعتقاد العام بين كل من يفكر تفكيرا جادا هو أن هناك وصفا عقلانيا صادقا واحدا للإنسان والكون وإله ذي قدرة شاملة وعناية، وهو وصف صحيح بنفس الدرجة التي تصح بها حقائق الوحي المسيحية، إن العظام من القدماء، رغم وثنيتهم، قد بلغوا هذه الحقيقة وعبروا عنها في فلسفتهم لو اكتنه المرء تعليمهم بأمانة، وبالاستعانة بهم يمكن تقديم جواب شاف عن مشكلات الحياة والمصير الإنسانيين، كانت هذه الإجابات هي ما مكن العقل الإنساني من أن يواجه العالم ويواجه كل كوارث الحياة، وبوسع المرء بغير شك، فيما وراء الحجج العقلية، في العالم الغيبي للروح، أن يلتقي بالحب الشخصي للمسيح وأن يتلقى بركته.»
5
ورغم كل ما قيل، فقد يكون السؤال عن مسيحية بوئثيوس لم يصغ على نحو صحيح! فمن يدري؟ لعل المزيد من المعرفة عن المناخ الفكري للمجتمع الروماني في عصر بوئثيوس أن يظهر لنا هذا السؤال في ضوء مختلف، وها هي الدراسات المكثفة في السنوات الأخيرة تظهرنا على حقائق جديدة حول هذه الحقبة الزمنية كفيلة بأن تغير نظرتنا في أمور كثيرة، يبدو أن احتفاء المسيحية المبكرة بالتراث الكلاسيكي الوثني كان أكبر مما نظن ونتوقع، وأن للمذهب الإنساني المسيحي
Christian Humanism
تراثا ممتدا قبل «عزاء الفلسفة»، فيبدو أن الصلة بين عائلات القناصل النبلاء وكبار رجال الإكليروس في روما كانت وثيقة، وأتت معها بموقف إيجابي تجاه أدب العصر القديم وفكره، بعيد كل البعد عن التحول الديني الذي يقتضي، في نظرنا الدارج، رفضا للماضي الوثني وتقاليده، فبالإضافة إلى استمرار دراسة الفلسفة الوثنية والاهتمام بأعمال كتاب كلاسيكيين من أمثال فرجيليوس وهوراتيوس، والاهتمام بالمباني القديمة وترميمها، فحتى الاحتفالات الوثنية الأصل مثل مهرجان الخصب (اللوبركاليا) وألعاب يوليو في روما على شرف أبولو ظلت قائمة بتمامها في زمن بوئثيوس، «هذا الشغف المسيحي بالماضي، حتى إذا كان مرتبطا ببعض المظاهر الخارجية للشعائر الوثنية، لا يخلو من دلالة كخلفية لتقدير وضع بوئثيوس ودائرته بين الثقافة الكلاسيكية والإيمان المسيحي.»
6
من شأن هذا الوئام وغياب التوتر بين التقليد الوثني والتقليد المسيحي أن يخلق مناخا كان فيه تصور مدخل ثنائي إلى الحقيقة، أحدهما خلال ممارسة العقل والآخر خلال الوحي، أمرا طبيعيا وسهل التناول، في هذا السياق كانت دراسة «اللاهوت الطبيعي»
natural theology
مشروعة وصحيحة مثلها مثل دراسة «لاهوت الوحي»
revealed theology
سواء بسواء، ولقد كان اللاهوت الطبيعي هو ما كرس له بوئثيوس قدراته الفكرية الهائلة طوال حياته.
7
من يدري؟ لعل هذا، بالإضافة إلى الجهود التأويلية اللاحقة، وبمعزل عن تخبط العصور الوسطى الأخيرة وصدمة الحداثة التي تلتها، هو ما أتاح للعقل الغربي أن يقيم صرحه الحضاري الحديث وهو يحمل داخله ولافا سعيدا بين عقلانية شديدة الصرامة والانضباط ولاهوت مغرق في التعقيد والغيبية، دون أن يعاني تناقضا مشلا أو تنافرا معيقا.
نزع الطابع الأسطوري
ولكن كيف ينبغي أن نفهم الأساطير الكلاسيكية العديدة المبثوثة في نص «عزاء الفلسفة»، والمندمجة فيه اندماجا عضويا، والملتحمة في نسيجه التحاما منطقيا، حتى ليبدو النص معتمدا عليها مستندا إليها، يقوم بها ويسقط بسقوطها؟ وماذا يكون موقفنا من الكوزمولوجيا الخرافية العتيقة التي تتأسس عليها أفكار محورية في عزاء الفلسفة، مثل رحلة العودة إلى الوطن الحقيقي في جنب الله، وكيف نترجم، في عقولنا، أسماء الآلهة الأسطورية التي لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائد بوئثيوس في «العزاء»: فبوئثيوس مثلا لا يذكر «الشمس» ... ذلك النجم الملتهب الذي نعرفه الآن ولا «القمر» ذلك الكوكب الحجري الضئيل الذي بلغناه ووضعنا عليه أقدامنا، وإنما يتحدث عن «فويبوس» الإله و«فويبتي» أخته الإلهة.
1
لعل الموقف السديد تجاه هذه المشكلة الشائكة هو موقف اللاهوتي البروتستانتي رودلف بلتمان
R. Bultman
تجاه أساطير العهد الجديد نفسه! وهو الموقف الموسوم، بشيء من اللبس وعدم التوفيق، باسم «نزع الطابع الأسطوري»
demythologizing
فنزع الأسطورية عند بلتمان لا يعني بحال تطويع الأناجيل لكي تلائم طرائق الرؤية الحديثة، إنما هو موجه ضد نزعة الفهم الحرفية السطحية الثانوية في الأسلوب الحديث في النظر إلى الأمور، ضد ميل عامة الناس (وحتى اللاهوتيين) إلى اعتبار اللغة مجرد معلومات بدلا من النظر إليها كوسيط من خلاله يواجه الله الإنسان بإمكانية فهم ذاتي جديد تماما، فهم غير الفهم الإغريقي وغير الفهم الطبيعي وغير الفهم الحديث، ذلك أن نزع الأسطورية لا يرمي إلى الإطاحة بالرمز الأسطوري وتحطيمه بل يعتبر الرمز الأسطوري نافذة لنا على المقدس، فأن نئول الرمز يعني أن «نتذكر» معناه الأصلي الحقيقي وإن توارى الآن واحتجب، أن نتعامل مع الرمز بمودة وحب في محاولة لاسترداد معنى خفي فيه.
يشير بلتمان إلى أن رسالة الإنجيل تقوم في سياق تصور كوزمولوجي للسماء من فوق والأرض في الوسط والعالم السفلي من تحت - أي عالم المستويات الثلاثة، ويذهب في حله لهذه المسألة إلى أن رسالة «العهد الجديد» لا تعتمد على كوزمولوجيا العهد الجديد التي لا تشكل إلا السياق لرسالة عن الطاعة الشخصية والتحول إلى «إنسان جديد»، ونزع الأسطورية هو محاولة لفصل الرسالة الجوهرية عن الميثولوجيا الكوزمولوجية التي لا يمكن للإنسان الحديث أن يقبلها.
ومشكلة نزع الطابع الأسطوري ليست وقفا على اللاهوت، فهي قائمة في محاولة فهم أي عمل قديم عظيم: كيف نفهم مثلا أي مسرحية لسوفوكليس ونحس لها أي معنى يخصنا إذا كانت آلهة الإغريق قد ماتت؟ ما هي الطريقة التي ينبغي أن تفهم بها الألفاظ القديمة؟ كيف يمكن أن نحول دون أن تبدو الأعمال القديمة مجرد كوميديات للأخطاء؟ لعل الكثيرين من أساتذة الآداب القديمة كانوا في حقيقة الأمر «ينزعون الطابع الأسطوري » فيما كانوا يبررون أهمية العمل الأدبي لنا بالنظر إلى دلالته الإنسانية التي لا تزول، ثمة «رؤية للعالم»
World view
قابعة في صميم أي نص ومفترضة مسبقا في أسطره وداخلة من ثم في فهمه وتقديره ، ولا بد لنا من أن نستل هذه الرؤية ونأخذها مأخذ الجد وألا ننصرف عنها باعتبارها أغلوطة بائدة أو خرافة.
ثمة شيء في الأسطورة يخاطبنا، أينما كنا ووقتما كنا، وينبغي أن نصغي إليه، ولن يتسنى لنا أن نفهم هذا الشيء إلا في إطار «رؤية العالم» الخاصة به، ليست الأسطورة وهما أو كذبة أو خرافة، إنها حقيقة كبرى نضجت على مهل في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصدف، فاكتسبت قواما واتخذت شكلا وصارت مشهدا حيا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئا هاجعا ما كنا لنذكره، وما كنا لننساه.
2
مآخذ وانتقادات
وقد تأخذ على اللألاء هنات هينات، تنزلات عن مستوى يكاد إن استمر يتعب.
1
لعل أكبر المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على «عزاء الفلسفة» هو أنه يستخدم الألفاظ، في أسلوبه الجدلي الأفلاطوني، كما لو كانت قيمها ثابتة لا تتغير، شأنها في ذلك شأن رموز الجبر أو المنطق، ولعل هذا هو ما يجعل الحجج غير مقنعة للقارئ المعاصر في بعض الأحيان: في الكتاب الثالث مثلا تجد حجة كهذه:
الشر لا شيء، ذلك أن الله الذي يستطيع أن يفعل كل شيء لا يستطيع أن يفعل الشر، وما لا يستطيع الله فعله هو لا شيء فمثل هذه الحجة قلما تنجح في إقناعنا، وإن كانت تحمل بذورا لنقاش تال في الفصل الرابع.
2
ما خطب هذه الطريقة؟
مثل هذه الطريقة الجبرية الإقليدية في التفكير والعرض تسم الكثير من الكتابات القديمة، وتغوي العقول الكبيرة فتورطها في غيابة ميتافيزيقية لا تفضي إلى شيء، ومن المؤسف أنها تسم أغلب الكتابات الفكرية في التراث العربي القديم، وتجد مثالها النموذجي في الدراسات حول عمل مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، حيث الألفاظ تلقح ذاتها فلا تلد إلا ألفاظا، وهيهات للوجود أن يرضخ لمثل هذا الصنف من «خفة اليد» الذي يريد أن يخرج «الوجود» من «لفظ» أو من «تعريف» إخراج أرنب من قبعة فارغة أو إخراج بيضة من أنف متفرج! فالجبر والرياضيات تحصيل حاصل، والتركيبي لا يخرج من التحليلي كما يعرف المناطقة.
ذلك أن الكلمات في «اللغة الطبيعية»
natural language
غير رموز الجبر أو الحساب أو المنطق الرمزي ... إلخ، فليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى محدد دقيق، وإنما للكلمة الواحدة، كما هي مستخدمة بالفعل في الحياة اليومية، معان لا حصر لها تتحدد بحسب السياقات والظروف المختلفة التي تستخدم فيها الكلمة،
3
فالكلمة، كما يقول فتجنشتين، مطاطة تتسع وتضيق استخداماتها وفقا للظروف والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات المختلفة للكلمة الواحدة عنصر مشترك محدد، وإنما يوجد بينها «تشابهات عائلية»
family resemblances
متداخلة مندمجة كالتي تراها بين أفراد العائلة الواحدة.
4
من ذلك أيضا ما تجده في الفصل الثالث من «العزاء»، إذ يخلص بوئثيوس من عدد من الحجج، مستمدة من فروض أفلاطونية محدثة يسلم بها بوئثيوس، إلى أن الخير الكامل والسعادة الكاملة ليسا في الله فحسب بل «هما الله» نفسه، السعادة الكاملة إذن لا تتأثر بتقلبات الحظ الأرضية مهما اشتدت، ولكن ما فات هذه الحجة هو أن تقول لنا ما صلة الإنسان الفرد، مثل «بوئثيوس»، بالسعادة الكاملة التي هي الله، إن «الفلسفة» هنا تتحدث إلى «بوئثيوس» كما لو كان مجرد «معرفته» بأن الله هو السعادة الكاملة سوف ترده سعيدا!
وحين تعرض «الفلسفة» في نهاية الكتاب للمشكلة الكبرى «حرية الإرادة وشمول العلم الإلهي» تنجح في البداية في إقناعنا بالفرق بين «سبق العلم»
prescience
و«سبق التحديد» أو القدر المحتوم
predetermination ، وبأن سبق العلم لا يمس حرية الإرادة ولا يتقاطع معها، ثم ينتهي إلى أن المعرفة الإلهية هي التي أنشأت أسلوب الوجود لكل الأشياء، ولا تدين لأي شيء عدا ذاتها، ها هنا بالتحديد تظن «الفلسفة» أنها نجحت في حل مشكلات «بوئثيوس»، بينما يترك القارئ وهو يسائل نفسه عما إذا كان هذا الاعتراف الأخير، الذي يجعل من الله محددا لكل الأحداث، لا يهدم كل ما بنته «الفلسفة» ولا يقوض تلك المرافعة الطويلة لإثبات حرية الإرادة!
5
تأويل «العزاء»
أفضل طريقة لفهم «العزاء» هي أن نأخذه بمعناه الظاهر، باعتباره نتاج شخص يكتب وهو مشرف على الموت ولا يملك ترف التلاعب والتورية؛ ف «الفلسفة» هنا تمثل سلطة عقلية حقيقية، ونجاحها في مواساة «بوئثيوس» يفترض أنه نجاح تام. أما التغيرات الظاهرية في الاتجاه فينبغي أن تعد مراحل في إعادة تعليم السجين، أو تأثيرات غير مقصودة لرغبة المؤلف في جعل هذا العمل خلاصة لمنظومة فلسفية توفيقية. وأما اقتناع «الفلسفة» بأنها نجحت في حل مشكلة «سبق العلم» فينبغي أن نأخذه على أنه رأي المؤلف نفسه.
غير أن هناك من ذهب في فهم «العزاء» مذهبا آخر، فمن النقاد من حيره خلو «العزاء» من أي أثر مسيحي وارتكانه إلى توجيه شخصية تمثل الفلسفة الوثنية وارتكازه على افتراضات خارجة عن العقيدة المسيحية (التذكر، روح العالم، ديمومة العالم ... إلخ) ثم حيره اختيار بوئثيوس لهذا الجنس الكتابي (
prosimetrum/Menippean satire ) وهو شكل ارتبط بالأعمال التي تسخر من التظاهر الكاذب بالعلم وادعاء الحكمة، في زمن كان فيه المؤلفون يولون اهتماما كبيرا بالجنس الكتابي؛ فخلص من ذلك إلى أن بوئثيوس ربما يلمح إلى أن سلطة الفلسفة ينبغي ألا تعد سلطة كاملة، فإذا أضفنا إلى ذلك تغير الاتجاه وفقدان الترابط وفشل حجة سبق العلم، لقويت لدينا الظنون بأن هذه كلها مظاهر مقصودة يتعين على الشارح تفسيرها.
وقد تمادى بعض الباحثين، مثل جول ريليهان
Joel Relihan ، في هذه الشكوك حتى خلص إلى أن علينا أن نفهم «العزاء» فهما تهكميا
ironically ، على أنه تبيان لقصور الفلسفة وعجزها عن أن تقدم عزاء، على العكس من الإيمان المسيحي.
هذا غلو في الرأي لا يستقيم مع الوقائع الثابتة؛ فالمؤلف يبذل في كتابه جهدا كبيرا في عرض الحجج وتفصيلها، والخطوط الرئيسة في تفكير «الفلسفة» تنسجم تمام الانسجام مع الميتافيزيقا التي تنضح بها رسائل بوئثيوس اللاهوتية، بل مع تعليقاته المنطقية في بعض الأحيان.
ويقتضينا القصد أن نأخذ في «العزاء» بظاهر المعنى، على أن نضع في الاعتبار أن المؤلف لا يغفل حدود العقل وحدود الفلسفة، بل يعترف بها على لسان «الفلسفة» ذاتها في النص؛ فهي تقدم حججا وحلولا مقبولة للمشكلات، وتقدم منهجا للعيش ينبغي اتباعه، غير أنها تعجز عن تقديم فهم شامل ومترابط لذات الله وعلاقته بمخلوقاته، وبذلك تترك للدين مجاله وتترك للتسليم عمله، إنها تعرف ذلك وتعترف به وتضعه موضعه في النظام الفلسفي نفسه.
من العقل أيضا أن يعرف العقل حدوده.
رواج في العصر الوسيط وكساد في العصر الحديث؟!
لعل ذائقة القارئ أن تنبئه الآن ماذا وجدت العصور الوسطى في «عزاء الفلسفة».
لقد وجدت فيها إيمانها، أو بالأحرى وجدت المبرر الفلسفي لهذا الإيمان.
لقد دعاها إلى التماس الخير الحقيقي وصرفها عن الخير الزائف، وألهمها أن الشرور الظاهرة هي خير حين تسلك في السياق الأكبر وتقرأ قراءة كونية وترصد من منظور الأزل، وأن الله يصرف العالم بالحب، وأن الأمل في الله ليس عبثا، والصلاة لمصدر كل الخير هي ينبوع السعادة. من قال إن هذا العصر الكموني الباطني
1
لم يمهد السبيل لفورة «النهضة»
Renaissance
مثلما يغرق المرء في التأمل والصلاة قبل أن يهم بالعمل العظيم؟ قد تكون العصور الوسيطة أزمنة صعبة سياسيا واقتصاديا، ولكن من ذا يقدر مدى السعادة التي استقتها من تلاوة «عزاء الفلسفة»؟
ولقد أهمل «العزاء» في العصر الحديث؛ لأن الدين استقل عن الفلسفة، ولأن الفلسفة أوغلت في النظرية والحرفية، ونأت بجانبها عن هموم الحياة العملية، ولأن الناس ألهتها أكاذيب أخرى وأضلتها آلهة جديدة.
وها هي «العولمة» تمخض البشرية مخضة وحشية، فتجعل البعض يشرق بالخيرات الزائفة وتترك البعض يلهث تحت خط الفقر، لقد دوختنا خرق المادية الاستهلاكية كالثور دوخته خرقة الماتادور،
2
ونضجنا حقا للقتل لو لم يتداركنا منقذ كبير. لقد تبين للناس، على اختلاف الدرجة، أن أنسنة العولمة لا تتأتى إلا بغرس الحب والمواجدة بين الناس من جديد، فلعل فكر «العزاء» الذي «أنقذ فكر العصور الوسطى»، أن يسهم في إنقاذنا في العصر الحديث.
عادل مصطفى
قطوف من «عزاء الفلسفة»1
كل الذي خلب العيون بريقه
قد أنضجته الأرض في سفلاها
ينأى السنى الباهي الذي يحدو السما
عن هذه الأرواح في ظلماها
هذا الضياء الحق من يبصر به
سيقول ما للشمس باخ ضياها؟
بوئثيوس (الكتاب الثالث، قصيدة 10)
بقدر ما يتلقى امرؤ من الصيت كأجر على مكرمة أتاها ... يفقد الضمير، المنغمس في الرضا الذاتي، شيئا من فضيلته السرية. ***
ولكنك، أيتها المقيمة في عقر الروح، قد طردت من قلبي كل مطمع في حطام الدنيا، بل لم تتركي فيه مكانا لمطمع. ***
ولقد أنقض ظهري ثقل آخر، هو أن الناس لا تحكم على الأفعال وفقا لمناقبها الخاصة بل وفقا لما ينتج عنها بالمصادفة، فيكون الفعل في نظرهم حصيفا ما دام الحظ حليفه، أما من لم يحالفه الحظ فلا نصيب له من رضا الناس. ***
أتريد حقا أن توقف دولاب الحظ عن الدوران؟ ألا تعلم، يا أشد الفانين حمقا، أن الحظ إذا بدأ في التوقف لا يعود حظا؟! ***
الجشع الضاري يبتلع ما طلبه، وما ينفك يفغر فمه طلبا للمزيد. ***
ألا لا تدعه غنيا ذاك الذي ما يزال أبدا لاهثا متلهفا، وقد وقر في اعتقاده أنه محتاج! ***
غير أن كلماتك تروق المرء أثناء سماعها فحسب، إن للمعذبين مواجيد من بأسائهم غائرة، حتى إذا ما فرغت كلماتك ولم تعد ترن في الآذان عاد هذا الأسى المتأصل ليثقل القلب من جديد. ***
إذا كان الكون نفسه متقلبا لا يثبت على حال، فكيف تضع ثقتك في عرض الدنيا، ويقينك في النعيم الزائل. ***
بين صنوف البلايا جميعا ليس هناك أبلغ شقاء من أن يكون المرء قد سبق له أن عرف السعادة. ***
ما من أحد يرضى بما قسم له الحظ، فلكل منا نصيبه المقدور من الألم الذي لا يعرفه إلا من كابده. ***
ليس شقاء إلا ما تعده أنت كذلك. ***
كل قدر هو قدر سعيد لو أنك تلقيته بثبات ورباطة جأش. ***
ألا ما أتعسها تلك السعادة التي تأتي من حطام الدنيا: فلا هي تدوم للعاقل ولا هي تقنع الأحمق. ***
لماذا، يا أهل الفناء، تبحثون عن السعادة خارج أنفسكم وهي كامنة فيها؟! ***
لكأني بكم تستشعرون فقركم الداخلي فيدفعكم إلى التماس خيراتكم من خارج أنفسكم. ***
لا قيمة للمال إلا حين يغدق به؛ أي حين لا يعود مملوكا! ***
إن الطبيعة تقنع بأقل القليل، فإذا ما عمدت إلى أن تتخمها بما هو فوق الحاجة، فإن ما تغدقه سيكون مغثيا بل مضرا. ***
أحسبت أن الجمال يعني أن ترفل في ثياب متالقة من كل صنف؟ ولكن إذا كان الثوب يسر ناظري فإنما ينصب إعجابي على جودة خامته أو على مهارة الحائك. ***
من كثرت ممتلكاته كثرت احتياجاته! ***
تعلم يا من يروعك الآن هاجس السيف والرمح في يد اللص، تعلم أن تذرع حياتك خاوي الوفاض؛ حتى يمكنك أن تصفر وتغني أمام قاطع الطريق. ***
ما أروعها نعمة الثروة الفانية! ما أن تحصل عليها حتى يغادرك الأمان! ***
ويح ذلك الرجل، أيا من كان، الذي استخرج لأول مرة أكوام الذهب الدفين من الأرض، والماس القانع بمخبئه، ومنحنا أخطارا بمثل هذا السعر! ***
الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف. ***
على من تريدون أن تمارسوا سلطتكم؟! أليس يثير ضحككم أن تروا مجتمعا من الجرذان وقد انبرى جرذ منهم يدعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟! ***
لقد حسب الطاغية أن التعذيب مناسبة للبطش، فجعله المعذب مناسبة للبطولة. ***
عندما يوسد المنصب إلى غير أهله فإنه لا يجعل منه أهلا على الإطلاق، وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف ضعفه وتفاهته. ***
إذا حسبت أن الحياة يمكن أن تطول بدوام الشهرة وبقاء الذكر، فسوف يأتي اليوم الذي تقبر فيه شهرتك أيضا، هنالك يكون بانتظارك موت ثان. ***
الحظ السعيد يخدع والحظ السيئ يربي ويعلم. ***
الحظ السعيد يغوي الناس، بمداهناته، عن طريق الخير الحقيقي، بينما الحظ السيئ كثيرا ما يردهم إلى خيرهم الحقيقي كالراعي يردهم بعصاه. ***
عندما تخلى عنك الحظ فقد أخذ معه أصدقاءه وترك لك أصدقاءك، ولو أنك بقيت سالما ومحظوظا كما تظن لما أتيحت لك مثل هذه المعرفة بأي ثمن. ***
آه أيها الفانون لو أن قلوبكم محكومة أيضا بما يحكم العالم ... بالحب. ***
هذه رابطة الحب الجامعة، كل الأشياء تعنو لقيود الخير، فليس من سبيل آخر لبقائها، ما لم تعقد عقدة الحب، وما لم تعد صاغرة لقيود الأسباب التي منحتها الوجود. ***
اللسان الذي ذاق الأمر في البداية سيجد الشهد، الذي كد النحل في إعداده، أكثر حلاوة. ***
بوسعك الآن وقد بصرت بوجه السعادة الزائفة أن تضع نيرها عن عنقك، وجدير بالسعادة الحقيقية الآن أن تنفذ إلى روحك. ***
كل شيء لا بد أن يعود إلى سبيله الصحيح، ويبتهج بعودته، فلا شيء يمكن أن يحفظ النظام الذي أودعه ما لم يربط مبدأه بمنتهاه، ويصنع فلكه الدائري الثابت. ***
لقد انعكست القضية وإذا بالثروة التي يرتجى منها أن تجعل المرء مكتفيا بذاته قد أحوجته في الحقيقة إلى عون الآخرين. ***
الطبيعة يكفيها أقل القليل، أما الجشع فلا يشبعه شيء. ***
مهما اكتنز الغني من مال وأثقل جيده باللآلئ وذرعت ثيرانه العزب، فإن الهم لن يفارقه في حياته، والثروة الخائنة لن ترافقه في مماته. ***
صديقك في السراء ينقلب عدوا في الضراء، وليس أقدر على إلحاق الأذى من صديق انقلب عدوا. ***
من يرد أن يكون ذا سلطان حقيقي، فليبسط سلطانه أولا على نفسه. ***
إذا كان ثمة من خير في الحسب فهو هذا، وهذا وحده: أنه يفرض على الحسيب ألا يقصر عن أسلافه في الفضل. ***
إن السعي إلى اللذة محفوف بالهم، والشبع منها مملوء بالندم، كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقام وتباريح، وكأنها ضرب من عقاب الإثم. ***
لجميع اللذات طبع واحد، أن تغري تابعيها وتنخسهم إليها، لكنها، كسرب النحل المدوم، تذر عسلها الحلو، ثم تفر بعيدا، تاركة في قلب من تمسه لدغة لا تزول. ***
إذا أردت أن تتألق في أبهة المنصب فسوف يتعين عليك أن تنبطح لمن أنعم عليك به: أي أنك إذا أردت أن تبز الآخرين في الكرامة سيكون عليك أن ترخص نفسك وتهينها بالتزلف. ***
انظر إلى قبة السماء وتأمل ثبات بنائها وسلاسة حركتها وكف عن الإعجاب بما لا يستحق الإعجاب، على أن أعجب من السماء العقل الذي يسير السماء. ***
ليست طبيعتك نفسها ما يجعلك تبدو جميلا بل ضعف أبصار من ينظرونك. ***
إنهم سادرون في عماهم لا يعرفون أين يكمن الخير الذي يريدون، ويهبطون إلى الأرض ينبشون فيها عما هو أعلى من السماء. ***
أية لعنة بحجم غفلتكم يمكن أن أستنزلها عليكم؟ الهثوا وراء الثروة والمجد ، وحين يستوي لكم منهما ركام زائف، هنالك تدركون ما هو الخير الحقيقي. ***
يكمن خطأ الإنسان في أنه يأخذ ما هو بسيط وغير قابل للانقسام فيحاول تقسيمه فيحيل حقيقته إلى زيف وكماله إلى نقص. ***
من أراد أن يبحث عن الحقيقة بكنه الهمة وألا تضله السبل فعليه أن يتجه إلى داخله ويوقد نوره الباطن، وأن يطوي ترهات عقله الطويلة إلى دائرة واحدة، وأن يعلم قلبه أن ما يبغيه في الخارج بالكد والعنت هو يملكه بالداخل مذخورا في أعماق الروح. ***
لا يمكن لأي شيء أن يعصي الله ويكون مخلصا لفطرته. ***
هل لي أن أطرح مفارقة أو تضاربا في الحجج لعل اصطداما من هذا النوع أن يولد شررا جميلا من الحقيقة؟ ***
من ذا الذي يمكن أن يقيد الحب بقانون؟! ... الحب قانون نفسه. ***
مهما يمكر الأشرار ويكيدوا كيدا فإن إكليل غار الحكيم لن يسقط منه أبدا ولن يذوي. ***
الشر عقاب ذاته مثلما أن الخير ثواب ذاته. ***
لا يمكنك أن تعتبره إنسانا ذلك الذي مسخته رذائله. ***
أنقع السم ما ينفذ إلى العقل والروح فيسلب الإنسان من نفسه، تاركا الجسم على حاله بينما يصيب العقل بجرح بليغ. ***
حقا إن أعينهم اعتادت الظلام فلا يستطيعون رفعها إلى ضياء الحقيقة الواضحة، فما أشبههم بالطيور التي يحتد بصرها بالليل ويعمى بالنهار. ***
إذا كنت قد صغت روحك على ما هو أسمى فلا حاجة بك إلى حكم ليهبك جائزة، فأنت بنفسك من دفعت حالك إلى الامتياز وأضفت نفسك إلى عداد الممتازين، أما إذا تدنيت بها إلى الوضاعات فلا تبحث عن عقاب من الخارج، إنك أنت من أسففت وتبذلت ونزلت بها إلى أسفل سافلين. ***
ليس ثمة ما يدعو إلى كراهية الأشرار، فكما أن الضعف مرض الأجسام كذلك الشر مرض الأرواح، وإذا كنا نعتبر مرضى الأجسام أحق بالعطف لا الكراهية، فإن من أصيب في روحه لأحق بالشفقة لا اللوم. ***
إلام تزاحمون القدر في عمله وتنزلون الموت بأيديكم؟ إن كنتم تريدون الموت فإنه قريب بطبعه يحث أفراسه المجنحة. ***
الإنسان فريسة السباع، فهل الإنسان فريسة الإنسان أيضا؟ لماذا يصنع الحرب ويريد أن يهلك بسيف أخيه؟ لأن تعاليمه مختلفة؟ فقط لهذا السبب؟! ... أهذا سبب عادل للعنف وإراقة الدماء؟ ***
أتريد أن تعطي لكل ذي حق حقه؟ إذن أحب الأخيار فهم أهل لذلك، أما الأشرار فأشفق عليهم وارث لهم. ***
حتى إذا كنت تجهل الحكمة من وراء التدبير العظيم للعالم فليس لك أن تشك في أن كل شيء يجري على نحو قديم؛ لأن مدبرا خيرا يحكم العالم. ***
الزمن يهول من شأن الأشياء النادرة، والجموع تروعها الأشياء غير المعتادة، ولكن دع غيوم الجهل تنقشع عنها وسرعان ما يزول معها العجب والاندهاش. ***
من هنا يأتي السبب الواضح للاندهاش من نظام القدر: إله حكيم يفعل وبشر جهول يستغرب أفعاله، كلما شهدت شيئا يجري على غير ما تريد وتحتسب فاعلم أن الأحداث تجري مجراها الصحيح ولكن رأيك هو الزائغ والملتبس. ***
قد تشاء العناية أن تخز البعض كي لا يبطرهم طول الرخاء. ***
إنه بقدرة الله، وبقدرة الله وحدها، قد تكون الشرور خيرا أيضا، وذلك حين يصرفها الله تصريفا يحقق نتائج خيرة. ***
تظنون أن الشر يملأ الأرض، ولكن لو أمكنكم أن تنظروا بمنظار العناية لما وجدتم له على الأرض أثرا. ***
هو الحب المتبادل إذن، يبدئ الدورات الأبدية ويعيدها، أما النزاع فمنبوذ من ممالك النجوم. ***
اصغ، كل حظ، سواء كان يسرا أم عسرا، إنما يتغيا أن يكافئ الصالحين أو يعظهم، وأن يعاقب الأشرار أو يقومهم، من الواضح إذن أن كل ما يجري به القضاء هو عدل ونفع، وكل نصيب هو خير على اليقين. ***
ينبغي على الحكيم ألا يشكو كلما اشتبك مع الحظ، مثلما ينبغي على الشجاع ألا يسخط إذا حمي وطيس الحرب، ذلك أن الشدائد نفسها هي فرصة لكل منهما: لواحد كي ينال المجد، وللآخر كي يؤكد حكمته ويقويها. ***
إن قدرك بيديك! ... بيدي صنف القدر الذي تود أن تشكله لنفسك؛ لأن كل ما يبدو عسيرا هو إما عظة وإما تقويم وإما عقاب. ***
امض بجسارة إلى حيث يقودك الطريق المجيد للقدوة الرفيعة، لماذا تثاقل وتنكص على عقبيك، إذا كان اجتياز الأرض يهبك النجوم؟ ***
وحده الإنسان من بوسعه أن يرفع رأسه ويقف منتصبا، إن في هذا الوضع لعبرة: لا تكن أرضيا، لتتجه روحك إلى السماء، حتى لا تشخص إلى الأرض، وبينما جسمك ينزع إلى أعلى يسوخ عقلك إلى أسفل.
Bilinmeyen sayfa