قال: يالله! - يالله ماذا؟ - تاني، اسمع.
وفوجئنا بجعجعة أوامر تفرقع، واقترب سور العساكر، حتى أطبق على طابور المعتقلين، واستقر أفراد فرقة الضرب، فانتصبت واقفة مشرعة أسلحتها الفاتكة الرهيبة، وهوى الكرباج من خلفي وسمعت صفيره، وهو يشرخ الهواء ليستقر كالسكين القاطع غائرا في جلدي، ولكن يونس بحري تلافاه في آخر لحظة، وأمسك باليد المهوية، وقال: بصوت مخيف صوبه إلى كل أذن تسمع: اسمع، أنا لا أريد ضربك؛ فأنا أعرف أنك من النوع الحميري الذي لن يؤثر فيه أي ضرب أو تعذيب، ولكني سأضرب تلامذة ابتدائي هؤلاء، وأشار.
والحراس يعرفون إلى من يشير. فقد كان بيننا خمسة صبيان صغار لا يتجاوز أيهم السادسة عشرة، معنا في الطابور، إذا ضربوا يصرخون، بل يصوصوون كالكتاكيت المذعورة، وتغور صرخاتهم في لحمنا الحي، بحيث أصبح أهون لأينا أن يقطع بالسواطير ضربا، ولا يسمع صرخة الواحد منهم.
جزعت والحق يقال، وسقط قلبي في قدمي مخافة أن ينفذ الوعد. يا عم يونس ما كنا قاعدين في أمان الله، ماذا دار في عقلك النجس ليقلب سلامنا هذا إلى لحظة الرعب هذه، حتى ليبدأ الجو يحفل برائحة الدم واللحم المفروم.
تطويل الروح لم يعد يجدي، ماذا تريد يا أيها القومندان؟ - يالله!
ولأنني ضامن أني سأكون على حق في تساؤلي رفعت صوتي مستغيثا، مستعيذا بالله من هذا الهول الذي لا أعرفه: إزاي بس يا بيه؟ أنا في عرضك، إزاي؟ - زي الناس. هكذا قالها. - زي الناس إزاي؟ - زي الناس يا بن ال... ويا بن ال... ويا بن ال... ماذا تفعل الناس؟ - ولكنها تفعلها مع الناس والإناث، وهذه نملة. - ولو، اعتبرها ناس، اعتبرنا إناث. - حاضر.
قافزا الفلاح الخبيث إلى نجدتي مرة أخرى قلت: حاضر يا بيه.
وعملت أني فعلا أزاول ما أمرني به، وأنا، زيادة في الاندماج، قد رسمت على وجهي ابتسامة سعادة، استيقظت منها على صوت نبوت يشرخ الهواء، ويشرخ ظهرا من ظهور «التلامذة» إلى جواري. التفت على الصرخة، أهة صاعدة من عظام الأقدام لكائن حي إنسان صغير يتألم. انفجر قلبي وتدفق منه الدم الغائر غصة ولوعة. - لا تمثل يا بن الكلب، اندمج، أتضحك علي، اندمج، أنت خالع الآن ملابسك وهذه أنثى، نملة مش نملة لا يهم. هذه أنثى، اندمج وسأراقب وجهك وملامحك، وأقسم برحمة أمي إن لم أرك تفعل ما قلته سأشرح تلاميذك وأنت وكلهم معهم، وأنت تعرف، وكلكم تعرفونني.
وكان واضحا من وجهه المسمر المحفر بالجديري القديم أنه لا يهزل، حاولت أن أجد فرجة احتمال أو عشر احتمال للتهاون فلم أجد. هذا إنسان مجنون، وقد تقمصته حساسية المجانين للحقيقة، ولن يصدق غيرها، ولن أستطيع أبدا خداعه، وعلي أن أفعلها. حاولت، ولكني في منتصف المسافة استدركت وطلبت منه العذر. وجمعت نفسي وبأقصى ما أستطيع من قدرة على أمر النفس أمرتها، أحسست أن شهبا كشهب الجنون تتراءى لعيني، ومن فرط الانضغاط بدأ العقل في مخي يطقطق. مجنون أمر، وأمر مجنون، ولا بد أن أستجيب، ومجنونا لا بد، لكي أستجيب، أن أصبح. أنا فعلا رجل ضخم، وهذه نملة، وبكل كياني علي أن أصغر نفسي، وأستحيل من إنسان إلى حشرة، إلى نملة، إلى ذكر نمل، تستثيرني أنثاي النملة.
وكلما فشلت، كلما توقفت، كلما غام وعيي بالمشهد وباستحالة التحول، وأحسست التهديد يحوم كغربان البين حول التلامذة الصغار وحول الطابور، أتصاغر وأتصاغر، ويكسوني العرق، وتطقطق عظامي وتتدشدش، ولا بد من أن تصبح كفي في حجم ساق النملة، وساق النملة لا يكاد يرى، ولا بد أن أهوي بوعي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي، ورأسي وبطني، وساقي وعنقي، وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القابعة، مستسلمة في يدي، هكذا رأيتها بألف عين دقيقة لي تكونت، قد استجابت، وكفت عن الحركة، ووقفت واضطجعت.
Bilinmeyen sayfa